شعار الموقع

طلب العلم 2

00:00
00:00
تحميل
7

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا مُحمد عبد الله ورسوله، وخليله، وصفيه، وأمينه على وحيه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

فأحمد الله إليكم وأثني عليكم من الخير كله، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يصلح ظواهرنا وبواطننا وأن يرزقنا خشيته وتقواه في السر والعلن إنه سبحانه سميعُ مُجيب، وأسأله سبحانه أن يرزقنا جميعًا العلم النافع، والعمل والصالح، وأن يوفقنا للإخلاص في العمل، والصدق في القول وأن يوفقنا إلى القول السداد، والعمل الرشاد.

أيها الإخوان إن المسلم الذي منًّ الله عليه بالعلم؛ لقد أوتي خيرًا كثيرًا، وآتاه الله الحكمة، ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[البقرة:269]، والعلم الذي ينفع هو العلم الذي يورث الخشية: خشية الله وتقواه في السر والعلن، وأن يحذر كل ما يكون سببًا في ضعف إيمانه وتقواه، والمسلم المؤمن طالب العلم هو الذي يخشى الله ويتقيه، هو الذي يخاف بطش الله، ونقمته وعقوبته، المسلم المؤمن الموفق الذي وفقه الله للعلم والعمل هو الذي يراقب ربه، ويخشاه.

أيها الإخوان، العلم نور يقذفه الله في قلب العبد؛ فإذا قذف الله النور في قلب العبد كان هذا النور فرقانًا يفرق به بين الحق والباطل، وإن طالب العلم لا يزال يبحث ويأخذ العلم من أهله ومن أفواه العلماء، ومن بطون الكتب يبغي امتثال أمر ربه وتقواه؛ فالعالم هو الذي –الموفق- هو الذي يطلب العلم، ويتعلم ويتبصر، ولا يزال العبد يتعلم حتى يموت وهو يتعلم ويستفيد؛ كما قال الإمام -عليه رحمة الله-: "من المحبرة إلى المقبرة".

وإذا أنفق طالب العلم عمره في العلم أو أكثر عمره في العلم فإنه ينال حظًا من العلم بتوفيق الله -سبحانه وتعالى- إذا وفقه الله؛ فإذا أعطى الإنسان العلم كله أعطه بعضه، أما إذا قصر وتساهل وكان طلبه على العلم في وقت فراغه؛ فإنه لا ينال من العلم شيئًا إلا قليلًا، والعلم هو المأخوذ من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأقوال الصحابة والأئمة والعلماء، العلم قال الله، وقال رسوله، قال الصحابة فهم أولوا العرفان.

ثم إن العلم النافع هو الذي يُكسب الخشية، خشية الله وتقواه، وإذا تأهل المُسلم في العلم وصار عنده شيءٌ من العلم؛ فإن من توفيق الله له أن ينشر علمه بين الناس وأن يوصل هذا الخير الذي أعطاه الله إلى الناس، هذا الخير الذي منًّ الله به عليه يوصله إلى غيره، كما رفع الجهل عن نفسه فإنه يرفع الجهل عن غيره؛ فيكون بذلك من الرابحين الذين سلموا من الخسران.

وعليه مع ذلك أن يصبر على التعليم ومشقة التعليم كما صبر على مشقة التعلم، وإذا كمًّل هذه المراتب صار من أهل الربح وسلم من الخسران، وقد أقسم ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم في سورةٍ قصيرة أن جنس الإنسان في خسران؛ وأنه لا يسلم من الخسران إلا من حقق هذه المراتب الأربع: تعلم، آمن عن علمٍ وبصيرة، وأدى حقوق الله، وحقوق العباد، وعمل الصالحات، ودعا إلى الله على بصيرة، ونشر علمه، وصبر على الأذى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر:3].

فهؤلاء هم أهل الربح الذين سلموا من الخسران؛ فمن حقق هذه الأمور الأربعة وكملها هو من الرابحين، وسلم من الخسران، ومن ضيَّعها فهو من الخاسرين، ومن انتقص شيئًا منها؛ فاته من الربح وحصل على شيءٍ من الخسران بقدر تضييعه لما ضيعه منها، ثم إن على الداعية، والآمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والخطيب الذي يخطب الناس ويعظ الناس، والمفتي: الذي يفتي الناس في أمور دينهم؛ عليه أن يجتهد في تعلم هذا الأمر الذي وُكل إليه، والذي تصدى له، للإفتاء أو الخطابة أو الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، وعليه أن يتبصر ويتفقه في هذا الأمر الشرعي، وأن يبذل جهده حتى يكون على بصيرة.

فلابد للداعية والخطيب والمفتي من علم، من علمٍ وبصيرة في ما يتكلم به، وفي ما يفتي فيه، وفي ما يعظ الناس به، وفي ما يأمر به ويتعلم، لابد من العلم، العلم الشرعي: الذي يستنير به، والذي يطمئن إليه، ويعلم أنه على هدى وعلى بصيرة، ولابد له من العلم بحال المدعوين، وبحال المأمورين وبحال من يخاطبهم حتى يوُقع دعوته وأمره وعظته وفتواه في محلٍ هم لها، في محلٍ قابلٍ فيما يتكلم به؛ وهذه هي طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وطريقة أتباعه البصيرة، والعلم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف:108].

ولابد أيضًا للداعية والخطيب والمفتي من الحلم والرفق في حال دعوته، وفي حال أمره، وفي حال موعظته، وأن يرفق بحال المدعو، وبحال المأمور، وأن يكون عنده حلمٌ ورفق، فإن ذلك أدعى إلى القبول والامتثال وقد قال الله تعالى لنبييه موسى وهارون؛ حينما بعثهما إلى أكثر أهل الأرض في زمانهم هو فرعون الذي تعرضوا به وقال للناس: أنا ربكم الأعلى: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾[النازعات:24]، ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾[القصص:38]، قال الله لهما -عليهما الصلاة والسلام-: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾، ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾[طه44:43].

فيُسلك مسلك اللين والرفق والحلم فإن ذلك أنجع وأدعى إلى القبول والامتثال(7:58) فإن تجاوز المدعو حده وتعدى طوره، ولم يقبل اللين فإنه يُنتقل معه إلى مسلكٍ آخر؛ إلى مسلك الشدة، والقوة لأنه هو الذي تجاوز حده، فلما تجاوز حده سُلك فيه مسلكٍ آخر يناسب انحرافه وتجاوزه ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾[العنكبوت:46].

فمن ظلم وتجاوز الحد فإنه يُسلك معه مسلكٌ آخر، مسلك القوة بسبب ظلمه وعناده، وتجاوزه الحد؛ وإلا فالأصل أن يسلك الداعية والآمر مسلك اللين والرفق، قال الله تعالى:  ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل:125]، فإذا طغى وتجاوز الحد، فإنه وظلم وتعدى فإنه يُسلك معه مسلك القوة كما قال الله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾[العنكبوت:46].

ثم إن على الداعية والآمر والمفتي والخطيب بعد الدعوة وبعد الأمر، وبعد الموعظة، وبعد التذكير وبعد الفتوى عليه أن يسلك مسلك الصبر، عليه الصبر والتحمل؛ لأن هؤلاء الذين يخاطبهم أو يدعوهم أو يفتيهم أو يعظهم متفاوتون، منهم:

-منهم ضعيف الإيمان.

-ومنهم قوي الإيمان.

-ومنهم سريع الغضب.

-ومنهم بطيء الغضب.

-ومنهم المتكلم بكلامٍ لا يزنه ولا يدري ما عاقبته.

فإن لم يصبر الداعية والخطيب والمفتي فإنه ينقطع، ويترك هذا السبيل القويم الذي هو سبيل الرسل وأتباعه؛ فلابد من الصبر والتحمل فإن طريق الدعوة إلى الله، وطريق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطريق الرسل واتباعهم؛ ليس مفروشًا بالورود بل فيه مصائب ومتاعب، وهذه المصائب والمتاعب تكون حلوةً يستلزها الداعية والآمر بالمعروف الذي يتيقن أنه ملاقٍ ربه، وأنه سيجازيه؛ فيستلز المشاق والمتاعب والمصائب تكون حلوة لذيذة على قلبه وإن كان فيها مشقةً على جسده؛ فالقلب يتنعم ويتلذذ والبدن يتألم، والعبرة بالقلب.

والعبرة بحياة القلب، والحياة الحقيقة هي حياة القلوب؛ ولهذا فإن من كان قلبه حيًا يتلذذ ويتنعم، ولو كان من من هم (11:15) مسجونًا، محبوسًا، أو مضروبًا، ولهذا قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ما يفعل أعدائي بي؟ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة"؛ في كل حالٍ من الأحوال فهو مستفيد وفي عبادة لله -عز وجل-.

قال: إن قُتلت فأنا شهيد، وإن حُبست خلوت لعبادة ربي"، وإن طُردت ونُفيت سحت في أرض الله؛ اعبد الله وأتفكر في مخلوقات الله، هكذا الموفقون يتنعمون، ويتلذذون، قلوبهم مطمئنة؛ هذه هي الحياة الطيبة، قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل:97].

والرسل –عليهم السلام- هو الأسوة والقدوة، هذا نبي الله ورسوله، أول رسول بعثه الله إلى الأرض نوح -عليه الصلاة والسلام- مكث في قومه للدعوة ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهو في ذلك يدعو قومه ليلًا ونهارًا سرًا وجهارًا، ولم يقصر، ولم يألوا جهدًا.

 ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾، ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾، ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾، ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾، ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾، ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾، ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾، ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا﴾، ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾، ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا﴾، ﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾، ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا﴾، ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾[نوح20:5].

وهكذا الرسل تتابعوا بعد نوح -عليه الصلاة والسلام- فهذا هود -عليه الصلاة والسلام- دعا قومه وصبر على الأذى، ثم نبي الله صالح صبر على قومه، دعاه وصبر على الأذى حتى نجاهم الله، وكذلك لوط -عليه الصلاة والسلام-، وكذلك شُعيب، وكذلك موسى وهارون، وكذلك عيسى.

حتى ختم الله الأنبياء والرسل بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي كمل الله له مهما جمع فيه من الصفات التي فيها كمال، جمع الله له من صفات الأنبياء وكمله وكان -عليه الصلاة والسلام- أكمل الناس وأعبد الناس، وأتقى الناس، وأطوع الناس لربه -عليه الصلاة والسلام-؛ فهو الأسوة -عليه الصلاة والسلام-، وهو القدوة وقام بالدعوة إلى الله، وصبر على الأذى والله تعالى يسليه ويصبره، ويأمره بالتأسي بالرسل السابقين: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾[الأحقاف:35].

ويتأسى -عليه الصلاة والسلام- لما أعطى(14:55) بعض الغنائم جائه عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- وأخبره عن مقالةٍ قالها بعض الناس، قال: "هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله"؛ فتغير وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا الخبر»، يتأسى به.

وهكذا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يتأسى بعضهم ببعض، ونحن أسوتنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ورسل الله الكرام، والداعية والخطيب، والمفتي، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، إذا بذلوا جهدهم، واستفرغوا وسعهم، وأخلصوا عملهم، ومعه الرهط قبيلة الرهيط وهم من ثلاثة إلى تسعة، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد لأتباعه.

بعض الرسل ما سمعوا إلا رهط (15:55)، وبعض الرسل ما سمعه إلا رجل أو رجلان، وبعض الرسل ليس معه أحد، وبعض الرسل قتل أنبياء بني إسرائيل بعضهم قُتل، وزكريا ويحيى قال الله تعالى: ﴿ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾[البقرة:87]، ومع ذلك أدوا، أدوا رسالة ربهم، وأدوا ما عليهم؛ فالداعية عليه أن...، والآمر، والمفتي، والناصح، والواعظ عليه أن يتأسى بأنبياء الله ورسله، وبنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأن يصبر على الأذى، ويتحمل، وأن يحتسب الأجر من الله -عز وجل-، وأن يخلص عمله لله -عز وجل-.

وبهذا يكون الإنسان يكون الداعية (16:41) خير أسوة للناس؛ فالداعية عليه أن يعرف، عليه أن مشترطًا فيه الداعية والآمر يشترط فيه العلم قبل الدعوة، شرطٌ قبل أن يدعو، وقبل أن يعظ، وشرطٌ في حال الدعوة والوعظ، وشرطٌ بعد الدعوة والوعظ والإفتاء، شرطٌ قبل الدعوة والعلم، العلم بهذه المسألة التي تتكلم فيها، والتي تتحدث فيها، والتي تعظ فيها، والتي تدعو إليها، والتي تأمر بها، والتي تنهى عنها؛ لابد أن يكون عليك علم بشريعة الله، من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وأحذر أن تقول هذا حرام، وهذا حلال بغير علمٍ ولا بصيرة، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾، ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[النحل117:116]، ولا يمنعنك مرآة الناس أن تقول لما تعلم لا أعلم، عليك أن تقول لما للشيء الذي سألت عنه إذا كنت مفتيًا، أو داعية أن تقول: لا أعلم، أو تقول لا أدري، أو تقول أمهلني حتى أبحث هذه المسألة في كتب أهل العلم وما، في كتب أهل العلم وما (18:10)، أو تقول، أو تحيله إلى غيرك من أهل العلم.

قال بعض السلف: إذا أخطأ الإنسان العالم أو الداعية لا أدري فقد أصيبت مقاتله، وقال بعضهم: لا أدري نصف العلم؛ لأن العلم نوعان: نوعٌ تعلمه، ونوعٌ لا تعلمه؛ فالذي تعلمه هذا عندك، والذي لا تعلمه تقول: لا أدري؛ فلهذا كانت "لا" نصف العلم؛ فلابد من الورع، طالب العلم نفسه يسلك مسلك الورع في هذا الأمر وأن يتق الله -عز وجل-؛ حتى يكون من خير هذه الأمة، قال الله تعالى في كتبه العظيم، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران:110].

فالخيرية إنما حصلت في هذه الصفات: في الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ الحق فهذه الأوصاف حصلت من الخيرية، وما ضيعها من أوصاف فسدت الخيرية وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104]، حصل الفلاح في هؤلاء في الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

ومن المعلوم أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر تقيد هذا بالنصوص الأخرى التي سمعتم شيئًا منها؛ فإن النصوص يُضم بعضها إلى بعض، وليحذر الداعية والآمر، والواعظ أن يتكلم بشيءٍ لا يعلمه، وأن يفتي بشيءٍ لا يتحقق منه، وأن يفتي بغير علم؛ فإن فعل فإن عليه إثمه وإثم من أفتاه، فمن أُفتي بغير ثبت فإثمه على من أفتاه؛ فليتق الله المسلم وليحذر، وليتأسى في الرسل الكرام وفي أهل العلم.

ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في الصحيح لما جاءه رجلٌ وهو بالجعرانة محرم قد تضبخ بالطين فقد لبس جبه يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفته؛ حتى جاءه العلم من الله، جاءه الوحي من الله، فنزل عليه الوحي وتغشى فيتغشاه؛ ثم قال: أين السائل جاء العلم بوحي من الله؟ فجاء فقال: «أنزع عليك الجُبة، وأغسل عنك أثر الخلوق»، يعني الطين، «أنزع عنك الجبة، وأغسل عنك أثر الخلوق، وأصنع في عُمرتك ما أنت صانعٌ في حجك» هكذا العلم.

إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُجيب إلا عن علم، وإذا لم يكن عنده شيء توقف؛ حتى يأتيه الوحي من ربه فالعالم كذلك، وطالب العلم كذلك؛ قدوته رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليعلم الإنسان أن الداعي والعالم أنه فاته شيءٌ من شيءٌ كثير، وأنه لم يحصل على العلم كله بل هناك شيءٌ من العلم فاته، قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء:85].

فإذا سلك الداعي والعالم مسلك الورع والتقوى فإنه فإن الله تعالى يوفقه ويسدده، وعليه مع ذلك أن يلجأ إلى الله وأن يضرع إليه في أن يسدده ويلهمه الصواب، وأن يدعو بهذا الدعاء:

"يا مُعلم إبراهيم علمني، ويا مُفهم سُليمان فهمني"، فمع بذل الجُهد في التعلم، ومع بذل الجُهد في البحث عن ما أشكل عليه ومع سؤال أهل العلم، والبحث في كُتب أهل العلم يوفق الإنسان، وكذلك أيضًا إذا سلك مسلك الورع وأحجم عن ما لا يعلم؛ فإن الله تعالى يوفقه ويسدده.

والله -سبحانه وتعالى-، والله -سبحانه وتعالى- يُثيب عبده أكثر من عمله، يُثيب -سبحانه وتعالى- على القليل أجرًا كثيرًا؛ فإذا مشى العبد إلى ربه أتاه هروله، ومن تقرب إلى الله شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب منه باعًا تقرب منه..، ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، وإذا أتاه يمشي أتاه هرولة؛ كما ثبت ذلك في الحديث القدسي.

وليحذر أيضًا الإنسان من العُجب والكبر فإن هذه آفات وأمراض من أمراض القلوب من الكبائر، من الأخلاق السيئة من كبائر الذنوب، من أعمال القلوب؛ فإن الكبائر تكون باطنة في الباطن كما أيضًا تكون في الظاهر؛ فكما أن الزنا والسرقة، وشُرب الخمر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، وشهادة الزور، والتعامل بالربا من الكبائر الظاهرة؛ كذلك العُجب والكبر وازدراء الناس واحتقارهم مثل كبائر الذنوب، كبائر الذنوب الباطنة.

ليحذر الإنسان العُجب والكبر والغرور، والتعالي على الناس، العُجب بنفسه، وأن يرى أنه فوق الآخرين؛ هذه كُلها من أمراض القلوب، من الكبائر؛ فليحذرها المُسلم، ويحذرها الداعية والعالم والواعظ والناصح، والمُفتي وأن يكون عند الإنسان ورع وخشية في الله -عز وجل- تحجزه من اقتراف هذه الكبائر الباطنة، والظاهرة.

أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم إلى العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا خشيته وتقواه والتأسي برُسل الله الكرام وبنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وبالسلف الصالح من التابعين والأئمة، والعلماء، والربانيين وأن يُلحقنا بهم وأن يوفقنا لسلوك طريقهم، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يثبتنا على دينه القويم، إنه ولي ذلك وهو القادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد