شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_10 من قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ...} - الى قوله وَاَلَّذِينَ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ الْمَالِ الَّذِي كَنَزُوهُ

شرح كتاب الإيمان الكبير_10 من قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ...} - الى قوله وَاَلَّذِينَ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ الْمَالِ الَّذِي كَنَزُوهُ

00:00
00:00
تحميل
64

(المتن)

توقفنا عند قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85]، وَالشَّافِعُ الَّذِي يُعِينُ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا؛ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ؛ بِإِعَانَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ؛ بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ.

وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ؛ بِشَفَاعَةِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ لِيَجْتَلِبَ لَهُ نَفْعًا أَوْ يُخَلِّصَهُ مِنْ بَلَاءٍ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وقتادة وَابْنُ زَيْدٍ؛ فَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ إعَانَةٌ عَلَى خَيْرٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ مِنْ نَفْعِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفْعَ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ.

وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ؛ إعَانَتُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ الْإِنْسَانِ أَوْ مَنْعُ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ. وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ.

فَالشَّافِعُ زَوْجُ الْمَشْفُوعِ لَهُ إذْ الْمَشْفُوعُ عِنْدَهُ مِنْ الْخُلُقِ إمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى وَإِمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ.

وَكَانَ «النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ».

وَتَمَامُ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَةَ -وَإِنْ تَنَاوَلَتْ الظَّالِمَ الَّذِي ظَلَمَ بِكُفْرِهِ- فَهِيَ أَيْضًا مُتَنَاوِلَةٌ مَا دُونَ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ فِيهَا: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22]، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ».

وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ إلَّا جُعِلَ لَهُ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيهِ أَنَا مَالُك أَنَا كَنْزُك. -وَفِي لَفْظٍ:- إلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُطَوَّقَهُ فِي عُنُقِهِ»، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180].

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ: هَذَا مَالُك الَّذِي كُنْت تَبْخَلُ بِهِ فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ فَيُلْقِمُهُ يَدَهُ فَيَقْضَمُهَا ثُمَّ يُلْقِمُهُ سَائِرَ جَسَدِهِ».

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: { اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة:34].

(الشرح)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والصَّلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يتكلَّم عن الظَّلَمة وأعوانهم وعن الأزواج والنظراء، وأن الزوج معناه نظير الشيء ومثيله؛ لقوله تعالى {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، تكلَّم المؤلف رَحِمَهُ اللهُ  عن هذه الآية في الحلقة السابقة {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات:22-23].

 فأزواجهم هم نظراؤهم، ثم بين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن كل من أعان أحدًا على شيء فله حكمه، فمن أعان على البر والتقوى فهو من أهل البر والتقوى، ومن أعان على الإثم والعدوان فهو من أهل الإثم والعدوان، ومن أعان الظلمة على شيء فهو منهم، ومن ذلك الشفاعة؛ فإن الشفاعة إعانة وهي نوعان.

قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85]، وَالشَّافِعُ هو الَّذِي يُعِينُ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا" لأن الشافع يضم نفسه إلى المشفوع له، فيكون الشافع مع المشفوع اثنان، يعني زوجًا بعد أن كان وترًا، والشافع معين للمشفوع له، هو أعانه حيث ضم نفسه إليه، ولهذا سُمِّي شفعاً بعد أن كان وترًا.

يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلِهَذَا فُسِّرَتْ " الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ " بِإِعَانَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَ " الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ " بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ" يعني أبو سليمان الدمشقي فيكون الشافع معينًا فحكمه حكم من أعانه، فمن شفع شفاعة حسنة فله حكم المحسنين، ومن شفع شفاعة سيئة فله حكم المسيئين.

ثم ذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أقوالًا في الشفاعة، قال: "وَفُسِّرَتْ " الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ " بِشَفَاعَةِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ لِيَجْتَلِبَ لَهُ نَفْعًا أَوْ يُخَلِّصَهُ مِنْ بَلَاءٍ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وقتادة وَابْنُ زَيْدٍ وفسرها بعضهم؛ فَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ إعَانَةٌ عَلَى خَيْرٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ مِنْ نَفْعِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفْعَ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَ " الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ " إعَانَتُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ الْإِنْسَانِ أَوْ مَنْعُ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ. وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ"، يقول: كل هذا صحيح، كل هذا إعانة، سواء كان بالدعاء أو غيره.

" فَالشَّافِعُ زَوْجُ الْمَشْفُوعِ لَهُ" يعني صار به زوجًا بعد أن كان المشفوع له وترًا، فلما ضم الشافع نفسه إليه صار زوجًا بعد أن كان وترًا.

يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "إذْ الْمَشْفُوعُ عِنْدَهُ مِنْ الْخُلُقِ إمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى وَإِمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ" فيكون زوجًا له، في هذه الحالة؛ نظيرًا له، فيدخل في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22].

ثم يذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى الحديث: "وَكَانَ «النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ»"، وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، والشاهد قوله: : «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا»،  يعني يبين حال من يستحق الشفاعة، يقول: كذا  وكذا، والله تعالى يقضي على لسان نبيه ما شاء.

ثم يعيد المؤلف رَحِمَهُ اللهُ الكلام على الآية : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، يقول: الآيه "وَإِنْ تَنَاوَلَتْ الظَّالِمَ الَّذِي ظَلَمَ بِكُفْرِهِ - فَهِيَ أَيْضًا مُتَنَاوِلَةٌ مَا دُونَ ذَلِكَ" يقول: الآية تتناول الظالم بالكفر والظالم بالمعاصي، تشمل الأمرين لأن الله قال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)} [الصافات:22]، هذا في الكفار، لكن لا يمنع من ذلك دخول الظلم الذي هو دون الكفر.

ثم يذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ الدليل على ذلك الحديث "الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ»" وهذا الحديث رواه البخاري رَحِمَهُ اللهُ في صحيحه وغيره، وفيه أنه دعا عليه، تَعِسَ أي دعاءٌ عليه بالتعاسة وتعسير أموره، والخميصة، جمع خمائص؛ وهي ثياب من خزٍّ أو صوف سوداء لها علامة مُعْلَمة، والقطيفة: كساء له خُمْل.

 "تَعِسَ وَانْتَكَسَ" دعاءٌ عليه بأن الله يعسر أموره "وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ" يعني أن الله لا يُسهل له أموره، وهذا عبد الدينار وعبد الدرهم، قد تكون عبادته الدينار والدرهم معصية، وقد تكون كفرًا، قد تكون شركًا وقد تكون دون ذلك.

فإذا عبد الدينار والدرهم وفعل الشرك بعبادة الدينار والدرهم صار شركًا، وإن كان معصية فهو معصية، ولهذا جاء الوعيد الشديد على من عبد الدينار والدرهم وكذلك أيضًا من بخِل بالزكاة، فهذا نوع من عبادة الدينار والدرهم.

ولهذا ثبت في "الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ إلَّا جُعِلَ لَهُ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيهِ" يعني بشدقيه.، والشجاع هو الذكر من الحيات، والأقرع هو الذي سقط شعر رأسه من كثرة السم، نسأل الله السلامة والعافية.

ويقول: "أَنَا مَالُك أَنَا كَنْزُك" يُعذب به، فيقول: "...إلَّا جُعِلَ لَهُ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيهِ أَنَا مَالُك أَنَا كَنْزُك. وَفِي لَفْظٍ: إلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُطَوَّقَهُ فِي عُنُقِهِ» وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180]. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ: هَذَا مَالُك الَّذِي كُنْت تَبْخَلُ بِهِ فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ»" يعني الذكر من الإبل، هذه عقوبة في موقف القيامة قبل دخول النار، ومنه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [التوبة:34-35]، هذا عذابٌ بعد دخول النار، والأول عذاب قبل دخول النار في موقف القيامة يُعذَّب؛ يُمثَّله له شجاعًا أقرع وبعد دخول النار، تصفح له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، نسأل الله السلامة والعافية بسبب عبادته للمال.

وسيبين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن يقرن بين عبادة المال وعبادة الأشخاص، نعم.

(المتن)

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنْبَاهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ».

وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفِ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ وَتَكْوِي الْجِبَاهَ وَالْجُنُوبَ وَالظُّهُورَ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ».

وَهَذَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ النَّارِ فَيَكُونُ هَذَا لِمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِمَّنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ أَوَّلًا فِي الْمَوْقِفِ. فَهَذَا الظَّالِمُ لَمَّا مَنَعَ الزَّكَاةَ يُحْشَرُ مَعَ أَشْبَاهِهِ وَمَالِهِ الَّذِي صَارَ عَبْدًا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيُعَذَّبُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ.

وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ» . فَهَذَا بَعْدَ تَعْذِيبِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ".

(الشرح)

بيَّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ في هذا أن مانع الزكاة ظالم بمنعه الزكاة، وصار يحشر معه ماله الذي بخِل به، وصار يُعذَّب به، صار قرينًا له، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]، حُشر معه ماله، فصار يُعذّب به والعياذ بالله في موقف القيامة ويُعذّب به بعد دخول النار.

يُعذب في موقف القيامة بأن يُمَثَّل له شجاعًا أقرع يصرعه ويؤذيه ويقضم يده، كما ثبت في الصحيح: «...ولَا صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنهَا حَقَّهَا وَمِن حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا إِلَّا ِإذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ نُطِحَ بِها بِقَاعٍ قَرْقَرْ أَوْفَرَ مَا كَانَت لَا يَفْقِدُ مِنهَا فَصِيلًا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَرُاهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».

«ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ» ومن دخل النار منهم فإنه يُعَذَب بالنار وتصفح له صفائح من نار، فهذا عبَدَ المال، لمَّا عبَدَ المال عُذِّب بهذا المال في الموقف وبعد دخوله النار، "فَهَذَا الظَّالِمُ لَمَّا مَنَعَ الزَّكَاةَ يُحْشَرُ مَعَ أَشْبَاهِهِ وَمَالِهِ الَّذِي صَارَ عَبْدًا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ" ولهذا صار يُعذب به يوم القيامة.

 ومن دخل النار عُذِب به أيضًا في النار، وهذا دليل على أن مانع الزكاة إذا لم يجحد وجوبها لا يكون كفرًا، لأنه قال: «ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ»، ولو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنة، فدل على أنه ليس بكافر وهذا هو الصواب أن مانع الزكاة لا يكون كافرًا.

 إلا إذا كانت جماعة أو منع الزكاة وقاتل عليها، كما فعل الصحابة مع أبو بكر الصديق t حين قاتل مانعي الزكاة واعتُبِروا كفارًا، لم يُفَرق بين من عبد الأوثان ومن أنكر رسالة النبي ومن منع الزكاة وقاتل عليها، أما إذا لم يقاتل عليها فإنها تُؤخذ منه ويُؤدَّب ويُعَزَّر ولا يَكفر كما دلت هذه النصوص.

(المتن)

قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيب النَّمْلِ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ.

وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:21].

وَفِي حَدِيثِ «عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا- وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: فَقُلْت لَهُ إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ؛ قَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ قَالَ: فَقُلْت: بَلَى. قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو البَخْتَرِيّ: أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ، وَلَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ؛ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: قُلْت لِأَبِي الْعَالِيَةِ: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قَالَ: كَانَتْ الرُّبُوبِيَّةُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ فَقَالُوا: لَنْ نَسْبِقَ أَحْبَارَنَا بِشَيْءِ؛ فَمَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا وَمَا نَهَوْنَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا لِقَوْلِهِمْ فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ، وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.

فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ كَانَتْ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ لَا أَنَّهُمْ صَلَّوْا لَهُمْ وَصَامُوا لَهُمْ وَدَعَوْهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلرِّجَالِ وَتِلْكَ عِبَادَةٌ لِلْأَمْوَالِ وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ بِقَوْلِهِ: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].

فَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22-23].

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَاَلَّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِهَذَا هُمْ جَمِيعًا مُعَذَّبُونَ وَقَالَ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]".

(الشرح)

لازال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ يبين أنَّ المعاصي كلها داخلة في الظلم، وأن الظلم يشمل جميع المعاصي كالكفر فما دونه، وكذلك المعاصي تدخل في عموم الشرك ولهذا "«قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيب النَّمْلِ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ" يعني المعاصي الكفر الذي هو أصغر، فهذا هو دون الكفر أي كفر أصغر، وما دون الظلم هذا الظلم الأصغر، "وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ".

 أما إذا ذكر الكفر على الإطلاق فهو الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة وكذلك الفسق الأكبر لقول الله تعالى عن إبليس: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، وقال تعالى: { وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)} [البقرة:99]، هذا فسوق الكفر، فالفسق عند الإطلاق هو الفسق الأكبر المخرج من الملة، وكذلك الظلم عند الإطلاق هو ظلم أكبر والمراد بذلك أنه يخرج من الملة.

 

"وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:21]. وَفِي حَدِيثِ «عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ" وكان نصرانيًّا ثم أسلم، فقال: يا رسول الله: " إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ" أي لسنا على دينهم، لسنا نعبدهم والآية فيها {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].

 يعني كيف نتخذهم ربًّا ولسنا نعبدهم؟ فبين له النبي ﷺ أن اتخاذهم أربابًا طاعتهم في التحليل والتحريم، فقال: " أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ قَالَ: فَقُلْت: بَلَى. قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»، ولهذا قَالَ أَبُو البَخْتَرِيّ: أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ، وَلَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ؛ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ"، يعني أطاعوهم في التحليل والتحريم.

كما قال أبو العالية: "كَانَتْ الرُّبُوبِيَّةُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ فَقَالُوا: لَنْ نَسْبِقَ أَحْبَارَنَا بِشَيْءِ؛ فَمَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا وَمَا نَهَوْنَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا لِقَوْلِهِمْ فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِم" فالمقصود أن طاعة الأحبار والعلماء والرهبان، طاعتهم في التحليل والتحريم، بأن يحللوا لهم الحرام  فيطيعوهم ويعتقدوا أن الحرام حلالًا، ويحرموا عليهم الحلال فيطيعوهم ويعتقدوا أن الحلال حرام هذا هو الكفر، أما إذا أطاعوهم في المعصية كما سيبين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ من دون اعتقاد حلها فهذا معصية من جنس المعاصي.

 فالطاعة نوعان: طاعة في التحليل والتحريم، وطاعة في المعصية، الطاعة في التحليل والتحريم هذا هو الكفر لأنهم يعتقدون تحريم الحلال وتحليل الحرام، أما إذا أطاعوهم في المعصية فإنها تكون معصية.

ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ كَانَتْ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ لَا أَنَّهُمْ صَلَّوْا لَهُمْ وَصَامُوا لَهُمْ وَدَعَوْهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلرِّجَالِ وَتِلْكَ عِبَادَةٌ لِلْأَمْوَالِ" عبادة الرجال: أي طاعتهم في التحليل والتحريم كما في الآية، { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، أي أطاعوهم في التحليل والتحريم فصار شركًا.

"وَتِلْكَ عِبَادَةٌ لِلْأَمْوَالِ" في قوله: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ»، فعبادة الرجال وعبادة الأموال إذا كانت في التحليل والتحريم هذه تخرج من الملة.

 وكذلك إذا عبد المال أي قدمه بأن فعل الكفر تقديمًا للمال صار عبادة للأموال، ولهذا سمَّى الله تعالى طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم، سمَّاه شركًا في قوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة:31].

 

"فَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22-23]" فهؤلاء الأحبار الذين يشرعون للناس الحرام ويحللون الحرام ظلمة، ومن أطاعهم في التحليل والتحريم كذلك ظالم معهم، فهو من جنسهم فيُحشرون جمعًا، فهم من أزواجهم، نُظراء لهم.

 فالذي يُشَرِّع للناس، يُحل الحرام ويحرم الحلال هذا ظالم والذي يطيعه في التحليل والتحريم ظالم ونظير له فيحشر معه وهو داخل في قوله U: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)} [الصافات:22]، وكما قال تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء:98]. فالعابدون والمعبودون كلهم دخلوا النار لأن كل واحد منهما نظير للآخَر.

(المتن)

وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَنْ عُبِدَ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِأَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَهُمْ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْحُسْنَى كَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا فَأُولَئِكَ (مُبْعَدُونَ).

وَأَمَّا مَنْ رَضِيَ بِأَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ، وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ إذَا أَمَرَ! وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ فَإِنَّ أَزْوَاجَهُمْ قَدْ يَكُونُونَ أَتْبَاعًا وَهُمْ أَزْوَاجٌ وَأَشْبَاهٌ لِتَشَابُهِهِمْ فِي الدِّينِ.

وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات:22-23]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دُلُّوهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ كيسان: قَدِّمُوهُمْ.

وَالْمَعْنَى: قُودُوهُمْ كَمَا يَقُودُ الْهَادِي لِمَنْ يَهْدِيهِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى الْأَعْنَاقُ الْهَوَادِيَ لِأَنَّهَا تَقُودُ سَائِرَ الْبَدَنِ، وَتُسَمَّى أَوَائِلُ الْوَحُوشِ الْهَوَادِيَ. {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} [الصافات:24-25]. أَيْ: كَمَا كُنْتُمْ تَتَنَاصَرُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْبَاطِلِ.

{ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} [الصافات:26-36].

وَقَالَ تَعَالَى: { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)} [الأعراف:38-39].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} [غافر:47-48].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)} [سبأ:31-33].

(الشرح)

يبيِّن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ أن العابد يُحشر مع نظيره كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)} [الصافات:22]، ومن ذلك من عبد غير الله ويكون المعبود راضيًا فإنه يكون زوجًا له ويُحشر معه كما قال سبحانه: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].

 ولكن يخرج من هذا من عبد مع كراهةٍ، إذا كان لا يرضى بذلك كالمسيح u وأمه عليها السلام، وكذلك من عُبِد من الأنبياء والصالحين وهم لا يرضون فإنهم يخرجون من هذا، استثناهم الله بقوله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء:101].

 وأما من رضي فيكون ظالمًا ويُحشر مع من عبده في النار، مجرد الرِّضى بالشرك يجعله كافرًا مثله فيُحشر معه، فكيف إذا أمر! إذا أمر بالعبادة يكون أشد، إذا كان رضي بالعبادة يكون ظالمًا ويُحشر معه في شركه وإذا أمر يكون أشد، وكذلك من أمر غيره أن يعبد غير الله كذلك هذا من أزواجهم،  فيُحشر معهم، إذا أمر غيره أن يُعبد من دون الله يحشر مع هذا المعبود لأنه من أزواجهم.

يقول المؤلف: "فَإِنَّ " أَزْوَاجَهُمْ " قَدْ يَكُونُونَ أَتْبَاعًا وَهُمْ أَزْوَاجٌ وَأَشْبَاهٌ لِتَشَابُهِهِمْ فِي الدِّينِ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات:22-23]" هذه الآية عامة، ولهذا ذكر معنى الآية، قال اهدوهم أي دلوهم.

 ثم ذكر الآيات {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} [الصافات:26-36].

 يبين أن الظالم يُحشر مع الظالم، وأن هؤلاء المعبودين يكونون مع من عبدهم من دون الله، وكذلك من أطاعهم في التحليل والتحريم وأنهم اشتركوا في العذاب، ولهذا بين سبحانه المحاورة التي بين الظالم ومن تبعه وأنهم كلهم بينهم محاورة ويشتركون في العذاب ولا يغني عنهم ذلك من الله شيئًا، ولهذا أخبر الله عنهم قال: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} [الصافات:31-33].

وكذلك ذكر المحاورة التي بين المتبوعين والأتباع، الآيات متعددة، قوله تعالى في سورة الأعراف قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف:38].

 وكذلك المحاورة بين الضعفاء والذين استكبروا في سورة غافر: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} [غافر:47-48].

 وكذلك المحاورة بينهم في سورة سبأ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)} [سبأ:31-33]. نسأل الله السلامة والعافية.

(المتن)

قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].

وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشِّرْكَيْنِ: الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ، وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَنْ اسْتَكْبَرَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فَكُلُّ مَا يُعْبَدُ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ تَأَلُّهِ الْعِبَادِ لَهُ، فَمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ بَعْضِ عِبَادَتِهِ سَامِعًا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ؛ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا؛ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا): أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ اللَّهِ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ، فَهَذَا كُفْرٌ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ شِرْكًا -وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ-، فَكَانَ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي خِلَافِ الدِّينِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّينِ، وَاعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُونَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ مُشْرِكًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ.

(وَالثَّانِي): أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ ثَابِتًا، لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»، وَقَالَ: «عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ»، وَقَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»، وَقَالَ: «مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ».

(الشرح)

يتكلَّم المؤلِّف عن أنواع من المسميات وأنها إذا أُطلِقت تتناول أمورًا ومن ذلك مُسمّى الإيمان إذا أُطلق فإنه يتناول الدين كله، وكذلك مسمى الإسلام وكذلك مسمى الدين كما سبق، ثم ذكر ما يُقابل ذلك  مثل مسمى الكفر إذا أُطلِق فإنه يشمل الكفر الظاهر والكفر الباطن، يشمل المنافقين، والمشركين.

 وكذلك مسمى الظلم إذا أُطلِق فإنه يشمل الظلم الأكبر الذي هو الشرك ويشمل ما دونه وهو الظلم الأصغر الذي هو ظلم العباد بعضهم لبعض ويشمل ظلم النفس فيما دون الشرك فيما بينه وبين الله U.

ثم قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]. وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشِّرْكَيْنِ: الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَنْ اسْتَكْبَرَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ" فإنها تتناول الشرك الأكبر والأصغر بالاستكبار عن طاعة الله U، هذا شرك أكبر يخرج من الملة، وإذا كان الاستكبار عما دون ذلك، استكبار عن طاعة دون التوحيد فإنه يكون من الشرك الأصغر ويكون معصية.

ولهذا قال: " وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ " الشِّرْكَيْنِ ": الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَنْ اسْتَكْبَرَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ" فالمشرك شركًا أكبر استكبر عن عبادة الله، والمشرك شركًا أصغر استكبر عن عبادة الله، والعاصي أيضًا استكبر ولكن الكبر يتفاوت، فالكبر عن توحيد الله وطاعته، هذا يخرج من الملة، والكبر فيما دون ذلك له حكم ذلك، إن كان كبرًا عما يتناول الشرك الأصغر صار شركًا أصغر، وإن كان دون ذلك فهو معصية.

ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَنْ اسْتَكْبَرَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ" يعني من الطاعات، من استكبر عن طاعة من الطاعات وعصى الله فإن الآية تتناوله، كما أنها تتناول المشرك شركًا أكبر، استكبر عن عبادة الله، والمشرك شركًا أصغر استكبر عن عبادة الله، والعاصي استكبر عن طاعة الله فكلٌّ له نصيبه وكل له وحكمه ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أنها تتناول الأنواع الثلاثة، الشرك الأكبر الأصغر والمعاصي التي دون ذلك.

"فَمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ بَعْضِ عِبَادَتِهِ سَامِعًا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ؛ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ" ومن تحقيق قول لا إله إلا الله أن يؤدي الفرائض ويترك المحارم فمن عصى الله U أو ترك فريضة من فرائض الله، فإنه لم يحقق هذه الكلمة، كلمة التوحيد لا إله إلا الله بل كان عنده نقص وعنده نوع من الاستكبار عن طاعة الله.

ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فَكُلُّ مَا يُعْبَدُ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ تَأَلُّهِ الْعِبَادِ لَهُ فَمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ بَعْضِ عِبَادَتِهِ سَامِعًا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ؛ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ" يعني تحقيق قول لا إله إلا الله أن يوحد الإنسان ربه، وأن يخلص له العبادة، وأن يقوم بحقوق هذه الكلمة من أداء الواجبات وترك المحرمات.

ثم بين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن " الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا - حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ" وهذا تحقيق من المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، قد يغفل عنه بعض الناس، وهي طاعة غير الله في معصية الله، فطاعة غير الله في معصية الله تكون على وجهين:

الوجه الأول: كما بين المؤلف أن يبدل الإنسان الدين ويعتقد أن هذا الذي أطاعه له حق التشريع والتحليل والتحريم فهذا شرك أكبر.

الثاني: أنه يطيعه وهو يعلم أنه عاصي ويعلم أن هذا الذي أطاعه ليس له حق التشريع، ولكنه أطاعه طاعة للهوى والشيطان، فهذا يكون عاصيًا من جنسه ومذنبًا من جنس غيره من الذنوب والمعاصي.

بين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ هذا البيان بيانًا واضحًا، قال: "وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا - حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ اللَّهِ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ فَهَذَا كُفْرٌ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ شِرْكًا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ"، يعني لا يُشترط في المشرك الذي عبد غير الله أن يصلي له وأن يسجد له، بل إذا أطاعه في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله في التشريع فقد اتخذه ربًّا من دون الله، شاء أم أبى.

وهذا هو ما جاء في قول الله U: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة:31].

 

وقد جاء في مُسند الإمام أحمد أن علي بن حاتم t كان نصرانيًّا ثم أسلم، لما جاء إلى النبي ﷺ وهو يقرأ هذه الآية، {{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التةبة:31] فنزلت في أهل الكتاب، فالأحبار هم العلماء والرهبان هم العُباد، اتخذوهم أحبارًا من دون الله فظنَّ عَدِيّ t أن اتخاذهم أربابًا من دون الله أن يُقصدوا بالعبادة بالركوع لهم والسجود لهم فقال: " إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ" فبين له النبي ﷺ أن طاعتهم في التحليل والتحريم هي عبادتهم واتخاذهم أربابًا من دون الله، فقال: " أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ قَالَ: فَقُلْت: بَلَى. قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ".

ثم بين الوجه الثاني، قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَ(الثَّانِي): أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ ثَابِتًا لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" يعني أن يكونوا يعتقدون أن المُحِل والمُحَرِّم هو الله، وأن هذا الذي أطاعوه في المعصية سواء كان رئيسًا أو أميرًا أو عالمًا أو عابدًا، أطاعه إنما أطاعه طمعًا في الدنيا، طاعة للهوى والشيطان، طمعًا للمال أو طمعًا في الرياسة أو خوفًا منه أو غير ذلك من المقاصد، لكنه أطاعه طاعة للهوى وهو يعلم أنه عاصي بطاعته له ويعلم أنه لا يجوز له أن يطيعه ويعلم أنه ليس له حق التشريع بالتحليل والتحريم، فهذا يكون عاصيًا كغيره من العصاة.

ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»" لا يُطاع أحدٌ في معصية، ومن أطاع أحدًا في معصية فهو عاصٍ مثله، وقال النبي ﷺ: "«عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ»".

 فإذا أُمِر بمعصية فأطاع في معصية فله حكم غيره من العُصاة، مادام أنه لا يعتقد أن هذا الذي أطاعه في معصية له حق التشريع والتحليل والتحريم، وقال عليه الصلاة والسلام: "«لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»، وَقَالَ: «مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ»" كل هذه النصوص تدل على أنه لا يُطاع أحدٌ في المعاصي، لا الرئيس ولا الأمير ولا الوزير ولا الأب ولا الزوجة تطيع زوجها ولا العبد يطيع سيده، لا أحد يُطاع في المعاصي، إنما الطاعة في المعروف.

ولهذا طوَّل البخاري في هذا في صحيحه وذكر أثرًا فقال: "من أمرته أمه بأن لا يُصلي في الجماعة خوفًا عليه فلا يُطِعها" يعني إذا كان صغيرًا أو مراهقًا وأمرته أن يصلي في البيت ولا يُصلي في الجماعة خوفًا عليه فلا يطعها، لأن الصلاة في جماعة واجبة، فلا تُطاع الأم ولا غيرها في المعصية.

فالمقصود أن الطاعة في التحليل والتحريم تكون على هذين الوجهين الذي بينهما المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى، الوجه الأول: أن يطيع في التحليل والتحريم بأن يحلوا له الحرام فيعتقد حله، ويحرموا عليه الحلال فيعتقد تحريمه، هذا كفرٌ وردة، هذا اتخذهم أربابًا من دون الله.

 والثاني: أن يطيعهم في المعصية ويعلم أنه لا يجوز طاعتهم ويعلم أنه عاصي ويعتقد أنه لا يجوز طاعتهم ولكن أطاعه طاعة الهوى والشيطان، خوفًا أو طمعًا، رغبةً أو رهبةً، فهذا عاصي كحكم أمثاله من العصاة.

(المتن)

ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْحَرَامِ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَصْدُهُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ لَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِخَطَئِهِ بَلْ يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي أَطَاعَ بِهِ رَبَّهُ.

وَلَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ فَهَذَا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ، لَا سِيَّمَا إنْ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَوَاهُ، وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ.

وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ فِي خِلَافِهِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ.

وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ؛ فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ عَرَفَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَهُوَ بَيْنَ النَّصَارَى فَإِذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ؛ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ وَهَؤُلَاءِ كَالنَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ} [آل عمران:199]. وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]. وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83].

(الشرح)

المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ بيَّن أن هذا المحرم للحلال، والمحلل للحرام فيه تفصيل؛ وأنه إما أن يكون مجتهدًا وإما أن يكون متعمدًا؛ فإن كان متعمدًا لتحليل الحرام وتحريم الحلال؛ فهذا مُشَرِّع، هذا جعل نفسه مُشَرِّعًا وهذا مشرك شرع في دين الله ما لم يأذن به الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فهذا الذي  يحل الحرام ويحرم الحلال مع علمه أن هذا حرام وهذا حلال.

أما إذا كان الذي يحل الحرام أو يحرم الحلال مجتهدًا قصده اتباع الرسول ﷺ وبذل جهده واستفرغ وسعه في التعرف على الحكم الشرعي، لكنه عجز ووصل اجتهاده إلى هذا وظنَّ أن اجتهاده على الحق، فهذا معذور، وكما جاء في الحديث في الحاكم الشرعي، «إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، إذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحدٌ، أجرٌ على اجتهاده وفاته أجر الصواب وحَصُل على أجر الاجتهاد، هذا بالنسبة للشخص المجتهد.

أما بالنسبة لمن يَبلغه هذا القول أو هذا العمل من هذا المجتهد فهو على حالين:

الحال الأولى: أن لا يعلم أن هذا خطأ، وقلَّده في هذا الأمر أو اجتهد وتبين له مثل اجتهاده أو قلَّده إذا كان من أهل التقليد فهذا معذور.

الحال الثانية: أن يعلم أن هذا خطأ، وأن يعلم أن المحرم للحلال والمحلل للحرام مخطئ، وتبين له الدليل، وعدل عن الدليل وأخذ بقول هذا المخطئ، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله.

لأنه ترك الحق وهو يعلم الحق، ترك الدليل، ترك الحق الذي قام عليه الدليل وتبِع هذا الذي أخطأ فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله.

ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "لَا سِيَّمَا إنْ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ" هذا إذا علِم أنه مخطئ وعلِم أن اجتهاد هذا المُجتهد يخالف الحق ويخالف الدليل ثم اتبعه على خلاف الدليل ونصره واتبع في ذلك هواه، "وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ" فهذا له نصيب من الشرك، قال الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].

ولهذا قال المؤلف: "فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ" من عرف الحق لا يجوز له أن يقلِّد غيره، إنما التقليد للعاجز ليس عنده آلية النظر ولم يبلغه الدليل كما قال الله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل:43]. فمن وصل إلى الحق بدليله فلا يجوز له أن يعدل عن الحق إلى قولٍ يُخالف الدليل.

"وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ فِي خِلَافِهِ" يعني في خلاف الحق، "وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ" يقدر على الاستدلال لكنه ضعُفَ وكسِل فلم ينظر في الأدلة، أو ضاق عليه الوقت فلا يقدر على الاستدلال.

 أما من تبين له الحق فإنه لا يجوز له وكذلك أيضا من ليست له أهلية النظر كأن يكون من العامة الذين ليس فيهم أهلية النظر فهذا فرضه التقليد لكن عليه أن يجتهد فيمن يُقلد فلا يقلد إلا من يثق في دينه وعلمه وورعه، كما قال الله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل:43].

أما من عرف الحق فلا يجوز له أن يُقلد أحدًا في الحق إنما النزاع في جواز التقليد للقادر على الاستدلال أو لمن ضاق عليه الوقت، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ فِي خِلَافِهِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ. وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ؛ فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ عَرَفَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَهُوَ بَيْنَ النَّصَارَى فَإِذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ؛ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ".

 يعني الإنسان إذا عرف الحق لكن عجز عن إظهاره وتنفيذه فهذا عليه أن يعمل ما يستطيع فعله من الحق "فَإِذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ؛ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ" يعني الإنسان إذا عرف الحق لكن عجز عن إظهاره وتنفيذه فهذا عليه أن يعمل ويجتهد.

القارئ: هذا في الفروع والأصول أحسن الله إليك؟

الشيخ: نعم، كما قال الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، حتى في الكفر إذا أكرِه على الكفر له أن يتكلم بكلمات الكفر.

القارئ: لكن حتى في التقليد سواء في الفروع أو الأصول يستوي الأمر من كلام شيخ الإسلام هنا بالنسبة لعدم جواز تقليد من عَلِم الحق ألا يُقلد.

الشيخ: الشيء الظاهر الذي أمر الله به نبيه من عبادة الله ونحو هذا فلا يُعذر فيه أحد، يكون الإنسان يعبد الله ويعبد الأصنام هذا واضح لكل أحد، ومن بلغه القرآن قامت عليه للحجة، هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه وأرسل به رسله ومن أجله أُرسِلت الرسل وأُنزِلت الكتب وهو عبادة الله وحده هذا لا يُعذر فيه أحد، من بلغه الدليل قامت عليه الحجة، كما قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19].

وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسرا:15]، الأمور الواضحة لا يُعذر فيها أحد، لكن الأمور الخفية التي تخفى على مثل هذا فهذا معذور، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فالذي يعجز عن إظهار الحق الذي يعلمه يكون معذور، ويُكلَّف بإظهار ما يستطيع، كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

يقول المؤلف إن هذا مثله: " كَمَنْ عَرَفَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَهُوَ بَيْنَ النَّصَارَى" علِمَ أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، ماذا يفعل؟ يعمل ما يستطيع، ما يستطيعه يفعله، الذي يقدر على إظهاره يفعله، وما يعجز عنه فيكون معذورًا، لأن الله لا يُكلِّف نفسًا إلا وُسعها.

يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَهَؤُلَاءِ كَالنَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ} [آل عمران:199]" وأخبر الله تعالى أنهم مؤمنون.

"وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]. وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]" فهؤلاء مثل الذي يعيش بين الكفار وهو يعجز عن إظهار الحق فيفعل ما يستطيع، يقيم من دينه ما يستطيعه، لكن يُشترط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان، فإن كان قلبه مطمئن بالإيمان فلا يضره.

القارئ: الحقيقة ترد مسائل كثيرة على هذه القضية خصوصًا في بعض البلاد الإسلامية التي انتشر فيها مظاهر الشرك الظاهر الجلي الواضح إلا أن بعض الجهلة يقول إنا وجدنا آباءنا على أمة، كالطواف بالقبور والاستغاثة بأهلها واللجوء إليهم والعياذ بالله انتشر في كثير من بلاد المسلمين لكن يكون لهم قادة وكبراء وعلماء يسوقونهم، هل يُعامل هذا الجاهل مثل معاملة هذا العالِم في بلاغ الحجة عليه؟

الشيخ: إذا كانوا مسلمين وبلغهم القرآن وعرفوا الحق فلا يجوز لهم اتباعهم في الباطل، أما إذا كانوا لم يعلموا ولم تبلغهم الدعوة، ولم  يعلموا دين الإسلام ولا يعرفون الإسلام، هذا قد يقال كحمه حكم الفترات، لكن الآن الإسلام بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فالأمور الواضحة التي بعث الله بها رسوله وأنزل الله بها كتابه لا يُعذر فيها أحد، إنما يُعذر في الأمور الخفية، مثل من يعبد الأصنام ويقول أنا معذور، من يذبح لغير الله، ينذر لغير الله ليس بمعذور، من بلغه القرآن وبلغه الدليل وقامت عليه الحجة.

ولكن قد يُقال: إنه إذا كان لُبِّس عليه من قبل أهل الشرك، وخَفِي عليه الأمر، لبَّسوا عليه وأخفوا عليه، وصار ليس عنده تمييز، قد يُقال في هذه الحالة أنه معذور وأن حكمه حكم من لم تبلغه الدعوة، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.

وبكل حال إن الأمور الواضحة التي بعث الله بها رسوله الأصل أنه لا يُعذر فيها أحد، من بلغه الدليل وقامت عليه الحجة وبلغه القرآن فلا يُعذر، إنما الذي يُعذر الذي لم تبلغه الدعوة ، الأمور الدقيقة الخفية التي مثله يجهل ذلك هذا الذي يُعذر فيه.

(المتن)

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُتَّبِعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّقْلِيدِ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخَذُ إنْ أَخْطَأَ كَمَا فِي الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا إنْ قَلَّدَ شَخْصًا دُونَ نَظِيرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّ مَعَهُ الْحَقَّ؛ فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُصِيبًا؛ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحًا. وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُخْطِئًا؛ كَانَ آثِمًا. كَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ؛ فَإِنْ أَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. وَهَؤُلَاءِ مَنْ جِنْسِ مَانِعِ الزَّكَاةِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْوَعِيدُ وَمِنْ جِنْسِ عَبْدِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا مَنَعَهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ.

وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ؛ فَيَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَلَهُمْ مِنْ الْوَعِيدِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ». وَهَذَا مَبْسُوطٌ عِنْدَ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا إطْلَاقُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ.

(الشرح)

المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن في هذا حكم "الْمُتَّبِعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ" فهذا يكون معذورًا في التقليد، ولا يؤاخذ إن أخطأ، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُتَّبِعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّقْلِيدِ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخَذُ إنْ أَخْطَأَ" وذلك لأنه اتقى الله ما استطاع {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].

يقول المؤلف: " كَمَا فِي الْقِبْلَةِ" كما لو صلى الإنسان في البرية، وهو لا يعرف القبلة واجتهد بالعلامات التي ظهرت له ثم أخطأ فإنه يكون معذورًا وصلاته صحيحة في هذه الحالة لأنه اتقى الله ما استطاع، وكذلك هذا "الْمُتَّبِعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّقْلِيدِ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخَذُ إنْ أَخْطَأَ" ويكون معذورًا.

وأما إذا قلد العامي "شَخْصًا دُونَ نَظِيرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّ مَعَهُ الْحَقَّ؛ فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ" لأن الواجب على العامي أن يُقلد من يثق بدينه وعلمه وورعه، ولا يقلد من يقلده للهوى أو للعصبية، وإنما يقلده بعد اجتهاده والتحري في علمه وورعه، فيتحرى ويجتهد ويقلد من يثق في علمه ودينه وورعه وحينئذٍ يعمل بفتواه.

 

كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء:7].

ولذلك إذا قلد شخصًا لمجرد الهوى فإنه يكون آثمًا، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَمَّا إنْ قَلَّدَ شَخْصًا دُونَ نَظِيرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّ مَعَهُ الْحَقَّ؛ فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُصِيبًا؛ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحًا" يعني المتبوع مصيب وهو على الحق فهذا التابع يكون عمله ليس على الحق، لأنه اتبعه لمجرد الهوى ولم يتبعه لأنه تحرى فيمن يقلد فصار المتبوع في هذه الحالة مصيبًا والتابع عمله غير صالح لأنه اتبعه لمجرد الهوى، وإن كان متبوعه مخطِئًا كان آثمًا.

ومثله في ذلك مثل الذي "قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ؛ فَإِنْ أَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهؤلاء يتبعون الهوى، "وَهَؤُلَاءِ مَنْ جِنْسِ مَانِعِ الزَّكَاةِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْوَعِيدُ وَمِنْ جِنْسِ عَبْدِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا مَنَعَهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ".

 وكذلك ذلك الشخص الذي اتبع الهوى وقلَّد شخصًا لمجرد الهوى دون تحري فإنه يكون آثمًا لاتباع هواه، مثله في ذلك مثل من منع الزكاة، لأنه منعها حبًّا للمال، وكذلك من عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة فعصى الله فيها.

ولهذا يقول المؤلف: "وَهَؤُلَاءِ مَنْ جِنْسِ مَانِعِ الزَّكَاةِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْوَعِيدُ وَمِنْ جِنْسِ عَبْدِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا مَنَعَهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ" فمانع الزكاة منعه من أدائها حبه للمال، وكذلك عبد الدينار والدرهم إذا كسبها عن طريق معصية الله عن طريق الربا أو طريق الغش، صار عبدًا لها.

"وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ؛ فَيَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَلَهُمْ مِنْ الْوَعِيدِ بِحَسَبِ ذَلِكَ" لأن كل المعاصي فيها نوع من الهوى، وهي من طاعة الهوى فتكون شركًا بهذا المعنى، ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ» . وَهَذَا مَبْسُوطٌ عِنْدَ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا إطْلَاقُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ" لأنه قد تُطلق جميع الذنوب تُسمى شركًا من باب أن فيها طاعة للهوى واتباعًا للشيطان.

(المتن)

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْكُفْرِ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ أَيْضًا وَكُلٌّ بِحَسَبِهِ كَلَفْظِ " الذَّنْبِ " وَ " الْخَطِيئَةِ " " وَالْمَعْصِيَةِ ". فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [المؤمنون:68-71]»".

 

(الشرح) المؤلف هنا رجع إلى أصل البحث، وأصل البحث أن الظلم المطلق يشمل الكفر والمعاصي، وكذلك مُسمّى الظلم يشمل الكفر والمعاصي، ومسمّى الشرك كذلك مسمّى الذنب مسمّى الخطيئة مسمّى المعصية كل هذا تشمل الشرك فما دونه كما أن مسمّى الإيمان يشمل الدين كله يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، ومسمّى الدين كذلك ومسمّى الإسلام، وما سبق استطراد من المؤلف رَحِمَهُ اللهُ.

ولهذا رجع المؤلف رَحِمَهُ اللهُ إلى أصل البحث ولخصه وقال: "وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْكُفْرِ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ أَيْضًا" فالظلم إذا أُطلِق، الظلم ثلاثة أنواع، ظلم الشرك، العباد، وظلم النفس فيما دون الشرك، فإذا قيل ظالم يشمل هذا، قد يكون ظالمًا بشركه أو ظالمًا للناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، أو ظالمًا لنفسه فيما دون الشرك.

ولهذا قال المؤلف: " وَكُلٌّ بِحَسَبِهِ كَلَفْظِ " الذَّنْبِ " وَ " الْخَطِيئَةِ " " وَالْمَعْصِيَةِ "، فالخطيئة قد تكون خطيئة كفر، وقد تكون غير ذلك، كما في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} [البقرة:81]، هذه خطيئة الشرك، لأنه خُلِّد في النار ولأنه أحاطت به خطيئته، فلفظ الخطيئة يشمل الشرك فما دونه، ولفظ الذنب يشمل الشرك فما دونه، وكذلك المعصية.

ولذلك قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك" هذا الشرك، فأدخل الشرك في الذنب فبين أن أعظ الذنوب هو الشرك.

"قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك" فأنزل الله الآيات من سورة الفرقان.

(المتن)

فَهَذَا الْوَعِيدُ بِتَمَامِهِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَلِكُلِّ عَمَلٍ قِسْطٌ مِنْهُ؛ فَلَوْ أَشْرَكَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَزِنْ؛ كَانَ عَذَابُهُ دُونَ ذَلِكَ. وَلَوْ زَنَى وَقَتَلَ وَلَمْ يُشْرِكْ؛ كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ نَصِيبٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وَلَمْ يَذْكُرْ: (أَبَدًا).

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ لَفْظَ التَّأْبِيدِ لَمْ يَجِئْ إلَّا مَعَ الْكُفْرِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان:27-29].

فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالرَّسُولِ، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَيَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ بِحَسَبِهِ. فَمَنْ خَالَّ مَخْلُوقًا فِي خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ نَصِيبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].

وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} [البقرة:166].

قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ.

فَإِنَّ الْمُخَالَّةَ تَحَابٌّ وَتَوَادٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ»، فَإِنَّ الْمُتَحَابَّيْنِ يُحِبُّ أَحَدُهُمَا مَا يُحِبُّ الْآخَرُ بِحَسَبِ الْحُبِّ فَإِذَا اتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ نَقَصَ مِنْ دِينِهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].

(الشرح)

المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن الوعيد على هذه الجرائم الثلاث وهي: الشرك بالله وقتل النفس والزنا، بيَّن الله الوعيد الشديد على هذه الجرائم الثلاث، قال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ} [المؤمنون:69-70]، هذا الوعيد على هذه الجرائم الثلاثة مجتمعة.

 مَن فعل هذه الثلاثة، مَن أشرك بالله، وقتل النفس وفعل الزنا، هذا يدخل في الوعيد التام وأنه يلقى أثامًا وهو أن يضاعَف له العذاب يوم القيامة، ولكل عملٍ قسطٌ منه فلو أشرك ولم يقتل ولم يزن كان عذابه دون من أشرك وقتل وزنى؛ لأن المعاصي يعاقب عليها الإنسان، المشرك يُعذب على شركه ويُعذّب على معاصيه.

 فمن ترك شيئًا من المعاصي من الكفَّار وهو مشرك فإنه يُعذب على الشرك ويَسقط عذابه عن المعاصي، ومن ضم إلى الشرك شيئًا من المعاصي فإنه يزيد عليه، وإن كان مشركًا ويصد الناس عن دين الله صار عذابه مضاعفًا، وإذا كان مشركًا ولا يصد الناس عن دين الله كان عذابه أخف، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل:88].

فالمشرك الذي يصد الناس عن دين الله ويفتنهم ويحملهم على الكفر هذا عذابه مضاعفًا، والمشرك الذي لا يصد عن دين الله ولا يؤذي الناس ولا يحملهم على الكفر هذا عذابه أخف، فكذلك حال هؤلاء الذين فعلوا الجرائم الثلاث، من فعلها مجتمعة زاد عذابه وحصل على هذا الوعيد الشديد في الآية، ولو  أشرك ولم يقتل ولم يزن، خفَّ عذابه. ولو زنى وقتل ولم يشرك كان له من هذا العذاب نصيب لكنه لا يخلد في النار ولا يكون مشرك إلا إذا استحل القتل أو الزنى.

أما إذا قتل فله نصيب من هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، هذا القاتل المتعمد. يقول المؤلف: "وَلَمْ يَذْكُرْ: (أَبَدًا). وَقَدْ قِيلَ: إنَّ لَفْظَ " التَّأْبِيدِ " لَمْ يَجِئْ إلَّا مَعَ الْكُفْرِ" والقاتل ليس بكافر إذا لم يستحل الكفر.

ولهذا فإن الخلود في حق العصاة خلود مؤمَّد، فإنه له نهاية، بخلاف خلود الكفار فإنه مؤبَّد، فالخلود خلودان، خلود مؤبَّد لا نهاية له، وهذا خلود الكفار، وخلود مؤمَّد، له أمد، وهذا خلود بعض العصاة الذين عظُمَت جرائمهم وفحُشَت أو كَثُرت.

كالقاتل أخبر الله أنه مخلد لكن خلوده له نهاية وذلك أنه لم يستحل القتل، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَمْ يَذْكُرْ: (أَبَدًا) . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ لَفْظَ " التَّأْبِيدِ " لَمْ يَجِئْ إلَّا مَعَ الْكُفْرِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان:27-29].

فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالرَّسُولِ" فإن الظالم يتناول الكفر ويتناول ما دون ذلك، فالكافر يعض على يديه والكافر ظالم، فهو لم يتبع الرسول، ولهذا صارت الآية تتناول الكافر الذي لم يؤمن بالرسول.

يقول المؤلف: "وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ " الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ " يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَيَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ بِحَسَبِهِ" وهذا ظلم مطلق، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان:27]، يشمل الكافر في الشرك ويشمل الظالم فيما دون الشرك.

"فَمَنْ خَالَّ مَخْلُوقًا فِي خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ نَصِيبٌ" من خاله أي أحبه، الخله أعلى درجة المحبه من أحب شخصًا حبًّا وصل إلى درجة الخُلَّة بخلاف أمر الله ورسوله فله نصيب من هذا الوعيد يعني يشمله هذا الوعيد ويقول يوم القيامة يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)} [الفرقان:28]، كما قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].

 الأخلاء يعني المتحابون، تنقلب محبتهم وخلتهم إلى عداوة في وقت هم أحوج ما يكونون إليها كما قال الله تعالى: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} [البقرة:166]، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "وتقطعت بهم الأسباب" أي المودة خانتهم أحوج ما كانوا إليها.

ثم قال المؤلف: "قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ" المودَّات أي الأسباب، انقطعت، كانوا يتحابون على المعاصي أو يتحابون على الكفر أو يتحابون على الدنيا، فإنها تنقطع وتخونهم أحوج ما يكونون إليها.

 ولا يبقى إلا نوع واحد من الخلة وهي المحبة في الله، المتقون الذين يتحابون في الله، تبقى هذه المحبة وهذه المودة يوم القيامة، وما عداها فإنها تنقطع وتنقلب وتخونهم وتنقلب عداوة، كالذين يتحابون على الشرك والذين يتحابون على البدع والذين يتحابون على المعاصي كل هؤلاء تنقلب محبتهم عداوة ويتعادون فيما بينهم ويتلاعنون كما قال الله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} [العنكبوت:25].

ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِنَّ " الْمُخَالَّةَ " تَحَابٌّ وَتَوَادٌّ" يعني أن الخُلَّة، اشتقوها من الخُلَّة، ولهذا جاء في الحديث: "«الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» فَإِنَّ الْمُتَحَابَّيْنِ يُحِبُّ أَحَدُهُمَا مَا يُحِبُّ الْآخَرُ بِحَسَبِ الْحُبِّ فَإِذَا اتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ نَقَصَ مِنْ دِينِهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ" يعني أن المتاحبين على درجات إذا أحبه على معصية الله ينقص دينه بحسب هذه المحبة، وإذا أحبه على الشرك صار مشركًا، "إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].

(المتن)

وَاَلَّذِينَ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ الْمَالِ الَّذِي كَنَزُوهُ وَالْمَخْلُوقَ الَّذِي اتَّبَعُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ مَحْبُوبَهُمْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ عَدْلًا مِنِّي أَنْ أُوَلِّيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا}.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ يَقُولُ: {لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَيُمَثَّلُ لِلنَّصَارَى الْمَسِيحُ وَلِلْيَهُودِ عُزَيْرٌ. فَيَتَّبِعُ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا} كَمَا سَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ-.

فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ.

وَأَمَّا عَبِيدُ الْمَالِ الَّذِينَ كَنَزُوهُ وَعَبِيدُ الرِّجَالِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ فَأُولَئِكَ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا دُونَ عَذَابِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ؛ إمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي جَهَنَّمَ وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ.

(الشرح)

يبيِّن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ أن من قدّم محبة شيء على محبة الله ورسوله فإن حبه يختلف بحسب تقديمه هذه المحبة فإن كان الذي أحبه شركًا وكفرًا فإنه يكون مشركًا وإن كان الذي قدم المحبة دون الشرك فإنه يكون عاصيًا.

 ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَاَلَّذِينَ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ الْمَالِ الَّذِي كَنَزُوهُ وَالْمَخْلُوقَ الَّذِي اتَّبَعُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ بِحَسَبِ ذَلِكَ" أي: يكون ظالمًا ويكون مشركًا بحسب هذا الذي أحبه دون الله، وإن كان الذي أحبه دون الله لشركه، كان مشركًا، وإن أحبه محبة دون الشرك، كان عاصيًا.

يقول المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "فَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ مَحْبُوبَهُمْ" الله تعالى يُلزِمهم محبوبهم يوم القيامة ويُحشر مع نظيره، كما سبق في قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]؛ لأنهم نظراء، كلٌّ يُحشَر مع نظيره، فالمشرك مع المشرك والزاني مع الزاني، والعاصي مع العاصي.

 ولهذا ذكر المؤلِّف الحديث القدسي: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ عَدْلًا مِنِّي أَنْ أُوَلِّيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا}. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ يَقُولُ: {لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَيُمَثَّلُ لِلنَّصَارَى الْمَسِيحُ وَلِلْيَهُودِ عُزَيْرٌ، فَيَتَّبِعُ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا".. إلى آخر الحديث فيأتيهم الله.

الشاهد من الحديث أن كل من عبد شيئًا فإنه يتبعه ويكون قرينًا له كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22].

يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ" وأما من عبد شيئًا دون الشرك بالله، فإن هؤلاء عصاةٌ لهم حكم أهل المعاصي، ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَمَّا عَبِيدُ الْمَالِ الَّذِينَ كَنَزُوهُ، وَعَبِيدُ الرِّجَالِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ؛ فَأُولَئِكَ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا دُونَ عَذَابِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِين"؛ لأن معصيتهم دون الشرك، فمن أشرك بالله فحُكمه حكم المشركين وهو مع المشركين، ومن عبد ما دون ذلك فهو عاص له حكم العصاة.

ويعذَّب بمعصيته "إمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي جَهَنَّمَ وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ" وإذا كان شيئًا دون الشرك كان تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، كما قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].

إذا مات على التوحيد ولم يشرك بالله فهذه المعصية إما أن يعفو الله عنها وإما أن يعذَّب بها في قبره أو يعذَّب بها في عرصات القيامة تصيبه أهوال وشدائد وإما أن يعذَّب في النار، وقد يُشفع فيه قبل أن يدخل النار وقد يُعذَّب ثم يخرج منها في النهاية إما بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين.

القارئ: أحسن الله إليكم، مراده إذًا أن يربط بين الألفاظ التي ذكرها في المقدمة أن حتم مآل الكافر أو الظالم أو الفاسق في يوم القيامة، هذا مراد المؤلف من هذا الاستطراد الآن؟

الشيخ: المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن أن الظلم المطلق يشمل الشرك فما دونه، والكفر المطلق كذلك، مثل مسمى الإيمان...ثم يستطرد بعد ذلك يبين ما يشمله مسمى الظلم ومسمى الشرك من المعاصي ومن الشرك.

السائل: على هذا يكون عذاب فرعون أقل أو أشد من عذاب من دونه؟

الشيخ: كما سبق أن عذاب العاصي والكافر يتفاوت بحسب معصيته وبحسب كفره وشركه فالكافر الذي يصد عن سبيل الله عذابه أشد من الكافر الذي لا يصد عن سبيل الله وفرعون إمام من أئمة أهل النار نعوذ بالله، قال الله تعالى: {) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)} [القصص:41].

وكفره من أعظم الكفر، إذ ادَّعى الربوبية وقال للناس أنا ربكم الأعلى، فلا شك أنه من أشد الكفرة عذابًا، نسأل الله السلامة والعافية.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد