الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه على ما له من الصفات الكاملة العظيمة، والأفعال التي ربى بها العالمين، وأَدرّ عليهم فيها النعم، وصرف عنهم بها النقم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له المدبرُ لعباده في حركاتهم وسكونهم، وفي جميع أعمالهم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدُ الله ورسولُه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ واعلموا أن لله حِكَمًا وأسْرارًا في خلقه وفي قَدَرِه وفي شرعه -في أمره ونهيه-، يُطْلِعُ اللهُ بعضَ عباده على شيء منها، وما يخفى عليهم منها أكثر وأعظم، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
وإن هذا الوباء المسمى بجائحة كورونا الذي أنزله على أهل الأرض شمالها وجنوبها شرقها وغربها، مؤمِنِها وكافرِها، مطيعِها وعاصيها، داخلٌ في قول الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ففي هذه الآية تحذير من الله لعباده المؤمنين فتنةً -أي اختبارًا ومحنة- يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب، بل يعمهما فتصيب فاعلَ الظلم وغيرَه، حيث لم تُدفع وتُرفع، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يُغير فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وكما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمده وغيره إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، ومن الحكم والأسرار في هذا الوباء:
أولا: أن ما أصاب الناس من الفساد في المعايش ونقصها وحلول الآفات بها وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة، فعجّل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا، لعلهم يرجعون عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم، وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
ثانيا: الابتلاء والامتحان للناس ليتبين الصادق في إيمانه الصابر على بلاء الله وقضائه وقدره، المسلّم لله في حكمه القدري والشرعي، وليتبين الكاذب في دعواه الإيمان في جزعه وعدم صبره وتسخطه لقضاء الله وقدره، فيظهر علمُ الله فيه، فيكون جزاؤه على عمله، قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
ثالثا: رجوع العباد إلى الله بالاستكانة والدعاء والتضرع والإنابة والتوبة وإصلاح الحال، وهذه العبوديات محبوبة لله تعالى، قال سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وقال تعالى: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ وفي الحديث: من لم يسأل الله يغضبْ عليه.
رابعا: ظهور قسوة قلوب بعض العصاة من الكفرة وغيرهم باستمرارهم على المعاصي، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى يروا أن ما هم عليه حسنا، واستدراج الله لهم بإمهالهم وإدرار النعم عليهم ثم يُؤْخَذُون على غِرَّة –بغتة-، قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ وقال تعالى: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا وقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.
خامسا: ظهور ضعفِ الناس وعجزِهم أمام هذا الوباء الصغير، فهذه الأمم التي بلغت شَأْوًا في التقدم والحضارة والتكنلوجيا والاكتشافات والاختراعات وقفت حائرة مدهوشة عاجزة أمام هذا الوباء الصغير، والله تعالى تحدى الناس مؤمنهم وكافرهم أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، بل أبلغ من ذلك، لو يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه، وهذا غاية ما يصير من العجز، ونفى الله ذلك عنهم نفيا مؤبدًا، ضَعُفَ الطَّالِبُ الذي هو المعبود من دون الله وَالْمَطْلُوبُ الذي هو الذباب، وأضعف منهما من يتعلق بهذا الضعيف، يُنْزِلُه منزلة رب العالمين.
سادسا: ظهور المصلحة العظيمة في طاعة ولاة أمور المسلمين واجتماع الكلمة ووحدة الصف والتلاحم بين الراعي والرعية في لزوم البيوت ومنع التجوّل والأخذ بالأسباب الاحترازية، والتدابير الوقائية، والتوجيهات الصحية في التخفيف من هذه الأزمة المرضية الناتجة من هذا الوباء.
وحيث لا زال هذا الوباء فلا بد من التقيد بالأخذ بهذا الاحترازات والتوجيهات، نسأل الله تعالى أن يرفع هذا الوباء، وأن يتوب علينا ويغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على رب العالمين، وأشهد ألا إله إله إلاالله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدُ الله ورسولُه الصادق الأمين، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فإن من الحِكَم والأسرار: حصول المصالح العظيمة لكثير من الناس في لزوم البيوت، من رعاية الأهل والأولاد والاجتماع بهم وتوجيههم ونصحهم وتعليمهم، وما حصل لبعض أهل العلم والعبّاد من العبادة وقيام الليل، وحفظ القرآن، والتأليف للكتب، وما حصل للبعض من الحصول على المهارات والحِرَفِ المتنوعة، فأصبح لديهم من الحِرَف والأعمال التي أتقنوها في البيوت ما فيه مصلحةٌ للأمة، ومهنةٌ في اليد تكون سببا للرزق وكسب العيش المشروع والمباح.
ومن الحِكَم: رجوع بعض الناس إلى الفطرة وسنة الله الكونية بالنوم بالليل وترك السهر، فذاقوا طعم النوم وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وهذه الآيات فيها امتنان من الله على عباده يدعوهم به إلى شكره، والقيام بعبوديته وحقه، لأنه وحده المعبود بالحق، وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، وأنه الرؤوف الرحيم العليم الحكيم.
فاتقوا الله عباد الله وتبصّروا في حِكَمِ الله وأسراره في خلقه، واشكروه على نعمه وقوموا بعبوديته وحقه تكونوا من عباده المؤمنين وحزبه المفلحين، اللهم اجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين لك مخبتين منيبين، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا تلاوة كتابك وتدبر آياته وفهمها والعمل بها إنك جواد كريم بر رؤوف رحيم.