شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب الإيمان الكبير
  5. شرح كتاب الإيمان الكبير_21 من قوله وَكَذَلِكَ لَفْظُ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا إذَا أُطْلِقَتْ... - إلى وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ النَّهْيَ

شرح كتاب الإيمان الكبير_21 من قوله وَكَذَلِكَ لَفْظُ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا إذَا أُطْلِقَتْ... - إلى وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ النَّهْيَ

00:00
00:00
تحميل
21

(المتن)

وَكَذَلِكَ لَفْظُ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا إذَا أُطْلِقَتْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121]، تَنَاوَلَتْ الْعَمَلَ بِهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ.

وَقِيلَ: هُوَ مِن التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا [الشمس:2]، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَن لَمْ يَقْرَأْهُ وَقِيلَ: بَلْ مِنْ تَمَامِ قِرَاءَتِهِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَاهُ وَيَعْمَلَ بِهِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ ﷺ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.

وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121]، قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَفُسِّرَ بِالتَّوْرَاةِ.

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121]، قَالَ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ.

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121]، قَالَ: يُحِلُّونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ.

وَعَنْ قتادة: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] قَالَ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ آمَنُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَصَدَّقُوا بِهِ أَحَلُّوا حَلَالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ وَعَمِلُوا بِمَا فِيهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ إنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ: أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ وَأَنْ نَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا نُحَرِّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ.

وَعَنْ الْحَسَنِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة: 121]، قَالَ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَكِلُونَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إلَى عَالِمِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ.

(الشرح)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد سبق أن بيَّن المؤلف رحمه الله في الحلقة السابقة أن مسمى الإيمان تختلف دلالته بالإطلاق والاقتران، وأنه إذا أُطلق فإنه يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، وإذا قرن بغيره فإنه تختلف الدلالة، فقد يكون المعطوف عليه داخلًا عند بعض العلماء، وقد لا يكون داخلًا عند بعض العلماء ويكون لازمًا، وقد لا يكون داخلًا ولا لازمًا عند آخرين من أهل العلم.

 فدل هذا على أن اسم الإيمان إذا أُطلق فإنه يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن مسمى الإيمان هو التصديق، وهذا باطل، ترُدُّه دلالات الكتاب والسنة.

 وبيَّن المؤلف رحمه الله أيضًا ألفاظًا أخرى مثل الإيمان، تختلف دلالتها بالإطلاق والاقتران، مثل لفظ البر، لفظ التقوى، لفظ الهدى، لفظ العبادة، لفظ الضلال، لفظ المنكر، لفظ المعروف، لفظ التلاوة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله هنا: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ التِّلَاوَةِ" هذه من الأمثلة التي تختلف دلالتها بالإطلاق والاقتران، " وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التِّلَاوَةِ " فَإِنَّهَا إذَا أُطْلِقَتْ تَنَاوَلَتْ الْعَمَلَ بِهِ" إذا أُطلق لفظ التلاوة يتناول تلاوة القرآن والعمل به، كما في "قَوْلِهِ تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121]" المراد: يعملون به.

 كما يقول المؤلف رحمه الله: فسره بذلك يقول: "كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ" فإذَا التلاوة، إذا أطلقت، فإنها تشمل العلم والعمل، القراءة والعمل؛ كما أثنى الله تعالى على أهل الكتاب العاملين بكتابهم، بما أنزل الله عليهم في كتابهم قال: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121]" يعني يعملون به، يحلون الحلال ويحرمون الحرام، هذا أحد القولين في معنى التلاوة.

والقول الثاني أن معنى التلاوة: هو الاتباع، يعني اتباع أهل الحق، ومثَّل المؤلف رحمه الله فقال: "كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا [الشمس:2]" يعني إذا تبعها، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا [الشمس:1-2]، يعني تبعها، وهو مِن الاتباع، ومنه ما جاء في الحديث: في قصة الرَّجُل الذِي إِذَا وُضِعَ فِي قَبرِه، الرَّجُل الُمَعذَّب الذِي وُضِعَ فِي قَبرِهِ وَيُسأَل عَن رَبِّه وعَن نَبيِّه وَعَن دِينِه فَلَا يُجِيب، فَيُضرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِن حَدِيد، فَيَقُول المَلَك: لَا دَرَيتَ وَلَا تَلَيتَ.([1])، لَا دَرَيتَ أي: لا علمت الحق بنفسك، وَلَا تَلَيتَ: لا تبعت مَن يعمل بالحق.

 فهذا الاتباع، الحديث مثال لهذا الاتباع، لفظ الاتباع، لَا دَرَيتَ وَلَا تَلَيتَ. لا علمت الحق بنفسك ولا تبعت مَن يعمل به، فهذا القول الثاني في معنى التلاوة.

القول الأول: أنه معنى التلاوة العمل، والقول الثاني: الاتباع.

 يقول المؤلف رحمه الله: وعلى هذا القول (الاتباع) " يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ" حتى الذي لا يقرأ القرآن إذا عمل به، اتبع مَن يعمل به، فإنه داخل في ذلك، وقيل: إن مِن تمام القراءة، فهم معانيه والعمل به، واستدل بقول أبي عبد الرحمن السلمي الصحابي الجليل قال: "حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ ﷺ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا" هذا وصف الصحابة رضوان الله عليهم.

 الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون ويعملون، ولا يتجاوزون الآيات حتى يتعلموا معانيها والعمل بها، ويُسَمَّون القراء، القُراء في الصدر الأول المراد بهم العلماء؛ لأنه ليس هناك قُراء، قارئ بغير علم، فهم العلماء وهم الفقهاء وهم القُراء، بخلاف العصور المتأخرة؛ فإن الناس انقسموا قسمين: قراء، وفقهاء، فبعض القراء قد لا يفقه، هذا ليس موجود في عصر الصحابة في العصر الأول، القراء هم العلماء، كما جاء عن عمر  أن القراء كانوا أصحاب مجالس عمر شبابًا أو كهولًا، فهم أصحاب مجالس عمر، يعني القراء الذين يعلمون ويعملون، العلماء والفقهاء.

القارئ: السُّلَمي أحسن الله إليك هذا الذي يرجع إليه الصوفية كثيرًا أم سُلَمي غيره؟

الشيخ: لا هذا مِن التابعين هذا.

القارئ: اللي يأخذون منه أبيات في أحد الطبقات؟

الشيخ: لا هذاك متأخر، هذا تابعي، التابعي الجليل المعروف، يأخذ عن عثمان وعن عبد الله بن مسعود، مِن التابعين، .

والمؤلف رحمه الله بيَّن أيضًا معنى الآية في قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121] نظرًا للكتاب، قال: "فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَفُسِّرَ بِالتَّوْرَاةِ" ونقل عن ابن عباس ، قال: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة:121]، قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، ونقل عن ابن عباس أيضًا قال: "يُحِلُّونَ حَلَالَهُ. وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ" وعن قتادة أنه قال في هذه الآية: قال: " أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ آمَنُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَصَدَّقُوا بِهِ أَحَلُّوا حَلَالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ وَعَمِلُوا بِمَا فِيهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: إنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ: أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ وَأَنْ نَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا نُحَرِّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَنْ الْحَسَنِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَكِلُونَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إلَى عَالِمِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ".

 هذه المعاني كلها حق، وهذا مِن تفسير الشيء ببعضه، هذه الأقوال كلها حق، التي تُقال عن الصحابة، في مثل هذه الآية وأمثالها، كلها حق، ومن عادة الصحابة والعلماء والتابعين أن يفسروا الشيء ببعضه، ببعض ما دل عليه، والآية شاملة لهذه المعاني كلها، يتلونه، يعملون به، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويتبعونه حق اتباعه، ولا يحرفونه عن مواضعه، كل هذا داخلٌ في اتباعه؛ لأن هذه الأمور كلها داخلة في مَن يتلونه حق تلاوته.

(المتن)

ثُمَّ قَدْ يَقْرِنُ بِالتِّلَاوَةِ غَيْرَهَا كَقَوْلِهِ: اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: تِلَاوَةُ الْكِتَابِ: الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ كُلِّهَا ثُمَّ خُصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [الأعراف:170]، وَقَوْلِهِ: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه:14].

وَكَذَلِكَ لَفْظُ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، وَقَوْلِهِ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه:123]، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، وَقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:109].

وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْأَبْرَارِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَإِذَا قُرِنَ بِالْمُقَرَّبِينَ كَانَ أَخَصَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وَقَالَ فِي الثَّانِي: كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ۝ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ۝ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21]، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: مُسمى التلاوة إذا أُطلِق فإنه يشمل العلم والعمل، وقد يقرِن التلاوة بغيره؛ فتختلف الدلالة كما سبق، مثال ذلك قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

 فعطف إقام الصلاة على التلاوة فاختلفت الدلالة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: تِلَاوَةُ الْكِتَابِ: الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ كُلِّهَا ثُمَّ خُصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ" فيكون هذا مِن عطف الخاص على العام على أحد الأقوال؛ لأن الصلاة داخلة في العمل بطاعة الله، فهنا التلاوة عُطف عليها غيرها، وكما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ فعطف إقام الصلاة على التمسك بالكتاب، وإقام الصلاة داخل في التمسك بالكتاب.

 ومثله قوله تعالى: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، عطف الصلاة على العبادة، وهي داخلة في العبادة، وكذلك لفظ اتباع ما أنزل الله، يتناول جميع الطاعات إذا أُطلق، وقد عُطف عليه غيره، كما في قوله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، فقوله: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ: يتناول جميع الطاعات مِن فعل الأوامر وترك النواهي.

 ومثله قوله تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه:123] مَن اتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقى؛ لأنه مهتدي، الذي اتبع هدى الله، هو الموحِّد لله، الذي أخلص لله العبادة وأدى الواجبات وترك المحرمات، هذا منفيٌ عنه الضلال والشقاوة.

ومثله قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فمن اتبع سبيل الله، فالمتبع سبيل الله هو الموحد، الذي أدَّى الواجبات وترك المحرمات.

 يقول المؤلف: "وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ غَيْرَهُ" يعني اتباع ما أنزل الله قد يُقرن به غيره فتختلف الدلالة كَقَوْلِهِ سبحانه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، فعطف التقوى على الاتباع، اتباع ما أنزل الله يشمل فعل الأوامر وترك النواهي.

 والتقوى كذلك إذا أُطلقت؛ تشمل فعل الأوامر وترك النواهي، لما عَطف التقوى على الاتباع اختلفت الدلالة فقد يقال: إن الاتباع هنا فعل الأوامر، والتقوى ترك النواهي، ومثله قوله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106] عَطف على اتباع الوحي الإعراض عن المشركين، اختلفت الدلالة، وإذا أُطلق اتباع الوحي؛ فإنه يدخل فيه الإعراض عن المشركين.

 ومثله قوله تعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:109]، فعَطف الصبر على اتباع الوحي، واتباع الوحي يدخل فيه الصبر، لكن لما عُطف عليه اختلفت الدلالة، ومن الأمثلة أيضًا: أمثلة الأسماء المطلقة التي تختلف دلالتها بالإطلاق والاقتران؛ لفظ الأبرار.

 فلفظ الأبرار إذا أُطلق يقول المؤلف: "دَخَلَ فِيهِ كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَإِذَا قُرِنَ بِالْمُقَرَّبِينَ كَانَ أَخَصَّ" المعنى: أن الناس المؤمنين ثلاث طبقات؛ الطبقة الأولى: السابقون، المقربون الذين أدَّوا الفرائض، وحدوا الله، وأخلصوا العبادة، وأدوا الفرائض والواجبات، وكان عندهم نشاط ففعلوا النوافل والمستحبات، وتركوا المحرمات والمنهيات، وكان عندهم نشاط فتركوا المكروهات والتوسع في المباحات، هؤلاء هم السابقون، يقال لهم: السابقون المقربون.

والطبقة الثانية: مِن المؤمنين المقتصدون، الذين أدوا الفرائض والواجبات، ووقفوا عند هذا الحد، ولم يكن عندهم نشاط لفعل المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات والمنهيات ووقفوا عند هذا الحد، ولم يكن عندهم نشاط في ترك المكروهات والتوسع في المباحات، قد يفعلون المكروهات كراهة تنزيه وقد يتوسعون في المباحات.

والطبقة الثالثة مِن الناس: مِن المؤمنين الظالمين لأنفسهم، الذين وحدوا الله بالعبادة ولم يفعلوا شيئًا مِن الشرك لكنهم؛ قصروا في بعض الواجبات، ظلموا أنفسهم بترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات.

فالأبرار، إذا أُطلق لفظ الأبرار يشمل القسمين؛ يشمل المقتصدين، ويشمل السابقين المقربين، وإذا قُرن بينهما؛ صار لفظ الأبرار خاص بالمقتصدين، واللفظ الثاني: صار خاصًّا بالسابقين.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْأَبْرَارِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ" يعني مِن السابقين الذين أدوا الواجبات والنوافل، وتركوا المحرمات والمنهيات، ويشمل المقتصدين الذين اقتصروا على فعل الواجبات وترك النواهي،" وَإِذَا قُرِنَ بِالْمُقَرَّبِينَ كَانَ أَخَصَّ" إذا قُرن الأبرار بالمقربين، صار المقربون هم الذين أدوا الواجبات والنوافل وتركوا المحرمات والمكروهات والتوسع في المباحات، وصار لفظ الأبرار خاص بالمقتصدين الذين فعلوا الأوامر وتركوا النواهي ووقفوا عند هذا الحد.

مثال الأول: الإطلاق؛ قال الله تعالى: إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14] الأبرار يشمل المقتصدين ويشمل السابقين، ومثال الثاني إذا قُرن بينهما قوله تعالى: إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ۝ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ۝ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21].

المقربون هم السابقون، وأما الأبرار المراد به المقتصدين؛ لأنه قرن بينه وبين المقربين، يقول المؤلف: " وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ" يعني الألفاظ، الأسماء العامة التي تختلف دلالتها بالاقتران والتجرد، يعني إذا قُرنت بغيرها صار لها معنى، وإذا أُطلقت صار لها معنى، ألفاظٌ كثيرة.

يقول: لو أردنا أن نستقصي هذا لطال بنا المقام، وقد سرد المؤلف رحمه الله ألفاظ كثيرة، ذكر مسمى الإيمان، مسمى البر، مسمى التقوى، مسمى العبادة، مسمى الهدى، مسمى الضلال، مسمى المنكر، مسمى المعروف، مسمى التلاوة، مسمى الطاعة، مسمى العبادة، هذه كلها ألفاظ تختلف دلالتها إذا أُطلقت عن دلالتها إذا قُرنت بغيرها.

(المتن)

وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ مِنْ جُمْلَتِهَا مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ وَصَارُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ شَرْحِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى كُلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ لَا بِذِكْرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ بِلَا دَلِيلٍ وَتُرَدُّ بِلَا دَلِيلٍ أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهَا نَصْرَ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَقْصِدَ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعُهُ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: "وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ".

مِن أنفع الأمور؛ أن يدرس الإنسان الكتاب والسنة، ويجمع بين النصوص، حتى يعرف دلالة الألفاظ، ويكون ذلك سبيلًا ووسيلةً إلى معرفة كلام الله وكلام رسوله.

 يعني مِن أنفع الأمور أن الإنسان يعتني بدلالة الألفاظ، يعرف دلالة الألفاظ؛ حتى يفسر كلام الله وكلام رسوله بمراد الله ومراد رسوله ﷺ، وبهذا تزول الشبهات الكثيرة التي كَثُر فيها النزاع، -كأن الكلام فيه تقدير- مِن أنفع الأمور أن يعرف الإنسان دلالة الألفاظ مطلقًا وخصوصًا ألفاظ الكتاب والسنة، يعني ينبغي لطالب العلم أن يعرف دلالات الألفاظ جميعًا وأنفعها وأخصها ألفاظ الكتاب والسنة.

 يعني ينبغي لطالب العلم أن يعرف دلالات الألفاظ مطلقًا سواء كانت في الكتاب أو في السنة، لكن يعتني بألفاظ الكتاب والسنة؛ حتى تزول الشبهات الكثيرة، التي كثر فيها النزاع، يقول المؤلف رحمه الله: "مِنْ جُمْلَتِهَا " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ" وهو مذهب الخوارج.

 فإن الخوارج أول نشأتهم الرجل الذي اعترض على النبي ﷺ في إحدى الغزوات؛ لما قسم بعض الغنائم وقال: «يَا مُحمَّد: اعدِل فَإِنَّك لَم تَعدِل، فَقَال لَه النَّبي ﷺ: وَيْلَك! لَقَد خِبتَ وَخَسِرتَ، مَن يعدل إِذا لَم يَعْدِل اللهُ وَرَسُولُه، فَاسْتَأذَن خَاِلد ه في قَتلَهُ، فقَال للرَّسُول ﷺ: دَعنِي أَضرِب عُنُق هذا، فَلَم يَأَذَن لَهُ النَّبي ﷺ وَقَال: يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئ هَذَا قَومٌ تَحْقِرُونَ صَلَاَتُكم عِندَ صَلَاتِهِم وَصِيَامَكُم عِندَ صِيَامِهِم، يَمرُقَونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّة.([2]): هم الخوارج.

 هذا منشأ الخوارج، أول نشأة الخوارج هذا الرجل الذي اعترض على النبي ﷺ: "يخرج مِن ضئضئ هذا" قيل: مِن نسله وقيل: مِن شكله، المعنى يعني مِن شكل هذا أو مِن نسله، قومٌ هم الخوارج الذين يكفرون الناس بالمعاصي، ويرون أن المسلم إذا فعل كبيرة كَفَر، فكفَّروا الناس.

 الزاني يكفُر، والسارق يكفُر، والعاقّ لوالديه يكفُر، وشارب الخمر يكفُر، وقاطع الرحم يكفُر، يُخرجونه مُسمى الإيمان ومسمى الإسلام، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: إذا عَرف الإنسان دلالات الألفاظ، وخصوصًا ألفاظ الكتاب والسنة، زالت عنه شبهاتٌ كثيرة، كَثُر فيها نزاع الناس، ومن جملتها مسألة الإيمان والإسلام.

 إذا عرف الإنسان مُسمى الإيمان ومُسمى الإسلام، ما يقع في عقيدة الخوارج وفي مذهب الخوارج، الخوارج لم يفهموا دلالات الألفاظ، فظنوا أن الإنسان إذا فعل معصية فإنه يكفُر، ولم يجمعوا بين النصوص، وأخذوا ببعض النصوص وتركوا بعضها، ولم يجمعوا بين النصوص.

 فاحتجوا بمثل قول النبي ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي َوهُوَ مُؤمِن، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِن([3])، فقالوا: إن الزاني كافرٌ، خرج مِن الإيمان ودخل في الكُفْر، والسارق خرج مِن الإيمان ودخل في الكُفْر؛ وسبب ذلك أنهم لم يعرفوا دلالات الألفاظ، ولم يجمعوا بين النصوص، وأخذوا ببعض النصوص دون بعض، فوقعوا في هذه العقيدة الخبيثة، وهي عقيدة الخوارج وكفَّروا المسلمين بالمعاصي.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ" في عصر الصحابة تجمَّع الخوارج وتجمهروا، وكانوا عددًا كثيرًا، واعترضوا على أمير المؤمنين علي وكفَّروه، وكفروا معاوية؛ حتى قتلهم أمير المؤمنين ، حصل بينه وبينهم مقتَلَة، بسبب عدم فهمهم لدلالات الألفاظ، وعدم جمعهم بين النصوص، وأخْذِهم للنصوص دون بعض، هذا مِن قلة البصيرة وقلة العلم.

 وما أشبه الليلة بالبارحة! فإن في هذا الزمن، كَثُر التكفير مِن كثيرٍ مِن الشباب الذين يكفرون الناس، بل إن بعضهم يُكَفِّر العلماء، وصاروا يهرفون بما لا يعرفون، ويتكلَّمون في الصحف، وفي المجلات، وفي المجالس، وفي الشبكة المعلوماتية وهي ما يسمى بالإنترنت وغيرها، وصاروا يُكَفرِّون الناس، ويحكمون على الناس بالكُفْر.

 وبعضهم يحكم على العلماء وهم صغارٌ سفهاء الأحلام، صغار الأسنان كما قال النبي ﷺ في وصفهم إِنَّهُم سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ([4])، يعني أسنانهم حديثة، شبابٌ صغار، وأحلامهم (عقولهم) ضعيفة، يقولون مِن خير البرية يمرقون مِن الدين كما يمرق السهم مِن الرمية.

 فالواجب على الشباب وعلى المسلم خصوصًا؛ أن يتعلم، وأن يتفقه، وأن يتبصر، وأن يسأل أهل العلم، وأن يحضر مجالس أهل العلم، ويتبصر ويتفقه في دين الله، ويقرأ كتب أهل العلم المعتبرين، ويسأل عما أشكل عليه، ويتهم نفسه، ولا يتسرع، وليس للإنسان أن يتكلَّم في هذا السن، ولا يتكلَّم في الأحكام، هذه ليست له، ليست للصغار، هذه لأهل العلم والبصيرة، أنت لا زلت تطلب العلم وتتعلم.

 حديث السن عليك أن تتعلم، وتتفقه، وتتبصر، أما الأحكام، إصدار الأحكام فهي لأهل العلم، الراسخون في العلم، ليست لك ولا لأمثالك، فننصح الشباب، المسلمين عمومًا والشباب خصوصًا؛ أن يتفقهوا في دينهم، وأن يتبصروا، وأن يتعلموا على أهل العلم، أهل البصيرة، وليس كل واحدٍ يُؤخَذ عنه العلم، إن هذا دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.

 وأن يتهم الإنسان نفسه، وألا يتسرع، وألا يحكم على أحد، وأن يكون متواضعًا لنصوص الكتاب والسنة، وأن يحذر مِن الجُرأة على الله وعلى رسوله بالأحكام، حتى لا تزلَّ بهم قدم، هذا موضعٌ زلت فيه الأقدام في هذا الزمن؛ فإنه يوجد طائفةٌ مِن الشباب كبيرة؛ اعتنقوا مذهب الخوارج، فانطبقت عليهم الأوصاف، التي دلَّت عليها النصوص؛ فهم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يأخذون بعض النصوص ويتركون بعضها، ويحكمون على الناس بأحكام لا تصدر عن علمٍ ولا عن بصيرة.

 فالواجب على هذا الشاب العدول عن هذا السبيل، التوقف وعدم الكلام، وأن يحفظ لسانه عما يكون سببًا في هلاكه؛ فإنه قد يَهلك الإنسان، التكفير بغير دليل، بالهوى مزلَّة أقدام، يعني في الحديث: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِر، فَقَد بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا([5])، وفي لفظ آخر: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: يَا كَافِر أَوْ قَالَ: يَا عَدُوَّ الله وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ([6]).

 فالواجب على طلبة العلم العناية بهذا الأمر، والعناية بطلب العلم، والبعد عن الأشياء التي تكون سببًا في هلاكه، والاختلاط ببعض الشباب الذين يُضِلُّونه ويُجَرِّئُونَه على ما حرَّم الله، وأن يكون جُلَسَاؤُه مِن أهل الخير، ومن أهل التقوى، ومن الشباب الطيبين المعتدلين، وأن يرجع إلى أهل العلم في كل شيء، وأن يتهم نفسه وأن يعلم أنه لا زال في أول الطريق، وأنه ليس له أن يتكلَّم عن غير علمٍ ولا بصيرةٍ، وأنه مسؤول أمام الله ، وأن هذه مزلة عظيمة، مزلةُ أقدام، ومضلةُ أفهام.

 فالواجب الحذر، والواجب الوقوف عند الحق، عند أهل الحق، والرجوع إلى أهل الحق؛ حتى يكون الإنسان عنده علم، وعنده بصيرة، وحتى يسلم مِن تَبِعَات لسانه، ومن عثرات لسانه، التي تكون سببًا في هلاكه، نسأل الله السلامة والعافية.

(المتن)

ومِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ مِنْ جُمْلَتِهَا مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ وَصَارُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ شَرْحِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى كُلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ لَا بِذِكْرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ بِلَا دَلِيلٍ وَتُرَدُّ بِلَا دَلِيلٍ أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهَا نَصْرَ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَقْصِدَ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعُهُ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ".

(الشرح)

فإن المؤلف رحمه الله يرد على المرجئة، الذين يَرون أن مُسمَّى الإيمان مجرد التصديق، ويبيِّن لهم أن الألفاظ المطلَقة تَعُمّ، بخلاف ما إذا قُيِّدت.

 سبق أن سرد المؤلف رحمه الله ألفاظًا مطلقة وبين أنها تعمّ، مثل لفظ الإيمان، ولفظ البر، ولفظ المنكر، ولفظ الهدى، ولفظ الضلال، ولفظ العبادة وغيرها مِن الألفاظ، وكذلك اسم الفقير، واسم المسكين وغيرها مِن الألفاظ، ولفظ البر، ولفظ التقوى، كل هذه الألفاظ إذا أُطلقت فإنها تعمّ، وإذا قُيِّدت فإنها تتقيد.

 فإذا أُطلقت فإنها تعم؛ مثل لفظ الإيمان إذا أُطلق يشمل الأوامر والنواهي، فعل الأوامر وترك النواهي، وإذا قُرن بالإسلام أو قُرن بالعمل الصالح فإنه يختلف المعنى كما سبق، وكذلك لفظ الهدى، ولفظ الضلال، وكذلك لفظ التقوى إذا أُطلق يشمل فعل الأوامر وترك النواهي ولفظ البر كذلك.

 وإذا قُرن بينهما فُسِّر البر بفعل الأوامر، والتقوى باجتناب النواهي؛ فلابد مِن معرفة دلالات الألفاظ، وهذه الأسماء تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد، والتجريد والاقتران.

 فهؤلاء المرجئة، لم يعرفوا دلالات الألفاظ، وخصوصًا دلالات ألفاظ الكتاب والسنة، فإن معرفتهما يزول عن المرء به شبهاتٌ كثيرة، حصلت لكثيرٍ مِن الناس.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "ومِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ" فدلالات الألفاظ لابد بطالب العلم معرفتها فإن اللغة العربية نزل بها القرآن ويفسر بها كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وخصوصًا دلالات ألفاظ الكتاب والسنة.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "ومِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ مِنْ جُمْلَتِهَا " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ" سبق الكلام في الحلقة الماضية عن أن هذا الاختلاف هو، أن هذا النزاع إنما هو اختلافٌ في مسألة الإسلام والإيمان وقَع مِن الخوارج في العصر الأول، في صدر الإسلام الأول، وأنهم لما لم يعرفوا دلالات الألفاظ فَسَّروا دلالات الألفاظ، وحملوها على غير محملها، ووقعوا في البدعة، فكفَّروا المسلمين بالمعاصي، وضربوا النصوص بعضها ببعض.

القارئ: القراءة تكون متواصلة في قوله: "ومِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا" هكذا؟

الشيخ: نعم، تكون متواصلة "مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا" يعني مطلقًا، سواء كانت في الكتاب والسنة أو في اللغة، وخصوصًا ألفاظ الكتاب والسنة، يعني الإطلاق عامّ في دلالة الألفاظ، في النصوص وفي غير النصوص، في اللغة العربية عمومًا.

القارئ: يعني خصوصًا تتبع الألفاظ، نقف عند مطلقًا ثم نكمل خصوصًا الكتاب والسنة.

الشيخ: إي نعم "مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا، وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".

يعني دلالات الألفاظ مفيدٌ لطالب العلم في اللغة العربية؛ لأن اللغة العربية نزل بها القرآن والسنة، وخصوصًا ألفاظ الكتاب والسنة؛ مثل لفظ الإيمان، ولفظ الإسلام، ولفظ الدين، ولفظ البر، ولفظ التقوى، ولفظ المنكر، لفظ الإثم، لفظ المعروف، لفظ الفقير، لفظ المسكين، لفظ العبادة.

 هذه الألفاظ يعني لابد مِن العناية بها؛ لأنها وردت في النصوص فلابد أن يعرف المسلم دلالة الألفاظ حتى لا تزل به قدمٌ، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ مِنْ جُمْلَتِهَا " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ" يَقصِد الخوارج.

 كما سبق في الحلقة الماضية، فإن الخوارج حملوا النصوص التي وردت في أهل الكبائر؛ حملوها على، جعلوا أهل الكبائر المؤمنين العصاة، جعلوهم، حملوا النصوص التي وردت فيهم وحملوها، وجعلوها في الكفار.

 يعني النصوص التي وردت في التحذير مِن الكبائر وفي بيان المعاصي والكبائر، للتحذير منها، ونفي الإيمان عن صاحبها، حملوها، جعلوها، يعني حملوا هذه النصوص على المسلمين، وجعلوهم كفَّارًا، كما هو معروف مِن مذهب الخوارج، استدلوا بمثل قوله ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤمِن، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهوَ مُؤْمِن([7])، على أن العاصي خارج مِن ملة الإسلام، خرج مِن الإيمان، وهذا مُقيد، النصوص مُقيدٌ بعضه إلى ببعض، المراد نفي كمال الإيمان؛ وليس المراد نفي أصل الإيمان.

 مِن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، خلدوا أهل الكبائر في النار؛ بسبب عدم معرفتهم بدلالات الألفاظ، وبسبب كونهم لم يجمعوا بين النصوص، ولم يضموا بعضها إلى بعض؛ ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: "وَصَارُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ شَرْحِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى كُلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ"، يعني المقصود هنا: شرح كلام الله وكلام رسوله في دلالات الألفاظ، على وجهٍ يتبين الهدى مِن الضلال، على وجهٍ يبيِّن أن الهدى مقصودٌ مِن كلام الله ورسوله، بإقامة الدلائل الدالة عليه.

 بإقامة الأدلة "لَا بِذِكْرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ بِلَا دَلِيلٍ وَتُرَدُّ بِلَا دَلِيل" بل العمدة إنما هو على الدليل مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فالنبي ﷺ قال: لَا يُؤمِن أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِه([8])، وقال: لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤمِن([9]) المراد به: نَفيُ كمال الإيمان، والنصوص كثيرةٌ لإثبات الإيمان للعصاة كقوله في القاتل: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، فجعل للقاتل أخًا للمقتول، وهذه أخوة الإيمان، قال في المتقاتلين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].

 وفي الحديث الآخر قال: فَلَا تَرجِعُوا بَعدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعضُكُم رِقَابَ بَعضٍ([10])، هذا كفْر لا يخرج مِن الملة، ولكنه ينقص الإيمان ويضعف الإيمان، فأهل السنة والجماعة ضموا النصوص بعضها إلى بعض، وعملوا بالنصوص مِن الجانبين فهداهم الله I لمعرفة الحق، وأما أهل البدع فإنهم أخذوا ببعض النصوص وتركوا البعض الآخر، ولم يعرفوا دلالات الألفاظ فوقعوا في البدع.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ شَرْحِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى كُلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ لَا بِذِكْرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ بِلَا دَلِيلٍ وَتُرَدُّ بِلَا دَلِيلٍ أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهَا نَصْرَ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ" يعني المقصود مِن هنا: شرح كلام الله وكلام رسوله، وإقامة الدليل، وعلى الأخص مِن كلام الله وكلام رسوله، لا مِن كلام الأقوال، ويكون المُحتَج والمناظِر يقصد بها نصر دين الله ودين رسوله ﷺ، ولا يكون يقصد بها قصدًا آخر؛ بأن يقصد بها الانتصار لنفسه أو الانتصار لطائفة، أو فرقة معينة، وإنما يقصد نصر دين الله ودين رسوله ﷺ.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَقْصِدَ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعُهُ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" هكذا المؤمن الموَفَّق؛ لأن يكون هذا قصده، قصده معرفة الحق بدليله، وينتصر لدين الله ولدين رسوله ﷺ، ولا ينتصر لنفسه ولا ينتصر لطائفة أو فرقة معينة، وإنما ينتصر لدين الله ودين رسوله ﷺ، ويكون دليله مِن كلام الله وكلام رسوله ﷺ.

(المتن)

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ، فَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ.

وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ، فَإِذَا قَالُوا: قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا؛ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ.

(الشرح)

نعم، يقول المؤلف في هذا الباب: باب معرفة دلالات الألفاظ، "أَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ"؛ لأن الإيمان لفظ مُطلق؛ فهو يشمل تصديق القول، وهو قول القلب، تصديقه وإقراره، ويشمل قول اللسان وهو النطق، ويشمل أعمال القلوب؛ النية والإخلاص والصدق والمحبة، ويشمل أعمال الجوارح؛ فلهذا فسَّر السلف الإيمان بما يدل على شمول هذا اللفظ.

 "فَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ".

وإذا قالوا: قولٌ وعمل، يقصدون: قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح، فقول القلب هو التصديق والإقرار، وقول اللسان هو النطق، وعمل القلب هو النية والإخلاص والصدق والمحبة، وعمل الجوارح معروف، "وَتَارَةً يَقُولُونَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ" قولٌ باللسان وهو التصديق والإقرار واعتقاد القلب، وعملٌ بالجوارح، وكذلك قولٌ باللسان واعتقادٌ بالقلب وعملٌ الجوارح، وعمل القلب أيضًا داخلٌ في اعتقاد القلب.

يقول المؤلف: " وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ" يعني هذه التعاريف كلها صحيحة، " فَإِذَا قَالُوا: قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا؛ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ".

(المتن)

وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ؛ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا.

وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ النُّحَاةِ؛ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَلْفَاظِ.

وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة، وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ تَقُومُ بِهِمْ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْمُتكلَّم بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْقُرْآنِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ عِنْدَهُ بِاَللَّهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَهُ وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ.

(الشرح)

نعم المؤلف رحمه الله يبيِّن أن من هذا الباب؛ وهو معرفة دلالات الألفاظ معرفة مُسمى الكلام، مُسمى القول عند الإطلاق، ما الذي يشمله؟ إذا قيل: القول أو الكلام، هل المراد به اللفظ؟ أو المراد به المعنى؟ أو المراد به اللفظ والمعنى؟ أو المراد به كلُّ مِن اللفظ وكلٌ مِن المعنى؟

 كل هذه أقوال، كلها قيلت، والصواب: أنه يُراد به اللفظ والمعنى، وأنه حقيقةٌ فيهما إذا قيل: الكلام، فهو حقيقة في اللفظ والمعنى جميعًا.

 فاللفظ جزء مِن مسماه، والمعنى جزء مِن مسماه، وإذا أُريد به اللفظ والمعنى صار مُطابَقة؛ لأن دلالة الألفاظ؛ دلالة تضمُّنية، ودلالة التزامية، ودلالة مطابقة؛ فدلالة المطابقة: دلالة اللفظ على جميع معناه، مثل دلالة الكلام على اللفظ والمعنى، ودلالة التضمن: هو دلالة الشيء على جزءٍ مِن معناه، كدلالة اللفظ على المعنى أو على المعنى، ودلالة الالتزام: هي دلالة الشيء على خارج معناه.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَ " الْقَوْلِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا" هذا هو الصواب الذي عليه الفقهاء والسلف والجمهور، وهو المفهوم مِن اللغة العربية إذا قيل: الكلام، يشمل اللفظ والمعنى.

 ذكر المؤلف لذلك نظير قال: "كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعً" إذا قيل الإنسان: المراد الروح والجسد جميعًا فلا يُسمى الإنسان الجسد بلا روح، ولا الروح بلا جسد إنسان، وإنما مُسمى الإنسان في الروح والبدن جميعًا، ثم ذكر المؤلف رحمه الله أقوالًا أخرى مخالفة للقول الصواب، والقول الصواب أن مُسمى الكلام اللفظ والمعنى جميعًا.

 "وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ" هذا قول المعتزلة، قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ"؛ لأن المعتزلة بنَوا اختيارهم هذا على مذهبهم، يعني يرون أن اللفظ هو المعتبر والمعنى تابع.

 وأما الأشاعرة فإنهم بالعكس على حسب مذهبهم؛ والأشاعرة يرون أن مسمى الكلام المعنى فقط؛ لأنهم يقولون: كلام الله هو المعنى، واللفظ الله تعالى لا يتكلَّم، كلام الله لا يتكون مِن ألفاظ وحروف، وأما المعتزلة فيرون أنه الأصل هو اللفظ، على حسب مذاهبهم.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: إن المعتزلة، كثيرٌ مِن المعتزلة يرون أن مسمى الكلام هو اللفظ، دون المعنى، ووافقهم في هذا طائفة مِن المنتسبين إلى السنة "وَهُوَ قَوْلُ النُّحَاةِ؛ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَلْفَاظِ" النحاة عملهم بالألفاظ، وصناعتهم إنما تتعلق بالألفاظ؛ فلهذا رأوا أن مسمى الكلام هو اللفظ.

 "وَقِيلَ: بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ" وهو قول الأشاعرة؛ ولهذا قالوا: إن القرآن كلام الله المعنى فقط، وأما اللفظ فليس مِن كلام الله وقالوا: إن اللفظ إنما هو تأدى به كلام الله، فهو مِن كلام جبريل أو مِن كلام محمد عليهما الصلاة والسلام.

 وقالوا: إن اللفظ إنما هو تأدى به كلام الله، فهو مِن كلام جبريل أو مِن كلام محمد عليهما الصلاة والسلام، وقالوا: إن المعنى قائم بنفس الرب؛ فالله تعالى اضطر جبريل ففهم المعنى بنفسه، فعبر عنه محمد أو جبريل عليهما الصلاة والسلام.

 ومنهم مَن قال: أن جبريل أخذه مِن اللوح المحفوظ، وأنكروا أن يكون الله تكلَّم، نعوذ بالله؛ لأنهم يقولون: لو تكلَّم لحلت الحوادث بذاته، ففروا مِن ذلك وقالوا: إن الكلام هو المعنى القائم بنفسه؛ ولهذا القول يتمشى مع مذهبهم فقالوا: الكلام هو المعنى فقط، وأما اللفظ فليس مِن كلام الله، ولهم شُبَهٌ في هذا مِن أبرز ما استدلوا به البيت المنسوب إلى الأخطل:

إِنَّ الْكَلَامَ لَفِيْ الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ الْلِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيْلًا

قالوا هذا دليلٌ على أن الكلام هو المعنى واللفظ دليلٌ عليه، وهذا قولٌ باطل سبق الكلام عليه، " وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة" يعني مشترك بين اللفظ والمعنى، فمسمى الكلام اللفظ، ومسمى الكلام المعنى، " وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ" يعني قالوا: إن الكلام حقيقةٌ في اللفظ والمعنى في كلام الآدميين، لماذا؟

 لأن حروف الآدميين تقوم بهم وهم حادثون، وتقوم بهم الحوادث؛ أما الرب فقالوا: إنه مجازٌ في كلام الله، اللفظ؛ لأنه لو كان الكلام قائمًا بالرب، اللفظ والحروف، لصار محلًا للحوادث، ففروا مِن ذلك فقالوا: إن الكلام بالنسبة إلى الرب هو المعنى وبالنسبة للآدميين اللفظ والمعنى.

القارئ: وهذا الفرق بينهم وبين المعتزلة مِن الكُلَّابية أنهم يتفقون على أنه قائم بذاته I.

الشيخ: مَن هم؟

القارئ: يعني الفرق بينهم وبين المعتزلة الكُلَّابية

الشيخ: الكُلَّابية والأشاعرة يقولون: الكلام هو المعنى فقط واللفظ مجاز، والمعتزلة بالعكس يقولون: الكلام هو، مسمى الكلام اللفظ، والمعنى مجاز.

القارئ: لكن الكلَّابية يقولون: بأنه قديم ولا متجدد؟

الشيخ: لا يقولون: اللفظ ليس مِن كلام، ليس للرب.

القارئ: يعني حتى يفروا مِن حلول الحوادث.

الشيخ: إي نعم، قالوا: ما يتكلَّم، جعلوا الرب أخرس، نعوذ بالله، ما يتكلَّم أبدًا، وإنما جبريل اضطر ففهم المعنى القائم بنفسه، قالوا: لا، ليس كلام الله لفظٌ ولا حروف، اللفظ والحروف حادثة لا تقوم إلا بالآدميين، بالمخلوقين، فقالوا: إن الكلام هو المعنى فقط.

ولهذا قالوا: إن بعضهم، بعض الأشاعرة والعياذ بالله تجرؤوا وقال: إن المصحف ليس فيه كلام الله؛ فلو داسه بقدميه نعوذ بالله ما فيه كلام الله، كلام الله هو المعنى نعوذ بالله، إيه، نسأل الله السلامة والعافية.

 هذا القول الثالث " يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ" شبهتهم يقولون: " لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ تَقُومُ بِهِمْ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْمُتكلَّم بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْقُرْآنِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ عِنْدَهُ بِاَللَّهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَهُ"، نعم.

(المتن)

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَرَادَ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ؛ وَمَنْ أَرَادَ الِاعْتِقَادَ رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَوْ خَافَ ذَلِكَ فَزَادَ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ، وَمَنْ قَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ قَالَ: الْقَوْلُ يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللِّسَانِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّيَّةُ، فَزَادَ ذَلِكَ.

وَمَنْ زَادَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَأُولَئِكَ لَمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، إنَّمَا أَرَادُوا مَا كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَكِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ؛ الَّذِينَ جَعَلُوهُ قَوْلًا فَقَطْ، فَقَالُوا: بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ.

وَاَلَّذِينَ جَعَلُوهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ؛ فَسَّرُوا مُرَادَهُمْ كَمَا سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِلَا نِيَّةٍ فَهُوَ نِفَاقٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّةً بِلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ.

(الشرح)

نعم المؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا، أو يوجه، يعني كلام العلماء في تفسير الإيمان؛ لأن العلماء اختلفوا في الألفاظ، اختلفت ألفاظهم والمُؤَدَّى واحد، منهم مَن قال: الإيمان قولٌ وعمل، ومنهم مَن قال: إن الإيمان قولٌ وعملٌ ونية، ومنهم مَن قال: قولٌ وعملٌ ونية، ومنهم مَن قال: قولٌ باللسان، وتصديقٌ بالجنان، وعملٌ بالجوارح.

 فالمؤلف يوجه هذه الأقوال، ويبيِّن أن كلها صحيحة، وأن مُؤَدَّاها شيءٌ واحد، وأنه يدخل في مسمى الإيمان قول اللسان وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَرَادَ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ" قول القلب هو التصديق والإقرار وقول اللسان هو النطق، "وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ؛ وَمَنْ أَرَادَ الِاعْتِقَادَ رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَوْ خَافَ ذَلِكَ فَزَادَ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ" مَن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يُفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف منه فزاد الاعتقاد بالقلب.

"وَمَنْ قَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ" توجيهه: يقول المؤلف رحمه الله: توجيهه "قَالَ: الْقَوْلُ يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللِّسَانِ وَأَمَّا الْعَمَلُ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّيَّةُ فَزَادَ ذَلِكَ وَمَنْ زَادَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ" وجهته قال: "فَلِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَأُولَئِكَ لَمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ" الذين قالوا: قولٌ وعمل " لَمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إنَّمَا أَرَادُوا مَا كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَلَكِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ الرَّدَّ عَلَى " الْمُرْجِئَةِ " الَّذِينَ جَعَلُوهُ قَوْلًا فَقَطْ" يعني العلماء حين قالوا: قولٌ وعمل، قولٌ وعملٌ ونيةٌ واعتقاد، أرادوا الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد قول القلب؛ وهو التصديق، فقالوا: بل هو قولٌ وعمل.

"وَاَلَّذِينَ جَعَلُوهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ" يعني قول وعمل ونية وسنة، يقول المؤلف: "فَسَّرُوا مُرَادَهُمْ كَمَا سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ" يعني: ينطق بلسانه، وقلبه مكذب؛ هذا النفاق، هذا يُخفِي الكفْر وينطق بلسانه، ما يفيده هذا، لابد مِن اعتقاد القلب، وتصديقه وإقراره.

 ولهذا قال المؤلف: "لِأَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِلَا نِيَّةٍ فَهُوَ نِفَاقٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّةً بِلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ" فالمؤلف رحمه الله وجَّه بهذا أقوال العلماء في مسمى الإيمان؛ وبين أنها كلها ترجع إلى شيءٍ واحد، وأن مسمى الإيمان عامّ يتناول قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح.

(المتن)

يقول المؤلف رحمه الله:

فصلٌ: وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُمَا وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِبَ أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ وَلَا جُزْأَهُ وَلَا يُعْرَفُ لُزُومُهُ لَهُ كَقَوْلِهِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة:4]، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:3-4]، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ.

وَيَلِيهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]،  وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [النساء:136]، فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهَذَا كُلِّهِ فَالْمَعْطُوفُ لَازِمٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لَازِمٌ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَفِي الثَّانِي نِزَاعٌ وَقَوْلُهُ: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، هُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ مَلْبُوسًا وَمَنْ كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ أَنْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا.

(الشرح)

نعم المؤلف رحمه الله يبيِّن في هذا الفصل لما، يبيِّن في هذا الفصل المعطوف والمعطوف، المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، بعد أن بين دلالات الألفاظ المطلقة، تكلَّم عن الألفاظ إذا عُطِف بعضها على بعض، فهذا مِن التقييد، فاللفظ إما أن يكون مطلق، وإما أن يكون مقيد، فالمطلق هو الذي لم يُقيَّد بشيء ولم يُعطف عليه شيء كقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19].

فالدين هنا مطلق، يشمل الأوامر والنواهي، عامّ، وأما إذا عَطف بعض، أما إذا عَطف اللفظ على غيره فإنه يكون مُقيدًا، فالمؤلف رحمه الله بيَّن في هذا الفصل ما يقابل المطلق، وهو المقيد بالعطف، قال: "وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُمَا" يعني هذه قاعدة؛ إذا عَطَف الشيء على الشيء، عُطِف شيءٌ على شيءٍ في القرآن، وفي سائر الكلام في اللغة العربية؛ فإنه يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

 لولا أن هناك مغايرة لما عطف أحدهما على الآخر، لو كان المعطوف مثل المعطوف عليه مِن جميع الوجوه؛ لما عُطف بعضه على بعض، ما يحتاج أن يعطف بعضه على بعض، فلما كان بينهما نوع، فلما كان بينهما نوعٌ مِن المغايرة عُطفَ بعضه على بعض؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُمَا وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِب".

كما تبين المؤلف رحمه الله، المغايرة قد تكون، قد يكون متباينين، قد يكونا متباينين أحدهما يباين الآخر، وقد يكون أحدهما بعض الآخر أو جُزْأَهُ، وقد يكون أحدهما لازمٌ للآخر، وقد يُعطَف لاختلاف الصفتين، وسيأتي يعني، قد يرد في الكلام العربي باختلاف اللفظين ولكنه لم يرد في النصوص.

 ولهذا قال المؤلف رحمه لله: " وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِبَ أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ وَلَا جُزْأَهُ" يعني يكون المعطوف يُغاير المعطوف عليه، يُغايره مِن جميع الوجوه، وليس لازمًا له ولا جزْءًا منه. نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد سبق أن بيَّنا أن المؤلف رحمه الله بيَّن دلالات الألفاظ؛ وأن الألفاظ منها ما هو مُطلق، ومنها ما هو مُقيد، وأن اللفظ المطلق يشمل، يكون عامًّا شاملًا، وأما المقيد فهو الذي عُطِف، وهو الذي عُطِف بعضه على بعض، بعض الألفاظ عُطفت على بعض، فإنه يختلف المعنى، وبين المؤلف رحمه الله أن المعطوف، أن المعطوف والمعطوف عليه بينهما مغايرة، مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه، في الحكم.

 وبيَّن أن المغايرة على مراتب، وأنه، وأن أعلى هذه المراتب أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر ولا ُجزأَه، ولا مُستلزمًا له، وقد يكون، ومن المغايرة أن يكون أحد المعطوف، أن يكون المعطوف عليه جزءًا مِن المعطوف، ومن المغايرة أن يكون لازمًا له، ومن المغايرة أن يكون مخالفًا له في الصفة، أو مخالفًا له في اللفظ، كما جاء في اللغة العربية؛ وإن كان لم يرد في النصوص، كما سَيُبيِّن المؤلف رحمه الله.

 ولهذا عقد المؤلف رحمه الله فصلًا للمغايرة، فقال: "فَصْلٌ: وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ" يعني يشتركان في الحكم ولكنَّ بينهما مغايرة، "مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُمَا" ثم قال رحمه الله: " وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِبَ أَعْلَاهَا" يعني أعلى المغايرة، " أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ" يعني المعطوف والمعطوف عليه متباينين، بينهما تبَايُن ليس بينهما تماثل.

 "أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ وَلَا جُزْأَهُ وَلَا يُعْرَفُ لُزُومُهُ لَهُ" يكون المعطوف والمعطوف عليه متباينين، ليس أحدهما هو الآخر وليس أحدهما جزء مِن الآخر، وليس أحدهما لازمًا للآخر، مثَّل المؤلف رحمه الله قال: كقول الله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة:4]، فعطْفُ الأرض على السماء؛ هذا يدل على المغايرة، مغايرة مِن جميع الوجوه، ليس الأرض هي السماء ولا جزءًا منها ولا لازمةً لها.

 ومثله أيضًا قوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، كذلك عطف جبريل على ميكال كذلك هذه مباينة تامَّة.

 ومنه قوله تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:3-4]، كذلك عطْف الإنجيل على التوراة، يقول المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ" يعني الغالب في المغايرة أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه مباينة تامَّة.

 ويليه أن يكون بينهما لزوم، يعني أن يكون المعطوف عليه لازمٌ للمعطوف، أو المعطوف لازمٌ للمعطوف عليه، يكون بينهما تلازُم، يكون المعطوف والمعطوف عليه بينهما تلازُم، مثَّل له بقول الله تعالى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، فالله تعالى نهى عن لبس الحق بالباطل، ونهى عن كتمان الحق، وبينهما تلازُم، وإن مَن لبَس الحق فقد كتم بعض الحق، ومن كتم الحق، فقد لبس الحق بالباطل.

 فالتلازم واضح، ومثله قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، عَطَف قوله: غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ على قوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بينهما تلازُم، مَن شاقَّ الرسول فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، ومن اتبع غير سبيل المؤمنين، فقد شاقَّ الرسول.

 ومثله قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [النساء:136]، مَن كفر بالله فقد كفر بملائكته وكتبه ورسله، ومن كفر بالملائكة والكتب والرسل، فقد كفر بالله، ولهذا بيَّن المؤلف رحمه الله تعالى، علق على الآية الأخيرة فقال: "فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهَذَا كُلِّهِ" يعني بالملائكة والكتب والرسل، " فَالْمَعْطُوفُ لَازِمٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ" المعطوف قوله: وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لازمٌ للمعطوف عليه هو قوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ، وهو الله .

 وكذلك أيضًا وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ معطوف على قوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ، فاتباع غير سبيل المؤمنين لازمٌ لمُشاقَّة الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: "وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لَازِمٌ" وهي قوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، "فَإِنَّهُ مَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ" المعطوف عليه لازم.

 المعطوف عليه وهو مشاقة الرسول لازمٌ لاتباع غير سبيل المؤمنين، ولهذا قال المؤلف: "فَإِنَّهُ مَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الثَّانِي نِزَاعٌ وَقَوْلُهُ: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، هُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفِيَ مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ مَلْبُوسًا"

القارئ: الثاني قصده اتباع غير سبيل المؤمنين يا شيخ؟

الشيخ: ماذا؟

القارئ: قوله: "وفي الثاني نزاع"؟

الشيخ: لا هو قال الآن: " وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لَازِمٌ" وفي الثاني يعني المعطوف، هل هو لازم للمعطوف؟

القارئ: للمعطوف عليه، يعني قصده أن من اتبع غير سبيل المؤمنين ليس بالضرورة أن يكون قد شاق الرسول.

الشيخ: فيه نزاع، يعني، لكن هنا في الآية تبين أنه مُلازمٌ له، لكن في مثل هذا فيه نزاع.

وقوله: "وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، هُنا مُتَلَازِمَان"، أما قوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ففي الثاني نزاع، اتُّفِقَ على أن المعطوف لازمٌ للمعطوف عليه، أما الثاني: وهو المعطوف عليه لازمٌ للمعطوف، هذا فيه نزاع، وأما قوله: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، هُمَا مُتَلَازِمَان مِن دون خلاف.

 وبيَّن وجه التلازم فقال: "مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ مَلْبُوسًا" هذا الجانب الأول.

والجانب الثاني: "وَمَنْ كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ أَنْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ" يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا".

المؤلف رحمه الله بيَّن أنَّ المعطوف والمعطوف عليه هنا متلازمان، بين تلازم لبس الحق بكتمان الحقِّ، وبين تلازم كتمان الحق بلبس الباطل.

(المتن)

وَهَكَذَا " أَهْلُ الْبِدَعِ " لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ.

كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد([11]). وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14]، فَلَمَّا تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اعتاضوا بِغَيْرِهِ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، أَيْ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124]، وَقَالَ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3]، فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ وَنَهَى عَمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ وَهُوَ اتِّبَاعُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدَهُمَا اتَّبَعَ الْآخَرَ وَلِهَذَا قَالَ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا سَبِيلَهُمْ كَانَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ وَاجِبٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ".

(الشرح):

نعم، المؤلف رحمه الله يُبيِّن أن أهل البدع تنطبق عليهم هذه الآية الكريمة؛ وهي قوله تعالى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، وقد بيَّن المؤلف رحمه الله؛ أن لبس الحق بالباطل لازمٌ لكتمان الحق، وكتمان الحق لازمٌ للبس الحق بالباطل.

 ومثَّل بذلك بأهل الكتاب، قال: أهل الكتاب تنطبق عليهم هذه الآية، الذين يكتمون الحق ويلبسون الحق بالباطل فهم، فمن كتم الحق، احتاج أن يُقيم موضعه باطلًا، فيلبس الحق بالباطل، فهي تنطبق على أهل الكتاب هذه الآية؛ وتنطبق على أهل البدع.

 قال المؤلف رحمه الله: "وَهَكَذَا " أَهْلُ الْبِدَعِ " لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ" فيه تلازُم، مَن ترك السنة وقع في البدعة، ومن فعل البدعة، ومن وقع في البدعة ترك السنة.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا ([12]) يقول: هذا الحديث رواه الإمام أحمد بلفظ مَا أَحدَثَ قَومٌ بِدعَةً إِلَّا رُفِعَ مِثلُهَا مِن السُّنَّة فَتَمَسُّكٌ بِسُنَّة خَيرٌ مِن إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ ([13]).

 المقصود: أن أهل البدع تنطبق عليهم هذه الآية: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]؛  لأن مَن وقع في البدعة ترك السنة ومن ترك السنة وقع في البدعة.

يقول المؤلف رحمه الله: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]، هذه في أهل الكتاب، أول الآية مِن سورة المائدة قال الله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14].

 يقول المؤلف رحمه الله: "فَلَمَّا تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ" يعني تركوا العمل بالكتاب الذي أنزله الله عليهم، اعتاضوا بغيره، فوقعت بينهم العداوة والبغضاء، فلما تركوا العمل حلَّ محله غيره، لما تركوا العمل بما أُمروا به في كتابهم؛ حلَّ محله غيره مما يخالف كتاب الله؛ فوقعت بينهم العداوة والبغضاء.

 وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، ومن يعش عن ذكر الرحمن يعني: عن الذكر الذي أنزله الرحمن، إذا أعرض عن الذكر الذي أنزله الرحمن، اعتاض عنه بأن يُقيَّض له الشيطان، وهكذا مَن ترك شيئًا لابد وأن يحلَّ محله غيره، وقال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124]، يعني مَن اتبع الهدى، هدى الله فلا يَضل، ومن أعرض عن ذكر الله فلابد أن يعتاض بغيره، فيحصل على الشقاء في الدنيا وفي الآخرة.

 ولهذا قال تعالى في المعرضين: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، وقال سبحانه: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].

علَّق المؤلف رحمه الله على هذه الآية فقال: "فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ وَنَهَى عَمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ وَهُوَ اتِّبَاعُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدَهُمَا اتَّبَعَ الْآخَرَ" يعني مَن لم يتبع ما أنزل الله لابد أن يتبع مِن دونه أولياء، يعتاض عنه بغيره.

 مثل أهل البدع إذا تركوا السنة اعتاضوا عنها بالبدعة، ومن فعل البدعة ترك السنة، وكذلك أهل الكتاب لما تركوا ما أنزل الله اعتاضوا عنه بغيره، ولهذا قال تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، يقول المؤلف: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا سَبِيلَهُمْ كَانَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ" لابد من هذا، مَن اتبع سبيل المؤمنين فإنه لا يتبع غير سبيلهم، ومن اتبع غير سبيل المؤمنين فقد خالف سبيل المؤمنين.

 ولهذا يقول المؤلف: فاستدلوا بهذه الآية "عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ وَاجِبٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ" وهذه الآية دليل أن إجماع المؤمنين، وإجماع المسلمين حجة استدل بها الأصوليون على إن إجماع العلماء حُجَّة، لقول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وهذه الآية احتج بها الأصوليون على حُجِّية الإجماع وأن الإجماع حُجَّة كما بين المؤلف رحمه الله. نعم.

القارئ: سيأتي بالثالثة والرابعة مِن درجات المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه؟

الشيخ: نعم سيأتي بها نعم.

(المتن)

وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْظُورِ، وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لَمْ يَفْعَلْ جَمِيعَ الْمَأْمُورِ، فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ، مَعَ فِعْلِهِ لِبَعْضِ مَا حَظَرَ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ كُلِّ مَا حُظِرَ مَعَ تَرْكِهِ لِبَعْضِ مَا أُمِرَ، فَإِنَّ تَرْكَ مَا حَظَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ، وَمِنْ الْمَحْظُورِ تَرْكُ الْمَأْمُورِ.

فَكُلُّ مَا شَغَلَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَكُلُّ مَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ.

وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ وَإِذَا قُيِّدَ بِالنَّهْيِ كَانَ النَّهْيُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ اجْتَنَبُوهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فَقَدْ قِيلَ: لَا يَتَعَدَّوْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقِيلَ: يَفْعَلُونَهُ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله يُبيِّن في هذا أيضًا التلازم بين فعل المأمور وترك المحظور، أنه لا يتم أحدهما بدون الآخر، كما سبق في التلازم بين المعطوف والمعطوف عليه، من التلازم بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، كذلك هنا بين التلازم بين فعل المأمور وترك المحظور، فهما متلازمان، فلا يتم فعل المأمور إلا بترك المحظور ولا يتم ترك المحظور إلا بفعل المأمور، وما المحظور؟

هي المنهيات والمحظورات التي نهى الله عنها وحظرها على عباده؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْظُورِ" يعني مَن أمره الله بأشياء ثم ترك بعضها وقع في المحظور؛ لأن الله نهاه أن يترك شيئًا مما أمره به، ومن فعل المحظور لم يفعل جميع المأمور، كذلك مَن فعل شيئًا حرمه الله عليه، فلا يقال: أنه فعل جميع ما أُمر به، بل ترك بعض المأمور؛ لأنه أُمر بترك هذا المحظور.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " الْمَأْمُورِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ فِعْلِهِ لِبَعْضِ مَا حُظِرَ" يعني لا يمكن أن يكون الإنسان، أدَّى، فعل جميع ما أمر الله به، وامتثل جميع ما أمر الله به، وهو يفعل بعض المحرمات، لا يمكن هذا، لا يُقال: لشخصٍ يفعل بعض المحرمات إنه فعل جميع الأوامر، أبدًا، لا يكون فعل جميع الأوامر إلا إذا ترك جميع النواهي.

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ كُلِّ مَا حَظَرَ مَعَ تَرْكِهِ لِبَعْضِ مَا أُمِرَ" يعني كذلك الجانب الآخر لا يمكن أن يُقال: هذا الإنسان ترك جميع المنهيات وهو يترك بعض الأوامر، لا يمكن هذا؛ لأن بينهما تلازُم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ تَرْكَ مَا حَظَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مَأْمُور" ترك ما حظر يعني ترك المنهي مِن جملة ما أُمر به، فهو منهيٌّ عن هذه الأشياء التي حرمها عليه وهو مأمورٌ بأن يتركها ويتجنبها.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْ الْمَحْظُورِ تَرْكُ الْمَأْمُورِ" فإذا ترك ما أمر الله به فقد فعل المحظور؛ لأنه منهيٌّ عنه؛ ولأنه نُهي أن يترك الأوامر، فإذا ترك الأوامر، فقد وقع في المحظور، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْ الْمَحْظُورِ تَرْكُ الْمَأْمُورِ فَكُلُّ مَا شَغَلَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ" كل شيءٍ يُشغل الإنسان عن الواجب فهو محرمٌ عليه.

 ولهذا كانت الوسائل للواجبات لها حكم الواجبات، والوسائل للمحرمات لها حكم المحرمات، فالتهيُّؤ للصلاة والاستعداد والوضوء قبل خروج الوقت هذا واجب؛ لأنه يجب عليه أن يؤدي الصلاة في وقتها، فلابد أن يتهيَّأ ويستعد قبل خروج الوقت، فقد يقول قائل: أن أوجب الله عليَّ الصلاة، أنا أتوضأ بعد خروج الوقت، نقول لا، لا تستطيع أن تؤدي المأمور، هذا المأمور، لا تستطيع أن تؤدي هذا الأمر وهو أداء الصلاة في وقتها حتى تتوضأ وتتهيأ قبل خروج الوقت، فهو وسيلة، والوسيلة للواجب واجب.

 كما ان المحرمات يجب أن يتركها، ولا يتم تركها إلا بترك الوسائل إليها، فالله تعالى حرَّم على الإنسان الزنا، ومن وسائل الزنا النظر المُحرَّم إلى المرأة الأجنبية، وتأمل محاسنها، والخلوة بها، والسفر بها بدون محرم، ومحادثتها هذه وسائل، هذه وسائل لفعل المحظور، ولا يتم ترك المحظور إلا بترك الوسائل.

 فالوسائل لها حكم الغايات، وسيلة الواجب واجب، ووسيلة المحرم محرم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَكُلُّ مَا شَغَلَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكُلُّ مَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ" ولهذا كان لفظ الأمر إذا أُطلق يتناول النهي، إذا أُطلق لفظ الأمر يتناول النهي، فالأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده، وهما متلازمان.

 ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا قُيِّدَ بِالنَّهْيِ كَانَ النَّهْيُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ" يعني أمرٌ، إذا نهي عن الشيء فإنه أمر بضده، "فَإِذَا قَالَ الله تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ اجْتَنَبُوهُ" داخل في قوله: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، يدخل في ذلك أنه إذا نهاهم عن شيء اجتنبوه، هذا داخل في كونهم لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] هذه فيها كلام، نبدأ مِن قوله وأما قوله. نعم.

(المتن)

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فَقَدْ قِيلَ: لَا يَتَعَدَّوْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقِيلَ: يَفْعَلُونَهُ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ.

وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يُؤْمَرُونَ بَلْ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27].

وَقَدْ قِيلَ: لَا يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ لَيْسَ مَا أُمِرُوا بِهِ هُنَا مَاضِيًا بَلْ الْجَمِيعُ مُسْتَقْبَلٌ فَإِنَّهُ قَالَ: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، وَمَا يُتقَي بِهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا.

وَقَدْ يُقَالُ: تَرْكُ الْمَأْمُورِ تَارَةً يَكُونُ لِمَعْصِيَةِ المأمُور وَتَارَةً يَكُونُ لِعَجْزِهِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا مُرِيدًا لَزِمَ وُجُودُ الْمَأْمُورِ الْمَقْدُورِ فَقَوْلُهُ لَا يَعْصُونَ [التحريم:6]، لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ الطَّاعَةِ.

وَقَوْلُهُ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، أَيْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ يَفْعَلُونَهُ كُلَّهُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْمَأْمُورَ بِهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنَا أَفْعَلُ مَا أُمِرْت بِهِ أَيْ أَفْعَلُهُ وَلَا أَتَعَدَّاهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، إنْ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ فِعْلٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْهَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَذْمُومِينَ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله بعد أن تكلَّم على قوله: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، وبين أنه يدخل في ذلك أنه إذا نهاهم عن شيءٍ اجتنبوه، تكلَّم على قوله تعالى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وذكر كلام أهل العلم وتوجيه الآية.

 قال: وقوله سبحانه، "وأما قوله: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فَقَدْ قِيلَ: لَا يَتَعَدَّوْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقِيلَ: يَفْعَلُونَهُ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ" يعني هذان قولان في معنى وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، إما أنهم لا يتعدون، يعني لا يتعدون الأمر، ولا يتجاوزونه إلى غيره.

 وقيل: المعنى أنهم لا يتجاوزون الوقت المحدد الذي أُمروا بفعله فيه، قيل: أنهم يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ لا يتجاوزون الأمر نفسه، وقيل: لا يتجاوزون الوقت المحدد، ولهذا قال: "يَفْعَلُونَهُ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ" ثم ذكر أيضًا احتمال هذا.

قال: "وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يُؤْمَرُونَ بَلْ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]وَقَدْ قِيلَ: لَا يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ" يعني المؤلف رحمه الله ربط بين الآيتين يعني قوله: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، والآية الأخرى، وهي قوله تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]،

"لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، وكما قيل: أن الآيتين نزلت في الملائكة، فقد قيل في الآية: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ " لَا يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ" وقد يُقال: هذا احتمال أيضًا رابع؛ أن هذه الآية خبرٌ عما سيكون، يعني في المستقبل، لا يسبقونه بالقول في المستقبل.

 "لَيْسَ مَا أُمِرُوا بِهِ هُنَا مَاضِيًا بَلْ الْجَمِيعُ مُسْتَقْبَلٌ" فإنه قال: "قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، وَمَا يُتقَي بِهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا" (قُوا) أمرٌ مِن الوقاية، وهذا إنما هو أمر في المستقبل، يعني: اجعلوا بينكم وبين الوقاية مِن النار أنفسكم وأهليكم في المستقبل.

 وقد يُقال أيضًا: هذا احتمال خامس، " تَرْكُ الْمَأْمُورِ تَارَةً يَكُونُ لِمَعْصِيَةِ المأمُور وَتَارَةً يَكُونُ لِعَجْزِهِ" ترك المأمور حينما يُؤمر الإنسان بشيءٍ ثم يتركه، إما أن يكون تركه عصيانًا أو يكون تركه عجزًا عن فعله، " فَإِذَا كَانَ قَادِرًا مُرِيدًا لَزِمَ وُجُودُ الْمَأْمُورِ الْمَقْدُورِ" إذا كان الإنسان قادر على فعل ما أُمِر به، ومُريد، عنده إرادة، عنده إرادة لامتثال أمر الله، لابد أن يُوجد المأمور المقدور.

 ولا يتخلف إلا لأحد أمرين، إما لأنه ليس عنده إرادة لعصيانه؛ أو لأنه غير قادر لعجزه، إما لعجزه أو لعصيانه، "فَقَوْلُهُ لَا يَعْصُونَ [التحريم:6]، لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ الطَّاعَةِ وَقَوْلُهُ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، أَيْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ" يعني أنهم ليسوا عاجزين وليسوا عاصين، فتوفر الأمرين.

 وإذا توفر الأمران وهو إرادة الإنسان للفعل، وقدرته عليه فلابد أن يُوجد المأمور المقدور، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " هُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يَفْعَلُونَهُ كُلَّهُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ"؛ لأنه وُجِد الأمران، القدرة والإرادة.

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ يَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْمَأْمُورَ بِهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنَا أَفْعَلُ مَا أُمِرْت بِهِ أَيْ أَفْعَلُهُ وَلَا أَتَعَدَّاهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ" يعني لا يفعل إلا المأمور، ولا يتعدَّى غيره.

 يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، إنْ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ فِعْلٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْهَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَذْمُومِينَ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ" نعم.

(المتن)

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ النَّهْيَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، أَيْ أَصْحَابَ الْأَمْرِ وَمَنْ كَانَ صَاحِبَ الْأَمْرِ كَانَ صَاحِبَ النَّهْيِ وَوَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي هَذَا وَهَذَا فَالنَّهْيُ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ.

(الشرح)

نعم، المؤلف رحمه الله يبيِّن الخلاصة في هذا، يعني في التلازم بين فعل المأمور وترك المحظور؛ يقول: أن الخلاصة: "أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ النَّهْيَ"، والنهي داخلٌ في الأمر؛ فهما متلازمان، فلفظ الأمر إذا أُطلق تناول النهي، والنهي داخلٌ في الأمر.

 ومنه قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، أي أصحاب الأمر، " وَمَنْ كَانَ صَاحِبَ الْأَمْرِ كَانَ صَاحِبَ النَّهْيِ" والأمر، فصاحب النهي هو صاحب الأمر، يعني فأنت تطيعه في الأمر وفي النهي، تطيعه إذا أمر، وتطيعه إذا نهى؛ ولهذا قال المؤلف: " وَوَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي هَذَا وَهَذَا" في (هذا) فعل الأمر (وهذا) ترك النهي، " فَالنَّهْيُ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ" كما سبق؛ فالأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي عن الشيء أمرٌ بضده، فالنهي داخل في الأمر.

(المتن)

وَقَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ۝ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:69-70]. وَهَذَا نَهْيٌ لَهُ عَنْ السُّؤَالِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ مِنْهُ ذِكْرًا.

(الشرح)

نعم، يذكر المؤلف مثال لهذا وهو قول الله تعالى لموسى في رحلته البحرية إلى الخضر ليتعلم منه، قال له: قال موسى للخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، قال له الخضر: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، فأجابه موسى فقال: سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ۝ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:69-70].

 يقول المؤلف: "وَهَذَا نَهْيٌ لَهُ عَنْ السُّؤَالِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ مِنْهُ ذِكْرًا" قال: فإن اتبعتني فلا تسألني؛ فهو الآن نهاه عن السؤال حتى يُحدِث له ذكرًا، وقد قال قبل ذلك: وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا لما قال له: وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قال له: فإن اتبعتني فلا تسألني؛ فنهاه عن السؤال وهذا مِن تمام طاعة الأمر وعدم عصيانه، ولهذا قال: " وَهَذَا نَهْيٌ لَهُ عَنْ السُّؤَالِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ مِنْهُ ذِكْرًا".


1-أخرجه البخاري في "صحيحه" (1338و 1374) من حديث أنس عن النبي ﷺ قال: العَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ﷺ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الكَافِرُ - أَوِ المُنَافِقُ - فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ.

1-أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (4351)، ومسلم في "صحيحه" برقم(1064) من حديث أبي سعيد الخدري .

([3]) – سبق تخريجه (صـ  ....)

1-أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (3611) من حديث علي بن أبي طالب قال ... سمعت رسول الله ﷺ، يقول: يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.

([5]) – أخرجه البخاري في "صحيحة" برقم (6104) ومسلم في "صحيحه" برقم (60) من حديث ابن عمر .

([6]) – أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" برقم (433) من حديث أبي ذر .

([7]) – سبق تخريجه (صـ  ....)

([8]) – سبق تخريجه (صـ  ....)

([9]) – سبق تخريجه (صـ  ....)

([10]) – أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (1741) ، ومسلم في "صحيحه" برقم (1679) من حديث أبي بكرة في حجة الوداع. وفي الباب عن: جرير البجلي، وابن عباس، وابن عمر، وهي مخرجة في الصحيحين.

([11]) – ..........................

([12]) – سبق تخريجه (ص.....)

([13]) – أخرجه أحمد في "المسند -الرسالة "برقم (16970)، والبزار كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" برقم(131)، من حديث غضيف بن الحارث الثمالي . وهو حديث ضعيف، فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف الحديث.  قال الحافظ في "التقريب": ضعيف وكان قد سرق بيته فاختلط.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد