شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_9 من قوله فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ: الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَالْكُفْرُ... - الى قوله وَزَوْجُ الشَّيْءِ نَظِيرُهُ، وَسُمِّيَ النصفُ زَوْجًا؛ لِتَشَابُهِ أَفْرَادِهِ

شرح كتاب الإيمان الكبير_9 من قوله فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ: الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَالْكُفْرُ... - الى قوله وَزَوْجُ الشَّيْءِ نَظِيرُهُ، وَسُمِّيَ النصفُ زَوْجًا؛ لِتَشَابُهِ أَفْرَادِهِ

00:00
00:00
تحميل
55

(المتن)

توقَّفنا عند قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ: الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَالْكُفْرُ إذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآ خِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ، كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة:5].

وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء:136].

وَقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل:15،16].

وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8،9].

 وَقَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71،72].

وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68]. وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه:124-127].

وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة:6].

وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الْبَاطِنِ كُفَّارٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا الْكُفَّارُ الْمُظْهِرُونَ لِلْكُفْرِ؛ بَلْ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ.

ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ الْكُفْرُ بِالنِّفَاقِ فِي مَوَاضِعَ؛ فَفِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ، وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ. فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء:140].

وَقَالَ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]  إلَى قَوْلِهِ: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} [الحديد:15].

وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} فِي سُورَتَيْنِ. وَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر:11]  الْآيَةَ.

(الشرح)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

فيُبيِّن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ في هذا الفصل أن لفظ: (الكفر، والنفاق، والشرك) تختلف دلالتها بالتجرد والاقتران، مثل لفظ (الإيمان، والإسلام)، والكتاب كتاب الإيمان، وقد بيَّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ فيما سبق أن مسمى (الإيمان) ومسمى (الإسلام) ومسمى (الدين) تختلف دلالته بالاقتران والتجرد؛ فإذا جاء لفظ الإيمان مطلقًا فإنه يشمل الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، يدخل فيه مسمى الإيمان ومسمى الإسلام، وكذلك مسمى الدين؛ (الدين) إذا جاء مفردًا يشمل الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وأعمال القلوب وأعمال الجوارح، وكذلك مسمى الإيمان وكذلك مسمى الإسلام.

أما إذا اجتمعا فإنه يكون لكل واحدٍ منهما معنى؛ فإذا اجتمع الإيمان والإسلام فإن مسمى الإيمان الأعمال الباطنة، ومسمى الإسلام الأعمال الظاهرة، كما في حديث جبرائيل عليه الصلاة والسلام في حديث عمر بن الخطاب لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وعن الإيمان، فسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسَّر الإيمان بالأعمال الباطنة. وكذلك الدين إذا أُطلق يشمل الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة. 

والدين ثلاث مراتب، هي: الإسلام والإيمان والإحسان، كما في حديث جبرائيل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان، ثم قال، بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يُعلمكم دينكم». فدل على أن الدين له مراتب ثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان.

ثم بيَّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ في هذا الفصل ما يقابل وهو الكفر والنفاق والشرك، فقال: إن لفظ الكفر والشرك والنفاق تختلف دلالتها بالاقتران والتجرد، مثل: لفظ (الإيمان)، لفظ (الإسلام)، لفظ (الدين)، فكما أن (الإيمان) إذا أُطلق وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وكذلك (الإسلام) إذا أُطلق وحده دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وكذلك (الدين)، وإذا اجتمعا صار لكل واحدٍ منهما معنى.

كذلك لفظ (الكفر، والنفاق، والشرك)؛ إذا أُطلق لفظ (الكفر) فإنه يشمل الشرك في عبادة الله ويشمل الكفر والجحود ويشمل النفاق الكفر الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر. وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى، إذا اجتمعا الكفر والنفاق صار (الكفر) يسمى الكفر الظاهر، ويسمى (النفاق) الكفر الباطن مع إظهار الإسلام، وكذلك (الكفر، والشرك) إذا اجتمعا صار مسمى الكفر الجحود، ومسمى الشرك الإشراك في عبادة الله. وإذا أُطلق أحدهما دخل فيه الآخر؛ إذا أُطلق (الكفر) دخل فيه الشرك والنفاق، وإذا أُطلق (الشرك) دخل فيه الكفر والنفاق. وإذا اجتمعا (الكفر والنفاق) فُسِّر الكفر بالكفر الظاهر، الذي يعلن الكفر ظاهرًا وباطنًا، وفُسِّر النفاق بالكفر الباطن مع إظهار الإسلام.

فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن في هذا الفصل أن دلالة ألفاظ (الكفر، والنفاق، والشرك) مثل دلالة ألفاظ (الإيمان، والإسلام، والدين) تختلف بالاقتران والتجرد؛ فإذا اقترنا صار لكل واحدٍ منهما معنى، وإذا تجرد أحدهما وانفرد دخل فيه الآخر.

ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْكُفْرِ " وَ " النِّفَاقِ " فَالْكُفْرُ إذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ" يعني يدخل فيه الكفر الظاهر والباطن، ومثَّل لذلك: "كَقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة:5] " ومن يكفر كفرًا ظاهرًا أو كفرًا باطنًا، يشمل، يشمل النفاق ويشمل الكفر الظاهر.   

"وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء:136]" كذلك الكفر أُطلق ليشمل الكفر والشرك والنفاق.

" وَقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل:15،16]" كذلك هنا أُطلق، قال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يشمل سواءً كان تكذيبه في الباطن أو تكذيبه في الظاهر.

وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8،9]، هذا أُطلق، يشمل الكفار الذين يعلنون كفرهم، ويشمل المنافقون الذين يبطنون كفرهم ويُظهرون الإسلام؛ لأن الآية أُفردت.

وَقَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ..} إلى آخر الآية، إلى أن قال سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71،72]. فقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وقوله: {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، وقوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}، أُطلق كلًّا منهما، فيشمل الكفر الظاهر والباطن، يشمل الكفر الذي هو الجحود، ويشمل الشرك الذي هو الإشراك في عبادة الله، ويشمل النفاق.  

وَكذلك قَوْله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68]، {لِلْكَافِرِينَ} هنا أُطلق فيشمل النفاق ويشمل الشرك. 

وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}، كذلك {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}، فالذي أعرض عن ذِكر الله سواءٌ كان كافرًا معلن كفره أو منافقًا بأن كان كافرًا في الباطن أو مشركًا في عبادة الله، عام، يشمل؛ لأنه أُطلق. 

وكذلك قوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة:6]، هنا فصَّل، قال: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ثم قال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}، فقوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} دخل فيه أهل الكتاب ودخل فيه المشركين، فصَّل، أي: إن الذين كفروا. ثم قال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} فدل على دخول المشركين وأهل الكتاب في الذين كفروا.

إلى أن قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا يَدْخُلُ فِيهَا " الْمُنَافِقُونَ " الَّذِينَ هُمْ فِي الْبَاطِنِ كُفَّارٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا " الْكُفَّارُ " الْمُظْهِرُونَ لِلْكُفْرِ"؛ لأنه أُطلق الكفر، وإذا أُطلق دخل في الكفر بأنواعه.

ثم قال: "بَلْ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ"؛ لأنهم أشد إثمًا وكفرًا من الكفار المعلنين للكفر؛ لأنهم شاركوا الكفار المعلنين للكفر في الكفر فزادوا الخداع، فصار عذابهم أشد.

قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ " الْكُفْرُ بِالنِّفَاقِ " فِي مَوَاضِعَ؛ فَفِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ، وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ"، في أول البقرة ذكر الله الأصناف الثلاثة: المؤمنون ظاهرًا وباطنًا في أربع آيات؛ قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة:3-5]، هذه أربع آيات في صفة المؤمنين ظاهرًا وباطنًا. 

ثم ذكر الكفار في الظاهر ظاهرًا وباطنًا في آيتين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة:7].

ثم ذكر المنافقين الذين هم كفارٌ في الباطن ومسلمون في الظاهر في ثلاث عشرة آية؛ لشدة خطرهم على الإسلام والمسلمين، لكونهم عدو بين المسلمين، يعيشوا بين المسلمين، يتربصوا بهم الدوائر، ويدبروا المؤامرات للقضاء على الإسلام والمسلمين، فخطرهم أشد؛ ولهذا جلَّ الله صفاتهم، قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة:8].

إذًا هم لهم باطن ولهم ظاهر، يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} يعني: بألسنتهم، {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}: بقلوبهم. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: وصفهم بالخداع،  {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} مرض الشك والنفاق. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]  من صفاتهم: يسمون الفساد الإصلاح، ينشرون الفساد على الناس ويسمونه إصلاح، هم من صفاتهم أنهم يسمون المؤمنون بالسفهاء؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13]  فهم يسمون المؤمنين سفهاء، ويصفون الإيمان بأنه سَفَه. وكذلك أيضًا لهم باطن ولهم ظاهر، لهم مع المؤمنين ظاهر، ولهم مع أوليائهم وجهٌ آخر؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} [البقرة:14].

ثم ضرب لهم مثلًا مائيًا ومثلًا ناريًا، ففي أول سورة البقرة ذكر الله الأصناف الثلاثة، فصار لكل صنف صفةٍ خاصة، لكن إذا أُطلق الكفر دخل فيه الكفار في الظاهر وفي الباطن، ودخل فيه الكفار في الباطن دون الظاهر. 

يقول المؤلف: "فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء:140]"، هنا جمع بينهما فصار لكل واحدٍ منهما معنى؛ {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ} يعني: الذين يُظهرون الإسلام ويُبطنون الكفر، {وَالْكَافِرِينَ}: الذين يُظهرون الكفر، يكفرون ظاهرًا وباطنًا.

 وَقَالَ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]  ثم قال بعد ذلك: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد:15]، فجمع بين المنافقين والكفار. {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ} يعني: أيها المنافقون، {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فدل على أن لكل واحد منهما معنى. فصار المنافقون المراد بهم: الذين يُظهرون الإسلام ويُبطنون الكفر، {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: الذين يُظهرون الكفر، ظاهرهم وباطنهم الكفر.

ثم قال المؤلف: "وَقَالَ سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}"، جمع بين الكفار والمنافقين، لكل واحد منهم معنى؛ الكفار غير المنافقين، والمنافقين غير الكفار لأنهما اجتمعا.

وَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر:11]، قال: {نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: جمع بينهما، فصار لكل واحدٍ منهما معنى.

(المتن)

قال رَحِمَهُ اللهُ: وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ قَدْ يُقْرَنُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ، وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْمِلَلِ الْخَمْسِ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} [الحج:17].

وَ(الْأَوَّلُ) كَقَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} [البينة:1].

وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة:6].

وقَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران:20].

وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَوْ الْأُمِّيِّينَ، وَكُلُّ أُمَّةٍ لَمْ تَكُنْ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَهُمْ مِنْ الْأُمِّيِّينَ؛ كَالْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَالْخَزَرِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْهِنْدِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أُمِّيُّونَ، وَالرَّسُولُ مَبْعُوثٌ إلَيْهِمْ كَمَا بُعِثَ إلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ.

(الشرح)

يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ قَدْ يُقْرَنُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ، وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْمِلَلِ الْخَمْسِ".

لفظ المشركين إذا أُطلق دخل فيه كل مشرك وكل كافر، وإذا قُرِن مع غيره صار لكل واحد منهما معنى. فإذا قُرن لفظ المشركين بأهل الكتاب صار لكل واحد منهما معنى، كما في قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1].

فالمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى. والمراد بالمشركين: الوثنيين. صار لكل واحد منهما معنى، لكن إذا أُطلق أحدهما دخل فيه الآخر؛ إذا أُطلق الكفر أو الذين كفروا أو المشركين يدخل فيه أهل الكتاب: اليهود والنصارى، والوثنيين وغيرهم، لكن إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى.

يقول المؤلف: وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمُشْرِكِينَ " قَدْ يُقْرَنُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ، وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْمِلَلِ الْخَمْسِ"، مثال اقترانه بالمِلل الخمس، قوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، هذه المِلل الخمس، لكل واحد منهم معنى؛ {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}: هؤلاء المؤمنون باطنًا وظاهرًا، الذين آمنوا بالله ورسوله. {وَالَّذِينَ هَادُوا}: اليهود، هم بنو إسرائيل الذين يزعمون أنهم على شريعة التوراة. {وَالصَّابِئِينَ}: وهم عُبَّاد الكواكب أو غيرهم على خلافٍ بين أهل العلم. {وَالنَّصَارَى}: الذين يزعمون أنهم من أتباع عيسى. {وَالْمَجُوسَ}: هم عُبَّاد النار. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}: الوثنيون. هذه المِلل الخمس.

لما قُرن لفظ المشركين بالمِلل الخمس صار لكل واحد منهم معنى، كل واحد له معنى؛ المشركون المراد بهم: الوثنيون، والمجوس المراد بهم: عُبَّاد النار، والنصارى: الذين يزعمون أنهم على دين عيسى، بنو إسرائيل، واليهود: أتباع موسى بزعمهم، والصابئون: هم عُبَّاد الكواكب أو غيرهم، والمؤمنون: الذين آمنوا بالله ورسوله، فلكلٍّ منهم معنى.

يقول المؤلف: "وَ (الْأَوَّلُ)" يعني: اقتران أهل الكتاب بالمشركين فقط، مثل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة:1]، فأهل الكتاب المراد بهم: اليهود والنصارى، والمشركين المراد بهم الوثنيين، لكن لو تَجرد لفظ (الشرك) دخل فيه أهل الكتاب. 

وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:6]، كذلك جمع بينهما، صار لكل واحدٍ منهما معنى.

وقَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} [آل عمران:20]، هنا جمع بين أهل الكتاب والأميين. أهل الكتاب: اليهود والنصارى، والأميين: الذين لا كتاب لهم من المشركين سواءً كانوا من مشركي العرب أو مشركي العجم.

ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَوْ الْأُمِّيِّينَ"، إما من هؤلاء أو من هؤلاء، إما من بني إسرائيل من اليهود والنصارى، أو من الأميين، والأميون إما من العرب أو من غير العرب، ولهذا يقول: "وَكُلُّ أُمَّةٍ لَمْ تَكُنْ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَهُمْ مِنْ الْأُمِّيِّينَ؛ كَالْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَالْخَزَرِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْهِنْدِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أُمِّيُّونَ، وَالرَّسُولُ مَبْعُوثٌ إلَيْهِمْ كَمَا بُعِثَ إلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ" يعني: إما أن يكون الكافر من أهل الكتاب أو من غيرهم، فإن كان من أهل الكتاب فهو من اليهود والنصارى، وإن كان من غيرهم فهو من الأميين المشركين، والأميون إما من العرب أو من غير العرب. 

(المتن)

وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} -وَهُوَ إنَّمَا يُخَاطِبُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِهِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَانَ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، لَا يَخْتَصُّ هَذَا اللَّفْظُ بِمَنْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ أَوْلَادَهُمْ إذَا كَانُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مِمَّنْ أُوتُوا الْكِتَابَ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ إذَا كَانُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا.

وَقَدْ جَعَلَهُمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران:20]، وَهُوَ لَا يُخَاطِبُ بِذَلِكَ إلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ؛ لَا مَنْ مَاتَ.

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]  يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُهُ إلَّا فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَآخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنَّهُمْ تُبَاحُ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ.

وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَا تُبَاحُ؛ مُتَابَعَةً لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّسَبِ؛ بَلْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا فِيمَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ.

وَلَكِنَّ بَعْضَ التَّابِعِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ النَّسَبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا، كَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ لَيْسَ بِكِتَابِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُوجَدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَّا هَذَا الْقَوْلُ؛ وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى مَذْهَبِهِ، مُخَالِفٌ لِنُصُوصِهِ، لَمْ يُعَلَّقْ الْحُكْمَ بِالنَّسَبِ فِي مِثْلِ هَذَا أَلْبَتَّةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.

(الشرح)

المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يتكلَّم عن أهل الكتاب ويقول: إن أهل الكتاب يشمل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعد النسخ والتبديل، ويشمل مَن دان بدينهم ممن جاء بعدهم.

كلُّ من دان بدين اليهود والنصارى فإن أحكام أهل الكتاب تشمله سواءٌ كان من الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعد النسخ والتبديل، أو مَن دان بدينهم بعد ذلك، فكلهم لهم هذه الأحكام، لهم أحكام أهل الكتاب.

ومِن أحكام أهل الكتاب: حِلُّ ذبائحهم، وحِلُّ نسائهم؛ لأن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى خفَّ كفرهم بسبب أن لهم كتاب، فلمَّا خفَّ كفرهم صار لهم بعض الأحكام بخلاف الوثني؛ الوثنيون المشركون لا تحل نساءهم ولا ذبائحهم.

أما أهل الكتاب فإنها تحل نساءهم وذبائحهم لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] صارت لهم هذه الخصوصية لخِفة كفرهم، يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: إن قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران:20] إنما يخاطب الموجودين بعد النسخ والتبديل، وهذا الاسم لا يختص بهم؛ بل يشملهم ويشمل كل مَن دان بدينهم من أولادهم وأولاد غيرهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.

"وَهُوَ لَا يُخَاطِبُ بِذَلِكَ إلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ؛ لَا مَنْ مَاتَ؛ لا مَن مات؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ".

فهذا هو الصواب، أن أحكام أهل الكتاب تتناول كل مَن دان بدين اليهود والنصارى سواءٌ كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو مَن بعدهم من أولادهم ومَن دان بدينهم، كل مَن كان مِن أهل الكتاب مِن اليهود والنصارى من العرب أو غيرهم فلهم هذه الأحكام أنه تحل ذبائحهم ونسائهم، أما الوثنيون فلا تحل نساءهم ولا ذبائحهم.

ذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ الخلاف في هذا عن الإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ في نصارى تَغْلِب، هل تُباح نساؤهم وذبائحهم كما هو قول الجمهور، أو أنها لا تُباح أخذًا بقول علي رضي الله عنه، ويقول: "أن هذا ليس لِأَجْلِ النَّسَبِ؛ بَلْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا فِيمَا يَشْتَهُونَهُ".

ومَن ظنَّ أن الإمام أحمد قال إن هذا -- ((@ كلمة غير مفهومة- 22:32)) – في إحدى الروايتين فقد غلط، لكن الإمام أحمد أخرج نصارى بني تغْلب في إحدى الروايتين؛ لكونهم لم يدخلوا في دين أهل الكتاب إلا فيما يشتهونه من شرب الخمر، هذا هو السبب. 

والصواب: الرواية الأخرى الموافقة للجمهور، أنه لا فرق بين نصارى بني تغْلب وغيرهم، حُكم أهل الكتاب واحد، هذا هو الصواب الذي تدل عليه الآية الكريمة، وهو قول الجماهير أن جميع أهل الكتاب حُكمهم واحد: حِلُّ نساءهم وذبائحهم، وتؤخذ منهم الجزية، يُخيرون بين الإسلام أو الجزية أو السيف، وأما المشركون الوثنيون فإنه لا تحل ذبائحهم ولا نساءهم، وليس لهم إلا الإسلام أو السيف، لا يدفعون الجزية.

(المتن)

وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ يُذْكَرُ مُفْرَدًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221].

(الشرح)

وهذا كله استطراد من المؤلف رَحِمَهُ اللهُ في مسمى (الشرك)، ومسمى (الكفر)، ومسمى (النفاق) وأنه عام، كما أن مسمى (الإيمان)، ومسمى (الدين)، ومسمى (الإسلام) عام إذا أُفرد، وإذا قُرن مع غيره صار له معنى آخر.

(المتن)

"وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ يُذْكَرُ مُفْرَدًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وَهَلْ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ؟

فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّهَا تَعُمُّ؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ كَابْنِ عُمَرَ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُبِيحُونَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ؛ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نُسِخَ مِنْهَا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ لَمْ يُرَد بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَوْلَهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10].

وَهَذَا قَدْ يُقَالُ: إنَّمَا نُهَي عَنْ التَّمَسُّكِ بِالْعِصْمَةِ مَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَافِرَةً وَلَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ مُتَزَوِّجِينَ إلَّا بِمُشْرِكَةٍ وَثَنِيَّةٍ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِيَّاتُ.

(الشرح)

نعم، يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ  يُذْكَرُ مُفْرَدًا"، يعني: مُجرَّدًا لم يقترن بغيره كما في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وفي هذه الحالة الأصل أنه يتناول أهل الكتاب على القاعدة، ولكن اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين كما ذكر المؤلف:

أحدهما: أنه يشمل أهل الكتاب.

والقول الثاني: أنه لا يشملهم.

والذين قالوا: يشمل أهل الكتاب؛ لا إشكال عندهم على الجادة. أما الذين قالوا: لا يشملهم، فقالوا: منهم من قال: إن الآية، قول الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وكذلك آية المائدة: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، قالوا: إنها متأخر عن هذه الآية، فتكون نُسخ منها هذه الآية أو خُصَّت منها.

والأقرب: القول الأول، وهو أن الآية عامة، أن لفظ المشركين يتناول أهل الكتاب وغيرهم، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، لكن من العلماء من قال: قول آية المائدة متأخرة عنها، وكذلك قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، فعلى هذا تكون الآية، آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] إما ناسخة أو مخصصة للآية الأولى. والأقرب القول الأول وهو أنه يتناول أهل الكتاب، وعلى هذا فلا إشكال في ذلك، تكون على القاعدة.

(المتن)

قوله: "هِيَ مُحْكَمَةٌ كَابْنِ عُمَرَ".

(الشرح)

"هِيَ مُحْكَمَةٌ"، يعني: لا تدخل على نسخ، ما تكون آية المائدة ناسخة لها، تكون محكمة تشمل أهل الكتاب وغيرهم.

القارئ: فبالتالي يكون رأي ابن عمر رضي الله عنه في هذه القضية أنه يرى أن أهل الكتاب مشركين ونساءهم مشركات لا يحل الزواج بهنَّ؟

الشيخ: نعم؟

القارئ: رأي ابن عمر رضي الله عنه لأنه قال: "فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّهَا تَعُمُّ؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ كَابْنِ عُمَرَ"، فابن عمر يرى عدم جواز الزواج من الكتابيات بالتالي؟

الشيخ: أي نعم، يعني قد يقول: إنها مخصصة، منهم مَن يقول: إنها مخصصة، ويكون تخصيص، والقول بالتخصيص أقرب من القول بالنسخ.

(المتن)

جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.

توقفنا عند قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصَّالِحِ وَالشَّهِيدِ، وَالصِّدِّيقِ: يُذْكَرُ مُفْرَدًا؛ فَيَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْخَلِيلِ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [العنكبوت:27]، وَقَالَ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)} [النحل:122]، وَقَالَ الْخَلِيلُ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} [الشعراء:83]، وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف:101]، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ على جبريل، السَّلامُ على ميكائيل، السَّلامُ عَلَى فُلَانٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ؛ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ». الْحَدِيثَ.

وَقَدْ يُذْكَرُ الصَّالِحُ مَعَ غَيْرِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69]، قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الصَّالِحُ: الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَلَفْظُ الصَّالِحِ خِلَافُ الْفَاسِدِ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ الَّذِي صَلَحَ جَمِيعَ أَمْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْفَسَادِ، فَاسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ وَأَقْوَالُهُ وَأَعْمَالُهُ عَلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ؛ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ وَمَنْ دُونَهُمْ.

وَلَفْظُ الصِّدِّيقِ قَدْ جُعِلَ هُنَا مَعْطُوفًا عَلَى النَّبِيِّينَ؛ وَقَدْ وَصَفَ بِهِ النَّبِيِّينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم:41]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)} [مريم:56].

وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ قَدْ جُعِلَ هُنَا قَرِينَ الصِّدِّيقِ وَالصَّالِحِ، وَقَدْ قَالَ: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر:69].

وَلَمَّا قُيِّدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ وُصِفَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].

فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ كَالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13]، وَقَوْلِهِ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآيَتَيْنِ بَلْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140].

(الشرح)

فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن في هذا الفصل أن دلالة لفظ (الصدِّيق) كدلالة لفظ الإيمان والإسلام؛ إذا أُطلق فإنه يشمل الأنبياء ويشمل غير الأنبياء، وإذا قُرِن مع غيره صار له معنى. والمؤلف رَحِمَهُ اللهُ لا يزال يسرد الأمثلة التي تختلف دلالتها بالاقتران والتجرُّد، فإذا اقترنت مع غيرها كانت لها معنى، وإذا أُفردت كان لها معنى.

فإذا أُفردت صعُب؛ لفظ (الصالح) إذا أُفرد يشمل النبي، ويشمل الصدِّيق، ويشمل المؤمن. وإذا قُرن مع غيره، إن قُرن لفظ الصالح مع النبيين والصدِّيقين والشهداء، صار لكل منهم معنى؛ صار النبي: مَن نبَّأه الله وأرسله، والصدِّيق: مَن قوي تصديقه وإيمانه، والشهيد: مَن قُتل في المعركة لإعلاء كلمة الله، والصالح: هو المستقيم على طاعة الله الذي أدى الفرائض وانتهى عن المحارم.

أما إذا أُطلق وحده فإنه يدخل فيه الأنبياء والشهداء وغيرهم؛ ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصَّالِحِ وَالشَّهِيدِ وَالصِّدِّيقِ"، هذه الألفاظ كلها تُطلق مفردةً ومقترنة، فإذا أُفردت دخل فيها غيرها، وإذا قُرنت مع غيرها صار لكل واحد منهم معنى.

وكذلك لفظ "الصالح والشهيد والصدِّيق" يُذكر مفردًا فيتناول النبيين، فإذا ذُكر لفظ "الصالح" تناول النبيين وغيرهم، وكذلك "الشهيد" قد يكون الشهيد نبيًّا وقد يكون غيره، فيشمل النبي وغيره إذا أُطلق، وكذلك "الصدِّيق".

ولهذا وصف الله الأنبياء بالصدِّيقية، كما وصف إبراهيم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم:41]، وكذلك إدريس: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)} [مريم:56].

ثم ذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أمثلة على ذلك وأدلة، قال: "قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْخَلِيلِ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}" الخليل: إبراهيم عليه السلام. والشاهد: قوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ (27)} [العنكبوت:27]. فأطلق (مِن الصالحين)، فـ(مِن الصالحين): من الأنبياء، ومن الشهداء، ومن غيرهم، فهو منهم، هو فردٌ من أفرادهم، وإن كان هو أفضل الصالحين ما عدا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27]، لفظ (الصالحين) عام، يشمل الأنبياء والشهداء وغيرهم، وإبراهيم عليه السلام دخل فيهم، مِن جملتهم.

وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} [الشعراء:83]، { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يعني: من المؤمنين، من الأنبياء والشهداء والصالحين.

وقال يوسف عليه الصلاة والسلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف:101] ، كذلك دعى.

وقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، كذا.

فالصالحين تشمل: الأنبياء، والشهداء، والصدِّيقين.

"وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ" في الحديث الصحيح، تعليم ابن مسعود رضي الله عنه التشهُّد، قال: علَّمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهُّد كفِّي على كفه، ثم ذَكر: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ». وكانوا في الأول يقولون: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان. فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تقولوا هكذا، لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ؛ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ».  

هذا هو الشاهد: قال: «وعلى عباد الله الصالحين»، وعباد الله الصالحين تشمل كل صالح، كل مؤمن في السماء وفي الأرض؛ تشمل الملائكة، تشمل الأنبياء، تشمل الصدِّيقين، تشمل الصالحين، عام.

ولهذا قال: «فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، «كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ»: منهم الأنبياء، ومنهم الملائكة، ومنهم الشهداء، ومنهم الصدِّيقون.

ثم قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ يُذْكَرُ " الصَّالِحُ مَعَ غَيْرِهِ "، يعني: إذا ذُكر مع غيره صار له معنى، إذا اقترن مع غيره صار له معنى.

"وَقَدْ يُذْكَرُ " الصَّالِحُ مَعَ غَيْرِهِ "كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}"، ذَكر أربع طوائف: مِن النبيين، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين. هنا اقترن الصالح بغيره فلما اقترن بغيره صار له معنى، اختلف؛ صار ما يشمل الأنبياء، ولا يشمل الصدِّيق، ولا يشمل الشهداء، فصار (الصالحين) هنا المراد بهم: المؤمنون المتبعون للأنبياء، الذين استقاموا على طاعة الله وأدوا الفرائض وانتهوا عن المحارم، ولكنهم لم يصلوا إلى درجة الصدِّيقية ولا إلى درجة الشهداء فضلًا أن يكونوا من الأنبياء، فليسوا من الأنبياء وليسوا من الصدِّيقين وليسوا من الشهداء.

فالنبي: هو من نبأه الله وأرسله. والصدِّيق: صيغة مبالغة، وهو الذي قوي تصديقه وإيمانه حتى أحرق الشبهات والشهوات، وفي مقدمتهم الصدِّيق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه. والشهداء: جمع شهيد، وهو من قُتل شهيدًا في المعركة لإعلاء كلمة الله. والصالح: ما عدا هؤلاء، ليس من النبيين ولا من الصدِّيقين ولا من الشهداء، ولكنه مؤمنٌ صالح أدى الفرائض وانتهى عن المحارم واستقام على طاعة الله.

ولهذا ذكر المؤلف تفسير للصالحين، قال: "قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الصَّالِحُ: الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَلَفْظُ " الصَّالِحِ " خِلَافُ الْفَاسِدِ"؛ لأنه ضد الفاسد، فهذا الصالح هو: المستقيم، فإذا أُطلق فهو الذي صلُح جميع أمره، فلم يكن فيه شيءٌ من الفساد، فاستوت سريرته وعلانيته وأقواله وأعماله على ما يرضي الرب. هذا هو الصالح: الذي يتساوى ظاهره وباطنه، وقوله وفعله على ما يرضي الرب، وهذا يتناول النبيين ومن دونهم، يعني عند الإطلاق.

ولفظ الصدِّيق قد جُعل هنا معطوفًا على النبيين في قوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ}، فدل على أن الصدِّيق غير النبي؛ وقد وصف به النبيين في مثل قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم:41]، وصفه بالوصف العام، يدخل في المسمى العام يدخل الأنبياء، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)} [مريم:56] يعني: من جملة الصدِّيقين وهو نبي.

وكذلك الشهيد، هنا في هذه الآية قُرن مع غيره، وكذلك الشهيد قد جُعل هنا قرين الصدِّيق والصالح، فصار غير الصدِّيق وغير النبي، وهو الذي قُتل في المعركة. وقد قال سبحانه: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ(69)} [الزمر:69] هنا قَرن بين النبيين وبين الشهداء، فدل على أن لكل واحدٍ منهما معنى.

يقول المؤلف: "وَلَمَّا قُيِّدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ وُصِفَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143)} [البقرة:143]"، ومعنى  {أُمَّةً وَسَطًا} أي: خيارًا عدولًا، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، لمَّا وصف الله الأمة بأنهم شهداء على الناس، صارت تتصف به الأمة كلها، كل الأمة يشهدوا على الناس، يعني المؤمنون، يشهدوا على الأمم السابقة: يشهدون على قوم نوح أن نوحًا بلَّغ عليه الصلاة والسلام، ويشهدون على قوم هود أنه بلَّغ، وجاء في الحديث ما يدل على هذا، وأنه يؤتى بالأنبياء السابقين ويُسألون: هل بلَّغتم؟ فتُكذِّبه أمته. فيقال: هل لك من شاهد؟ فتشهد هذه الأمة؛ تشهد أن الأنبياء بلَّغوا، ثم يشهد عليها نبيها، وهذا معنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143)} [البقرة:143]، فلما قُيدت الآن هنا بالشهادة على الناس صار وصف للأمة كلها، "فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ".

وأما قوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ (13)} [النور:13]،  وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، فهذه الشهادة الخاصة في الحدود وفي المبايعات، "وَلَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآيَتَيْنِ بَلْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] "، يعني قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} يعني: شهداء في المعركة.

(المتن)

فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ وَالْفُسُوق وَالْكُفْرِ: فَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ دَخَلَ فِيهَما الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)} [الجن:23].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)} [هود:59].

فَأَطْلَقَ مَعْصِيَتَهُمْ لِلرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ عَصَوْا هُودًا مَعْصِيَةَ تَكْذِيبٍ لِجِنْسِ الرُّسُلِ، فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ لِجِنْسِ الرُّسُلِ كَمَعْصِيَةِ مَنْ قَالَ: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:9].

وَمَعْصِيَةِ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل:15،16]  أَيْ: كَذَّبَ بِالْخَبْرِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا وَيُطِيعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوا.

وَكَذَلِكَ قَالَ فِي فِرْعَوْنَ: {فَكَذَّبَ وَعَصَى(21)} [النازعات:21]  . وَقَالَ عَنْ جِنْسِ الْكَافِرِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31،32] .

فَالتَّكْذِيبُ لِلْخَبَرِ وَالتَّوَلِّي عَنْ الْأَمْرِ. وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15،16].

وَلَفْظُ (التَّوَلِّي) بِمَعْنَى التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ: كَقَوْلِهِ: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} [الفتح:16]. وَذَمُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَنْ تَوَلَّى؛ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّاعَةِ، وَذَمَّ الْمُتَوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ؛ كَمَا عَلَّقَ الذَّمَّ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16].

(الشرح)

نعم، لا يزال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يذكر الألفاظ التي تختلف دلالتها بالاقتران مع غيرها، ودلالتها بالتجرُّد والانفراد، قال: كما أن لفظ (الكفر) ولفظ (النفاق) ولفظ (الشرك) تختلف دلالتها بالاقتران مع غيرها، وبانفرادها.

كذلك لفظ: المعصية، والفسوق، والكفر؛ فإذا أُطلق لفظ (المعصية) يشمل كل معصية، يشمل جميع المعاصي ويدخل في ذلك الكفر؛ لأن الكفر معصية، معصية الكفر.

وكذلك الفسوق: الفاسق عند الإطلاق يشمل فسق الكفر وفسق المعاصي، وكذلك الكفر، أما إذا اقترن مع غيره فإنه يكون له معنى غير المعنى عند الانفراد.

ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ وَالْفُسُوقِ وَالْكُفْرِ: فَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ دَخَلَ فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ"، ومثال ذلك: "كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)} [الجن:23]"، قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ} يعني: بالكفر، {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ} ولذلك ذكر التخليد والتأبيد، هذه معصية الكفر.

ومثل قوله تعالى: وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)} [هود:59]، قوله: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} يعني: معصية الكفر. وأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هودًا، {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} أطلق معصيتهم بأنهم عصوا هودًا معصية تكذيب لجنس الرسل. المراد بالمعصية معصية التكذيب لجنس الرسل؛ ولهذا جعلهم الله تعالى مكذِّبين لجميع الرسل، وكذلك نوح: عصوا نوحًا معصية تكذيب لجنس الرسل، وكذلك قوم صالح عصوا صالحًا معصية تكذيب لجنس الرسل.

وكذلك أيضًا شعيب عصوه قومه معصية تكذيب لجنس الرسل؛ ولذلك قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] . هم ما كذَّبوا إلا واحد، لكن لما كانت معصيتهم تكذيب للجنس صاروا مكذِّبين لجميع الرسل. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] وهم كذَّبوا نبيًّا واحد، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] ، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]؛ لأن معصيتهم معصية تكذيب بجنس الرسل.

ومثال ذلك أيضًا: معصية مَن أخبر الله عنهم أنهم قالوا في النار: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:9] هذه معصية تكذيب للرسل، قالوا: ما نزل الله من شيء. أنكروا الكتب كلها، هذه معصية تكذيب لجنس الرسل.

"وكذلك مَعْصِيَةِ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل:15،16] أَيْ: كَذَّبَ بِالْخَبْرِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا وَيُطِيعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوا"، هذا الواجب على الخلق أن يصدقوا الرسل في الأخبار ويطيعوهم في الأوامر؛ لأن الله تعالى أرسل الرسل ليُصدَّقوا فيما أخبروا، وليُطاعوا فيما أمروا. فهذا هو الواجب على الخَلق، يجب على كل إنسان أن يصدق الرسول عليه الصلاة والسلام في أخباره، وأن يطيعه في أوامره، يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي. والأوامر: أمر فعل أو إيجاب أو أمر كف؛ أمر الإيجاب: هذه الأوامر. وأمر كف: هذه النواهي. 

فإذًا الواجب على كل إنسان أن يصدِّق الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ويطيعه في أوامره، فمَن صدَّقه في الأخبار وأطاعه في الأوامر فهو مسلم، ومَن كذَّب الخبر وتولَّى عن الخبر فهذا هو الكافر – نسأل الله العافية –. وإذا كان توليه دون الكفر فإنه يعتبر عاصيًا له أمثال غيره مِن العصاة، أما التكذيب؛ فإذا كذَّب عن عمد فهذا كفر، رده إذا كذَّب الرسول مع علمه وتيقنه للخبر فكذَّبه فهذا رِدة -والعياذ بالله- إذا ثبت هذا ولم يكن متأوِّلًا ومكذَّب وصادم النص بالتكذيب فهذا رِدة -الإنسان يعوذ بالله منها-؛ ولهذا قال سبحانه: {لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل:15،16].

"وَقَالَ عَنْ جِنْسِ الْكَافِرِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31،32] كذَّب الخبر وتولى عن الأمر، "وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15،16]" وهذه معصية جنس، يعني: عصى فرعون جميع الرسل.

يقول المؤلف: "وَلَفْظُ " التَّوَلِّي " بِمَعْنَى التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ: من ذلك قول الله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} [الفتح:16]"، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} يعني: فلا تمتثلوا.

"وَذَمُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَنْ تَوَلَّى؛ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" يعني: كون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذمَّ في مواضع متعددة في القرآن "مَن تولى" دليل على وجوب الطاعة، دليل على أنه يجب على المسلم أن يطيع الله ورسوله، وهذا مأخوذٌ من ذمِّه لمن تولى؛ لأن الأوامر تؤخذ منه، الأوامر لها أدلة كثيرة، من أدلة الأوامر: الذَّم، فإذا ذمَّ شيئًا دلَّ على أنه يجب على الإنسان أن يفعله، فإذا ذمَّ مَن تولى دلَّ على وجوب الطاعة وأن الأمر المطلق يقتضي وجوب الطاعة، وذمْ التولي عن الطاعة كما علَّق الذم بمطلق المعصية في مثل قوله: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16].

(المتن)

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّأْبِيدَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا(93)} [النساء: 93].

وَقَالَ فِيمَنْ يَجُورُ فِي الْمَوَارِيثِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. فَهُنَا قَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِتَعَدِّي حُدُودِهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا مُطْلَقَةً؛ وَقَالَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 121].

فَهِيَ مَعْصِيَةٌ خَاصَّةٌ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، فَأَخْبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَعْصِيَةُ الرُّمَاةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِلُزُومِ ثَغْرِهِمْ وَإِنْ رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ قَدْ انْتَصَرُوا فَعَصَى مَنْ عَصَى مِنْهُمْ هَذَا الْأَمْرَ وَجَعَلَ أَمِيرُهُمْ يَأْمُرُهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْكُفَّارَ مُنْهَزِمِينَ وَأَقْبَلَ مَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَى الْمَغَانِمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]. جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ.

وَقَدْ قَالَ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]. فَقَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ؛ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنِّيَاحَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَا يَدْعُنَّ وَيْلًا، وَلَا يَخْدِشْنَ وَجْهًا وَلَا يَنْشُرْنَ شَعْرًا وَلَا يَشْقُقْنَ ثَوْبًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَمِيعُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَدِلَّتِهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَلَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْصِينَهُ فِي مَعْرُوفٍ. وَمَعْصِيَتُهُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَعْرُوفٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمُنْكَرِ لَكِنْ هَذَا كَمَا قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ إنَّمَا تَلْزَمُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ».

(الشرح)

يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "إنَّ التَّأْبِيدَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ"، يعني: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57]، هذا التأبيد إنما يأتي في وعيد الكفار، أما إذا كانت المعصية دون الكفر فلا يأتي التأبيد، مثل قوله تعالى في القاتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} ولم يقل: {أَبَدًا} ما قال بالتأبيد، {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ}.

أما إذا كانت المعصية كفر فإنها تُقيد بالتأبيد، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} [الجن: 23] هذه معصية الكفر لأنه قُيِّد الخلود بالتأبيد.

ومثال المعاصي التي لم تُقيَّد بالتأبيد: ذكر المؤلف لها أمثلة:

منها العاصي الذي جاءت في المواريث، وتعدى حدود الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} يعني: في المواريث {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14] ولم يذكر التأبيد؛ دلَّ على أن المعصية دون الكفر، هنا قيَّد المعصية بتعدّي حدوده، فلم يذكرها مطلقًا.

ومن ذلك: قول الله تعالى عن آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)}، هذه معصية، فهي معصية خاصة، أصاب فيها الأكل من الشجرة.

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} هذه معصية الرماة في غزوة أحد لمَّا أخلوا الثغر، اجتهادًا منهم، فاعتُبرت معصية وصار بسببها الهزيمة، صارت سببًا لهزيمة المسلمين؛ فدلَّ على أن المعاصي لها شؤم، هذا من شؤم المعاصي، سببت النكبة على المسلمين، وهم مجتهدون، عن اجتهاد، لكن مع ذلك لمَّا خالفوا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصحهم و جعلهم على ثغر، لكنهم اجتهدوا وقالوا وظنوا أن المعركة انتهت وأرادوا أن يقسموا الغنائم وأن يجمعوا الغنائم مع المسلمين حصلت النكبة، وسماها الله نكبه، قال: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}، يقول المؤلف: "فَأَخْبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَعْصِيَةُ الرُّمَاةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِلُزُومِ ثَغْرِهِمْ وَإِنْ رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ قَدْ انْتَصَرُوا" لأنه جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تبرحوا مكانكم حتى لو رأيتمونا تخطفنا الطير» أو كما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنهم اجتهدوا ولله الأمر من قبل ومن بعد، وله الحكمة البالغة.

يقول المؤلف: "فَعَصَى مَنْ عَصَى مِنْهُمْ هَذَا الْأَمْرَ وَجَعَلَ أَمِيرُهُمْ يَأْمُرُهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْكُفَّارَ مُنْهَزِمِينَ وَأَقْبَلَ مَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَى الْمَغَانِمِ".

ومن أمثلة ذلك يقول المؤلف: "قَوْلُهُ تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}" هنا جعل ثلاث مراتب: الكفر والفسوق والعصيان.

◘          فالكفر هذا الكفر الأكبر.

◘          والفسوق الكبائر التي يفسق بها صاحبها، وأصح ما قيل في تعريف الكبيرة: هي ما وجب فيه حدٌّ في الدنيا أو وعيدٌ في الآخرة للنار أو اللعنة أو الغضب.

◘          والعصيان ما دون ذلك، جميع المعاصي.

فجعلها ثلاث مراتب، "جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ".

وَقَدْ قَالَ سبحانه في الآية الأخرى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} في بيعة النساء، "فَقَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ؛ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ" هذه المعصية "بِالنِّيَاحَةِ" كما قال ابن عباس وكذلك زيد بن أسلم، قالوا في تفسير قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}: "لَا يَدْعُنَّ وَيْلًا" لا يدعون بالويل والثبور، "وَلَا يَخْدِشْنَ وَجْهًا" تخدش الوجه أو تلطم الوجه، "وَلَا يَنْشُرْنَ شَعْرًا وَلَا يَشْقُقْنَ ثَوْبًا" هذه هي النياحة، النياحة المحرمة، النياحة المحرمة أن يفعل ما يغضب الله، يشقق الثوب، وخدش الوجه، ونتف الشعر، أمَّا دمع العين والبكاء بدمع العين؛ فهذا لا يُلام عليه الإنسان، كذلك الصراخ وهو العويل هذا من النياحة، أما البكاء بدمع العين بدون عويل، بدون شق الثوب، بدون لطم الخد، وخدش الوجه، أونتف الشعر، فإن الإنسان لا يلام عليه؛ لأن هذا رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، وثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمعت عيناه لمَّا رُفع إليه ابن ابنته وهو صبيٌّ في الموت ونفسه تقعقع، بكى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بدمع العين، وقال: «هذه رحمة ثم أتبعها بأخرى»، وكذلك لمَّا مات ابنه إبراهيم، هذا أحد القولين في قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أن المراد بها النياحة.

والقول الثاني لأهل العلم: أن المراد بها جميع ما يأمرهم، قال: "{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}، هُوَ جَمِيعُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَدِلَّتِهِ كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ".

وقال: "وَلَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْصِينَهُ فِي مَعْرُوفٍ. وَمَعْصِيَتُهُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَعْرُوفٍ" معصية الرسول لا تكون إلا في معروف؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم، لا يأمر إلا بالمعروف، ولا ينهى إلا عن المنكر، لا يأمر بمنكر عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

يقول المؤلف: "لَكِنْ هَذَا كَمَا قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ إنَّمَا تَلْزَمُ فِي الْمَعْرُوفِ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»".

يعني قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} لبيان أن غيره عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قد يأمر بغير المعروف، فلا يطاع إلا في المعروف، مثل ولاة الأمور، إنما يطاعون في المعروف؛ ولهذا قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فلم يُعد الفعل مع أولي الأمر؛ للدلالة على أن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، وعلى الفعل مع الرسول؛ لأن الرسول معصوم، فلا يأمر إلا بطاعة الله، الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم، أما غيره فإنه ليس بمعصوم، قد يأمر بمعصية الله، فلا يطاع إلا في المعروف.

(المتن)

جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم.

توقفنا عند قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] وَهُوَ لَا يَدْعُو إلَّا إلَى ذَلِكَ. وَالتَّقْيِيدُ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ دُعَاءٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا أَمْرٌ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]. فَإِنَّهُنَّ إذَا لَمْ يُرِدْنَ تَحَصُّنًا؛ امْتَنَعَ الْإِكْرَاهُ. وَلَكِنْ فِي هَذَا بَيَانُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} [المؤمنون: 117]. وَقَوْلُهُ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61].

فَالتَّقْيِيدُ فِي جَمِيعِ هَذَا لِلْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ لَا لِإِخْرَاجِ فِي وَصْفٍ آخَرَ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ النُّحَاةِ: الصِّفَاتُ فِي الْمَعَارِفِ لِلتَّوْضِيحِ لَا لِلتَّخْصِيصِ وَفِي النَّكِرَاتِ لِلتَّخْصِيصِ، يَعْنِي فِي الْمَعَارِفِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصٍ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)} [الأعلى: 1، 2]. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. وَقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 2، 3].

وَالصِّفَاتُ فِي النَّكِرَاتِ إذَا تَمَيَّزَتْ تَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ أَيْضًا وَمَعَ هَذَا فَقَدْ عَطَفَ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7].

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاسِقَ عَاصٍ أَيْضًا.

(الشرح)

فإن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تكلَّم فيما سبق بيَّن أن الإطلاق في بعض الألفاظ أو بعض المسميات كلفظ (الفسوق) ولفظ (المعصية) قد يُطلق ويراد به جنس المعصية، وقد يراد به معصية مقيدة، وهذا على حسب القرائن، وعلى حسب سياق الكلام، كقوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}، قوله: {فِي مَعْرُوفٍ} قيل: المراد بها المعصية المطلقة العامة، جميع المعاصي، وقيل: المراد بها معصية النوح خاصة.

يقول المؤلف: "وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخاطبًا المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}"، فيقول: أن قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} هذه صفةٌ كاشفة ليست قيدًا؛ لأن الرسول لا يدعو إلا لما يحيي، لكونه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لا يأمر إلا بالمعروف؛ ولهذا قال: "وَهُوَ لَا يَدْعُو إلَّا إلَى ذَلِكَ" لا يدعو إلا لما يحيي، "فَالتَّقْيِيدُ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ" يعني: لا يُفهم منه أن الرسول إذا دعا المؤمنين لما يحييهم استجابوا، وإذا دعاهم لغير ما يحييهم لا يستجيبوا، لا مفهوم لهذا؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لا يدعو إلا لما يحيي، "فَالتَّقْيِيدُ هُنَا" -يقول- "لَا مَفْهُومَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ دُعَاءٌ الرسول لِغَيْرِ ذَلِكَ" ولا يأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير معروف.

ومن أمثلة ذلك أيضًا قول الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}، فإن هذه الآية لا مفهوم لها لأن قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}، {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} يعني الله تعالى نهى المؤمنين أن يكرهوا فتياتهم يعني الإماء على البغاء على الزنا {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}، فقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لا مفهوم له، فلا يُفهم منه أنه إن لم يردن تحصنًا فلا بأس من الإكراه، وإنما هذا بيان للحال، الحال أنهم في الجاهلية ببيان لواقع الحال، لأنهم في الجاهلية يكرهون الفتيات على الزنا وهنّ يردن التحصن، لبيان الواقع، قيد لبيان الواقع لأنها وصف مناسب للحكم؛ ولهذا قال المؤلف: "فَإِنَّهُنَّ إذَا لَمْ يُرِدْنَ تَحَصُّنًا؛ امْتَنَعَ الْإِكْرَاهُ" يعني: لا يجوز الإكراه سواء أردن التحصن أو لم يردن، لكن هذا بيان لبيان الحال، وأنهم في الواقع في الجاهلية كان يكرهون الفتيات على البغاء وهنَّ يردن التحصن.

ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}، فقوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} هذا صفة كاشفة ليست قيدًا، فإن من دعا غير الله فإنه لا برهان له، ولا يمكن أن يكون من دعا إلى غير الله أن يكون له برهان، وإنما هذا قيد لبيان الواقع، فكل من يدعو غير الله فلا برهان له به.

ومثله قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فإن قتل النبيين من أشنع الجرائم ولا يكون حقًّا قتل النبيين، وإنما هذا لبيان الواقع.

"فَالتَّقْيِيدُ" -يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ- "فِي جَمِيعِ هَذَا لِلْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ لَا لِإِخْرَاجِ فِي وَصْفٍ آخَرَ".

يقول المؤلف: "وَلِهَذَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ النُّحَاةِ: الصِّفَاتُ فِي الْمَعَارِفِ لِلتَّوْضِيحِ لَا لِلتَّخْصِيصِ" هذه بحث لغوي في الصفات في المعارف للتوضيح لا للتخصيص، والصفات في النكرات للتخصيص، فإذا كان الموصوف نكرة فإن الصفة تخصصه، وإذا كان الموصوف معرفة فإنها توضحه وتبينه، فتكون صفة كاشفة.

القارئ: إذا كان الموصوف نكرة أحسن الله إليك؟

الشيخ: إذا كان الموصوف نكرة تكون الصفة مخصصة، وإذا كان الموصوف معرفة تكون الصفة موضحة ومبينة كاشفة؛ ولهذا يقول العلماء: صفة كاشفة.

وكذلك أيضًا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "النَّكِرَاتِ إذَا تَمَيَّزَتْ" نكرة وتميزت وزال عنها الإبهام فإن الوصف يكون أيضًا للتوضيح كالمعارف.

ومثَّل المؤلف رَحِمَهُ اللهُ بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)} [الأعلى: 1 ،2]، كل هذه صفات للرب عز وجل. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] ، كل هذه صفات كاشفة. وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2،3].

يقول المؤلف: "وَمَعَ هَذَا فَقَدْ عَطَفَ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] " وهنا كلمة "العصيان"، قوله: العصيان هنا عام ومع ذلك عطف بعضه على بعض؛ ولهذا قال المؤلف: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاسِقَ عَاصٍ أَيْضًا"، فقوله: {وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الكفر هنا: المُخرج عن الملة، والفسوق: هي الكبيرة التي يفسق بها صاحبها، والعصيان عام.

(المتن)

فَصْلٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ظُلْمُ النَّفْسِ: فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوُلُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:100،101].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]. وَقَالَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16].

وَقَالَتْ بلقيس: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل:44].

وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف:23].

ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135]. وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110)} [النساء:110].

وَأَمَّا لَفْظُ الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُفْرُ وَسَائِرُ الذُّنُوبِ قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات:22-24].

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَأزواجهم ونُظَرَاؤُهُمْ. وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَشْبَاهُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَالْكَلْبِيُّ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ؛ فَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا.

وَعَنْ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ: قُرَنَاؤُهُمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ كُلُّ كَافِرٍ مَعَهُ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7)} [التكوير:7]. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْفَاجِرُ مَعَ الْفَاجِرِ وَالصَّالِحُ مَعَ الصَّالِحِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ حِين يَكُونُ النَّاسُ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً.

وَقَالَ الْحَسَنُ وقتادة: أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ؛ الْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصَارَى.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم: يُحْشَرُ الْمَرْءُ مَعَ صَاحِبِ عَمَلِهِ وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، قَالَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». وَقَالَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ». وَقَالَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ».

(الشرح)

المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن في هذا كما سبق أن لفظ (الظلم) أيضًا من الألفاظ التي تختلف دلالتها بالاقتران مع غيرها وبالتجرد والانفراد؛ فالظلم، ظلم النفس إذا أُطلق يشمل ظلم النفس بالكفر وظلم النفس فيما بينه وبين العباد وظلم النفس فيما بينه وبين الله.

لأن الظلم ثلاثة أنواع: ظلم النفس بالكفر وهذا أعظمها.

والثاني: ظلم العباد في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم.

والثالث: ظلم العبد نفسه فيما دون ذلك فيما بينه وبين الله.

فالظلم إذا أُطلق يشمل الظلم بأنواعه الثلاثة، وإذا قُرن مع غيره صار له معنى آخر، مثل لفظ: الكفر، والنفاق، والشرك، وكما سبق أيضًا فيما يقابله من لفظ: الإيمان، والإسلام، والدين، ولفظ البر والتقوى، كل هذه الألفاظ كلها تختلف دلالتها بالاقتران مع غيرها وبالتجرد؛ فإذا تجردت وانفردت صارت عامًّة، وإذا قُرنت مع غيرها صارت خاصًة.

فيقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ظُلْمُ النَّفْسِ: فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوُلُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ" يعني: يتناول ذنب الكفر، ويتناول ذنب ظلم العباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ويتناول ظلم النفس فيما بين العبد وبين الله، كلها يشملها ظلم النفس؛ هو ظلم نفسه: إما ظلم نفسه بالكفر، ظلم نفسه بالعدوان على غيره، ظلم نفسه فيما بينه وبين الله.

ومثَّل المؤلف رَحِمَهُ اللهُ ويستدل على ذلك بالأدلة، منها قول الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} وهذا هو ظلم النفس بالكفر، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر؛ ولهذا قال: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} لأنهم عبدوا غير الله، {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101].

فقوله: {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} يعني: بالكفر؛ لأنهم عبدوا غير الله، لهم آلهة يعبدونها من دون الله، لأنه أُطلق، فلما أُطلق ظلم النفس شمِل الكفر فما دونه. ومثله قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]، ظلموا أنفسهم بالكفر؛ لأنهم عبدوا العجل من دون الله، فدخل في ظلم النفس (الكفر).

وَقَالَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، هذا ظلم النفس بما دون الشرك.

وَقَالَتْ بلقيس: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل:44]، هذا ظلم للنفس بالشرك؛ لأن بلقيس كانت مشركة، كانت تعبد الشمس مع قومها ثم أسلمت، فقالت: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}، فظلم النفس دخل فيه الشرك.

وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف:23]، هذا ظلم دون الشرك وهو الأكل من الشجرة.

يقول المؤلف: "ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135]"، هنا قُرن بفعل فاحشة، {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} يعني: دون الفاحشة وما فحُش من الذنوب وعظُم كالقتل والزنا.

 وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110)} [النساء:110]، قُرن بظلم النفس عمل السوء.

يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَمَّا لَفْظُ " الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ " فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُفْرُ وَسَائِرُ الذُّنُوبِ" كما سبق، كما سبق {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} دخل فيه الكفر، قوله: {إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} دخل فيه الكفر.

ومن أمثلة ذلك: يقول المؤلف: قول الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات:22-24]، فقوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} يشمل ظلم النفس بالكفر؛ ولهذا قال: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} يعبدوا غير الله.

ثم بيَّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ معنى الأزواج: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}، وأنه ليس المراد بالأزواج هنا الزوجة وهي زوجة الرجل، وإنما المراد: الأصناف والقرناء والأشباه والأجناس، قال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}؛ ولهذا نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "وَأزواجهم: نُظَرَاؤُهُمْ"، ويقول قتادة: " كُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ" يعني: أشباههم، ومثَّل لها، قال: "فَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا" يعني: يُحشر أهل الخمر مع أهل الخمر، ويُحشر أهل الزنا مع أهل الزنا، يُحشر الصالح مع الصالح، والطالح مع الطالح.

"وَعَنْ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ: قُرَنَاؤُهُمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ كُلُّ كَافِرٍ مَعَهُ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ وَهَذَا"، ويقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: ونظيره "كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} [التكوير:7]"، {زُوِّجَتْ} يعني: قُرنت مع غيرها، كما قال عمر بن الخطاب: "الْفَاجِرُ مَعَ الْفَاجِرِ" -يُقرن، تُقرن الفاجر مع الفاجر- "وَالصَّالِحُ مَعَ الصَّالِحِ".

"وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ حِين يَكُونُ النَّاسُ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً" يعني: أصنافًا ثلاثة؛ فالزوج يُطلق على الصنف، والقرين، والشبيه. {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7)} [الواقعة:7] يعني: أصنافًا ثلاثة: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)} [الواقعة:8-10]، أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والسابقون، ثلاثة أصناف، ففُسر الأزواج بالصنف. فإذًا الأزواج  {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} يعني: أصنافهم وأمثالهم ومَن يُشاكلهم في عملهم.

ولهذا قال الحسن وقتادة: "أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ" -يعني: بما يميل إليه ويوافقه- "الْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصَراني". وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم: "يُحْشَرُ الْمَرْءُ مَعَ صَاحِبِ عَمَلِهِ".

والمؤلف رَحِمَهُ اللهُ استشهد لهذا بالأدلة، قال: "وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، قَالَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»"، وهذا الحديث رواه الشيخان "البخاري ومسلم" في صحيحهما. وهذا فيه بشارة للمؤمن، استبشر به أنس رضي الله عنه وغيره من الصحابة، قال: " وذلك أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، فقال: يا رسول الله، المرء يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّ يَلْحَقْ بِهِمْ، فقال عليه الصلاة والسلام: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». قال: أنس رضي الله عنه: "فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبو بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم".

ومعلومٌ أن المحب يُجاهد نفسه حتى يلحق بمَن أحبه، يُجاهد نفسه؛ المحب الصادق لابد أن يعمل، أما أن يدَّعي المحبة ولا يعمل فليس صادقًا؛ فالصادق في محبته هو الذي يبذل جهده ويستفرغ وُسعه في العمل وجهاد النفس والاستقامة على طاعة الله، واللحاق بالمحبوب، ثم إذا حصل له بعض النقص تجبره المحبة. أمَّا أن يدَّعي أنه يحب الرسول والصحابة وهو مقيمٌ على معاصي الله، مصرٌّ على المعاصي، فهذا ليس صادقًا.

ولهذا امتحن الله قومًا ادّعوا المحبة فأنزل هذه الآية، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وسُميت هذه الآية محنة، لمَّا ادّعي قوم أنها يحبون الله امتحنهم الله. قال الله سبحانه هناك علامة لِمَن أحب الله وهي اتباع الرسول. فمن اتصف بهذا الوصف فهو صادق في محبته، وإلا فهو كاذب.

 وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» أيضًا هذا رواه الشيخان. وَقَالَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» يعني: صديقه. فلينظر مَن يخالل: يُصادق ويُعاشر. 

(المتن)

وَزَوْجُ الشَّيْءِ نَظِيرُهُ، وَسُمِّيَ النصفُ زَوْجًا؛ لِتَشَابُهِ أَفْرَادِهِ، كَقَوْلِهِ: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} [لقمان:10]. وَقَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49].

وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ وَالسَّهْلُ وَالْجَبَلُ وَالشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ؛ وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالْحُلْوُ وَالْمُرُّ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْشُرُ مَعَهُمْ زَوْجَاتِهِمْ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ قَدْ يَكُونُ زَوْجُهَا فَاجِرًا؛ بَلْ كَافِرًا كَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْ تَكُونُ امْرَأَتُهُ فَاجِرَةً بَلْ كَافِرَةً كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ. وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى دِينِ زَوْجِهَا؛ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْأَزْوَاجِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَأَزْوَاجُهُمْ الْمُشْرِكَاتُ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ الْكُفَّارَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا الزُّنَاةُ مَعَ الزُّنَاةِ، وَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ. وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ: {إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ؟ - أَوْ قَالَ: وَأَشْبَاهُهُمْ - فَيُجْمَعُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ ثُمَّ يُقْذَفُ بِهِمْ فِي النَّارِ}. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ: مَنْ أَعَانَهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ: بَلْ مَنْ يَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ مِنْ أَعْوَانِهِمْ. وَأَعْوَانُهُمْ: هُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ. فَإِنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَهْلِ ذَاكَ، وَالْمُعِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ".

(الشرح)

المؤلف رَحِمَهُ اللهُ لا يزال يتكلم عن قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}، ويبيِّن أن معنى الزوج في اللغة هو المشابه والنظير والموافق؛ فمَن كان موافقًا لغيره ومشابهًا له ونظيرًا له سُمي زوجًا. والزوجة قد تكون موافقةً لزوجها على الإسلام والطاعة فتكون مماثلةً له، وقد تكون مخالفةً له فلا يُحشر معها، يقول: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} ونظراءهم وأمثالهم.

ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَزَوْجُ الشَّيْءِ نَظِيرُهُ، وَسُمِّيَ النصفُ زَوْجًا؛ لِتَشَابُهِ أَفْرَادِهِ"، نصف الشيء؛ لأنهما نصفان يشبه أحدهما الآخر. كَقَوْلِهِ: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} [لقمان:10] يعني مِن كل شيئين متشابهين.

"وَقَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49]. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ وَالسَّهْلُ وَالْجَبَلُ وَالشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ؛ وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالْحُلْوُ وَالْمُرُّ" فهذه كلها أصناف وأنواع مختلفة.

وقوله: {وَمِنْ كُلِّ} هذا عام، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} يعني: صنفين {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن خالق الأزواج واحد سبحانه وتعالى. كل شيء له نظير إلا الله سبحانه وتعالى فإنه لا نظير له ولا شبيه له؛ ولهذا قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: لعلكم تذكّرون فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْشُرُ مَعَهُمْ زَوْجَاتِهِمْ مُطْلَقًا. إن كانت المرأة موافقةً لزوجها في الدين حُشرت معه، وإن كانت مخالفةً فلا تُحشر معه.

ولهذا قال المؤلف: "فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ قَدْ يَكُونُ زَوْجُهَا فَاجِرًا؛ بَلْ كَافِرًا كَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ"، فإنها تبرأت منه: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11] فلم تُحشر معه.

"وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْ تَكُونُ امْرَأَتُهُ فَاجِرَةً بَلْ كَافِرَةً كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ"، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، وهذه الخيانة في الدين، ليست في العِرض ولا في الفراش؛ فإن الله سبحانه برَّئ أنبياءه ونزَّه أولياءه مِن أن يكون فراشهم ملوث، ولكنها خيانةٌ في الدين لا في العِرض، {فَخَانَتَاهُمَا} يعني: في الدين.

يقول المؤلف: "وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى دِينِ زَوْجِهَا؛ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْأَزْوَاجِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ" -تفسيرًا للآية: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}- "وَأَزْوَاجُهُمْ الْمُشْرِكَاتُ". فالآية تتناول الكفار، يقول المؤلف: كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}، فالكفار يُحشرون مع نظرائهم، والعصاة يُحشرون مع مَن يماثلهم ويشابههم في المعصية، كما سبق وكما تقدم: يدخل فيها الزناة مع الزناة، وأهل الخمر مع أهل الخمر، وكذلك الظلمة وأعوانهم، كما ذكر المؤلف: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ؟ - أَوْ قَالَ: وَأَشْبَاهُهُمْ - فَيُجْمَعُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ ثُمَّ يُقْذَفُ بِهِمْ فِي النَّارِ".

وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ: كلُّ مَنْ أَعَانَهُمْ، حتى قال بعضهم: "وَلَوْ أَنَّهُ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً" الدواة التي يكون فيها الحبر التي يُكتب فيها، إذا أصلحها لهم ولاقها يكون هذا معينًا لهم، "أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا". ومنهم من قال: "بَلْ مَنْ يَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ مِنْ أَعْوَانِهِمْ. وَأَعْوَانُهُمْ: هُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ" لأنهم نظراء لهم.

يقول المؤلف: "فَإِنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَهْلِ البر والتقوى، وَالْمُعِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ أَهْلِ الإثم والعدوان"، والبر: اسم عام لجميع الخير، يشمل جميع خصال الإيمان، جميع خصال الإسلام، ولكنه قُرن هنا بالتقوى فيكون البر: فِعل الأوامر. والتقوى: ترك النواهي. وكلُّ مَن أعان على فِعل الأوامر ومَن أعان على ترك النواهي فإنه يكون معينًا لأهل الخير، ومَن أعان على الإثم والعدوان، هنا جَمع بين الإثم والعدوان فالإثم عام والعدوان العدوان على الناس بدمائهم وأموالهم وأعراضهم، فمَن أعان على الإثم والعدوان فإنه يكون من أعوان المعين، ومَن أعان على البر والتقوى فإنه يكون مِن أهل البر والتقوى، ومَن أعان على الإثم والعدوان يكون من أهل الإثم والعدوان.

والظلمة يختلفون في هذا؛ فمَن أعان العصاة على المعصية يكون عاصيًا، ومَن أعان الظلمة الكفار على الكفر يكون كافرًا. مَن أعانهم على الكفر وأقرّ الكفر يكون كافرًا مثلهم، أمَّا مَن أعانهم على المعصية فإنه يكون عاصيًا؛ ولذلك يختلف هذا باختلاف أحوال الناس.

وكذلك لفظ (الظلم) عام يشمل الكفرة فمَن دونهم؛ فمَن أعان الكفرة على الكفر فهو كافر، ومَن أعان العصاة على المعاصي فهو عاصي.

القارئ: جزاكم الله خيرا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد