شعار الموقع

شرح كتاب فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد_3

00:00
00:00
تحميل
64

باب بيان فضل التوحيد ومايكفر من الذنوب

 

باب خبر مبتدأ محزوف تقديرة هذا

قلت: ويجوز أن يكون مبتدأً خبره محذوف تقديره هذا.

و[ما] يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر[1].

 

 

وقول الله تعالى: '6 : 82'

(الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون)

 

قال ابن جرير: حدثني المثنى وساق بسنده عن الربيع ابن أنس قال: الإيمان الإخلاص لله وحده.

وقال ابن كثير في الآية: أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده، ولم يشركوا به شيئًا، هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة .

وقال ابن زيد وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.

وعن ابن مسعود: لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم).

وساقه البخاري بسنده فقال: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قلنا: يا رسول الله أيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: "ليس كما تقولون، (لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ): بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)؟". وهذا الحديث في الصحيح والمستدرك وغيرهما.

ولأحمد بنحوه عن عبد الله قال: لما نزلت (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، فأيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)؟ إنما هو الشرك" .

وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب .

وقال الحسن والكلبي: (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) في الآخرة، (وَهُمْ مُهْتَدُون) في الدنيا.

قال شيخ الإسلام: والذين شقّ عليهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلّهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء.

كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: '35 : 32' (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير) وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنبٍ إذا لم يتب، كما قال تعالى : '99 : 7 8' (يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيُّنا لم يعمل سوءا؟ فقال: "يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به" فبين أن المؤمن إذا مات دخل الجنة قد يُجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقًا.[2]

بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما هو الشرك" أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر مُعرَّضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة، وقوله: "إنما هو الشرك" إن أراد الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك فيقال: ظلم العبد لنفسه كبخله بحب المال ببعض الواجب هو شركٌ أصغر، وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يُقدِّم هواه على محبة الله شركٌ أصغر ونحو ذلك، فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه؛ ولهذا كان السلف يدخلون الذنب في هذا الشرك بهذا الاعتبار. انتهى ملخصًا[3].

 

وقال ابن القيم رحمه الله: قوله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون) قال الصحابة: وأيُّنا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم)؟" فلما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمنًا ولا مهتديًا أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل، فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع الأمن والاهتداء المطلق التام.

ولا يمنع أن يكون الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى.

فالمطلق للمطلق والحصة للحصة. انتهى ملخصًا.[4]

 

 

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل أخرجاه.

عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد، أحد النقباء، بدريٌ مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما.

قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله" أي: من تكلم بها عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما، كما قال الله تعالى: '7 4 : 19' (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه) وقوله: '43 : 86' (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع.

قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: بابٌ لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابد من استيقان القلب، هذه الترجمة تنبيهٌ على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كافٍ في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدلُّ على فساده، بل هو مذهبٌ معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعًا. انتهى.

وفي هذا الحديث ما يدل على هذا، وهو قوله: "من شهد" فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق.

قال النووي: هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها، فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم. انتهى.

ومعنى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحقٍ إلا الله، وهو في غير مواضع من القرآن ويأتيك في قول البقاعي صريحًا .

قوله: "وحده" تأكيد للإثبات، "لا شريك له" تأكيد للنفي، قاله الحافظ، كما قال تعالى: '2 : 163' (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وقال: '21 : 25' (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون) وقال: '7 : 65' (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه) فأجابوه ردًا عليه بقولهم: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا) وقال تعالى: '22 : 62' (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير)

فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة، وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه، فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تألُّه القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبًا ورهبًا، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله، فمن صرف من ذلك شيئًا لغير الله فقد جعله ندًا لله، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل.

ذكر كلام العلماء في معنى لا إله إلا الله: قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: "شهادة أن لا إله إلا الله" يقتضي أن يكون الشاهد عالمًا بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه)، قال: واسم [الله] مرتفعٌ بعد [إلا] من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبتَّ الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.

وقال ابن القيم في البدائع ردًا لقول من قال: إن المستثنى مُخرج من المستثنى منه قال ابن القيم: بل هو مُخرجٌ من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلاً في المنفي؛ إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله؛ لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى.

وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاص.[5]

 

 

فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: الله إله، ولا يستريب أحد في هذا ألبتة. انتهى بمعناه.

قلت: ولا ريب أنه لم يدخل في المنفي أصلاً؛ لأن المراد من هذه الكلمة إفراده تعالى بالإلهية في قلب الموحد وقوله وعمله، كما دلت عليه الآيات المحكمات، كما أخبر عن دعوة رسله (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه) فنفوا الإلهية عما سوى الله، وأثبتوها لله وحده.

فإنه تعالى هو المتصف بتفرده بالإلهية أزلاً وأبدًا، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل)، وأخبر تعالى عن المشركين أنهم قالوا: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَه)، أرادوا أن يُدخلوه في جملة آلهتهم في العبادة، وأنكروا أن تكون العبادة له وحده، مع معرفتهم أن لا إله إلا الله، تبطل ذلك.

وتسوية آلهتهم بالله في العبادة هو الشرك الأكبر الذي يوجب الخلود في النار، فالموحِّد مخالف للمشرك في قوله وفعله ونيته، وهذا ظاهر لا خفاء به، بحمد الله.

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره لا إله إلا الله أي: لا معبود بحقٍ إلا هو .وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو بباطل، ثم غلب على المعبود بحق.

وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يُعبد، وكونه يستحق أن يُعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع، وقال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.

وقال ابن القيم: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابةً وإكرامًا وتعظيمًا وذُلاً وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكلاً.

وقال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبةً له وإجلالاً ومحبةً وخوفًا ورجاءً وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.

وقال البقاعي: لا إله إلا الله أي: انتفى انتفاءً عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا، وإنما يكون نافعًا إذا كان مع الإذعان، والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.

وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب[6].

 

 

كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي: عبد عبادة. قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم أن الإله هو المعبود، خلافًا لما يعتقده عُبَّاد القبور وجهلة المتكلمين من أن معناه هو الخالق والقادر على الاختراع ونحو ذلك، ويظنون أنهم إذا قالوها فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله في عبادة الأموات والاستغاثة بهم في الكربات والنذر لهم في المُلِمَّات إلى غير ذلك من أنواع العبادات، وما شعروا أن مشركي العرب وغيرهم يشاركوهم في الإقرار بهذا المعنى، ويعتقدون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع، كما قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه) وقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم) فأخبر تعالى عنهم أنهم اتخذوا الأولياء من دونه وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فتبًا لمن كان أبو جهل ورؤوس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منهم بمعنى لا إله إلا الله، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)، فعرفوا أنها تدل على ترك عبادة معبوداتهم.

قلت: ودلالتها على هذا دلالة تضمن، وأن ذلك يقتضي إخلاص العبادة لله وحده، فدلالتها على نفي الإلهية وعبادتها وإفراد الله تعالى بالعبادة دلالة مطابقة.

فدلت لا إله إلا الله على نفي الإلهية – العبادة – عن كل ما سوى الله تعالى كائنًا ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ودلّ عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: '72 : 1' (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيًا وإثباتًا واعتقد ذلك، وقبله وعمل به، وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف فهي حجة عليه بلا ريب.

فقوله في الحديث: "وحده لا شريك له" تأكيد وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح الله ذلك، وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عُبَّاد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظًا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظًا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء وغير ذلك من أنواع العبادة، بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أكثرهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجًا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: '29 : 65' (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون) الآية، فبهذا تبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم.

وقوله: "وأن محمدًا عبده ورسوله" أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد، أي أنه مملوك لله تعالى، والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: '39 : 26' (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ).[7]

فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقوله: "عبده ورسوله" أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعًا للإفراط والتفريط.

وقوله : عبده ورسوله أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعًا للإفراط والتفريط، فإن كثيرًا ممن يدّعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولاً وفعلاً، وفرّط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسّف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها، والصدف عن الانقياد لها مع اطراحها، فإن شهادة أن محمدًا عبده ورسول تقتضي الإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر، وأن يعظم أمره ونهيه، ولا يقدَّم عليه قول أحد كائنًا من كان.

والواقع اليوم وقبله ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين خلاف ذلك، والله المستعان.

وروى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوِّجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله يفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا.[8] [9]

 

قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبًا يقول مثل ما قال ابن سلام.[10]

قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" أي: خلافًا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - '23 : 91' (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه) فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله، خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى: '3 : 59' (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) فليس ربًا ولا إلهًا، سبحان الله عما يشركون، قال تعالى: '19 : 29 - 36' (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، وقال: '4 : 172' (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) ويشهد المؤمن أيضًا ببطلان قول أعدائه اليهود أنه ولد بغي - لعنهم الله تعالى - فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يتبرأ من قول الطائفتين جميعًا في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه أنه عبد الله ورسوله.[11]

قوله: "وكلمته" إنما سمي عيسى عليه السلام كلمة؛ لوجوده بقوله تعالى: كن، كما قاله السلف من المفسرين.

قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية: الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: كن فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو كن، ولكن كان بكن، فكن من الله تعالى قولاً، وليس كن مخلوقًا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى. انتهى.

قوله: "ألقاها إلى مريم" قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل، فكان عيسى بإذن الله عز وجل، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له كن فكان، والروح التي أرسل بها هو جبريل عليه السلام.

وقوله: "وروح منه" قال أبي بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله: '7 : 271' (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) بعثه الله إلى مريم فدخل فيها. رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهم .

قال الحافظ: ووصفه بأنه منه فالمعنى أنه كائن منه، كما في قوله تعالى:'45 : 12' (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْه) فالمعنى أنه كائن منه، كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكوّن ذلك وموجده بقدرته وحكمته.

قال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافتها إضافة مخلوق مربوب، وإذا كان المضاف عينًا قائمةً بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام، وأرواح بني آدم، امتنع أن تكون صفة لله تعالى؛ لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره، لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:

أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله، فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله.

الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره، وكما يقال عم مال الخمس والفيء هو مال الله ورسوله، ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره، فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. انتهى ملخصًا.[12]

قوله: "والجنة حق والنار حق" أي: وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق أي ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى: '57 : 1' (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) وقال تعالى: '2 : 24' (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين) وفى الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافًا للمبتدعة وفيهما الإيمان بالمعاد[13].

وقوله: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" هذه الجملة جواب الشرط، وفي رواية: "أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء".

قال الحافظ: ومعنى قوله: "على ما كان من العمل" أي: من صلاح أو فساد، لكن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله: "على ما كان من العمل" أي: يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات. انتهى.

قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصًا لمن قال ما ذكره صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى  والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفًا لمعناها وحقيقته نفيًا وإثباتًا، متصفًا بموجبها، قائمًا قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته، فهذه الكلمة من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متصلة في السماء، وهي مُخرجة بثمرتها كل وقت. انتهى.

قال: ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".

قوله: ولهما أي: للبخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله، وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان.

وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية.

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثا - قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرّمه الله تعالى على النار" قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: "إذًا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثُّمًا .

وساق بسند آخر حديث معتمر قال: سمعت أبي قال: سمعت أنسًا قال: ذُكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة" قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا إني أخاف أن يتكلوا".

قلت: فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص.

قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة بقوله: خالصًا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملةً، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبةً نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة" وتواترت بأن كثيرًا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: '43 : 23' (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُون)، وحينئذِ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرًا على ذنب أصلاً، فإنّ كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذًا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وهذا هو الذي يُحرِّم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين لا يتركون له ذنبًا إلا مُحي عنه كما يمحو الليل النها[14]ر.

فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له ويُحرَّم على النار، وإن قالها على وجهٍ خَلُصَ به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيءٌ من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرًا على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، ولكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصًا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحةً على سيئاته، ولا يكون مصرًا على سيئات فإن مات على ذلك دخل الجنة.

وإنما يُخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم أو من يحسِّن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة، فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.

قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيرًا وعمل خيرًا قُبِل منه، ومن قال خيرًا وعمل شرًا لم يقبل منه.

وقال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه.

فمن قال لا إله إلا الله ولم يقم بموجَبها.[15]

بل اكتسب مع ذلك ذنوبًا وكان صادقًا في قولها موقنًا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة ومات مصرًا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق فإنه إما أن لا يكون مصرًا على سيئة أصلاً، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه، رجَّح حسناته، والذين يدخلون النار ممن يقولها إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات، أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات، فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصًا.

وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم و ابن رجب وغيرهم.

قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث.

قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس، وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه إن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصًا لوجه الله تعالى، على ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث: "من إيمان" أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله: أخرجوا، ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط، يريد بذلك إلا التوحيد المجرد من الأعمال. انتهى ملخصًا من شرح سنن ابن ماجة.

 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى لا إله إلا الله، قال: يا ربِّ كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله". رواه ابن حبان والحاكم وصححه.

أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه كذلك، استُصْغِر أبو سعيد بأُحُد، وشهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين، وقيل سنة أربع وسبعين.

قوله: "أذكرك" أي: أثني عليك به، "وأدعوك" أي: أسألك به.

قوله: "قل يا موسى لا إله إلا الله" فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على هو، كما يفعله غُلاة الجُهّال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلال.

قوله: "كل عبادك يقولون هذا" ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول "يقول" بالإفراد؛ مراعاةً للفظة "كل"، وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمروٍ بلفظ الجمع، كما ذكره المصنف على معنى "كل" .

ومعنى قوله: "كل عبادك يقولون هذا" أي: إنما أريدُ شيئًا تخصني به من بين عموم عبادك، وفى رواية بعد قوله: "كل عبادك يقولون هذا" "قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت، يا رب إنما أريد شيئًا تخصني به".

ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجودًا، وأيسرها حصولاً، وأعظمها معنى، والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب ولا في السنة.

قوله: "وعامرهن غيري" هو بالنصب عطف على السموات، أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان، ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإنّ السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كُنَّ حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله".

قوله: "في كفة" هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان.

قوله: "مالت بهن" أي: رجحت؛ وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال، وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك فهذه الحسنة التي لا يوازنها شيء، كما قال الله تعالى: '46 : 13' (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ودلّ الحديث على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". رواه أحمد والترمذي .

وعنه أيضًا مرفوعًا: "يُصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فيُنْشَر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجلِّ منها مدّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا، فيقال: بلى إنّ لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيُخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة". رواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح[16].

قال ابن القيم رحمه الله: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدى البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يُعذب، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثيرٌ منهم يدخل النار بذنوبه.

قوله: رواه ابن حبان والحاكم، ابن حبان: اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان ابن معاذ أبو حاتم التميمي البستي الحافظ، صاحب التصانيف كالصحيح والتاريخ والضعفاء والثقات وغير ذلك، قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بُسْت - بضم الموحدة وسكون[17] المهملة وأما الحاكم فاسمه: محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري، أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بابن البَيِّع، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف تصانيف كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة.

 

 

 وللترمذي - وحسنه - عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".

ذكر المصنف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم إنك لو أتيتني .. الحديث[18].

الترمذي اسمه: محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى ابن الضحاك السلمي، أبو عيسى، صاحب الجامع، وأحد الحُفّاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق، مات سنة تسع وسبعين ومائتين.

وأنس: هو ابن مالك ابن النضر الأنصاري الخزرج، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وقال له: "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة" مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة.

والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه: "ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة"، ورواه مسلم وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: "لو أتيتني بقراب الأرض" بضم القاف، وقيل بكسرها، والضم أشهر، وهو ملؤها، أو ما يقارب ملأها.

قوله: "ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا" شرطٌ ثقيلٌ في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك، كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلّم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم، كما قال تعالى: '26 : 89' (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة - إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه وبلسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله، محبةً وتعظيمًا وإجلالاً ومهابةً وخشيةً وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر. انتهى ملخصًا.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث: ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك، ولو لقي الموحِّد الذي لم يشرك بالله شيئًا ألبته ربه بقراب الأرض خطايا، أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي. انتهى[19].

[20]وفي هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والرد على الخوارج الذين يكفِّرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار، والصواب قول أهل السنة: أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، و لا يُعطاه على الإطلاق، بل يقال هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة [21].

 

 

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى فأعطي ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا: المقحمات". رواه مسلم.

قال ابن كثير في تفسيره: وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي، عن أنس ابن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية '74 : 56' (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة) وقال: "قال ربكم: أنا أهلٌ أن أُتّقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهًا كان أهلاً أن أغفر له".

قال المصنف رحمه الله: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين[22].

 

وفيه: أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله [23].[24]

والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه، وفيه إثبات الصفات خلافًا للمعطلة[25] .[26]

وفيه: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" تبين لك أن ترك الشرك في قولها باللسان فقط.[27]

 

 

[1] يعني باب فضل التوحيد وما يكفِّر من الذنوب هذا يعني يجوز أن يقال باب هذا خبره باب هذا فضل، ويجوز العكس إذن الباب مبتدأ والخبر تقديره باب فضل التوحيد وما يكفِّر من الذنوب هذا.

وما يكفِّره من الذنوب يعني: وتكفيره الذنوب على المصدرية، والأول فضل التوحيد هو الذي يكفره من الذنوب، يسير العائد محذوف الهاء، باب فضل التوحيد والذي يكفِّر، قدّر تكفيره من الذنوب.

 

[2] والمراد به الشرك.

الأولى أن يقال: كان له مطلق الأمن ومطلق الاهتداء، هذا الأولى. من لم يسلم من ظلمه لنفسه ليس له الأمن والاهتداء المطلق يعني التام، وإنما الأولى أن يقال: كان له مطلق الأمن ومطلق الاهتداء، لا الأمن المطلق. هذا هو الأولى. و لذلك فسَّره قال: "بمعنى..". إذن العبارة الدقيقة أن يقال: كان له مطلق الأمن و الاهتداء.

 

 

[3] هذا على القول بأن المعاصي كلها تسمى شرك؛ لما فيها من الهوى، إشراك الهوى، انتهى من كتاب الإيمان لشيخ الإسلام.

لكن المعروف أن المعاصي ما تسمى شرك إلا ما سماه الله شركًا فهذا يكون شرك أصغر، إن كان شركًا في العبادة أو ناقضًا من نواقض الإسلام صار شركًا أكبر.

 

 

[4] الظلم المطلق التام هذا هو الشرك، رافعٌ للأمن والاهتداء المطلق التام، رافعٌ للهداية التامة في الدنيا، فلا يكون مهتديًا بل يكون ضالاًّ ضلالاً تامًا، ورافعٌ للأمن من عذاب الآخرة، فهو ليس آمن بل هو من أهل النار المخلَّدين فيها.

مطلق الظلم يعني: ظلم العبد لنفسه، يمنع من مطلق الأمن، فقد يحصل له دخول النار ثم يخرج منها، وهو مانع من مطلق الهداية التامة بل هدايته ناقصة.

فالطلق للمطلق يعني: الأمن المطلق والهداية المطلقة تكون لمن سلم من الظلم المطلق، والحصة للحصة، من كان عنده ظلم فله بعض الأمن، فله مطلق الأمن، من كان عنده بعض أنواع الظلم دون الشرك، ظلمه للعباد أو ظلمه لنفسه وسلم من الشرك فعنده مطلق الأمن، حصة من الأمن، عنده مطلق الهداية ومطلق الأمن.

 

[5] يعني (لا إله) هذا كفر بالطاغوت، (إلا الله) هذا الإيمان بالله.

المعنى أنه استثنى في كلمة التوحيد، (لا إله إلا الله) المستثنى وهو الله، ليس مخرجًا من المستثنى منه وهو إله بقولك: لا إله، وإنما يخرج الإلهية بالحق، ليس إله الحق إلا الله، فقولك: [إلا الله] ما هو مستثنى من الإله، [لا إله] هذا الإلهية الباطلة، [إلا الله] الإلهية بالحق، فلا يمكن أن يستثنى الإلهية الحق من الإله الباطل، فابن القيم يريد أن يرد على من قال أن المستثنى مخرج من المستثنى منه، فلا يكون داخلاً في المستثنى؛ إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقول لا إله إلا الله؛ لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، فإذن المستثنى في كلمة وهو [الله] ليس مخرجًا من المستثنى منه وهو [إله] وإنما يخرج الإلهية بالحق، هذه مستثناه، ليس إلهية حق إلا الله، يعني قوله: مُخرجٌ من المستثنى وحكمه يعني: من حكم المستثنى، بل هو مُخرجٌ من المستثنى منه وحكمه يعني: ومن حكم المستثنى منه، وحكمه البطلان، وهو الإلهية المنفية في قولك: لا إله، حكم المستثنى منه البطلان، فقول ابن القيم: بل هو مُخرجٌ من المستثنى منه وحكمه يعني من حكم المستثنى منه ومن حكمه، وحكمه البطلان، حكم لا إله البطلان وهو الإلهية المنفية في قولك: لا إله. يعني وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله.

 

[6] إن قلت: الله إله هذا إثبات، والتوحيد لا يحصل بإثبات، التوحيد ما يحصل إلا بالنفي والإثبات.

يعني إله بمعنى مألوه، مثل فعال بمعنى مفعول.

 

[7] العبودية نوعان: خاصة وعامة، الخاصة هي طاعة الله ورسوله، وهي خاصة بالمؤمن، أما العبودية العامة فهي نفوذ قدرة الله ومشيئته في جميع الخلق، وهي عامة للمؤمن والكافر، كما قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)

 

[8] قوله: "عبده" فيه رد على النصارى الذين قالوا عيسى ابن الله – تعالى الله عما يقولون –، وقوله: "ورسوله" ردٌ على اليهود الذين قالوا عيسى ولد بغي، ولم يؤمنوا برسالته، نعوذ بالله.

 

[9] هذا كله مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، تصديقه في

 

[10] أخباره، وطاعته في أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وأن يُعظَّم أمره ونهيه – عليه الصلاة والسلام – ولا يُقدّم عليه قول أحد كائنًا من كان.

 

[11] قوله: حتى يقيم الملة المتعوِّجة، سميت ملة الإسلام بالملة العوجاء وبالحنيفية؛ لكونها مائلةً عن الأديان الأخرى، فدين الإسلام مائل عن الأديان والملل الأخرى، وإن كان هو في نفسه دينٌ مستقيم، هو في نفسه دينٌ مستقيم، كما قال تعالى: (قَيِّمًا)، والدين المستقيم قيمًا لا عِوَج فيه، كما قال تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم)، قال تعالى: (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيم)، وقال عن القرآن: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ) هو في نفسه دين مستقيم ولكنه مائل عن الأديان الأخرى.

 

[12] يعني الإضافة الأخيرة هذه تتضمن الألوهية والشرع والدين، والأولى تتضمن إضافة ربوبية للخلق، يعني إضافة إلى كونه خلق هذه الأولى وأبدعها، هذه تتضمن ربوبية الخلق، وهذا يضاف إليه؛ لما خصه من معنى يحبه، فإضافته تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه.

 

[13] خلافًا للمبتدعة وهم المعتزلة الذين يزعمون أنهما تخلقان يوم القيامة، يقولون:  الآن ليستا مخلوقتين؛ لأن خلقهما الآن عبث، والعبث محال على الله، وهذا من جهلهم وضلالهم، من قال أنها عبث؟! أولاً النصوص صريحة في أنها مخلوقة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين)، (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين)، وثانيًا: أنها ليستا مُعطّلتين، المؤمن يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من رَوحها وطيبها، والكافر يُفتح له باب إلى النار، فيأتيه من عذابها وسمومها، والأرواح تُنعَّم، أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار تُعذب في النار، إلى غير ذلك.

 

[14] المعنى أنه لا منافاة بين الأحاديث، الأحاديث المطلقة تقيِّد الأحاديث الأخرى المقيدة، فإذا قال لا إله إلا الله عن صدق وإخلاص وتوبة دخل الجنة من أول وهلة، وإذا قالها مع الغفلة ومع إصرارٍ على المعاصي فهو على خطرٍ من دخول النار، فلا منافاة بين الأحاديث، الأحاديث المطلقة تقيد بالأحاديث الأخرى المقيدة، إذا قال لا إله إلا الله عن صدق وإخلاص وتوبة دخل الجنة من أول وهلة، وإذا قالها مع الغفلة ومع إصرارٍ على المعاصي فهو على خطرٍ من دخول النار.

 

[15] بموجَبها يعني: ما توجبه من الأعمال فعلاً وتركًا.

 

[16] نعم، وهذا الحديث يُعرف بحديث البطاقة، وهو من أرجى أحاديث الوعد لأهل الكبائر، وأرجى حديث للمؤمنين، ومعلوم أن كل إنسان له مثل هذه البطاقة، كل مؤمن له مثل هذه البطاقة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، كثيرٌ منهم ترجح السيئات، فلماذا؟ لأن صاحب البطاقة إن قالها عن إخلاص وتوبة أحرقت هذه السيئات، قالها عند الموت عن توبة، أو قالها عن توبة، قالها عن إخلاص وصدق ويقين؛ ولهذا رجحت هذا البطاقة.

 

[17] يعني كأن ابن القيم يشير إلى أنها تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، من حقائق الإيمان، من تعظيم الله، ومن الصدق والإيمان؛ ولهذا ثقلت بطاقة هذا الشخص ولم تثقل بطاقة آخرين.

 

[18] وهو حديث قدسي، من كلام الله تعالى لفظًا ومعنى.

 

[19] يعني التوحيد مع الصدق والإخلاص لا يصر صاحبه على معصية وكبيرة، بل يكون تائبًا نادمًا، أو التوحيد الذي قام بحقوقه بأداء الواجبات وترك المحرمات يغفر لصاحبه، ويدخل الجنة لأول وهلة، أما مع الغفلة فإنه يضعف إخلاصه وصدقه ويقينه، ويصر على المعاصي، ويقصّر في الواجبات، ويكون مستحقًا للوعيد، ويكون تحت مشيئة الله، كما قال الله تعالى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وهذا هو

[20] الجمع بين النصوص، أن التوحيد مع الصدق والإخلاص ما يصر على المعصية أبدًا، لابد أن يتوب، لكن مع الغفلة والأعراض تأتي المعاصي، ويكون مستحقًا للوعيد.

 

[21] لا يسلب عنه اسم الإيمان فلا يقال ليس بمؤمن؛ لأن هذا يوافق مذهب الخوارج والمعتزلة، ولا يعطى مطلق الإيمان يقال: هو مؤمن بإطلاق؛ لأن هذا يوافق مذهب المرجئة، بل لابد من التقييد في النفي والإثبات، في النفي يقال: ليس بمؤمن حقًا، ليس بصادق الإيمان، في الإثبات يقال: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.

 

[22] الخمس اللواتي في حديث عبادة:

من شهد أن لا إله إلا الله .

وأن محمدًا عبده ورسوله.

وأن عيسى عبد الله ورسوله.

وأن الجنة حق.

وأن النار حق.

تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" الذي يؤمن بهذه الخمس فإنه يقولها عن إخلاص، يعني: من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، لابد أن يكون مؤمنًا بهؤلاء الخمس، ولا يمكن أن يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله وهو لا يشهد أن محمدًا رسول الله، وهو لا يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، بل يقول عيسى ابن الله! لا يمكن، أو ينكر الجنة أو ينكر النار، لا يمكن، فالحديثان متوافقان، والذي يؤمن بالخمس هو المخلص، والمخلص لابد أن يؤمن بالخمس؛ فلهذا قال المؤلف: إذا جمعت بينها تبين لك معنى قوله لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين.

 

 

[24] كما أن موسى – موسى من أولي العزم – لما قال: علمني شيئًا أذكرك

 

 

 

 

 

 

[25] وأدعوك به.

 

[26] من أين يؤخذ إثبات الصفات؟ لأن الرب سبحانه وتعالى لابد أن يكون متصفًا بصفات وأنه غفور وأنه رحيم؛ لأنه يؤمن بالجنة ويؤمن بالنار فلابد من الخوف والرجاء، والخوف والرجاء لابد من إثبات الأسماء والصفات (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الذي يؤمن بهذه الخمس لابد أن يكون عنده خوف ورجاء، يدخل في الصفات.

 

[27] ليس قول لا إله إلا الله باللسان هو ترك الشرك، ترك الشرك لابد أن فيه عمل، يترك.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد