شعار الموقع

شرح كتاب الإيمان الكبير_37 تابع النقل عن محمد بن نصر المروزي والنقل عن ابن عبد البر وأبي طالب المكي

00:00
00:00
تحميل
22

(المتن)

قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهِ كُفْرًا وَكَانَ الْعَمَلُ بِالْفَرَائِضِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا لَيْسَ بِكُفْرٍ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدْ أَقَرُّوا بِاَللَّهِ أَوَّلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا الْفَرَائِضَ الَّتِي اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ جَهْلُهُمْ بِذَلِكَ كُفْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْفَرَائِضَ فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِهَا وَالْقِيَامُ بِهَا إيمَانًا، وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهَا لِتَكْذِيبِهِ خَبَرَ اللَّهِ.

وَلَوْ لَمْ يَأْتِ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كَانَ بِجَهْلِهَا كَافِرًا، وَبَعْدَ مَجِيءِ الْخَبَرِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِالْخَبَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ بِجَهْلِهَا كَافِرًا، وَالْجَهْلُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ كُفْرٌ قَبْلَ الْخَبَرِ وَبَعْدَ الْخَبَرِ.

قَالُوا: فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا: إنَّ تَرْكَ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ كُفْرٌ؛ وَإِنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ مَعَ تَصْدِيقِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهَا كُفْرٌ؛ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ إنَّمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: كَفَّرْتنِي حَقِّي وَنِعْمَتِي، يُرِيدُ: ضَيَّعْت حَقِّي وَضَيَّعْت شُكْرَ نِعْمَتِي.

قَالُوا: وَلَنَا فِي هَذَا قُدْوَةٌ بِمَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالتَّابِعِينَ إذْ جَعَلُوا لِلْكُفْرِ فُرُوعًا دُونَ أَصْلِهِ لَا يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَثْبَتُوا لِلْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ فُرُوعًا لِلْأَصْلِ لَا يَنْقُلُ تَرْكُهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.

(الشرح)

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد:

فإن المؤلِّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نقل عن محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة أدلة العلماء من الكتاب والسُّنَّة على أن إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن العاصي والذي ترك بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرَّمات لا يُطلق عليه اسم الإيمان، ويُطلق عليه اسم الإسلام.

ثم ذكر اعتراضًا مِن المخالفين قال: كيف Hمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموه به، وأنتم تزعمون: أن أصل الإيمان في قلوبكم، يعني كيف لا تسمون العاصي مؤمنًا مع أنكم تزعمون أنه مصدِّقٌ بالله وملائكته وكُتبه ورسله؟

وأجاب ونقل المؤلف رحمه الله عن محمد بن نصر جوابين للعلماء:

الجواب الأول: أنَّ مرتكب الكبيرة مُتَوَعَّدٌ بالنار، واسم الإيمان بإطلاق اسم تزكيةٍ وثناء موعود عليه بالجنة؛ فلا يُطلق على مرتكب الكبيرة وصف الإيمان، ولأن التسمية إنما تكون على الأغلب وتسمى الأشياء بما غلب عليها؛ فيسمى الزاني فاسقًا، ويسمى والقاذف فاسقًا وشارب الخمر فاسقًا؛ لأنَّ هذا هو الذي غلب عليه.

والجواب الثاني -وهو جواب طائفةٍ أخرى من أصحاب الحديث- قالوا: نسمِّيه مسلمًا، ولا نسمِّيه مؤمنًا، ومع ذلك نسمِّيه كافرًا كُفرًا لا يُخرِج من الملة كُفْرًا عمليًّا؛ لأنَّ النبي ﷺ لَمَّا عرفنا عنه اسم الإيمان كالحديث حديث: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ ثبت له اسم الكفر، إلا أنه كفرٌ عملي لا يُخرِج من الملة؛ فنسميه مسلمًا، ونسميه كافرًا كُفرًا عمليًّا، ولا نسميه مؤمنًا.

ولا يزال المؤلف رحمه الله يذكر الجواب الثاني عن هذه الطائفة يقول: "قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهِ كُفْرًا، وَكَانَ الْعَمَلُ بِالْفَرَائِضِ إيمَانًا، وَالْجَهْلُ بِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا لَيْسَ بِكُفْرِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدْ أَقَرُّوا بِاَللَّهِ أَوَّلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا الْفَرَائِضَ الَّتِي اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ جَهْلُهُمْ بِذَلِكَ كُفْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْفَرَائِضَ فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِهَا وَالْقِيَامُ بِهَا إيمَانًا، وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهَا لِتَكْذِيبِهِ خَبَرَ اللَّهِ.

وَلَوْ لَمْ يَأْتِ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كَانَ بِجَهْلِهَا كَافِرًا وَبَعْدَ مَجِيءِ الْخَبَرِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِالْخَبَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ بِجَهْلِهَا كَافِرًا، وَالْجَهْلُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ كُفْرٌ قَبْلَ الْخَبَرِ وَبَعْدَ الْخَبَرِ".

المعنى: أن هناك فرقٌ بين الإيمان الذي هو أصلُ التصديق، والإقرار هذا يقابله الكُفر الأكبر، وأمَّا الإيمان الذي هو كمال الإيمان هذا يقابله الكفر العملي كما أقرَّ المؤلِّف رحمه الله، فإذا ترك أصل الإيمان والإقرار؛ فإنه يُطلق عليه اسم الكُفر الذي يُخرِج من الملَّة، وإذا ترك العمل والفروع؛ فإنه يُطلَق عليه اسم الكُفر العملي.

ولذلك كان العلم بالله إيمانًا والجهل به كفرًا، وكان العمل قبل أن تنزل الفرائض كان العمل بالفرائض إيمان والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر؛ لأن الإيمان هو التصديق، لأن الصحابة قد أقرُّوا وآمنوا، ولم يعلموا الفرائض، ثم نزلت الفرائض شيئًا بعد شيء.

"فَلَمْ يَكُنْ جَهْلُهُمْ بِذَلِكَ كُفْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْفَرَائِضَ فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِهَا وَالْقِيَامُ بِهَا إيمَانًا وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهَا لِتَكْذِيبِهِ"؛ التكذيب والجحود، فمَن جحد فإنه يكون كافرًا، لكن لو لم يأتِ خبر أو جهِل الخبر؛ ما يكون كافرًا بالجهل، إنما يكون كافرًا بعد مجيء الخبر وتكذيبه للخبر.

قال المؤلف رحمه الله: "قَالُوا: فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا: إنَّ تَرْكَ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ كُفْرٌ؛ وَإِنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ مَعَ تَصْدِيقِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهَا كُفْرٌ؛ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ إنَّمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَقِّ".

يعني هناك فرقٌ بين الكفرين: الكفر الأول: كفر التكذيب والجحود، وهذا إذا لم يؤمن بالله ولم يشهد لله تعالى بالوحدانية ولم يشهد لنبيه محمد ﷺ  بالرسالة؛ هذا يكون كافرًا كفرًا أكبر يُخرِج من الملة.

والثاني: كفرٌ عملي: وهو الذي يصدر من المُصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، يصدر ممن شهد لله تعالى بالوحدانية وشهد لنبيه ﷺ  بالرسالة لكنه ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات؛ فهذا كفره يكون كفرًا عمليًّا.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "قَالُوا: فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا: إنَّ تَرْكَ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ كُفْرٌ؛ وَإِنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ مَعَ تَصْدِيقِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهَا كُفْرٌ؛ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ إنَّمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: كَفَّرْتنِي حَقِّي وَنِعْمَتِي"؛ يعني: لم تؤدني حقي.

"يُرِيدُ ضَيَّعْت حَقِّي وَضَيَّعْت شُكْرَ نِعْمَتِي، قَالُوا: وَلَنَا فِي هَذَا قُدْوَةٌ بِمَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالتَّابِعِينَ؛ إذْ جَعَلُوا لِلْكُفْرِ فُرُوعًا دُونَ أَصْلِهِ لَا يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَثْبَتُوا لِلْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ فُرُوعًا لِلْأَصْلِ لَا يَنْقُلُ تَرْكُهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ".

يقول المؤلف رحمه الله في نقله الجواب عنهم أنه قالوا: إن قدوتنا في ذلك الصحابة والتابعين فإنهم جعلوا الكفر كفرين: كفرٌ أصلي: وهو الذي يقابل الإيمان، وهو التكذيب والجحود، وكفرٌ عملي: وهو الذي يكون فيه إخلالٌ بالعمل.

فالكفر الأول يُخرِج من الملة، والكفر الثاني: لا يخرِج صاحبه عن ملة الإسلام، كما أن الإيمان إيمانين: إيمانٌ أصلي: الإيمان الذي هو أصل الإقرار والتصديق، وإيمانٌ عملي، فالإيمان الذي هو الإقرار والتصديق هذا ينقل تركه عن ملة الإسلام، والإيمان العملي الذي هو إخلالٌ بالعمل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام.

ثمَّ نقل المؤلف رحمه الله نقول عن العلماء بالأسانيد تأييدًا لذلك.

(المتن)

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44].

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ هِشَامٍ ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ حجير عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ.

 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] قَالَ هِيَ بِهِ كُفْرٌ قَالَ ابْنُ طَاوُوسٍ: وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِهِ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 44] فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ: هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ.

 حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ لَيْسَ بِكُفْرِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ.

 حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله نقل تارة عن ابن عباس، وعن طاووس بن كيسان اليماني التابعي الجليل، وعن عطاء في أنَّ: الأعمال تسمَّى كفرًا، وأنَّ مَن فعل المعاصي فإنه يُطلق عليه اسم الكفر، ولكنه كُفرٌ لا يُخرِج من الملَّة، وهذا على حسب النصوص؛ لأن بعض النصوص سُميَت كفرًا، كما سبق في مَن قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ.

فالمعاصي التي سماها الله أو سماها رسوله كفرًا وليست شركًا في العبادة ولا ناقضًا من نواقض الإسلام؛ هذا الكفر العملي وكبيرة من كبائر الذنوب؛ لا تُخرِج من الملة، وإن كان أكبر من الكبائر..

فهذه الآثار نقلها المؤلف عن محمد بن نصر عن الطائفة الثانية الذين قالوا: إن المؤمن إذا فعل المعاصي والكبائر فإنه يُسمى مسلم ولا يُسمى مؤمن ويسمى كافرًا كفرًا عمليًا، من أدلتهم هذه الآثار "عَنْ هِشَامٍ ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ حجير عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، قال: لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ"، يعني ليس بالكفر الذي يخرِج من الملة ولكنه كفرٌ عملي.

وكذلك أيضًا الأثر الثاني: عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] قَالَ هِيَ بِهِ كُفْرٌ"، يعني: العمل المعصية قالوا هي به كُفر ، " قَالَ ابْنُ طَاوُوسٍ: وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ"، يعني ليس كفرًا أكبر يخرِج عن الملة، الذي يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله هذا يخرج عن الملة، ولكن هذا كفرٌ عملي.

كذلك الأثر الثالث: " عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بِهِ كَفَرَ"، يعين إذا حكم بغير ما أنزل الله في قضية من القضايا:" هُوَ بِهِ كَفَرَ" يعني هذا العمل به كُفر، " وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ".

كذلك الأثر الرابع أيضًا عن ابن عباس: " قَالَ: هُوَ بِهِ كَفَرَ"، يعني إذا حكم بغير ما أنزل الله في قضية من القضايا:"  هُوَ بِهِ كَفَرَ"، يعني هذا العمل هو به كُفر "وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ".

كذلك الأثر الرابع أيضًا عن ابن عباس قال: "قَالَ: هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ" يفرق بين الكفرين، " هُوَ بِهِ كَفَرَ"، هذا كُفر المعصية،" وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ"، هذا الكُفر الذي يقابل التفسيق وهو كُفر الجحود والتكذيب.

وكذلك الأثر الخامس وإن كان في سنده رجل مجهول قال: " عَنْ رَجُلٍ عَنْ طَاوُوسٍ"، لكن الآثار وإن كان في بعضها ضعف؛ يشد بعضها بعضًا وأولها شواهد كثيرة، شواهد من الكتاب والسنة وأقوال كثيرة، قال:" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ".

كذلك الأثر السادس: " عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ لَيْسَ بِكُفْرِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ".

وكذلك الأثر السابع:" عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ"، المعنى أن الكفر ينقسم إلى قسمين:

كُفرٌ يخرِج من الملة

وكفرٌ لا يخرِج من الملة

فالذي لا يخرِج من الملة: كفرٌ دون كفر، والظلم كذلك هو المعنى ينقسم إلى قسمين:

ظلمٌ أكبر: وهو ظلم الكفر والشرك كقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]، هذا ظلمٌ أكبر يخرِج من الملة.

والظلم الثاني: ظلم المعاصي: هذا لا يخرِج من الملة لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] الغيبة والنميمة وكما ذكر الله تعالى في سورة الحجرات لما ذكر المعاصي قال: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ هذا ظلم أصغر وهو ظلم المعاصي.

وكذلك الفسق ينقسم إلى قسمين:

فسقٌ أكبر وهو فسِق الكفر كقوله تعالى عن إبليس: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] وكما بيَّن الله تعالى الكفار وصفهم بالفسق؛ هذا فسقٌ أكبر يخرِج من الملة.

والثاني: فسقٌ أصغر وهو فسق المعاصي.

(المتن)

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالُوا: وَقَدْ صَدَقَ عَطَاءٌ قَدْ يُسَمَّى الْكَافِرُ ظَالِمًا وَيُسَمَّى الْعَاصِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظَالِمًا فَظُلْمٌ يَنْقُلُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُلْمٌ لَا يَنْقُلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] وَقَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13].

وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ بِذَلِكَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ فِيهِ فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَانْتَعَلَ وَأَخَذَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَتَى إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَيْت قَبْلُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] وَقَدْ نَرَى أَنَّا نَظْلِمُ وَنَفْعَلُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] إنَّمَا ذَلِكَ الشِّرْكُ.

(الشرح)

فهذا أيضًا من الأدلة للطائفة الثانية الذين قالوا: إن من نٌفِي عنه الإيمان من العصاة يُطلَق عليه اسم الكٌفر إلا أنه كفرٌ عملي، قالوا: من أدلتنا أن الظلم ينقسم إلى قسمين: ظلمٌ أصغر وظلمٌ أكبر، كما أن الكفر: كفرٌ أصغر وكفرٌ أكبر، وكما أن الفسق فسقٌ أكبر وفسقٌ أصغر، فالأكبر هو فسِق الكفر وظلم الكفر، والأصغر: فسق المعاصي وظلم المعاصي؛ فدل على أن مَن نُفِي عنه الإيمان مِن الفساق والعصاة؛ يطلَق عليه اسم الكفر إلا أنه كفرٌ أصغر عملي لا يخرِج من الملة.

ولهذا قال محمد بن نصر تعليقًا على جريج بن عطاء لَمَّل قال: كفرٌ دون كفر وظلمٌ دون ظلم وفسقٌ دون فسق، " قَالُوا: وَقَدْ صَدَقَ عَطَاءٌ قَدْ يُسَمَّى الْكَافِرُ ظَالِمًا وَيُسَمَّى الْعَاصِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظَالِمًا"، فتسمية الكافر ظالمًا هذا ظلم يخرِج من الملة، وتسمية العاصي ظالمًا ظلمٌ لا يخرِج من الملة.

ولهذا قال:"  فَظُلْمٌ يَنْقُلُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُلْمٌ لَا يَنْقُلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82]"، المراد به: ظُلْمُ الشِّرك وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] أي: بشِرْكٍ.

"وَقَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]"، سمَّى الشرك ظلمًا، " وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟»" شق عليهم؛ لأنهم ظنوا أن المراد بالظلم هو المعاصي، قالوا مَن يجتنب المعاصي؟! فالله تعالى وعد وعدًا كريما لِمَن آمن ولم يخلط إيمانه؛ توحيده بظلم؛ فظنوا أنه لا يحصل على هذا الوعد مَن وقعت منه المعاصي.

فبيَّن لهم النبي ﷺ  أن المراد بالظلم هنا ظلم الشرك: الَّذِينَ آمَنُوا [الأنعام: 82] يعني: وحَّدوا، وَلَمْ يَلْبِسُوا [الأنعام: 82]: ولم يخلطوا، إِيمَانَهُمْ [الأنعام: 82]: توحيدهم، بِظُلْمٍ [الأنعام: 82]: بشِركٍ.

فسَّر لهم النبي ﷺ  لما شق عليهم ذلك "وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَيْسَ بِذَلِكَ. أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ وهو لقمان إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ.، يشير إلى قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]

ثم ذكر حديث ابن عباس في قصة عمر والحديث فيه ضعف لأنه في سنده علي بن زيد بن جدعان وهو مُتَكَلَّمٌ فيه وفيه يوسف بن مهران، ولكن المؤلف رحمه الله أتى به للاعتراض لأن عمر بن الخطاب لما دخل بيته كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فدخل ذات يومٍ فأتى على هذ الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] فأشكلت عليه " فَانْتَعَلَ وَأَخَذَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَتَى إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ" وسأله  "فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ" وكنيته أبي بن كعب  "أَتَيْت قَبْلُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] وَقَدْ نَرَى أَنَّا نَظْلِمُ وَنَفْعَلُ" فكيف نسلم. " فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَلِكَ"، يعني ليس بالظلم الذي تعني " يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] إنَّمَا ذَلِكَ الشِّرْكُ "

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] الشرك فالله تعالى اشترط لهذا الوعد أن يجتنب المسلم الشرك فإذا اجتنب الشرك فله هذا الوعد: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] وإن وقعت منه بعض المعاصي، فالعاصي له أمنٌ ناقص وهدايةُ ناقصة، وأما المؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات له أمنٌ كامل وهدايةُ كاملة.

(المتن)

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَكَذَلِكَ " الْفِسْقُ فسقان ": فِسْقٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَفِسْقٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَيُسَمَّى الْكَافِرُ فَاسِقًا وَالْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا ذَكَرَ اللَّهُ إبْلِيسَ فَقَالَ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] وَكَانَ ذَلِكَ الْفِسْقُ مِنْهُ كُفْرًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة: 20] يُرِيدُ الْكُفَّارَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20]

 وَسُمِّيَ القاذِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4]

 وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]

 فَقَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْفُسُوقِ هَاهُنَا: هِيَ الْمَعَاصِي.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله كذلك أيضًا نقل عن محمد بن نصر عن الطائفة الثانية أنهم قالوا أيضًا: ثبت في النصوص أن الفسق فسقان: فسقٌ يخرِج من الملة وهو فسق الكفر وفسقٌ لا يخرِج من الملة وهو فسق المعاصي.

ثم أستدل، ذكر الأدلة على النوعين فقال:" قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَكَذَلِكَ " الْفِسْقُ فسقان ": فِسْقٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَفِسْقٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَيُسَمَّى الْكَافِرُ فَاسِقًا"، ويسمى الفاسق من المسلين فاسقا"  ذَكَرَ اللَّهُ إبْلِيسَ فَقَالَ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50]"، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50]؛ يعني فسوق كفر.

لهذا قال المؤلف: " وَكَانَ ذَلِكَ الْفِسْقُ مِنْهُ كُفْرًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة: 20]"، والذين فسقوا: يعني فسوق كفر، هذا فسوق الكفر، " يُرِيدُ الْكُفَّارَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20]".

يعني هذا دليل على أن الفسق فسق كفر أنهم لا يخرجون من النار، ولو كان فسوق معصية لخرجوا من النار لأن العصاة يخرجون من النار ولو طالت مدتهم لا يُخلَّدون؛ دل على أن الفسق هنا فسق كفر.

ثم ذكر الفسق الثاني وهو فسق المعاصي، قال: " وَسُمِّيَ القاذِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4]"

هذا فسوق معصية لأنهم قذفوا والقاذف ليس بكافر، وهو عاص، وقال تعالى، أيضًا دليل آخر على فسوق المعصية:" وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]

 فَقَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْفُسُوقِ هَاهُنَا: هِيَ الْمَعَاصِي"، قال: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ [البقرة: 197] المراد هنا فسوق المعصية لو كان فسوق الكفر؛ لكان حجه باطل، لكن المراد فسوق المعصية.

القارئ: أحسن الله إليكم وبارك فيكم فضيلة الشيخ، لعلكم بارك الله فيكم تتحدثون عن هذا النوع الثاني الذي ذكرتموه وهو فسق المعاصي، نلاحظ جميعًا بل ونقع في كثير من الأحيان في هذه المعاصي ونسأل الله العفو والعافية والمغفرة.

الشيخ: الواجب على المسلم أن يتقي الله وأن يعمل بوصية الله تعالى فإن الله تعالى أوصى عباده المؤمنين أوصى الأولين والآخرين بالتقوى، قال : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131] وأمر الله الناس جميعًا وجه الله الخطاب إلى الناس جميعًا وأمرهم بالتقوى فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ [لقمان: 33]

وهذا عام للمؤمنين والكفار أيضًا أن يتقوا الله، فالكافر عليه أن يتقي الله وينقذ نفسه من الكفر ويدخل في دين الإسلام، والمؤمن عليه أن يتقي الله ويحذر المعاصي، وهذا شاملٌ للذكور والإناث.

وثبت أن النبي ﷺ خطب الناس وأم سلمة رضي الله عنها كانت تمشطها ماشطة فسمعت النبي ﷺ  يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فقال أم سلمة للماشطة: كُفّْي عني، قالت: إنه يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، قالت: أنا من الناس؛ فدل على أن الخطاب «يا أيها الناس» يشمل الذكور والإناث.

وكذلك أيضًا وجه الله المؤمنين ووجه الخطاب إليهم وأمرهم بالتقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا  [الأحزاب: 70].

وجه الله الخطاب إلى المؤمنين وأمرهم بالتقوى لأنهم هم الذين ينتفعون وأنهم هم الذين ينتفعون بالأوامر والنواهي، بل إن اله تعالى وجه الخطاب إلى نبيه الكريم فأمره بالتقوى وقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1]

كل واحد مأمورٌ بتقوى الله ، وتقوى الله هي: أصل التقوى: توحيد الله وإخلاص الدين له وأداء الواجبات وترك المحرمات، فهذا الخطاب موجه لكل أحد، الواجب على لكافر أن يتقٍ الله وأن يدخل في الإسلام وأن ينقذ نفسه من النار، والواجب على المؤمن أن يتقٍ الله وأن يحذر المعاصي، أن يحذر الكبائر والكبائر شرها عظيم، المعاصي آثارها وضررها واضح على الأجسام وعلى الهواء وعلى البهائم وعلى النبات وعلى الزروع فكل ما يصيب الناس من هذه المصائب كلٌه بسبب المعاصي.

والمعاصي تدل على نقص التقوى وضعف التقوى قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]

فالمسلم عليه أن يتقٍ الله وأن يحقق توحيده وإيمانه وإخلاصه لله بأداء الواجبات وترك المحرمات وأن يحذر المعاصي التي تنقص الإيمان وتضعفه، فالمعاصي تضعِف الإيمان وتنقِصه وتكون سببًا في دخوله النار.

فإذا اتقى الإنسان ربه وحقق توحيده وإيمانه ومات على التوحيد وعلى التوبة النصوح وأدى ما أوجب الله عليه وانتهى عما حرم الله عليه؛ دخل الجنة فضلًا من الله تعالى وإحسانًا، وإذا قصَّر في بعض الواجبات أو فعل الكبائر فهو على خطرٍ عظيم، خطرٍ عظيم؛ بدخول النار وخطرٍ عظيم من العذاب في النار، وعلى خطرٍ من الشدائد والأهوال التي تصيبه من موقف القيامة؛ فهو على خطرٍ عظيم.

فالواجب على العاقل الذي يريد فِكاكَ نفسه؛ أن يتقيَ الله وأن يحذر المعاصي وأن يكون على توبةٍ نصوح دائمًا وأبدًا حتى يلقى ربه بقلبٍ سليم.

(المتن)

قال المؤلف رحمه الله:

قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ الظُّلْمُ ظلمين وَالْفِسْقُ فسقين كَذَلِكَ الْكُفْرُ كُفْرَانِ: (أَحَدُهُمَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ) و (الْآخَرُ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ).

وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ  شِرْكَانِ: شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَشِرْكٌ فِي الْعَمَلِ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَهُوَ الرِّيَاءُ

 قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] يُرِيدُ بِذَلِكَ المُرَآة بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

 وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ الطِّيرَةُ شِرْكٌ.

 قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَهَذَانِ مَذْهَبَانِ هُمَا فِي الْجُمْلَةِ مَحْكِيَّانِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُوَافَقِيهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.

 حَكَى الشالنجي إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟

 قَالَ: هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] فَقُلْت لَهُ: مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ فَقَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ.

 قَالَ: وَسَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ إقْرَارٌ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ لَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانَ إلَّا بِإِسْلَامِ.

 قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ الْكَلَامِ بِتَلَازُمِهِمَا وَإِنْ كَانَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ.

وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد

فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نقل عن محمد بن نصر المروزي من كتابه تعظيم قدر الصلاة قولين لأهل العلم فيمن في العاصي مرتكب الكبيرة الذي فعل الكبائر هل يسمى مؤمن أو لا يسمى؟

فنقل قولين، القول الأول: أنه لا يسمى مؤمن، لا يُطلق عليه اسم الإيمان وإنما يسمى بما غلب عليه، والذي غلب عليه اسم الفسق فيقال له: فاسق ويقال له: عاصي، ولا يُطلق عليه اسم الإيمان لأنه اسم ثناءٍ وتزكية ولأن الله وعد على اسم الإيمان الجنة ومرتكب الكبيرة مٌتَوَعَّدٌ بالنار فما أمران متضادان.

والقول الثاني لطائفة من أهل العلم أن العاصي مرتكب الكبيرة يُطلق عليه اسم الإسلام ولا يُطلق عليه اسم الإيمان لأن النصوص دلت على نفي الإيمان عنه، وإذا نٌفِي عنه اسم الإيمان؛ فإنه يُطلق عليه اسم الكفر إلا إنه كفرٌ عملي لا يخرِج من الملة؛ فيسمى مسلم ويسمى كافر كفرًا عمليًا.

ومن أدلتهم أن الكفر ينقسم إلى قسمين: كفرٌ أكبر وكفرٌ أصغر، والظلم كذلك ينقسم إلى قسمين: ظلمٌ أكبر وظلمٌ أصغر، والفسق كذلك، فلما كان كذلك؛ دل على أنه لا مانع من إطلاق الكفر عليه لأن كفره لا يخرِج من الملة مع دخوله في مسمى الإسلام ويُطلق اسم إسلامه عليه.

ولهذا نقل المؤلف رحمه الله تتمة هذا الجواب فقال:

  "قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ الظُّلْمُ ظلمين وَالْفِسْقُ فسقين كَذَلِكَ الْكُفْرُ كُفْرَانِ: (أَحَدُهُمَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ) و (الْآخَرُ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ)

وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ شِرْكَانِ: شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَشِرْكٌ فِي الْعَمَلِ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَهُوَ الرِّيَاءُ".

من الرياء: يعني المرائي، أصل العمل لله لكنه دخل الرياء في العمل في أثناء العمل تحسينه " قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] يُرِيدُ بِذَلِكَ المُرَآة بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ الطِّيرَةُ شِرْكٌ؟.

يعني المراد شركٌ أصغر لا يخرِج من الملة، فالمتطيِّر المتشائم ليس كافرًا ليس مشركًا شركًا أكبر ولكنه شركٌ عملي لا يخرِج من الملة.

ثم نقل عن محمد بن نصر: "قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَهَذَانِ مَذْهَبَانِ هُمَا فِي الْجُمْلَةِ مَحْكِيَّانِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُوَافَقِيهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ".

سبق هذين القولين: قوله أنه: لا يُسمى مؤمن ويسمى باسم ما غلب عليه باسم الفسق.

والقول الثاني يُنفى عنه الإيمان ويُطلق عليه اسم الكفر الذي لا يخرِج من الملة الكفر العملي، يقول: هذان المذهبان محكيان عن الإمام أحمد بن حنبل في موافقيه من أصحاب الحديث، يعني من افقه من أصحاب الحديث.

ثم نقل الأدلة نقل في هذا كلام العلماء واستدلالهم قال:" حَكَى الشالنجي إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟

 قَالَ: هُوَ مُصِرٌّ"، يعني مُصِر على المعاصي لكنه ليس كافرًا، " مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ"، وكما سبق عن جعفر الصادق أنه جعل دائرة الإسلام دائرةً واسعة ثم جعلها في وسطها دائرةً ضيقة وهي دائرة الإيمان، فقال: يخرج من الإيمان: يعني الدائرة الضيقة ويقع في الإسلام: في الدائرة الواسعة.

"وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌالنبي ﷺ  نفى الإيمان عن الزاني وعن السارق ولكنه المراد بالإيمان المنفي هو كمال الإيمان وليس أصل الإيمان، كمال الإيمان الواجب.

"وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] فَقُلْت لَهُ: مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ فَقَالَ: كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ".

يعني أن الكفر كفران، كفرٌ أكبر وكفرٌ أصغر، وعلى هذا يكون الذي يُنفى عنه الإيمان من العصاة لا بأس أن يسمى كافرًا كفرًا عمليًا على هذا القول.

يقول:" وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ"، يعني الكفر، قد يطلق عليه الكفر يطلق على العاصي إذا فعل ما دلت عليه النصوص بأنه كُفر؛ يسمى كُفر إلا أنه كفرٌ أصغر كقوله ﷺ : اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ.

يقول: "وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ"، وهو الكفر الأكبر الذي يخرِج من الملة، الأمر الذي لا يُختَلَف فيه: الجحود، الجاحد المُنكِر، الذي لا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله هذا أمرٌ لا يُختلَف فيه.

"وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ".

يعني أن الإيمان المنفي ليس أصل الإيمان وإنما هو كمال الإيمان الواجب.

" قَالَ: وَسَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ " الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ إقْرَارٌ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة".

هذا قول:  يعني من يقول: الإيمان قولٌ وعمل والإسلام إقرار، المراد بالإقرار: يعني النطق بالشهادتين، وهذا مروي عن الزهري رحمه الله أنه قال: الإسلام هو الكلمة والإيمان هو العمل، المقصود بالإسلام هو الكلمة: الشهادتان، النطق بالشهادتين، فمَن شهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمدًا رسول الله؛ دخل في الإسلام أقر ويُطلق عليه اسم الإسلام ولو كان عاصيًا، لكن الإيمان لا يُطلق عليه إلا إذا أدى الواجبات وترك المحرمات.

وهذا معنى قوله: "وَسَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ " الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " فَقَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ إقْرَارٌ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ لَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانَ إلَّا بِإِسْلَامِ".

يعني أنه متلازمان، فالإسلام لا يصح إلا بإيمانٍ يصححه، يعني العمل الذي يعمله، صلاة، صوم، زكاة، حج؛ هذا الإسلام، لا يصح؛ لا يكون إسلامٌ إلا بإيمانٍ يُصحِّحه، يعني يكون مؤمنًا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وإلا صار كإسلام المنافقين، لأن المنافقين يعملون؛ يُصّلُّون ويصومون ويجاهدون مع النبي ﷺ  لكن ليس عندهم إيمانٌ يصححه؛ فلهذا ما نفعَ عملٌ بدون إيمان، هذا معنى قوله: "لَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ إلَّا بِإِيمَانِ" يعني: لابد من تصديق وإقرار، يُصحِّح هذا العمل، وإلا صار كإسلام المنافقين.

"وَلَا إيمَانَ إلَّا بِإِسْلَامِ"، يعني الإيمان وهو التصديق والإقرار في الباطن لابد له من عملٍ يتحقق به وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، إبليس مُصدِّق لكن ما أدَّى العمل؛ استكبرَ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ [ص: 74] ما عنده عمل يتحقق به هذا الإيمان، وكذلك فرعون مصدق في الباطن، لكن تصديق بدون عمل  لا يكون مؤمنًا، لابد له من عملٍ يتحقق به؛ فهما متلازمان، فالإسلام وهو العمل لابد له من إيمان يصححه وإلا صار كإسلام المنافقين، والإيمان وهو التصديق والإقرار في الباطن لابد له من عملٍ يتحقق به وإلا صار كإسلام إبليس وفرعون وسائر الكفرة الذين لا يتبعون النبي ﷺ  ولا يعملون بالإسلام.

قال المؤلف: "" قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ الْكَلَامِ بِتَلَازُمِهِمَا" يعني الإسلام والإيمان،  "وَإِنْ كَانَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ"

يعني عند اجتماعها مسمى أحدهما ليس هو مسمى الآخر، فإذا اجتمعا كما في حديث جبرائيل صار مسمى الإسلام العمل ومسمى الإيمان الإقرار والتصديق، مسمى الإسلام: الأعمال الظاهرة، ومسمى الإيمان: الأعمال الباطنة كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام فسَّره بأركان الإسلام الخمسة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، ولما سأل عن الإيمان فسَّره بالأعمال الباطنة فقال: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أما إذا أُطلِق أحدهما؛ يدخل فيه الآخر، إذا أُطلِق الإسلام؛ دخل فيه الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وكذلك الإيمان إذا أُطلِق؛ دخل فيه الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وإذا اجتمعا؛ فُرِّقَ بينهما.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَإِنْ كَانَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ.

وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ".

ثم سينقل المؤلف رحمه الله آثار أقوال أهل العلم في أن الإيمان قولٌ وعمل.

(المتن)

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إيمَانٌ إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُسَمَّى إيمَانًا، قَالُوا إنَّمَا الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْمَعْرِفَةَ وَذَكَرَ مَا احْتَجُّوا بِهِ.

إلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْآثَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ ودَاوُد ابْنُ عَلِيٍّ والطبري وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ؛ فَقَالُوا: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ مَعَ الْإِخْلَاصِ بِالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ.

 قَالُوا: وَكُلُّ مَا يُطَاعُ اللَّهُ بِهِ مِنْ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي، وَأَهْلُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ غَيْرُ مُسْتَكْمِلِي الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّمَا صَارُوا نَاقِصِي الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِهِمْ الْكَبَائِرَ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ... الْحَدِيثُ يُرِيدُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَمِيعِ الْإِيمَانِ عَنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَوْرِيثِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ إذَا صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَةِ وَانْتَحَلُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ.

 وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ قَالَ: وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله نقل عن الحافظ بن عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد على أن الإيمان قولٌ وعمل وأن الإيمان ليس مجرد التصديق كما تقوله المرجئة، بل النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ  وجماهير أهل السنة وأهل الحديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأن الإيمان تصديق وإقرار بالقلب وتصديق باللسان وعملُ بالقلب وعملٌ الجوارح، فنقل عن الإمام عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد إجماع أهل الفقه على دخول الأعمال في مسمى الإيمان وأنه لابد من الأعمال فقال:

" قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ" أجمع: حكى الإجماع، ومعروف أن ابن عبد البر رحمه الله في حكاية الإجماع يعني يريد الجماهير، جماهير العلماء لأن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك وهم من أهل السنة طائفة من أهل السنة، وكذلك أيضًا ابن قدامى رحمه الله وابن المنذر هؤلاء ينقلون الإجماع ويريدون قول الجماهير.

" قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ"، هذا فيه رد على المرجئة الذين يقولون: الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.

قال:" وَلَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إيمَانٌ"، هذا كله أجمع أهل السنة والجماعة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان كما نقل أبو عمر بن عبد البر عن أهل الحديث، قال: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ"، ثم استثنى قال: " إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ"، فدل على أن مراده الجماهير، " إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُسَمَّى إيمَانًا، قَالُوا إنَّمَا الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْمَعْرِفَةَ وَذَكَرَ مَا احْتَجُّوا بِهِ"، يعني الإمام أبي حنفية وأصحابه لا يرون أن الطاعة تسمى إيمان لكنها مطلوبة والثواب المؤكد عليها كذلك أكدت عليه النصوص، والمعاصي كذلك تسمى معاصي والعقوبة المترتبة عليها كذلك لكن لا يسمونها إيمان يسمونها واجب آخر، والإنسان عليه واجبان: واجب الإيمان وواجب العمل، والعمل لا يسمى إيمانا.

وأما الجماهير من أهل الفقه والحديث يقولون: العمل واجب ويسمى إيمان،"إلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْآثَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ ودَاوُد ابْنُ عَلِيٍّ والطبري وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ؛ فَقَالُوا: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ مَعَ الْإِخْلَاصِ بِالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ".

يعني كل هؤلاء العلماء وهؤلاء الأئمة الذين نقل عنهم مالك والليث بن سعد وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق، كل هؤلاء أئمة علماء، وهؤلاء علماء أهل السنة والجماعة، كلهم يرون أن الإيمان قولٌ وعمل وأن القول يكون باللسان وهو الإقرار والاعتقاد يكون بالقلب والعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، هذا كله فيه رد على المرجئة وأن مذهب المرجئة مذهبٌ باطل، مذهب الأعمال لا يدخل في مسمى الإيمان، مخالف للنصوص وبما عليه الصحابة والتابعون والأئمة.

" قَالُوا: وَكُلُّ مَا يُطَاعُ اللَّهُ بِهِ مِنْ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ"، هذا قول أهلُ السُّنَّة والجماعة، كلُّ طاعة سواء كان فريضة أو نافلة داخلة في مسمى الإيمان، " وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي"، هذا أيضًا معتقد أهل السنة والجماعة؛ أنَّ الإيمان يزيد وينقص خلافًا للمرجئة يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، الإيمان شيء واحد، إنْ زال زال جميعه وإن ثبت ثبت جميعه، ويقول: إيمان أهل الأرض وإيمان أهل السماء واحد.

هذا باطل من أبطل الباطل حتى الإنسان يدرك هذا بالحِس والعقل، كيف يكون إيمان أهل أفسق الناس وأعبد الناس سواء؟!

" وَأَهْلُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ غَيْرُ مُسْتَكْمِلِي الْإِيمَانِ"، هذا عند أهل السنة والجماعة أن أهل الذنوب مؤمنون إلا أنهم إيمانهم ناقص، " وَأَهْلُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ غَيْرُ مُسْتَكْمِلِي الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّمَا صَارُوا نَاقِصِي الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِهِمْ الْكَبَائِرَ".

ثم استدل بالحديث قال: أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، يعني نفى عنه كمال الإيمان، " الْحَدِيثُ يُرِيدُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ"، التقدير وهو مؤمنٌ مستكمل الإيمان، لكن عنده أصل الإيمان لا يكون كافرًا.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" يُرِيدُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَمِيعِ الْإِيمَانِ عَنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَوْرِيثِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ ذَا صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَةِ وَانْتَحَلُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِتِلْكَ الْأَحْوَال"، من الأدلة على أن الذي نُفي عن الزاني والسارق كمال الإيمان: التوارث، فالزاني والسارق وشارب الخمر يرث قرابته المؤمنين، وكذلك قرابته المؤمنين يرثونه، ولو كان النفي هنا نفي أصل الإيمان؛ ما حصل توارث ولوجب قتله، يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل.

قال المؤلف رحمه الله: " وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ"، يعني الإمام ابو عمر بن عبد البر،" ثُمَّ قَالَ: وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ"، أي هذه مسألة أخرى مسألة الإيمان هل هو شيء واحد أو شيآن مسألة خلافية بين أهل السنة وغيرهم.

(المتن)

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ جِمَاعُ الطَّاعَاتِ وَمَنْ قَصَرَ مِنْهَا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَاسِقٌ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالِاعْتِزَالِ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ.

إلَى أَنْ قَالَ: وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْآثَارِ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا فِي الْأَمْصَارِ.

 وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَتَوَقَّفَ فِي نُقْصَانِهِ، وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى وَابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

 ثُمَّ ذَكَرَ حُجَجَ الْمُرْجِئَةِ؛ ثُمَّ حُجَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدَّ عَلَى الْخَوَارِجِ التَّكْفِيرَ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لِلْعُصَاةِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وبالموارثة وَبِحَدِيثِ عبادة: مَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ.

 وَقَالَ: الْإِيمَانُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ فَلَيْسَ نَاقِصُ الْإِيمَانِ كَكَامِلِ الْإِيمَانِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] أَيْ حَقًّا. وَلِذَلِكَ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4]

 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ؛ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ - يَعْنِي حَقًّا - وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَكْمَلَ حَتَّى يَكُونَ غَيْرُهُ أَنْقَصَ

وَقَوْلُهُ: أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ أَوْثَقُ وَأَكْمَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ الْحَدِيثُ.

وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَإِصَابَةُ السُّنَّةِ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله نقل عن أبي عمر بن عبد البر قول المعتزلة: "قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ جِمَاعُ الطَّاعَاتِ وَمَنْ قَصَرَ مِنْهَا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَاسِقٌ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالِاعْتِزَالِ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، يعني المعتزلة يقولون: الإيمان جِماع الطاعات كلها، هذا يوافقون فيه أهل السنة في أن الإيمان يشمل جميع الطاعات كلها داخل فيه الأعمال والأقوال جميع الطاعات كلها، لكن الفرق بينهم وبين أهل السنة أن أهل السنة يقولون: إذا قصَّر في بعض الواجبات ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات لا يزول الإيمان يبقى معه أصل الإيمان.

 وأما المعتزلة فيقولون: إذا ترك طاعة من الطاعات زال عنه اسم الإيمان وخرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فصار في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر؛ يسمى فاسق وفي الآخرة يخلدونه في النار.

والخوارج يوافقونهم في هذا أن الإيمان جِماع الطاعات لكن إذا ترك طاعة؛ خرج من الإيمان ودخل في الكفر في الدنيا وفي الآخرة يخلدونه في النار.

والفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب الخوارج أن الخوارج يُخرِجونه بالمعصية من الإيمان ويدخلونه في الكفر فيستحلون دمه وماله في الدنيا ويخلدونه في النار.

وأما المعتزلة: فإنه إذا فعل المعصية؛ خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر فيكون فاسق لا مؤمن ولا كافر في منزلة بين المنزلتين فلا يستحلون دمه وماله لأنه خرج من الإيمان لكنه ما دخل في الكفر، ويتفقون من الخوارج في أنه يُخلد في النار.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ جِمَاعُ الطَّاعَاتِ وَمَنْ قَصَرَ مِنْهَا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَاسِقٌ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالِاعْتِزَالِ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ.

إلَى أَنْ قَالَ"، يعني ابن عمر بن عبد البر:" وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْآثَارِ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا فِي الْأَمْصَارِ"، يعني هذا هو الذي عليه الجماهير من أهل الحديث وأهل الفقه أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية،" وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَتَوَقَّفَ فِي نُقْصَانِهِ، وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى وَابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ"، المعنى أن مالك له ورايتان رحمه الله، رواية: أن الإيمان يزيد ولا ينقص، توقف في النقصان، يزيد وتوقف في النقصان، والرواية الثانية: صرَّح بالنقصان ووافق الجماهير.

ولهذا لمَّا نقل عنه ابن عبد البر قال:" وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ"، يعني الرواية الثانية التي فيها أن الإيمان يزيد وينقص هي التي توافق ما عليه الجماهير والحمد لله.

ثم نقل عن ابن عبد البر أنه قال:" . ثُمَّ ذَكَرَ حُجَجَ الْمُرْجِئَةِ"، يعني على ما ذهبوا إليه من أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، " ثُمَّ حُجَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ"، يعني على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان،" وَرَدَّ عَلَى الْخَوَارِجِ التَّكْفِيرَ بِالْحُدُودِ"، المراد بالحدود: المعاصي؛ لأن الحدود تُطلَق على المعاصي؛ كقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187]

وتُطلَق الحدود على الواجبات؛ كقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229] لا تتجاوزوها، على هذا وهذا.

وتُطلَق الحدود على المعاصي، على مَن ارتكب معصية، تُطلَق على التعذيرات التي هي كقوله، لما استشار عمر الصحابة، لما تتابع الناس في الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: الخمر في الحدود ثمانية تعذيرات.

فتُطلَق الحدود على المعاصي، وتُطلَق على الطاعات، وتُطلَق على التعزيرات.

قال:" وَرَدَّ عَلَى الْخَوَارِجِ التَّكْفِيرَ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لِلْعُصَاةِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وبالموارثة وَبِحَدِيثِ عبادة"، يعني أن عمر بن عبد البر رد على الخوارج تكفيرهم بالمعاصي من ثلاثة أوجه أو بثلاثة أدلة:

الدليل الأول: رد عليهم بالحدود التي تُقام على العصاة، لو كانوا كفارًا لما أقيمت عليهم الحدود، يُقتَل لو كان كافرًا أو العاصي الزاني السارق وشارب الخمر ما أقيم عليه الحد يُقتَل.

والثاني: الموراثة: الإرث بينه وبين أقاربه، لو كان كافرًا لما حصل توارث.

والثالث: حديث عبادة: مَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.

فهذه ثلاثة أدلة رد فيها على الخوارج، أولها: الحدود التي تقام عليهم، ثانيها: الموراثة، ثالثها: الحديث حديث عبادة الذي رواه الإمام مسلم بأنه أخبر بأن من أصابه شيء من المعاصي فعوقب به في الدنيا كان كفارةً له؛ فدل على أنه ليس بكافر.

(المتن)

وَقَالَ: الْإِيمَانُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ فَلَيْسَ نَاقِصُ الْإِيمَانِ كَكَامِلِ الْإِيمَانِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] أَيْ حَقًّا. وَلِذَلِكَ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4]

 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ؛ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ - يَعْنِي حَقًّا - وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَكْمَلَ حَتَّى يَكُونَ غَيْرُهُ أَنْقَصَ

وَقَوْلُهُ: أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ أَوْثَقُ وَأَكْمَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ الْحَدِيثُ.

وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَإِصَابَةُ السُّنَّةِ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد

فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب العظيم وهو كتاب الإيمان الكبر قرر معتقد أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة أن الإيمان قولٌ وعمل ونية، قول القلب: وهو التصديق والإقرار، وقول اللسان: وهو النطق، عمل القلب: وهو النية والإخلاص، وعمل الجوارح.

وقد نقل عن أهل العمل أقوالهم في ذلك وما استدلوا به في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ  وإجماع جماهير أهل السنة وأهل الفقه والحديث على ذلك.

ومن ذلك ما نقله عن ابي عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد، كما سبق في الحلقة السابقة أنه نقل إجماع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قولٌ وعمل ، ونقل أيضًا كذلك الآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم، ومن ذلك ما سبق في الحلقة التي قبل الحلقة الماضية فإنه نقل المؤلف رحمه الله نقل عن محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة قوله: " حَدَّثَنَا ابْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ هِشَامٍ ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ حجير"

وسبق قلنا في الحلقة التي قبل الماضية أن التعليل أنه عن هشام بن عروة في بعض النُسَخ عن هشام بن عروة عن ابن حجير، والصواب بعد مراجعة كُتِب الرجال: عن هشام: يعني ابن حجير، لعل أخواننا يراجعوا هذا والذين يتابعون معنا أن يصححوا السند:

"حَدَّثَنَا ابْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ هِشَامٍ يعني ابن حجير عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]؛ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ".

والمؤلف رحمه الله نقل عن أبي عمر بن عبد البر إجماع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قولٌ وعمل، واستمر في هذا النقل إلى أن قال: "وَقَالَ: الْإِيمَانُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ"، لَمَّا ذكرَ بعد ذلك حُجج المرجئة وحُجج أهل السنة وردَّ على الخوارج تكفير العصاة ... ردَّ عليهم بثلاثة:

الأول: الحدود التي دلت عليه نصوص السُّنَّة؛ التي تُقام على العصاة الزنا والسرقة؛ فدل على أنهم ليسوا كفارًا ولو كانوا كفارًا لَما أُقيمت عليهم الحدود؛ لأن الكافر المرتد يجوز قتله بعد الاستتابة.

والدليل الثاني: التوارث بين العصاة وبين أقاربهم.

والدليل الثالث: حديث عبادة بن الصامت، وفيه أن النبي ﷺ  لّما ذكر المعاصي قال: مَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.

ثم استمر المؤلف رحمه الله في نقله عن ابي عمر ابن عبد البر فقال: " وَقَالَ"، يعني ابو عمر ابن عبد البر،" وَقَالَ: الْإِيمَانُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ فَلَيْسَ نَاقِصُ الْإِيمَانِ كَكَامِلِ الْإِيمَانِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] أَيْ حَقًّا"، وهذه الآية دليل على أن الإيمان مراتب بعضها فوق بعض فليس ناقص الإيمان ككامل الإيمان، فكامل الإيمان أخبر الله عنه في هذه الآية في آية الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2].

المؤلف قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال: 2]:" أَيْ حَقًّا"، يعني الذين اتصفوا بهذه الصفات: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال: 2 - 4]

فهؤلاء هم المؤمنون حقًا، ومَن دونهم من كان ناقص الإيمان لا يكون مثلهم؛ فدل على أن الإيمان مراتب فليس ناقص الإيمان ككامل الإيمان.

يقول المؤلف رحمه الله:" وَلِذَلِكَ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4]"، يعني في آخر الآية.

" وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ؛ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، هذا دليل على التفاوت، المؤلف فسَّر قال:" يَعْنِي حَقًّا"، يعني حقًا من أمنهم الناس على دمائهم وأموالهم.

وَالْمُسْلِمُ حقًا مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وأما من لم يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم فهو مؤمن إلا أنه ناقص الإيمان.

وكذلك من لم يسلم المسلمون من لسانه ويده هو مؤمن مسلم إلا أنه ناقص الإسلام؛ وهذا يدل على أن الإيمان على مراتب.

قال المؤلف رحمه الله:" وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ"، يعني قول النبي ﷺ  : أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا، يعني أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا.، هذا جزءٌ من حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة الترمذي في كتاب الرضاع ورواه أبو داود في كتاب السنة، والحديث: أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا.

وهذا يدل على أن الإيمان على مراتب، فحَسَنُ الخُلُق ليس إيمانه كإيمان سيء الخُلُق..

يقول المؤلف رحمه الله:" وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَكْمَلَ حَتَّى يَكُونَ غَيْرُهُ أَنْقَصَ"، يعني الأكمل يقابله الأنقص؛ فدل على أن الإيمان على مراتب.

ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ" أيضًا هذا جزءٌ من حديث رواه الإمام أحمد في المسند عن البراء بن عاذب بلفظ إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، ورواية معاذ: أنْ تحبَّ لله، وتبغض لله. وهذا دليل على أن الإيمان يتفاوت وأنه على مراتب.

ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَقَوْلُهُ"، يعني: قول النبي ﷺ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ. وأيضًا هذا جزء من حديث رواه الترمذي قال فيه: حديث حسن مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَنْكَحَ لِلَّهِ، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ.

وهذا يدل على أن الإيمان لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، يعني: لا إيمان كاملًا، ومَن يخون في الأمانة فإيمانه ضعيف، وإيمانه ناقصٌ.

يقول المؤلف رحمه الله: "يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ أَوْثَقُ وَأَكْمَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، يعني هذا الجزء من الحديث كما سبق: مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ

قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَإِصَابَةُ السُّنَّةِ".

وهذا يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأن الإيمان مراتب يتفاوت وأن الناس يتفاوتون، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة وهو الذي سدلت عليه النصوص من الكتاب والسنة خلافًا للمرجئة الذين يرون: أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان قولهم باطل مردود بالكتاب والسنة كما سبق.

(المتن)

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةُ: يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالزَّكَاةَ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَالْحَجَّ.

 قَالَ: وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ: يَعْنِي الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جبرائيل وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَالْإِيمَانَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَكِلَاهُمَا قَدْ رُوِيَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ: وَالْإِيمَانُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ؛ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِيمَانَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا؛ لَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْإِنْسَانُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا قَبْلَ آدَمَ، وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانُ بِجَمِيعِ أَقْدَارِ اللَّهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا؛ إنَّهَا مِنْ اللَّهِ قَضَاءً وَقَدَرًا وَمَشِيئَةً وَحُكْمًا وَأَنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ؛ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ غَيْبِهَا وَمَعْنَى حَقَائِقِهَا.

 قَالَ: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا قَدْ أَذْهَبَ التَّفَاوُتَ وَالْمَقَامَاتِ وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ: وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَدْخَلُوا التَّضَادَّ وَالتَّغَايُرَ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الإباضية فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله نقل قول أبي طالب المكي في الإسلام والإيمان في كتابه قوت القلوب، ونقل عنه الأقوال في الإسلام والإيمان وهل الإيمان والإسلام شيءٌ واحد أو شيآن فقال:" وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ"، يعني في كتابه قوت القلوب:" مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةُ: يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالزَّكَاةَ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَالْحَجَّ"، نسبة إلى حديث جبرائيل لما سأل النبي ﷺ  عن الإسلام قال: الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وحديث ابن عمر في الصحيحين: بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام.

" قَالَ: وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ يَعْنِي الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جبرائيل"، يعني يشير إلى حديث جبريل لما سأله عن الإيمان قال: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

قال:" وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَالْإِيمَانَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَكِلَاهُمَا قَدْ رُوِيَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ".

قَالَ: "ومراتب الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ: يَعْنِي الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جبرائيل" الواقع أن المذكور في حديث جبريل ستة: الإيمان بالله والإيمان بالملائكة والإيمان بالكتب والإيمان بالرسل والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر.

قال:" وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَالْإِيمَانَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ"، فجعل أركان الإيمان سبعة، أبي طالب الخمسة المذكورة في حديث جبريل والإيمان بالقدر هذا السادس.

والصواب: أن الإيمان بالقدر مذكور في حديث جبريل، والسابع: الإيمان بالجنة والنار، وهذا يعني تعداد اعتباري، المعروف عند أهل العلم أن أركان الإيمان ستة، والإيمان بالجنة والنار داخل في الإيمان باليوم الآخر.

ومن العلماء مَن جعلها خمسة قال: أركان الإيمان خمسة، ويجعل الإيمان بالقدر داخل في الإيمان بالله بقضائه وقدره، في مقابل أصول المعتزلة خمسة، وأصول السنة خمسة.

"قَالَ"، يعني: أبو طالب المكي:" وَالْإِيمَانُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ"، يعني: هذا من الإيمان، داخلٌ في مسمى الإيمان، "الْإِيمَانُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ".

يقول المؤلف رحمه الله، يعني -واللهُ أعلم-: الإيمان بالفَرق بينهما؛ الفَرق ببين الملائكة والشياطين. " فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا"؛ لأن كلًّا منهما أرواح، "مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا؛ لَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْإِنْسَانُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا قَبْلَ آدَمَ".

وهذا النَّص على الإيمان بالجنة والنار وأنهما خُلِقا قبل آدم، للرد على المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: إن الجنة والنار لا تُخلقان إلا يوم القيامة؛ لأن خلقهما الآن -ولا جزاء-؛ عبثٌ! والعبث محال على الله.

وهذا من جهلهم وضلالهم؛ لأنَّ:

أولًا: لأن النصوص دلت على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24].

ثم قولهم: إنهما معطلتان مددًا طويلة، وهذا عبث!

هذا من جهلهم، مَن يقول: إنهما معطلتان؟! المؤمن إذا مات نُقلت روحه إلى الجنة تتنعم ولها صلة بالبدن، والكافر تُنقل روحه إلى النار يُعذَّب ولها صلة بالبدن، والمؤمن يُفتح له بابٌ إلى الجنة فيأتي من روحها وطيبها، والفاجر يُفتح له بابٌ إلى النار فيأتي من حرها وسَمومها، والجنة فيها الحور وفيها الولدان، مَن يقول: إنهما معطلتان؟!

وأرواح الشهداء وأرواح المؤمنين تُنعَّم، فهذا من جهلِ المعتزلة وضلالهم قول: إنَّ خلقهما الآن ولا جزاء عبث، هذا من جهلهم وضلالهم.

ولهذا نَص أبو طالب المكي قال:" وَالْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا قَبْلَ آدَمَ، وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ"، هذا تفصيل للإيمان باليوم الآخر ولذلك كلها داخلة في الإيمان باليوم الآخر،" وَالْإِيمَانُ بِجَمِيعِ أَقْدَارِ اللَّهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا؛ إنَّهَا مِنْ اللَّهِ قَضَاءً وَقَدَرًا وَمَشِيئَةً وَحُكْمًا"، هذا تفصيل للإيمان بالقدر،" َأَنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ؛ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ غَيْبِهَا وَمَعْنَى حَقَائِقِهَا"، كل هذا داخلُ في الإيمان.

"قَالَ": يعنني أبو طالب المكي: "وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ"، يعني لا فرق بينهما، وهذا قول معروف قال به الخوارج والمعتزلة وقال به بعضُ من أهل السنة ومنهم الإمام البخاري رحمه الله قرر في صحيحه أن الإيمان والإسلام شيءٌ واحد، والصواب كما سبق وكما سيأتي أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، إذا أطلِق أحدهما؛ دخل فيه الآخر، إذا أطلِق الإسلام؛ دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وكذلك الإيمان، وإذا اجتمعا؛ صار لكلٍ مهما معنى، فإذا اجتمعا كما في حديث جبريل فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبرائيل لما اجتمعا، وإذا أطلِق أحدهما؛ دخل فيه الآخر، هذا هو الصواب الذي عليه جمهور أهل السنة وعليه المحققون وقرره المؤلف شيخ الإسلام رحمه الله.

" قَالَ: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا قَدْ أَذْهَبَ التَّفَاوُتَ وَالْمَقَامَاتِ"، يعني هذا القائل الذي قال: إن الإيمان والإسلام أذهب التفاوت والمقامات،" وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ: وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَدْخَلُوا التَّضَادَّ وَالتَّغَايُرَ".

والصواب: كما سبق أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وهذا ظاهرٌ، كالفقير والمسكين، وكالربوبية والألوهية؛ إذا أُطلِق أحدهما؛ دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا صار لكلِّ واحدٍ منهما معنى.

يقول المؤلف:" وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الإباضية"، الإباضية: طائفة من الخوارج هم يرون هذا، الإباضية يرون أن الإيمان والإسلام شيءٌ واحد ما يرون تفاوت بينها، قد يكون هذا قول طائفة، من المعروف أن مذهب الخوارج أنهم يرون أن الإيمان والإسلام شيءُ واحد، والخوارج طوائف متعددة ومنهم الإباضية، فالمؤلف رحمه الله قال:" وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الإباضية"، كأن قول الإباضية لهم قولٌ آخر، قال:" فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ"، يعني قال: هذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل ثم شرح وفصَّل.

(المتن)

فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ غَيْرُ شَهَادَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ، وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ كَشَيْءِ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ فَهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَهُ، وَلَا إسْلَامَ لِمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ، إذْ لَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إسْلَامٍ بِهِ يُحَقِّقُ إيمَانَهُ مِنْ حَيْثُ اشْتَرَطَ اللَّهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْإِيمَانَ وَاشْتَرَطَ لِلْإِيمَانِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَقَالَ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء: 94] وَقَالَ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75]

 فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى عُقُودِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ فَهُوَ مُنَافِقٌ نِفَاقًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَمَنْ كَانَ عَقْدُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ وَلَا يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا لَا يَثْبُتُ مَعَهُ تَوْحِيدٌ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْغَيْبِ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ عَامِلًا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا، وَلَجَازَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ.

 وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ؛ وَكُلَّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ قَالَ: وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله نقل عن أبي طالب المكي الشرح والتفصيل للإيمان والإسلام وصلة أحدهما بالآخر قال:" فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ" عليه الصلاة والسلام " غَيْرُ شَهَادَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ، وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ كَشَيْءِ وَاحِدٍ"، يعني يقول: أن الإيمان والإسلام لا ينفك أحدهما عن الآخر ولا يصح أحدهما بدون الآخر مثلهما مثل الشهادتين: الشهادة لله تعالى بالوحدانية والشهادة لنبيه ﷺ  محمدٍ بالرسالة لا ينفك أحدهما عن الآخر، من شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمد رسول الله؛ لن نُقبل منه ومن شهد أن محمدًا رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله؛ لن تٌقبَل منه، وإذا أطلقت أحدى الشهادتين؛ دخلت فيها الأخرى، إذا أطلِقَت شهادة الوحدانية لا إله إلا الله دخلت فيها شهادة أن محمدًا رسول الله، وإذا أطلقَت شهادة أن محمدًا رسول الله دخلت فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا اجتمعا؛ صار لكل واحدٍ منهما معنى.

" فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ، وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ كَشَيْءِ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ فَهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَهُ، وَلَا إسْلَامَ لِمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ، إذْ لَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إسْلَامٍ بِهِ يُحَقِّقُ إيمَانَهُ".

المعنى أن الإيمان والإسلام لا ينفك أحدهما عن الآخر فالذي " لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَه"، يعني الذي لا يعمل لا يصح إيمانه، " وَلَا إسْلَامَ لِمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ"، والذي لا يعمل وهو مصدق في الباطن لا إسلام له لا يصح إسلامه، " لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَه" ـ يعني الذي لا يعمل، الإسلام هو العمل، الذي لا يعمل لا ينفعه التصديق في الباطن،" " لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَه"، والذي يعمل ويصلي ويصوم وليس عنده تصديق في الباطن؛ لا ينفعه.

ولهذا قال المؤلف:" إذْ لَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إسْلَامُهُ"، المسلم الذي يعمل يصلي ويصوم ويحج لابد لهذا العمل من تصديق وإيمان يصح في الباطن يصحح إسلامه وإلا صار كإسلام المنافقين، فالمنافقون يعملون ولكن عملهم ليس معه إيمانٌ يصححه؛ فبطل.

وَلَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إسْلَامٍ بِهِ يُحَقِّقُ إيمَانَه"، يعني المؤمن المصدق لابد له من عمل يتحقق به هذا الإيمان وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، فإن إبليس وفرعون مصدقان في الباطن، معترفان لكن ليس معهما عملٌ يتحقق به هذا الإيمان؛ فدل على أن كلًا من الإيمان والإسلام مرتبطٌ بالآخر، كما أن كلًا من الشهادتين إحداهما مرتبطةٌ بالأخرى.

يقول المؤلف رحمه الله:" مِنْ حَيْثُ اشْتَرَطَ اللَّهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْإِيمَانَ وَاشْتَرَطَ لِلْإِيمَانِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ"؛ فدل على أن الأعمال لا تصح بدون إيمان والإيمان لا يصح بدون أعمال؛ فدل على أن العمل لابد له من إيمانٍ يصححه والإيمان لابد له من عملٍ يتحقق به.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" مِنْ حَيْثُ اشْتَرَطَ اللَّهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْإِيمَانَ وَاشْتَرَطَ لِلْإِيمَانِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَقَالَ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء: 94]"

اشترط للعمل الإيمان فقال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الأنبياء: 94]؛ فدل على أن العمل لا يصح بدون إيمان.

"وَقَالَ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75]" وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا [طه: 75] يعني مصدقًا: اشترط الله له العمل فقال: قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ [طه: 75]

قال المؤلف رحمه الله:" فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى عُقُودِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ فَهُوَ مُنَافِقٌ نِفَاقًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ"، وهذا مِثل حال المنافقين أيام النبي ﷺ  كعبد الله بن أبي وغيره فإنهم يُصَلون مع النبي ﷺ  ويجاهدون لكن ليس عندهم إيمان يصحح هذا العمل؛ فلذلك صاروا منافقين نفاقًا ينقل عن المِلَّة؛ عن ملة الإسلام.

" وَمَنْ كَانَ عَقْدُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ وَلَا يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا لَا يَثْبُتُ مَعَهُ تَوْحِيدٌ"، يعني: مَن كان يعتقد؛ يُصدِّقَ في الباطن فكان عقده الإيمان بالغيب يعني مصدق في الباطن لكن ما يعمل، لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يحج؛ هذا الإيمان لا يتحقق، لابد أن يتحقق بعمل؛ لأن إبليس وفرعون كلٌّ منهما معترف في الباطن لكن لم يتحقق، استكبروا عن العمل لم يتحقق إيمانهم، استكبروا عن العمل؛ فصاروا كفارًا.

ولهذا قال المؤلف:" وَمَنْ كَانَ عَقْدُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ وَلَا يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا لَا يَثْبُتُ مَعَهُ تَوْحِيدٌ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْغَيْبِ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ عَامِلًا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ"، هذا مؤمن مسلم الذي يجمع بين الأمرين بين التصديق في الباطن والعمل في الظاهر، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْغَيْبِ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ"، هذا الإيمان،" عَامِلًا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا"، لولا أن العمل مرتبطٌ بالتصديق والتصديق مرتبطٌ بالعمل لولا أنه كذلك " لَكَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا، وَلَجَازَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا "، لكن لابد من الأمرين.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ؛ وَكُلَّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِه".

" أَجْمَعَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ"، يعني المسلمون الذين يتجهون إلى القبلة أجمعوا على أن كل مؤمن مسلم ومصدق لابد له من عملٍ يعمل به، وكل مسلم آمن لابد أن يكون مصدقًا في الباطن.

(المتن)

قَالَ: وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ؛ لَا يَكُونُ ذُو جِسْمٍ حَيٍّ لَا قَلْبَ لَهُ؛ وَلَا ذُو قَلْبٍ بِغَيْرِ جِسْمٍ؛ فَهُمَا شيآن مُنْفَرِدَانِ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مُنْفَصِلَانِ.

 وَمَثَلُهُمَا أَيْضًا مَثَلُ حَبَّةٍ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَهِيَ وَاحِدَةٌ. لَا يُقَالُ: حَبَّتَانِ: لِتَفَاوُتِ صِفَتِهِمَا. فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ هُوَ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْإِيمَانُ بَاطِنُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ.

 وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ؛ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَفِي لَفْظٍ: الْإِيمَانُ سِرٌّ فَالْإِسْلَامُ أَعْمَالُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عُقُودُ الْإِسْلَامِ؛ فَلَا إيمَانَ إلَّا بِعَمَلِ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ.

وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِصَاحِبِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ أَيْ لَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ وَقَصْدٍ لِأَنَّ إنَّمَا تَحْقِيقٌ لِلشَّيْءِ وَنَفْيٌ لِمَا سِوَاهُ؛ فَأَثْبَتَ بِذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ؛ وَعَمَلُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ.

 فَمَثَلُ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّفَتَيْنِ مِنْ اللِّسَانِ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ إلَّا بِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَجْمَعُ الْحُرُوفَ وَاللِّسَانَ يُظْهِرُ الْكَلَامَ وَفِي سُقُوطِ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْعَمَلِ ذَهَابُ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ حِينَ عَدَّدَ اللَّهُ نِعَمَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْكَلَامِ ذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ مَعَ اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ۝ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد: 8، 9] بِمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلْهُ نَاظِرًا مُتَكَلِّمًا، فَعَبَّرَ عَنْ الْكَلَامِ بِاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَكَانٌ لَهُ وَذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ النِّعْمَةُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا.

(الشرح)

بسم اله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد

فإن المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نقل عن أهل العلم ما أجمع عليه جماهيرهم من أن الإيمان قولٌ وعمل وأن الأعمال داخلةٌ في مسمى الإيمان، ونقل عن أبي طالب المكي أيضًا كذلك ونقل عنه أيضًا الفرق بين الإسلام والإيمان وأنه نقل عن أهل العلم من قال إن الإيمان والإسلام شيءُ واحد ومنهم من قال إن الإسلام غير الإيمان.

ثم قال: إن هذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرحٍ وتفصيل، ثم شرح وفصّل وبيَّن أن الإسلام والإيمان مرتبطُ أحدهما بالآخر، وأن الإسلام لا يصح بدون الإيمان ولا يصح الإيمان بدون إسلام.

ولا يزال المؤلف رحمه اله ينقل كلامه قد سبق بعضه في الحلقة السابقة، قال:" قَالَ: وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ"، يعني المؤلف رحمه الله يبين ارتباطا الإيمان بالإسلام وأن أحدهما متربطٌ بالآخر، ضرب له مثلًا فقال:" وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ"؛ يعني مثل الإيمان والأعمال وارتباط أحدهما بالآخر:" كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ"، يعني كما أن القلب لا ينفك عن الجسم والجسم لا ينفك عن القلب؛ فكذلك الإيمان لا ينفك عن الإسلام والإسلام لا ينفك عن الإيمان.

ولهذا قال:" وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ؛ لَا يَكُونُ ذُو جِسْمٍ حَيٍّ لَا قَلْبَ لَهُ؛ وَلَا ذُو قَلْبٍ بِغَيْرِ جِسْمٍ؛ فَهُمَا شيآن مُنْفَرِدَانِ"، يعني في الظاهر الجسم منفرد والقلب منفرد،" وَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مُنْفَصِلَانِ".

"وَمَثَلُهُمَا أَيْضًا"؛ يعني ضرب مثال آخر سبق فيما سبق أنهما مثلهما بالشهادتين، مّثّل الإيمان والإسلام بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمد رسول الله.

ثُمَّ ذكر مثلًا آخر فقال: مثل ارتباط الإيمان بالإسلام كمثل القلب ارتباط القلب بالجسم، وهذا مثلُ ثالث: قال: "وَمَثَلُهُمَا أَيْضًا مَثَلُ حَبَّةٍ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَهِيَ وَاحِدَةٌ. لَا يُقَالُ: حَبَّتَانِ: لِتَفَاوُتِ صِفَتِهِمَا"، لأن الحبة هي واحدة وإن كان الظاهر يختلف عن الباطن هي واحدة، فكذلك الإسلام والأعمال لابد منهما مرتبطان وإن كانا الإيمان في الباطن والإسلام في الظاهر.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" وَمَثَلُهُمَا أَيْضًا مَثَلُ حَبَّةٍ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَهِيَ وَاحِدَةٌ. لَا يُقَالُ: حَبَّتَانِ: لِتَفَاوُتِ صِفَتِهِمَا. فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ هُوَ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْإِيمَانُ بَاطِنُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ".

إلى أن قال:" وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ؛ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ، الحديث في سنده بعض الضعف كما سبق ولكن المعنى صحيح وهو أن الإسلام هو العمل الذي هو علانية في الظاهر والإيمان في القلب.

قال:" وَفِي لَفْظٍ: الْإِيمَانُ سِرٌّ فَالْإِسْلَامُ أَعْمَالُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عُقُودُ الْإِسْلَامِ"، يعني أن أحدهما مرتبطُ بالآخر، "فَالْإِسْلَامُ"، الذي هو العمل، "أَعْمَالُ الْإِيمَانِ"، أعمال تابعة للإيمان، الإيمان في الباطن والإسلام في الظاهر، فالأعمال التي هي الإسلام هي أعمال الإيمان، والإيمان الذي عقود الإسلام الذي هو اعتقاد القلب فهو عقود الإسلام، فالعمل في الظاهر الذي هو الإسلام عملٌ تابعٌ للإيمان، والإيمان الذي هو الاعتقاد في الظاهر هي عقيدة الإسلام وعقيدة المسلم.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" فَلَا إيمَانَ"، نقلًا عنه قال:" فَلَا إيمَانَ إلَّا بِعَمَلِ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْد"، يعني اعتقاد.

ثم ذكر أيضًا مثالًا رابعًا قال:" وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ"، يعني مثل الإيمان والإسلام في ارتباط أحدهما بالآخر،" مَثَلُ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِصَاحِبِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ"، فعمل القلب مرتبطُ بعمل الجوارح وعمل الجوارح مرتبطُ بعمل القلب، "وَمِثْلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، يعني العمل لا يصح إلا بالنية والنية لابد لها من عمل،" أَيْ لَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ وَقَصْد"، لا عمل: يعني لا عملٍ صحيح إلا باعتقاد "إلَّا بِعَقْدِ وَقَصْدٍ لِأَنَّ إنَّمَا تَحْقِيقٌ لِلشَّيْءِ وَنَفْيٌ لِمَا سِوَاهُ"، إنما: أداة حصر تحقيق للشيء ونفي لما سواه: يعني إنما العمل معتبر ما كان بالنية، فهو تحقيقٌ للعمل المطلوب ونفي لما سواه، العمل الذي ليس فيه نية لا يعتبر.

يقول المؤلف رحمه الله:" فَأَثْبَتَ بِذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَعَمَلُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ".

ثم ذكر أيضًا مثالُا رابعًا أو خامسًا قال:"  فَمَثَلُ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّفَتَيْنِ مِنْ اللِّسَانِ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ إلَّا بِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَجْمَعُ الْحُرُوفَ وَاللِّسَانَ يُظْهِرُ الْكَلَامَ وَفِي سُقُوطِ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْعَمَلِ ذَهَابُ الْإِيمَان"، يعني كما أن الكلام لا يتم إلا بالشفتين واللسان وإذا سقطت الشفتان أو سقط اللسان لا يحصل الكلام؛ فكذلك العمل والاعتقاد، لا يصح الاعتقاد بدون عمل، والعمل لا يصح إلا باعتقاد.

ولهذا قال:" وَكَذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْعَمَلِ ذَهَابُ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ حِينَ عَدَّدَ اللَّهُ نِعَمَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْكَلَامِ ذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ مَعَ اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ۝ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد: 8، 9] بِمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلْهُ نَاظِرًا مُتَكَلِّمًا، فَعَبَّرَ عَنْ الْكَلَامِ بِاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَكَانٌ لَهُ وَذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ النِّعْمَةُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا"، يعني أن أحدهما مرتبطٌ بالآخر فكذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبطُ بالآخر.

(المتن)

وَمَثَلُ الْإِيمَانِ والْإِسْلَامِ  أَيْضًا كَفُسْطَاطِ قَائِمٍ فِي الْأَرْضِ لَهُ ظَاهِرٌ وَأَطْنَابٌ وَلَهُ عَمُودٌ فِي بَاطِنِهِ، فَالْفُسْطَاطُ مِثْلُ الْإِسْلَامِ لَهُ أَرْكَانٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعَلَانِيَةِ وَالْجَوَارِحِ وَهِيَ الْأَطْنَابُ الَّتِي تُمْسِكُ أَرْجَاءَ الْفُسْطَاطِ، وَالْعَمُودُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْفُسْطَاطِ مَثَلُهُ كَالْإِيمَانِ لَا قِوَامَ لِلْفُسْطَاطِ إلَّا بِهِ فَقَدْ احْتَاجَ الْفُسْطَاطُ إلَيْهَا إذْ لَا قِوَامَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِمَا.

كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا نَفْعَ لَهُ إلَّا بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ صَالِحُ الْأَعْمَالِ.

 وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدًا فَلَوْلَا أَنَّهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ ضِدُّهُمَا وَاحِدًا فَقَالَ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران: 86] وَقَالَ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80].

فَجَعَلَ ضِدَّهُمَا الْكُفْرَ. قَالَ: وَعَلَى مِثْلِ هَذَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا إيمَانَ بَاطِنٌ إلَّا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ والإسْلَامَ الظَاهِرٌ عَلَانِيَةً إلَّا بِإِيمَانِ سِرٍّ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ.

(الشرح)

نقل المؤلف رحمه الله عن أبي طالب المكي مثلًا أيضًا للإيمان والإسلام سادسًا أو سابعًا قال:" وَمَثَلُ الْإِيمَانِ والْإِسْلَامِ  أَيْضًا كَفُسْطَاطِ قَائِمٍ فِي الْأَرْضِ لَهُ ظَاهِرٌ وَأَطْنَابٌ وَلَهُ عَمُودٌ فِي بَاطِنِهِ،"، الفسطاط هو الخيمة يعني الخيمة الذي ضُرِبت لها ظاهر ولها أطناب ولها عمود في باطنه، "فَالْفُسْطَاطُ مِثْلُ الْإِسْلَامِ لَهُ أَرْكَانٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعَلَانِيَةِ وَالْجَوَارِحِ وَهِيَ الْأَطْنَابُ" الأطناب: مثل الأعمال هنا أعمال الإسلام وهي الوتد الذي يُربَط الحبل حبال الأطناب " وَهِيَ الْأَطْنَابُ الَّتِي تُمْسِكُ أَرْجَاءَ الْفُسْطَاطِ، وَالْعَمُودُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْفُسْطَاطِ مَثَلُهُ كَالْإِيمَانِ لَا قِوَامَ "له ولا قوة إلا بها، يعني الفسطاط هو العمود الذي في وسط الخيمة هذا لا يقوم إلا بالأطناب والأوتاد فهي التي تمسكه،

"كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ"، وهو أعمال الجوارح كأعمال الجوارح لا قوام له إلا بالإيمان، لا يصح الإسلام إلا بالإيمان، "بِالْإِيمَانِ" وهو من أعمال القلوب ،"وَالْإِيمَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا نَفْعَ لَهُ إلَّا بِالْإِسْلَامِ"، الذي يتحقق به، "وَهُوَ صَالِحُ الْأَعْمَالِ".

قال:" وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدًا"؛ فدل على أنهما شيءٌ واحد،"  فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدًا فَلَوْلَا أَنَّهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ ضِدُّهُمَا وَاحِدًا"، فالله تعالى جعل ضد الإسلام الكفر وجعل ضد الإيمان الكفر؛ فدل على أنهما شيءٌ واحد:" فَقَالَ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران: 86]" فجعل الكفر ضد الإيمان، وقال في الإسلام:" وَقَالَ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80] فجعل الكفر ضد الإسلام.

قال:" فَجَعَلَ ضِدَّهُمَا الْكُفْرَ. قَالَ: وَعَلَى مِثْلِ هَذَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ"، يعني فسَّر الإسلام بالأعمال وفسَّر الإيمان بالأعمال؛ فدل على أنهما شيءُ واحد.

"فَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ثم فسره بالأعمال فقال: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام.

"وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْإِيمَانِ"، يعني الرسول ﷺ  "فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ"، يعني لما سألوه عن الإيمان قال: آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ؛ ففسر الإيمان بالأعمال وفسر الإسلام بالأعمال، ففسر الإسلام في حديث جبريل بهذه الأعمال الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج وفسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم وأداء الخمس.

قال المؤلف:"  فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا إيمَانَ بَاطِنٌ إلَّا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ وَلَا إسْلَامَ ظَاهِرٌ عَلَانِيَةً إلَّا بِإِيمَانِ سِرٍّ"، يعني الإيمان الباطن وهو التصديق لا يصح إلا بإسلامٍ ظاهر وهو العمل الذي تحقق به، والإسلام الظاهر والإسْلَامَ الظَاهِرٌ"، وهو العلانية لا يصح إلا بتصديق باطن "وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ قَرِينَان"، يعني مقترنان،" لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ"، هذا أبو طالب المكي يقرر الإسلام والإيمان شيء واحد، وسيأتي أن المؤلف وسيأتي أن شيخ الإسلام يرد عليه ويبين أن هناك فرقٌ بين الإيمان والإسلام وأن الصواب أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.

(المتن)

قَالَ: فَأَمَّا تَفْرِقَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعُقُودُهَا عَلَى مَا تُوجِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَاهَا أَنْ تَكُونَ عُقُودًا مِنْ تَفْصِيلِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِمَّا يُوجِبُ الْأَفْعَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي وَصَفَهَا أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَةً لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ وَتَضَادٍّ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ.

 قَالَ: وَيَجْتَمِعَانِ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ وَصْفَ قَلْبِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَصْفَ جِسْمِهِ.

قَالَ: و أَيْضًا فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ آمَنَ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مَنْ وَصَفَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَصْفِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ إنْ عَمِلَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ الْإِسْلَامُ ثُمَّ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا وَصَفَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ.

(الشرح)

المؤلف نقل بقية قول أبي طالب المكي في تقريره أن الإيمان والإسلام شيءُ واحد وسيأتي الرد عليه فأبو طالب المكي يقرر الإيمان والإسلام شيء واحد وهذا لا فرق بينها وهذ قال به طائفة من أهل السنة وعلى رأسهم الإمام البخاري، وقال به بعض أهل البدع كقول المعتزلة، والصواب كما سيبين المؤلف رحمه الله أن الإسلام والإيمان ليسا شيئًا واحدًا بل إذا أطلِق أحدهما دخل فيه الآخر، إذا أطلِق الإسلام دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة وإذا أطلِق الإيمان دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا كما في حديث جبريل؛ فسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة.

هذا المؤلف نقل بقية قول أبي طالب المكي:

"قَالَ"، يعني أبو طالب المكي:" فَأَمَّا تَفْرِقَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعُقُودُهَا عَلَى مَا تُوجِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَاهَا أَنْ تَكُونَ عُقُودًا مِنْ تَفْصِيلِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِمَّا يُوجِبُ الْأَفْعَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي وَصَفَهَا أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَةً لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي الْمَعْنَى:

فأبو طالب المكي يقرر أنهما شيءٌ واحد ويقول إن  حديث جبرائيل لما سأل عن الإسلام وفسَّره بالأركان الخمسة: قال: هذا تفصيل أعمال القلوب وعقودها، تفصيل لأعمال القلوب وعقودها، وليس ذلك لأن هناك فرقٌ بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلافٍ وتضاد، "وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ"، هذا على حسب ما ذهب إليه، والصواب كما سيأتي أن الإسلام إذا أطلِق دخل فيه الإيمان والإيمان إذا أطلِق دخل فيه الإسلام، وليس كما قال أبو طالب المكي: أنه تفصيلُ لأعمال القلوب في حديث جبريل.

" . قَالَ"، يعني أبو طالب المكي:" وَيَجْتَمِعَانِ"، يعني الإسلام والإيمان "فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ وَصْفَ قَلْبِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَصْفَ جِسْمِهِ."، هكذا والمؤمن المسلم الذي يعمل ويصدق يجتمعان فيه فيكون اعتقاده هذا وصف قلبه وعمله في الجوارح هذا وصف جسمه.

"قَالَ"، يعني أبو طالب المكي:" و أَيْضًا فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ آمَنَ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مَنْ وَصَفَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَصْفِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ إنْ عَمِلَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ الْإِسْلَامُ ثُمَّ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا وَصَفَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ".

يعني يقول: الدليل على أن الإيمان والإسلام شيءٌ واحد إجماع الأمة أن العبد لو آمن بما جاء في حديث جبريل: آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ولم يعمل بما وصفه بما ذُكِر من وصف الإسلام لم يصلي ولم يزك ولم يصم ولم ينطق بالشهادتين ولم يحج؛ فإنه أجمعت الأمة على أنه لا يُسمى مؤمنًا.

وكذلك إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد بما وصف به من أعمال الإيمان؛ لا يكون مسلمًا، يعني لو نطق بالشهادتين وصلى وزكى وصام وحج لكنه لم يكن مؤمنًا في الباطن بالله وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا القدر؛ أجمعوا على أنه لا يكون مسلمًا.

والأمة لا تجتمع على ضلالة، ما دام أجمعوا على ذلك؛ فالأمة لا تجتمع على ضلالة، وهذا الحديث -حديث: إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ- حديثٌ ثابت، رواه الترمذي في كتاب الفتن عن ابن عمر أنه قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ. رواه الترمذي في المقدمة، وأيضًا رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبو ذر الغفاري: سَأَلْتُ اللهَ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا.

والحديث له ألفاظ، وهو صحيح، هذا استدل به أبو طالب المكي على أن الأمة لما أجمعت على أن المصدِّق لا يصح إيمانه حتى يعمل، والذي يعمل لا يصح إسلامه حتى يؤمن؛ دل على أن الإيمان والإسلام شيءٌ واحد.

هذا ما قرره، وسيأتي جواب المؤلف رحمه الله.

(المتن) 

قُلْت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إذَا أُنْكِرَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ أَوْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَرَ خِلَافَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خِلَافًا، وَإِلَّا فَأَبُو طَالِبٍ كَانَ عَارِفًا بِأَقْوَالِهِمْ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ  مُرَادُهُ فَإِنَّهُ عَقَدَ (الْفَصْلَ الثَّالِثَ وَالثَّلَاثِينَ) فِي بَيَانِ تَفْصِيلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَشَرْحِ عُقُودِ مُعَامَلَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَجْوَدُ مِمَّا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَكِنْ يُنَازَعُ فِي شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الْمُفَصَّلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّمَا يُطْلِقُ مُؤْمِنًا دُونَ مُسْلِمٍ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: أو مُسْلِمٌ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بَلْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله وجَّه كلام أبي طالب المكي فيما سبق من تقريره أن الإسلام والإيمان شيء واحد وبيَّن ما ينازع فيه.

فقال:" قُلْت"، يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كَأَنَّهُ"، يعني أبا طالب المكي،" أَرَادَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ"، أن الإيمان لا يصح إلا بالإسلام والإسلام لا يصح إلا بالإيمان؛ لأن هناك مَن -بعد الصحابة كأبي حنيفة وأصحابه- قالوا: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.

فالمؤلف يوجِّه قوله يقول: "كَأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ" ، أما مَن جاء بعدهم؛ كأهل الكوفة ومرجئة الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه، فإنهم يخالفون، على خلاف ما أقرَّه.

"أَوْ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فِي الْأَحْكَامِ"، هذا توجيه آخر، أنه قصده أنه لا يسمى مؤمنًا في الأحكام، "أَوْ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إذَا أُنْكِرَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ"، هذا توجيه ثانً، توجيه لقول أبي طالب المكي: أنه لا يسمى مؤمنًا في الأحكام، "أَوْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ"، إذا أنكر بعض هذا الأركان، أو علم أن الرسول أخبر بها ولم يصدقه، هذا التوجيه الثاني.

وتوجيه ثالث قال:" أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَرَ خِلَافَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خِلَافًا"، أهل الأهواء: أهل البدع، يعني المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام يوجه قول أي طالب المكي في تقريره أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحد وأن الناس أجمعوا على هذا بثلاثة توجيهات:

التوجيه الأول: أنه أراد إجماع الصحابة ومن اتبعهم، وأما مَن بعدهم فإنهم ليسوا كذلك.

التوجيه الثاني: أنه مقصوده أنه لا يسمى مؤمنًا في الأحكام.

التوجيه الثالث: أن لم يرَ خلاف أهل الأهواء خلاف أهل البدع، وإلا أهل البدع يخالفون في هذا فيرون أن الإسلام شيء والإيمان شيء أخر.

ولذلك قال المؤلف: "وَإِلَّا فَأَبُو طَالِبٍ كَانَ عَارِفًا بِأَقْوَالِهِمْ"، فأبو طالب كان عارفًا بأقوالهم لكنه لم يعتبر ذهاب الاعتذار الثالث أنه لم يرَ خلاف أهل البدع خلافًا، يقول:" فَإِنَّهُ"، يعني أبو طالب المكي:" عَقَدَ (الْفَصْلَ الثَّالِثَ وَالثَّلَاثِينَ) فِي بَيَانِ تَفْصِيلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَشَرْحِ عُقُودِ مُعَامَلَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ".

قال المؤلف رحمه الله: تعليق عليه:" وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَجْوَدُ مِمَّا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ"، يعني الذي قاله أبو طالب جيد في الجملة، "لَكِنْ يُنَازَعُ فِي شَيْئَيْنِ"، قررهما، يعني أبو طالب المكي ينازع في شيئين أقرهما

الشيء الأول: قول أبو طالب المكي:" الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الْمُفَصَّلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ"، هذا ينازع فيه، المسلم الذي يستحق الثواب لا يلزم أن يكون معه الإيمان المفصل تفصيل الإيمان بالله والإيمان بالملائكة والإيمان بالكتب والإيمان بالرسل والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر، هذا لا يستطيع معرفة تفصيله إلا أهل العلم، يكفي أن يكون معه الإيمان المجمل وما يستطيعه من التفصيل.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" يُنَازَعُ فِي شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الْمُفَصَّلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ".

فالمؤلف يقول: ينازَع في هذا، لا يلزم أن يكون معه الإيمان المفصل، يعني: تفصيل الإيمان، وتفصيل هذه الأركان الستة طويل لا يستطيعه كل أحد، يكفي معه الإيمان المجمل بالله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، يؤمن بالملائكة -في الجملة-، يؤمن بتفصيل ما عرف منهم، ويؤمن بالكتب المنزلة ويؤمن بالرسول، ويؤمن باليوم الآخر بالبعث والجزاء والجنة والنار والحساب، يؤمن بالقدر، أما التفاصيل فلا يستطيعها كل أحد.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:"  يُنَازَعُ" ينازع في هذا في اشتراطه التفصيل، "أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الْمُفَصَّلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ.

وَالثَّانِي"، يعني الشيء الثاني الذي ينازَع فيه: "أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّمَا يُطْلِقُ مُؤْمِنًا دُونَ مُسْلِمٍ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ أو مُسْلِمٌ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بَلْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ"،

يعني يُنازَع في هذه المسألة، فإن أبا طالب قال: إن الذي نفى عنه النبي ﷺ الإيمان في قصة سعد، لما قسم النبي ﷺ  قسمًا، قال: وتركَ رجلًا كان أعجبهم إليَّ، فقال سعد: يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا، فقال النبي ﷺ: أو مسلمًا، يعني: ما وصل إلى درجة الإيمان، قال: فسكت ثم غلبني ما أجد، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا، فقال: أو مسلمًا فسكت، ثم قال في المرة الثالثة، ثُمَّ قال النبي: أقتالًا يا سعد إني لأعطي الرّجُل وغيره أحب إليَّ؛ مخافة أن يكبه الله على وجهه في النار.

يعني النبي ﷺ حينما يعطي الغنائم -يُقَسِّم الغنائم-؛ ليجلب الصحابة للإسلام؛ حتى يتقوى إيمان ضعيف الإيمان، فهو يعطيهم تقويةً لإيمانهم، فيعطي الرجل وغيره أحب إليه؛ مخافة أن يكبه الله على وجهه في النار، يعني: مخافة أن يرتد عن دينه فيموت على غير الإسلام. فهو يعطيه حتى يتقوى إيمانه، وأما قوي الإيمان فلا يعطيه.

فهذا الرجل الذي تركه النبي ﷺ، فقال سعد: واللهِ إني لأراه مؤمنًا، فقال النبي ﷺ: أو مسلمًا، يعني: أنه لم يصل إلى رتبه الإيمان الذي يُطلق عليه الإيمان.

فقول أبي طالب المكي: إن الذي قال فيه النبي ﷺ :"أو مُسْلِمٌ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بَلْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا".

فالذي يُنفى عنه الإيمان ليس لأنه لم يصل إلى درجة السابقين المقربين، بل إن المقتصدين الأبرار يُطلق عليهم الإيمان، والذي يُنفى عنه الإيمان أقل من ذلك، كما دلت النصوص على أن الذي يُنفى عنه الإيمان هو مَن قصَّر في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، أما مَن كان من المقتصدين الأبرار الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات؛ يُطلَق عليهم الإيمان ولو لم يصلوا إلى درجة السابقين المقربين.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:" فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاء".

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد