شعار الموقع

شرح كتاب الوصية الكبرى_5

00:00
00:00
تحميل
63

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين, قال المصنف رحمه الله تعالى:

(المتن)

وهؤلاء قد يسمون الحلولية والاتحادية، وهم صنفان: قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء، كما يقوله النصارى في المسيح عليه السلام، والغالية في علي رضي الله عنه ونحوه.

وقوم في أنواع من المشايخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى.

وصنف يعممون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني والبلياني وغيرهم.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

ذكر المؤلف رحمه الله فيما سبق: أن من الناس من يضل فيُجوِّز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر، كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك، وذكر أن هؤلاء يسمون بالحلولية والاتحادية.

  • ثم بين رحمه الله أن الحلولية والاتحادية صنفان:

الصنف الأول: قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء.

والصنف الثاني: يعممون الذين يقولون بالحلول والاتحاد.

ومعنى الحلول: هو قولهم: إن الله حل في بعض الناس والعياذ بالله! وهذا كفر وضلال.

والاتحادية يقولون: اتحد الله مع بعض الناس وصار معهم شيئاً واحداً، فالاتحادية يقولون: الوجود واحد، فالعبد هو الرب والرب هو العبد، اتحدا فصارا شيئاً واحداً، فلا فرق بين العبد والرب، فالعبد هو الرب والرب هو العبد، وليس هذا ابن عربي (....).

فالصنف الأول: قوم يخصونه بالحلول والاتحاد في بعض الأشياء لا في جميع المخلوقات.

والطائفة الثانية: قوم يعممون في جميع المخلوقات، فيقولون: الله حل في كل المخلوقات، والعياذ بالله.

إذاً فالذين يعممون يقولون: ليس في الوجود إلا الله، فالله هو العبد والعبد هو الله الرب هو العبد والعبد هو الرب ما في وجودين، لا يوجد وجودان وإنما هو وجود واحد، فهذا الوجود الذي تراه هو الخالق وهو المخلوق أنت الرب وأنت العبد نعوذ بالله! فهؤلاء يعممون الوجود.

وهناك طائفة أخرى يخصصون فيقولون: وأن الله حل في بعض الأشياء لا في جميعها، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام، فالنصارى يقولون: إن الله حل في المسيح عليه الصلاة والسلام فقط ولم يحل في غيره، ويقولون: إن فالمسيح هو الله والعياذ بالله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.

وكذلك الغالية من الرافضة الذين يقولون: إن الله حل في علي، ويقولون: علي هو الإله، والله حل فيه ولم يحل في غيره.

وكذلك قوم يخصون الحلول في أنواع من المشايخ، يعني: مشايخ الصوفية، فبعضهم يقولون: إن الله حل في بعض شيوخ الصوفية الشيخ الفلاني وشيخ الطريقة حل فيه.

وهناك قوم يخصون ويقولون: إن الله حل في بعض الملوك، وقوم يقولون: إن الله حل في بعض الصور الجميلة يرى صنمًا جميلًا أو صورة جميلة يقول: الله حل فيها، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى، ولا شك أن هذه شر من مقالة النصارى؛ لأن النصارى خصصوا الله بالمسيح، وهؤلاء جعلوه في أنواع من مشايخ الصوفية, وهذا هو الصنف الأول الذين يقولون: إن الله حل أو اتحد في بعض الأشياء دون بعض دون الأشياء الأخرى.

والصنف الثاني يعممون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات، ويقولون: الله حل في جميع الموجودات واتحد مع جميع الموجودات، بحيث أن يكون كل مخلوق هو الله اتحد به، يقول المؤلف: (حتى الكلاب والخنازير والنجاسات) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

ويقولون: إن الله حل في أجواف الطيور وبطون السباع حتى الكلاب والخنازير تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية، كأصحاب ابن عربي، وابن عربي هذا هو محمد محيي الدين ابن عربي وهو رئيس الاتحادية والعياذ بالله، وابن سبعين كذلك وابن الفارض وكل هؤلاء من الاتحادية، وهكذا التلمساني والبلياني وغيرهم، وهؤلاء من أكفر خلق الله الاتحادية والحلولية.

أيهما أشد كفراً الحولية أم الاتحادية؟ وهل الحلولية والاتحادية شيء واحد أو شيئان؟.

الحلولية والاتحادية أن بعضهم يرى أن المعنى واحد أن القول بالحلول والاتحاد واحد، ويرى آخرون أن الحلولية والاتحادية صنفان: فالحلولية هم الذين يقولون: إن الله حل في بعض المخلوقات، فيقولون: بوجود الاثنين أحدهما حل في الآخر كالماء حل في الكرسي.

والاتحادية أعظم كفراً فيقولون فيقول: اتحد الخالق بالمخلوق، ليس سعيد ولا تعيس الوجود واحد.

الحلولية يقولون بوجود اثنين أحدهما حل في الآخر فالخالق (...) اثنان موجودان, أما الاتحادية فيقولون الوجود (...) نعوذ بالله.

ورئيسهم ابن عربي، ابن عربي يقول: "الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف", أيهما المكلف بدأ العبد هو الربُ والرب هو العبد أيهما المكلف؟ إن قلت عبد فذاك تميزه أو قلت رب أنى يُكلف فاشتبه عليه الأمر والعياذ بالله! ما يدري أيهما العبد أو الرب "الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف".

ومن أقوال ابن عربي: "رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك" العبد فقط والكثرة وهم، يقول: ما تراه من الأشخاص هذا وهم وإلا فالوجود واحد، وكل ما تراه مظاهر لتجلي الله ولتجلي الحق، نعوذ بالله! ويقول ابن عربي: "إن من أسماء الله الحسنى العلي"، ثم يقول: علي على ماذا؟ وما ثَم إلا هو وليس في الوجود إلا هو! نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء من أكفر خلق الله.

وابن عربي هو رئيس وحدة الوجود وهو يدعي أنه من كبار العارفين، وهناك من يقدس ابن عربي ويعظمه ويحترمه، وهناك من ينتصر له ويقول: إنه من كبار العارفين المحققين وتُطبع مؤلفات الاتحادية بورق ثقيل وتحقق ويعتذر عن ابن عربي، وابن عربي له مؤلفات منها: "الفتوحات المكية".

ومنها كتاب "فصوص الحُكم" وكتابه فصوص الحكم يعارض فيه القرآن، ويفسر القرآن بتفسيرات كفرية إلحادية، فيقول مثلاً: فص نوح ويأتي بقصة نوح، فص هود مثلًا وعاد، ويقول: "إن الوجود واحد، وكل من عبد شيئاً فهو على صواب" فمن عبد الأصنام فهو على صواب! ومن عبد النار فهو على صواب! ومن عبد البشر فهو على صواب! ومن عبد الحجر فهو على صواب! والكفر بالتخصيص، فيقول: الذي يمنع ويخصص ولا يعبد إلا شيئًا واحد فهذا هو الكافر عنده, يقول: "الكفر بالتخصيص".

ويقول: "سر حيث شئت فالله ثمَّ، وقل ما شئت فالواسع الله"، وكل شيء تراه هو الله! ومن فروع هذا المذهب أن كل من عبد شيئًا فهو على صواب، ويقول: إن فرعون مصيب حينما قال: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)[النازعات/24].

يقول: لأن الله يتجلى في صورة معبود كما تجلى في صورة فرعون، ويتجلى في صور هادٍ كما يتجلى في صورة الرسول وكلهم على الصواب، وكل من عبد شيئاً فهو على صواب! والذي يمنع من عبادة شيء فهو الكافر! والذي يخصص ويقول: لا يعبد إلا شيء واحد فهذا هو الكافر عند الاتحادية، والعياذ بالله.

أو فسر قصة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وقصة إغراق الله فرعون يقول: إن فرعون أغرق ليزول الحسبان والتوهم؛ فإن فرعون قال: )أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)([النازعات/24] فخص نفسه،: وأنت أنت الرب فقط كل الناس أرباب، وليس خاصاً بك، فلما توهم هذا التوهم أغرق تطهيراً له؛ ليزول الوهم والحسبان، حتى لا يتوهم أنه هو الرب وحده.

ويقول: إن موسى عليه السلام لما ذهب لنقاش ربه ورجع إلى بني إسرائيل وجدهم يعبدون العجل ومعهم هارون، وهارون نصحهم وعجز عنهم وكادوا يقتلونه، ولما جاء موسى كما قال الله في القرآن أخذ برأس أخيه يجره إليه من شدة الغضب, أخبره الله أن بني إسرائيل عبدوا العجل، لكن لما رآهم يعبدون العجل اشتد غضبه وألقى الألواح حتى تكسرت من شدة الغضب، وعفا الله عنه؛ لأنه غلطان معفون عنه, فيها كلام الله, ثم أخذ بلحية أخيه هارون وهو نبي مثله يجره من شدة الغضب: كيف تتركهم يعبدون العجل؟ فقال له هارون: )يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي([طه/94].

هو أخوه من أمه وأبيه، لكن قال: (يَبْنَؤُمَّ) من باب الاستعطاف: )لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)([طه/94].

يقول ابن عربي: إنما أخذ موسى بلحية هارون إنكارًا عليه حيث أنكر على بني إسرائيل عبادة العجل، وقال: لِمَ لم تتركهم يعبدون العجل؟! أعوذ بالله! فالمقصود: أن ابن عربي هذا من أكفر خلق الله رئيس وحدة الوجود، ومثله ابن الفارض وابن سبعين والتلمساني، فكل هؤلاء من رؤوس الكفر والعياذ بالله! فهم صوفية اتحادية ملاحدة.

وهم أشد كفرًا من الحلولية؛ لأن الحلولية يثبتون وجودين أحدهما حل في الآخر، والاتحادية يقولون: ليس هناك تعدد الوجود واحد لا اثنين ولا تعدد، ولهذا يقولون: من قال عن الاتحادية: إنهم حلولية يقولون: أنت محجوب عن معرفة سر المذهب، ولا تعرف المذهب, القول بالحلول قولٌ لوجود اثنين خالق ومخلوق أحدهما حل في الآخر, ونحن مذهبنا لا اثنينية ولا تعدد والوجود واحد, أعوذ بالله نسأل الله السلامة والعافية فهم من أكفر خلق الله ومع ذلك هناك من يعتذر لهم.

  • وابن عربي يقسم الناس إلى أقسام:

1-عامة. 2-وخاصة. 3-وخاصة الخاصة.

فالعامة: لهم التكاليف من صلاة وصيام وزكاة وحج وذكر ومن العامة جميع الأنبياء والمرسلين, وعندهم طاعات ومعاصي.

ثم الخاصة: أما الخاصة فإنهم وصلوا إلى درجة ارتفعت عنهم التكاليف وليس عندهم معاصي فكل ما يفعلونه طاعات، حتى ولو فعلوا الكفر والزنا والسرقة فهي طاعات؛ لأنهم تجاوزوا التكاليف.

وهناك خاصة الخاصة: وهم الذين وصلوا إلى القول بوحدة الوجود ما عندهم طاعات ولا معاصي والعياذ بالله.

ويقول إن العامة: لهم أذكار، وأذكارهم: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر هذه أذكار العامة ومن العامة (...).

وأما الخاصة: فيكفيهم في الذكر كلمة لفظ الجلالة، لا يحتاج يقول: لا إله إلا الله، بل يقول: الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله فهذه أذكار الخاصة.

وخاصة الخاصة: ما يحتاج إلى لفظ الجلالة, يأخذون بالهاء من لفظ الجلالة: هو، هو، هو، هو، هو، هو وهكذا، فهذه أذكار خاصة الخاصة، وهؤلاء موجودين الآن في كل مكان.

إذا خرجت من هذه البلاد تجد الصوفية في كل مكان، في كل بلد مئات الطرق، ولكل شيخ طريقة يقودهم إلى النار.

فبعض الطرق كفر، وبعضها بدع وهكذا، ولفظ (هو هو هو) هذا ذكر خاصة الخاصة, والخاصة ذكرهم (الله, الله, الله, الله) هذا ما هو بذكر وليس جملة مفيدة، فلفظ الجلالة وحده ليس بذكر ولا يفيد القلوب إيمان ولا تقوى؛ لابد للذكر أن يكون جملة مفيدة كالله أكبر، أو سبحان الله، أو الحمد لله، أما الله، الله، الله، الله فهذا ذكر الخاصة.

وأما خاصة الخاصة فيأخذون الهاء فقط ويقولون: هو هو هو، يقول بعض الناس: ذهبت إلى أفريقيا فوجدت جماعة صوفية يجلسون من بعد العصر إلى غروب الشمس وهم يقولون: الله الله الله الله الله الله الله الله، حتى تغرب الشمس وبعضهم يدور حتى يسقط ويغمى عليه، نسأل الله السلامة والعافية.

ويقول ابن عربي: "عندي دليل على أن ذكر خاصة الخاصة (هو)"، حتى إنه ألف كتاباً سماه كتاب "الهو" وقال: عندي دليل من القرآن على أن ذكر الخاصة (الله)، وعلى أن ذكر خاصة الخاصة (هو) ما هو الدليل؟ يستدل بقوله تعالى: )وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ([الأنعام/91].

فهذا دليل على أن هذا ذكر الخاصة (الله).

ويقول: الدليل على أن ذكر خاصة الخاصة (هو) قوله تعالى: )وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ([آل عمران/7] هذا دليل على أن (هو) ذكر خاصة الخاصة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فقلت لبعض الصوفية: لو كان كما تقول: لفُصلت الهاء منفصلة عن الكلمة التي قبلها وكتبت: (وما يعلم تأويل هو) لكن الآية فيها أن الهاء مرتبطة بما قبله: (وما يعلم تأويله)".

وهم كفرة لا يؤمنون بالقرآن والعياذ بالله الاتحادية والحلولية لا يؤمنون بالقرآن، لكن هذا من باب التغطية والنفاق وذر الرماد في العيون؛ حتى يدلسوا ويموهوا على الناس أنهم يعبدون الله بالقرآن، وإلا فإن بعض الصوفية لما قيل له: إن القرآن يخالف ما تذكرون، قال: القرآن كله شرك من أوله إلى آخره والحق ما نقول، نعوذ بالله! وكثير من الصوفية الملاحدة إذا أذن المؤذن شتمه وقال: لأنه يذكر الله وهو يريد أن ينسى كل شيء! وإذا نبح الكلب أو نهق الحمار أثنى عليه؛ لأن الحمار والكلب يُنسيه، والمؤذن يذكره بالله! وهذا المؤذن يثبت اثنين: أحدهما خالق ومخلوق فهو يثبت اثنين، والحمار والكلب ينسيه فلا يذكر إلا شيئاً واحداً لأن هو الرب وهو العبد.

والخاصة عندما يريدون أن يترقوا إلى مرتبة خاصة الخاصة يقولون له: تنسى كل شيء حتى نفسك تنساها، ولا تشاهد إلا الله حتى يغلب الشهود عليه فيظن أنه هو الله وأن الله اتحد معه، فالمؤذن حينما يذكر الله يُثبت اثنين؛ فلذلك يشتمه الصوفية الملاحدة قبحه الله وأخزاه.

فالمقصود: أن الاتحادية الآن من أكفر خلق الله الذين يقولون: إن الله حل أو اتحد بالمخلوق، والحلولية أخف كفراً؛ لأنهم يقولون بوجود اثنين أحدهما حل في الآخر، والاتحادية لا يقولون بالتثنية, يقولون: الوجود واحد، اتحد الخالق بالمخلوق، بل ليس هناك خالق ولا مخلوق بل الوجود واحد، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

(المتن)

ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتاب أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه.

(الشرح)

هذا مذهب جميع المرسلين الذين أرسلهم الله ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب: (أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم الفقراء إليه).

وهذا فيه إبطال لمذهب الحلولية والاتحادية الكفرة، الذين يقولون: الوجود واحد، وخالفوا جميع الأنبياء والمرسلين، وخالفوا جميع العقلاء، فإذا قلت للاتحادية: كلامكم هذا غير معقول مخالف للعقل ويبطله العقل والحس والسمع، قالوا: ما تفهم مذهبنا حتى تخرق الحس والعقل وتلغي عقلك فتكون مجنون يعني وتُلغي الحس حتى تفهم هذا المذهب, تبطل كل هذه الأشياء حتى تفهم المذهب.

فيصير كافراً والعياذ بالله! لأنه يترك الشرع ويكون مجنوناً ويلغي عقله حتى يفهم مذهب هؤلاء الملاحدة، يقولون: ما تفهم الآن مذهبنا بإحساسك وشعورك ودينك، ألغ دينك وألغ عقلك وألغ شعورك وثم ستفهم المذهب، فأنت الآن محجوب عن معرفة سر المذهب، نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله من زيغ القلوب.

فهؤلاء الاتحادية والحلولية خالفوا جميع الأنبياء والمرسلين، وخالفوا ما عليه العقلاء، وخالفوا ما عليه الحس، وخالفوا ما عليه الفطرة فمذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين (...): (أن الله سبحانه خالق العالمين ورب السموات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه) وكل من في السموات والأرض سيأتي ربه يوم القيامة معبداً مجبوراً تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، قال الله عز وجل: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)([مريم/93-95].

(المتن)

وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد:4].

(الشرح)

هذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه المسلمون: أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ومنفصل، فلم يدخل في ذاته شيء من خلقه ولا في مخلوقاته شيءٌ من ذاته، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا معهم بعلمه وإحاطته واطلاعه، وهو فوق العرش، وهو مع المؤمنين بنصره وتأييده وتوفيقه وتسديده، فالمعية معيتان معية عامة ومعية خاصة.

والمعية العامة: عامة للمؤمن والكافر، فالله مع كل أحد بعلمه, هذه المعية العامة معية علم واطلاع وإحاطة ونفوذ القدرة والمشيئة، فهو سبحانه مع الخلق كلهم بعلمه، يعلم أحوالهم ويطلع عليهم ويحيط بهم، وهم في قبضته وتصرفه، وتنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ولا يمتنعون منه.

وهو مع المؤمنين خاصة: بنصره وتأييده وتوفيقه وتسديده كما قال تعالى لنبيه: )لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا([التوبة/40]، فهذه معية خاصة, وقوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)([النحل/128]، هذه معية خاصة، وأما قوله تعالى: ({وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[الحديد:4]), فهذه معية عامة.

(المتن)

فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه! وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً أو صبياً أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمهم، يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفاراً؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}[المائدة:17]، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولداً حتى قال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:88 - 93] فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليًا رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله.

وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خُدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثاً ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يُقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله يبين أن هؤلاء الاتحادية والملاحدة والصوفية هؤلاء ضلال كفار؛ لأن هؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم (أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه)، هذه بعض الصوفية كما سبق أن بعض الصوفية يقول: إن الله ينزل عشية عرفة على جمل، وإنه يحاضر ويُسامر ويُصافح ويعانق, وبعضهم يقول كاليهود: إنه يندم ويحزن ويبكي! تعالى الله عما يقولون.

فبعض الصوفية يزعم أنه يرى ربه بعينيه، وبعضهم يزعم أن الله يكون في الخضرة! إذا كان كل شيء أخضر يكون فيه الله، وهذا معروف عن الصوفية أنهم يقدسون الشيء الأخضر، الشيء الأخضر يقدسه الصوفية حتى الصوفية الآن الموجودين فتجد عندهم اللمبة الخضراء على الجدران خضراء، والمسبحة خضراء، والسجادة خضراء، وهكذا هم يقدسون الأخضر من قديم والخضرة أيضًا من النباتات، وكل شيء أخضر يقولون: لعل ربنا موجود في هذا.

(ربما زعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أحدهم أن الله جالسه وحادثه أو ضاجعه) والعياذ بالله, كذلك بعضهم يزعم أنه يحضر في المولد، يقيم المولد ويزعم أن الله يحضر في الحضرة ويسمونها الحضرة، فيقول: إن الله حضر هنا! تعالى الله عما يقولون.

(وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً أو صبياً) ويقول: إن الله حل في هذا! والعياذ بالله! وبعضهم يزعم أن الله كلمه! وكل هؤلاء يقول عنهم المؤلف رحمه الله: (يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفاراً).

فمن زعم أنه يرى ربه بعينيه في الدنيا أو زعم أنه يجالس الله أو يحادثه أو يضاجعه أو عين آدمياً أو صبياً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتل كافراً، وكفْر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى, لماذا؟ لأن النصارى قالوا: إن الله حلَّ في عيسى فقط، وأما هؤلاء فقالوا: حل في كل شيء في أشخاص وآدميين كثيرين؛ ولأن هؤلاء ملاحدة زنادقة، واليهود والنصارى أهل كتاب، وكفر أهل الكتاب أخف من كفر الملاحدة والمشركين والوثنيين.

فيقول المؤلف: (إن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة)، كما أخبر الله: )وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)([آل عمران/45].

فإذا كان الذين قالوا: إن الله حل في المسيح, أو الذين قالوا: إن المسيح هو الله وأنه اتحد به أو حل فيه  قد كفرهم الله وعظم كفرهم، فقال: ({لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}[المائدة:17] ).

)لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ( [المائدة/73].

بل إن الله كفر الذين قالوا: إن الله اتخذ ولداً فقال سبحانه: ({وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:88-89]).

يعني: شرًا عظيماً، ({تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90]) من عظم هذا القول وهو القول: بأن لله ولداً.

هو أمر عظيم تكاد السماوات تتفطر وتتشقق: ({تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:90-93]), فكل من في السموات والأرض يأتي عبداً لله، فكيف يقال: إن لله ولداً؟! تعالى الله.

فإذا كان الذي يقول: إن الله حل في المسيح يكون كافر والمسيح وجيه ومكرم عند الله فالذي يزعم أن الله حل في شخصٍ من الأشخاص يكون أكفر من الذي: إن الله حل في المسيح, إذا كان الذي يقول: إن الله حل في المسيح والمسيح وجيه نبيٌ كريم يكون كافرًا والله كفره وعظم كفره, فالذي يقول: إن الله حل في شخص من الأشخاص غير المسيح يكون كفره أعظم وأعظم.

ولهذا قال المؤلف: (فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو الله، فهذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله)، وغلاة الشيعة والرافضة يقولون: إن الله حل في علي وإن علياً هو الإله، فهؤلاء كفرة ملاحدة، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار وهم الذين قالوا: إن علي هو الله وهم السبأية، بعضهم أهل سبأ الذين غلو في علي، وقالوا: إن علي هو الله.

فلما رأى ذلك علي رضي الله عنه أنكر عليهم وأمر بأخاديد خُدت لهم عند باب كندة وأخاديد يعني حفر في الأرض شُقت حفر، وجعل فيها الحطب وأضرمها ناراً ثم قذفهم فيها وحرقهم فيها من شدة غضبه عليهم حرقهم وما قتلهم بالسيف حرقهم بالنار, لماذا؟ لشدة غضبه عليهم وغيظه عليهم، وقال لمولاه: "لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً" فلما رأوا ذلك زادوا في عبادته وسجدوا له، وقالوا: هذا هو الله الذي يعذب بالنار! نعوذ بالله.

واتفق الصحابة على قتلهم, الصحابة جميعاً اتفقوا على أنهم يستحقون القتل، إلا أن ابن عباس خالفه في كيفية القتل، فكان مذهب ابن عباس أن يُقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء؛ لأن ابن عباس يرى أنه يُقتلون بالسيف ولا يُحرقون بالنار واستدل بحديث: «لا يعذب بالنار إلا رب النار»، وهذا هو الصواب، لكن علياً رضي الله عنه لم يقتلهم بالسيف من شدة غضبه عليهم، أو لأنه خفي عليه النص الذي فيه: «أنه لا يحرق بالنار».

وكذلك أبو بكر رضي الله عنه وخالد بن الوليد في قتاله لأهل الردة حرق بعضهم بالنار، فلعله خفي عليهم النص، وإلا فقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحراق رجلين بالنار، ثم دعاهما فقال: «اقتلوهما بالسيف ولا تعذبوهما بالنار فلا يعذب بالنار إلا رب النار»، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

(المتن)

وكذلك الغلو في بعض المشايخ إما في الشيخ عدي.

(الشرح)

هذا الفصل الثاني وسبق أن المؤلف رحمه الله قال: الفصل الأول, والمؤلف رحمه الله ذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعوها في فصول قال: الفصل الأول: الأحاديث الموضوعة والمكذوبة.

(المتن)

الفصل الثاني: وكذلك الغلو في بعض المشايخ، إما في الشيخ عدي ويونس القني أو الحلاج وغيرهم. قال: هو يونس القني هو يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي الجزري القني الزاهد.

قال الذهبي في السير: أحد الأعلام، شيخ اليونسية أولي أولى الزعارة والشراحين.

الشيخ: على كل حال يحتاج إلى تحقيق وضبط الاسم

والقني نسبه إلى قرية القنية، والقنية قرية من أعمال دارا من نواحي ماردين.

بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونحوه بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه.

فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي رضي الله عنه أو عدي أو نحوه، أو فيمن يُعتقد فيه الصلاح كـ الحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني ونحوهم وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله مثل أن يقول: يا سيدي فلان! اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر.

(الشرح)

هذا الفصل الثاني بين فيه المؤلف رحمه الله الغلو في الأحياء والأموات، فقال: (وكذلك الغلو في بعض المشايخ) من غلا في بعض المشايخ وجعل فيه نوعاً من الإلهية فإنه مشرك كافر مرتد، نعوذ بالله.

أي شيخ كان هذا الغلو في بعض العلماء كالشيخ عدي بن مسافر الذي وجه المؤلف له هذه الرسالة ويونس القني، أو الحلاج الذي قُتل، أو الغلو في علي رضي الله عنه، أو الغلو في المسيح عيسى ابن مريم، أو غيرهم؛ فكل من غلا في حي أو ميت أو في رجل صالح كمثل علي، أو عدي، أو نحوه أو فيمن اعتقدوا فيه الصلاح كـ الحلاج، أو الحاكم الذي كان بمصر هو الحاكم العبيدي أو يونس القني (وجعل فيه نوعاً من الإلهية فإنه يكون كافراً مرتداً) كل من غلا في حي أو في ميت سواءً كان شيخًا أو صحابيًا أو نبيًا غلا فيه وجعل فيه نوع من الإلهية (فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً) لأن هذا مصادم لدين الله، ومصادم للتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب.

كيف يجعل فيه نوعًا من الإلهية؟ مثل أن يدعوه من دون الله (يطلب منه الرزق، أو يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده) إذا اعتقد أنه هو الذي يرزق، قال الله تعالى عن إبراهيم: )وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)([العنكبوت/16-17].

فمن اعتقد في شخص أنه هو الذي يرزق ويقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ شيخ الصوفية شيخ الطريقة فلان ما أريده فهذا كفر، هذا من الغلو فيكون مشركاً، إذًا يعتقد أن فلاناً يرزق، وهذا نوع من الإلهية، وهو شرك يستتاب منه فإن تاب وإلا قتل، أو يقول: (إذا ذبح شاة وقال: باسم سيدي) أشرك بالله لأنه ذكر عليها اسم السيد، قال تعالى: )وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ([الأنعام/121]، أو يعبده من دون الله ويسجد له كفر؛ لأن السجود عبادة أو لغيره.

أو يدعوه من دون الله فيقول: يا فلان أغثني فرج كربتي، أو يا سيدي فلان اغفر لي، أو يا سيدي فلان ارحمني، أو يا سيدي فلان استرني أو يا سيدي فلان ارزقني، أو يا سيدي فلان أغثني، أو يا سيدي فلان أجرني، أو يقول: توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله.

فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتل؛ لأن هذا مصادم للأمر الذي خلق الله لأجله الخليقة وبعث لأجله الرسل وأنزل لأجله الكتب؛ ولهذا قال المؤلف: (فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل معه إلهاً آخر).

(المتن)

والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسرًا أو وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله.

فأرسل الله رسله تنهى أن يُدعى أحدٌ من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:56 - 57].

قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.

(الشرح)

بين المؤلف رحمه الله أن الذين يدعون مع الله آلهة أخرى إنما شركهم بدعاء غير الله أو النذر لغير الله، وليس شركهم في اعتقادهم أنهم يخلقون أو يرزقون، يعني الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى لا يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون أو يميتون، بل يقولون: هذا من خصائص الله، لكن شركهم في صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله، إما يصرفون لهم الدعاء أو الذبح أو النذر أو الطواف.

فبعض الناس إذا قلت له: هذا شرك إذا دعوت غير الله فهو شرك، قال: أنا ما أعتقد أنه يخلق ويرزق، أنا أقول: إن الله هو الذي يخلق ويرزق وهذا لا يخلق ولا يرزق وليس بيده شيء من الأمر، لكن أدعوه حتى ينقل حوائجي إلى الله ويقربني إلى الله؛ لأنه وجيه، وهو واسطة بيني وبين الله.

فنقول: هذا هو الشرك بعينه، هذا هو شرك المشركين، كما قال عز وجل: )وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ([يونس/18].

وقال: )مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى([الزمر/3].

لا يُشترط أن تعتقد أنه يخلق ويرزق، نقول: لو اعتقدت أنه يخلق ويرزق لكان شركاً في الربوبية أعظم من الشرك في الألوهية، فكونك تدعوه أو تذبح له أو تنذر له هذا شركٌ في العبادة.

ولهذا قال: (والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسراً وغير ذلك من المعبودات التي كان يعبدها المشركون لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تُنزل المطر، أو أنها تنبت النبات, وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم لقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله).

إذاً يعبدونهم لأي شيء؟ هل هم يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون أو يميتون لا، يعبدونهم لأجل القربة والشفاعة فقط.

فيقولون: هم أقرب منا إلى الله ينقلون حوائجنا إلى الله، ويشفعون لنا عند الله، (فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة).

ودعاء العبادة: كأن يركع له أو يسجد له.

ودعاء الاستغاثة: كأن يستغيث به ويستنجد به ويسأله، فهذا وهذا كلاهما نوع من الشرك.

قال تعالى: ({قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:56 - 57]).

(قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح يعني عيسى وعزيراً والملائكة، فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي).

والله تعالى بين أنهم لا يملكون كشف الضر، يعني: إزالة الضر، ولا تحويله: أي نقله من حال إلى حال، فكيف يُعبدون من دون الله؟! قال تعالى: ({أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}[الإسراء: 57]).

يعني: كما قال بعض السلف: هؤلاء الذين تدعونهم هم محتاجون إليَ يتقربون إلي كما تتقربون إلي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.

إذاً إذا كانوا محتاجين فلا يصلحون آلهة فالإله الكامل لا يحتاج إلى أحد، وهؤلاء الذين تعبدونهم يحتاجونني ويدعونني كما تدعونني، ويخافونني كما تخافونني.

(المتن)

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:22 - 23].

فأخبر سبحانه أن ما يدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك، ولا شرك في الملك، وأنه ليس له من الخلق عون يستعين به، وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه.

(الشرح)

هذه الآية يقول العلماء: قطعت عروق الشرك وهي آية سبأ؛ فإن الله سبحانه وتعالى بين فيها أن العابد إنما يعبد معبوداً, لماذا؟ لما يرجوه من النفع، لا يعبده إلا ليرجو حصول النفع أليس كذلك؟ لماذا يعبده يرجو حصول النفع.

  • والنفع لا يحصل من واحد إلا بأمور أربعة:

الأمر الأول: أن يكون المرجو مالكاً للشيء الذي يريده عابده يملكه حتى يعطيه.

الأمر الثاني: إن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك.

الأمر الثالث: إن لم يكن شريكاً للمالك كان معيناً ومساعداً وظهيراً.

الأمر الرابع: إن لم يكن معيناً ولا مساعداً صار شفيعاً.

وقد نفى الله هذه الأنواع الأربعة واحداً بعد واحد مرتباً منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى.

فتبين بذلك أن المعبودين من دون الله لا يستطيعون نفع معبوديهم بأي نوع من أنواع النفع، فقال سبحانه: ({قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[سبأ:22])., قل لهم يا محمد: ادعوا الذين زعمتم أنكم تدعونهم: ({لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}[سبأ:22]).

نفى عنهم الملك، فلا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض على سعتهما وكبرهما وعظم أجسامهما لا يملكون ولا مثقال ذرة، إذًا كيف تعبدونهم وما عندهم شيء؟! ثم قال سبحانه: ({وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}[سبأ:22]).يعني حتى الشركة، لا يملكون شيئاً، بل وليس لهم شركة في أي شيء، ثم قال سبحانه: ({وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22]).هذا الأمر الثالث يعني: ليس لله مساعد ومعين منهم.

ثم جاء الأمر الرابع: ({وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ: 23])، فقطعت هذه الآية عروق الشرك التي يتعلق بها المشركون، فإن الله بين أنهم لا يملكون، وليس لهم شركة في الملك، وليسوا معينين ولا مساعدين لله وليس لهم الشفاعة إلا بإذن الله.

(المتن)

وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26].

(الشرح)

  • بيّن تعالى أن الشفاعة لابد له من شرطين:

الشرط الأول: إذن الله للشافع.

الشرط الثاني: وأن يرضى الله عن المشفوع له.

فالشرط الأول: ({إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ}[النجم:26]).

والشرط الثاني: ({وَيَرْضَى}[النجم:26]).

(المتن)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[الزمر:43 - 44].

(الشرح)

بين سبحانه وتعالى أنهم لا يملكون شيئاً فكيف تعبدونهم من دون الله؟ وبين أن الشفاعة له سبحانه فقال: ({قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزمر:44]).

(المتن)

وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}[يونس:18] الآية.

 

(الشرح)

يبين سبحانه وتعالى حال المشركين وأنهم إنما يعبدون المعبودات وهي لا تضر ولا تنفع، لكن يقولون: إنها تشفع لنا عند الله، فقال سبحانه: ({وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}[يونس:18])، فإذا قيل لهم: لم تعبدونها؟ قالوا: ({هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}[يونس:18]) .

فرد الله عليهم بقوله: ({قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}[يونس:18]).

هل تنبئون الله بشيء لا يعلمه وهو سبحانه وتعالى لا يعلم أن له شريكاً في ملكه؛ ولهذا قال: ({قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}[يونس:18]), هل تنبئون الله بشيء لا يعلمه في السماوات ولا في الأرض هو سبحانه لا يعلم أن له شريكًا: ({سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[يونس:18]).

(المتن)

وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[الزخرف:45]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].

(الشرح)

بين المؤلف رحمه الله: أن عبادة الله وحده هي أصل الدين، فأصل الدين وأساس الملة هو التوحيد، وهو عبادة الله وحده دون ما سواه، فمن عبد الله وعبد غيره معه فقد أشرك، ولا يكون موحداً حتى يعبد الله وحده ويخصه بالعبادة ويتبرأ من عبادة كل معبود سواه.

وهذا هو الكفر بالطاغوت، وهو اعتقاد بطلان عبادة كل معبود سوى الله ونفيها وإنكارها والبراءة منها ومن أهلها وبغضها ومعاداتها.

(وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب) قال تعالى: ({وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[الزخرف:45]فالرسل كلهم أرسلهم الله بالتوحيد، وقال تعالى: ({وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[النحل:36]).

 (أن اعبدوا الله) هذا هو الإيمان بالله، (واجتنبوا الطاغوت) هذا هو الكفر بالطاغوت، وقال تعالى: ({وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25])، فكل الرسل بُعثوا بالتوحيد.

(المتن)

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: «ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده»، وقال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم ما شاء محمد»، ونهى عن الحلف بغير الله فقال: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت».

وقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، وقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله».

(الشرح)

(كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد) يعني يخلصه وتحقيق التوحيد: تبسيطه وتصفيته وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمخالفات فهذا تحقيق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، كما بوب الإمام العلامة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد فقال: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب".

فمن حقق التوحيد وخلصه وصفاه دخل الجنة بغير حساب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد يعني يصفيه ويخلصه مما علق به من شوائب الشرك، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: («ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده») فهذا من تحقيق التوحيد، فلما قال الرجل: («ما شاء وشئت») أنكر عليه وقال: («أجعلتني لله نداً؟!») يعني: مثيل ونظير لله («بل ما شاء الله وحده»)، وقال: («لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد») هذا من تحقيق التوحيد.

فإن قيل: ما الفرق بينهما؟.

أن الأولى تشريك بالواو، بمعنى جعل مشيئة الرسول معطوفة على مشيئة الله، والواو تقتضي التشريك والجمع، فهي ممنوعة، لكن (ثم) جائزة، فلك أن تقول: ما شاء الله ثم شاء محمد؛ لأن (ثم) للترتيب والتراخي، فلا تأتي مشيئة العبد إلا بعد مشيئة الله، فجازت (ثم) وامتنعت الواو.

والواو لا تفيد الترتيب ولا التراخي وإنما تفيد التشريك والتثنية، وأكمل من ذلك أن يقول: («ما شاء الله وحده») فالأحوال ثلاثة: ما شاء الله وشئت هذا شرك، وما شاء الله ثم شئت وهذا جائز، وما شاء الله وحده وهذا الكمال والأفضل.

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله فقال: («من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»)، وقال: («من حلف بغير الله فقد أشرك») هذا من تحقيق التوحيد, وقال: («لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبد الله ورسوله»).

والإطراء هو: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطروه وأن يجاوزوا الحد في مدحه كما فعلت النصارى؛ فإنهم أطروا عيسى ومدحوه حتى رفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية والألوهية.

(المتن)

ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له ولما سجد بعض أصحابه نهى عن ذلك وقال: «لا يصلح السجود إلا لله»، وقال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، وقال لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي».

(الشرح)

هذا من تحقيق النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد وتخليصه وتصفيته من شوائب الشرك, قال المؤلف: (ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها) فلا يقول: والكعبة؛ هذا شرك، ولا يقول: والأمانة، أو وأبيك، أو ولحيتك وشرفك؛ هذا شرك، ولكن يقول: ورب الكعبة، أما أن يحلف بالكعبة فهذا شرك؛ لأن الكعبة مخلوقة بِنية.

(ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك فقال: «لا يصلح السجود إلا لله») لأن السجود عبادة، وأما سجود إخوة يوسف وأبويه له فهذا سجود تحية وإكرام وهو جائز في شريعتهم، وأما في شريعتنا لا يجوز السجود.

وقال: («لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها») يعني من عظم حقه عليها, وقال لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: («أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي»)، وكل هذا من تحقيقه التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك, تخريج حديث معاذ؟

(المتن)

حديث معاذ هذا أخرجه ابن ماجة وعبد الرزاق وابن حبان عن أيوب عن القاسم الشيباني عن عبد الله بن أوفى قال: «لما قدم معاذ من الشام سجد لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا معاذ؟! قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله: فلا تفعلوا فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، قال: وسنده حسن؛ القاسم هو ابن عوف صدوق يغرب.

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر مما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: "ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً".

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني».

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يُشرع بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثيرٌ من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة.

(الشرح)

وهذا من تحقيق النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وكل شيء صلى فيه الإنسان فقد اتخذه مسجداً، فلا يجوز الصلاة في المقابر؛ لأن الصلاة في المقابر من اتخاذها مساجد، فقال في مرض موته عليه الصلاة والسلام: («لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر مما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً)، فالنبي نهى عن اتخاذ القبور مساجد، والصلاة عندها من اتخاذها مساجد، فمن صلى عند القبور فقد اتخذها مساجد شاء أم أبى، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود لأنهم اتخذوا القبور مساجد، فدل على أن اتخاذها مساجد من الكبائر، ومن وسائل الشرك العظيمة.

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته اهتم بذلك، وكان قبل أن يموت بخمس ليالٍ وهو في شدة المرض يطرح على وجهه خميصة كساء فإذا اغتم كشفها إذا انكبس نفسه كشفها ثم يعيدها، فقال في هذه الحالة قبل أن يموت بخمس ليال: («لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»).

قال الراوي: يحذر مما صنعوا، تحذير من فعلهم يعني: لا تفعلوا كفعلهم، فإن الله لعنهم على هذا الفعل، ومن فعل فعلهم أصابه ما أصابهم، قالت عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما دفن في بيته خشية أن يتخذ مسجداً).

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ليالٍ: («إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً»).

يعني: لا تجعلوا بيتي كالعيد، وفي لفظ: («قبري عيداً»)، والنبي صلى الله عليه وسلم مدفون في بيته، وقوله: («لا تتخذوه عيداً») يعني: لا تكرروا المجيء إليه كما يتكرر العيد، فالذي يكرر المجيء والزيارة في أوقات محددة يكون جعله كالعيد.

(«ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً») يعني: لا تعطلوها من الصلاة والقراءة فتصبح كالقبور، قال: («صلوا في بيوتكم»).

وقوله: («وصلوا علي حيثما كنتم») يعني: في أي مكان من أرض الله، («فإن صلاتكم تبلغني») أي: تبلغه الملائكة؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، من بنى المساجد على القبور هذا من وسائل الشرك وهو حرام، ولا تُشرع الصلاة عند القبور، (فالكثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة) فإذا صلى عند القبر تكون صلاته باطلة، ولا تصح الصلاة بالمسجد الذي فيه قبر.

(المتن)

والسنة في زيارة قبور المسلمين نظير الصلاة عليهم قبل الدفن، قال الله تعالى في كتابه عن المنافقين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة:84] فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يُصلى عليهم ويقام على قبورهم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم».

 

 

(الشرح)

هذا هو السنة في زيارة قبور المسلمين أن يُدعى لهم ويترحم عليهم؛ لأن الميت بحاجة إلى دعائك، وهو بحاجة إليك، وأنت لست بحاجة إليه.

فالسنة في زيارة قبور المسلمين الدعاء لهم والترحم عليهم، فيستفيد الميت بالدعاء له والترحم عليه، وتستفيد أنت أيها الحي بأن تتذكر الموت فيرق قلبك ففيه فائدة للحي وفائدة للميت، ولهذا قال المؤلف: (والسنة في زيارة قبور المسلمين نظير الصلاة عليهم قبل الدفن) فكما أننا ندعو لهم في الصلاة عليهم قبل الدفن فكذلك ندعو لهم عند زيارتنا إليهم بعد الدفن, كله المقصود منه الدعاء نصلي على الميت وندعو له قبل الدفن وإذا زرناه بعد الموت ندعو له.

قال الله تعالى في كتابه عن المنافقين مخاطباً نبيه: ({وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة:84]), لا تصل يا محمد على أحد منهم, من مَن؟ من المنافقين ولا تقم على قبره للدعاء عليه، ما السبب؟ قال الله: )إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)([التوبة/84].

فإذاً فالعلة هي الكفر، فمن كان كافراً فلا يصلى عليه إذا مات ولا يُقام على قبره بالدعاء له بعد الدفن، قال المؤلف: (فكان دليل الخطاب) يعني المفهوم (أن المؤمنين يُصلى عليهم ويُقام على قبورهم) فالمؤمنون يُصلى عليهم وندعو لهم في الصلاة, ويُقام على قبورهم بعد الدفن بالدعاء.

أما أن يدعو الله عنده أو يصلي عنده هذا بدعة أو يقرأ القرآن عنده هذا بدعة, وهناك زيارة شركية: يزور الميت ثم يذبح له أو يدعوه من دون الله أو ينذر له.

  • فزيارة القبور قد تكون:

 زيارة شركية, أو زيارة بدعية، أو زيارة شرعية.

فالزيارة الشركية: يذبح له أو ينذر له أو يدعوه (...).

والزيارة البدعية: يقرأ القرآن عنده أو يصلي عنده أو يدعو الله عنده، هذا بدعة.

والزيارة الشرعية: يدعو له وينصرف، ويترحم عليه ثم وينصرف.

(المتن)

وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23].

قالت طائفة من السلف: كانت هذه أسماء قوم صالحين، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها.

ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: (إن من أكبر أسباب عبادة الأوثان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها) فإذا عظم القبر بالعبادة يعني بالدعاء له والذبح له والنذر له والطواف عنده هذا من أسباب عبادة الأوثان، الأوثان إنما وجدت لهذا فقوم نوح لما عظموا القبور وعبدوها من دون الله وجدت الأوثان، قال الله تعالى في كتابه عن قوم نوح إنهم قالوا: ({وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}[نوح:23]).

({وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23]).

يوصي بعضهم بعضاً لا تتركوا آلهتكم، {ولا تَذَرُنَّ} أي: لا تتركن، {وَدًّا}اسم صنم، {وَلا سُوَاعًا} اسم صنم آخر، {وَلا يَغُوثَ} اسم صنم ثالث، {وَيَعُوقَ} اسم صنم رابع، {وَنَسْرًا} صنم خامس.

قالت طائفة من السلف: (كانت هذه أسماء قوم صالحين فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها, ولهذا من أجل أن تعظيم القبور بالعبادة ونحوها من أكبر أسباب عبادة الأوثان؛ اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره فإنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام) التقبيل والاستلام للحجر الأسود، والركن اليماني يمسح ولا يقبل تمسحه وتكبر، فإذا لم يتيسر تتركه ولا تشر إليه، وأما الحجر الأسود فإنك تقبله وتستلمه باليد اليمني وتقبله بالشفتين، فإذا لم يتيسر تستلمه بيدك وتقبلتها، فإذا لم يتيسر تشير إليه بعصا ونحوها، فإن لم تستطع تشير إليه بيدك.

فالتقبيل والاستلام يكون لأركان بيت الله، وأما حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تقبل ولا تستلم؛ لأنها بيت مخلوق، والكعبة بيت الله ولا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

(المتن)

وكذلك الطواف والصلاة والاجتماع للعبادات إنما تقصد في بيوت الله، وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيتي عيداً»، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء:48].

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: (الطواف والصلاة هذه تُفعل في بيوت الله)؛ لأن هذه عبادة الصلاة والطواف والاجتماع للعبادات تقصد في بيوت الله وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه، كما قال: )فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ([النور/36].

(فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيداً) كقبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتخذه الإنسان عيداً، ويتكرر يخصص في كل أسبوع وكل جمعة يزور القبر هذا جعله كالعيد، ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر أو في أوقات أخرى من غير تحديد أوقات معينة.

كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيتي عيداً»، فكل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، والذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويُغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، يعني: يغفر لصاحب التوحيد ولا يغفر لمن ترك التوحيد, كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:48]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء:48].

(المتن)

ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}[البقرة:255]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة».

والإله: الذي يألهه القلب عبادة له، واستعانة له، ورجاءً له، وخشية وإجلالاً وإكراماً.

(الشرح)

يقول: (كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه) لماذ؟ لأنها أصل الدين وأساس الملة، (ولهذا كانت أعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}[البقرة:255]) وهي مشتملة على عشر جمل، فأول جملة كلمة التوحيد: ({اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}) أي: لا معبود بحق سواه.

الحي القيوم: فالحي الذي له الحياة الكاملة، يعني: لا يلحق حياته سبحانه وتعالى نقص ولا نوم ولا ضعف ولا موت، والقيوم القائم بنفسه المقيم لغيره.

{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} النعاس ولا النوم المستغرق

 (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة») لماذا؟ لأنها كلمة التوحيد التي هي أصل الدين وأساس الملة، وأفضل الكلام وأعظمه.

والإله ما هو الإله؟ (هو الذي يألهه القلب عبادة له واستعانة ورجاءً له وخشية وإجلالاً وإكراماً) هذا هو الإله، ولهذا فإن من أله غير الله فإنه يكون مشركاً.

(المتن)

فصل: ومن ذلك الاقتصاد في السنة وإتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف؛ وروي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك.

 

(الشرح)

 (الاقتصاد في السنة وإتباعها كما جاءت) هذا هو مما جاءت به السنة، وهو أن المسلم يقتصد في السنة ويتبعها كما جاءت من غير غلو ولا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، وهو أن يثبت الصفات لله، ومن ذلك الكلام فإن القرآن كلام الله.

ولهذا قال المؤلف: (فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق) كما قال تعالى: )نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ([الشعراء/193-194]، منزل غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر وقد كفّر العلماء من قال: إن القرآن مخلوق.

وقوله: (منه بدأ وإليه يعود) منه بدأ: يعني تكلم الله به، خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: لم يتكلم به، وإنما الكلام معنى قائم بالنفس، وجبريل لم يسمع من الله حرفاً ولا صوتاً، ولكنه اضطر جبريل، ففهم الكلام القائم بنفسه فعبر عنه، فالقرآن عبارة عبّر به جبريل، وبعضهم يقول: عبّر به محمد، وبعضهم يقول: أخذه جبريل من اللوح المحفوظ، والله لم يتكلم بحرف ولا صوت, وهذا من أبطل الباطل.

(منه بدأ) يعني تكلم الله به, (وإليه يعود) في آخر الزمان، وذلك إذا ترك الناس العمل به نُزع القرآن من الصدور ومن المصاحف، وهو من أشراط الساعة الكبرى نعوذ بالله، فيصبح الناس لا يجدون في صدورهم أو في مصاحفهم آية، نعوذ بالله.

(هكذا قال غير واحد من السلف وروى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك) يعني يقولون: بأن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.

(المتن)

والقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره وإن تلاه العباد، وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم؛ فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً ومؤدياً، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة:6] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج:21 - 22]، وقال تعالى: {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:2 - 3]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}[الواقعة:77 - 78].

(الشرح)

وهذا هو الحق المؤلف رحمه الله قال: (والقرآن الذي أنزله الله على رسوله هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم) القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وسمعه جبرائيل من الله ونزل به جبرائيل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم: (هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم) العباد يتلون القرآن ويبلغون بأصواتهم.

(لكن الكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً) أنت مبلغ ومؤدي إذا قرأت القرآن كنت مبلغاً مؤدياً، والكلام كلام الله، فإذا قال قائل هذا الشعر فقال:

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ

 

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

 

قال: هذا البيت لمن؟ هذا امرئ القيس فإذا نقول هذا كلامك ولا كلام امرئ القيس أنت تقرأ ولا لا؟ فتقول أنا مبلغ والكلام ليس لي الكلام لأمرئ القيس.

وإذا قال قائل: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، نقول: هذا كلام من؟ هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وأنت تبلغه بصوتك والكلام ليس لك الكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً.

وكذلك القرآن كلام الله، فإذا قرأه القارئ فهو يقرأ كلام الله فهو مبلغ والقرآن كلام الله، فالكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، (قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة:6], والشاهد قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}[التوبة:6]) فدل على أن القرآن مسموع كلام الله مسموع.

وهذا القرآن في المصاحف كما قال سبحانه: ({بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج:21 - 22]، وقال: {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:2 - 3], وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}[الواقعة:77 - 78]).

فالقرآن كلام الله إن قرأه القارئ فالمقروء كلام الله، وإن سمعه السامع فالمسموع كلام الله، وإن كتبه الكاتب فالمكتوب كلام الله، وإن حفظه الحافظ فالمحفوظ كلام الله، فكلام الله مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف، محفوظٌ في الصدور، معلومٌ في القلوب.

(المتن)

والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات»، وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.

 

(الشرح)

(القرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه) فهذا هو الحق وهو معتقد أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة يقولون: القرآن ليس بكلام الله لا لفظاً ولا معنى، مخلوق القرآن مخلوق من مخلوقات الله، وهذا كفر وضلال.

والأشاعرة يقولون: إن القرآن كلام الله معنى لا لفظاً، فالمعنى كلام الله، واللفظ ليس كلام الله هو كلام جبريل أو كلام محمد، وهذا نصف مذهب المعتزلة، فالمعتزلة يقولون: القرآن لفظه ومعناه مخلوق، والأشاعرة يقولون: لفظه مخلوق ومعناه ليس بمخلوق، فالقرآن اسم للمعنى فقط، أما اللفظ ليس داخلاً في اسم القرآن.

والمؤلف رد قال: (القرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف) كما في الحديث: («من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات»).

يعني: كونه يوضحه ويقرؤه بترتيل وإخراج الحروف من مخارجها، بخلاف من يقرؤه وهو يتعتع فيه، «فمن قرأ القرآن فأعربه وهو ماهر فيه فهو مع السفرة الكرام البررة، ومن قرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران»، كما في الحديث.

ولهذا قال: (وإعراب الحروف هو من تمام الحروف) من تمام الحروف أنك تخرج الحروف من مخارجها، وتلتزم بأحكام التجويد التي وردت، والالتزام بأحكام التجويد سنة وليس بواجب، التجويد ليس بواجب والقراءة المجودة هذا سنة أفضل، وإذا قرأت القرآن ولم تلتزم بأحكام التجويد فلا بأس بشرط أن تخرج الحروف من مخارجها، ولا تسقط شيئاً من الحروف، لكن كونك تقرأه بالتجويد وبالحركات الغُنة والإدغام وتلتزم بالأحكام التي قررها أهل التجويد هذا أفضل وليس بواجب, وأما قول الجزري:

الأخذ بالتجويد حتم لازم          من لم يجود القرآن آثم

فليس بصحيح, ليس بآثم بل هذا مستحب في السنة من الكمال, والمطلوب الواجب: قراءة القرآن وإخراج الحروف من مخارجها فإذا لم تُسقط شيئًا من الحروف وأديتها فقد أديت ما عليك, وأما كونك تجود وتلتزم بالمدود كالمد المتصل والمد المنفصل والإدغام بغنة والإدغام بغير غنة، والإخفاء والإظهار والإقلاب، فكل هذا من باب الكمال والأفضلية لا غير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: («من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات»).

وقال أبو بكر رضي الله عنه: (حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه).

(المتن)

وإذا كتب المسلمون مصحفًا فإن أحبوا ألا ينقطوه ولا يشكلوه جاز ذلك كما كان الصحابة يكتبون المصاحف من غير تنقيط ولا تشكيل؛ لأن القوم كانوا عرباً لا يلحنون، وهكذا هي المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار في زمن التابعين.

(الشرح)

 (إذا كتب المسلمون مصحفاً فإن أحبوا ألا ينقطوه ولا يشكلوه جاز)؛ لأن العبرة بالكلمة إذا كُتبت الكلمة كفت، أما النقط والتشكيل فهذا من باب التحسين والتجويد؛ ولذلك كان الصحابة يكتبون المصاحف من غير تنقيط ولا تشكيل؛ لأنهم كانوا عرباً لا يغلطون، ويقال قصة: إن رجلاً قرأ المصحف من أوله إلى آخره وليس فيه تشكيل ولا تنقيط من أوله إلى آخره ولم يغلط إلا في كلمة واحدة، وهي قوله عز وجل في سورة الروم: )فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)([الروم/15]، فقد قرأها: يخبزون، فغلط فيها وهي قصة الله أعلم بها، ولكنها تؤيد ما قاله المؤلف من أن الصحابة كانوا عرباً لا ينقطون ولا يشكلون.

ويقال: إن أول من نقط وشكل هو الحجاج بن يوسف وهذا من حسناته، وكان الحجاج بن يوسف فاسقاً مسرفاً ظالماً أسرف في القتل، ولكن له حسنات أنه موحد ومن حسناته: أنه شكل المصحف وأمر بتشكيله وتنقيطه, فإذا شكل ونقط فلا بأس.

والمصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار هكذا ليس فيها تنقيط ولا تشكيل، وإنما فيها الكلمات.

(المتن)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: ثم فشا اللحن، فنقطت المصاحف وشكلت بالنقط الحمر، ثم شكلت بمثل خط الحروف، فتنازع العلماء في كراهة ذلك، وفيه خلاف عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من العلماء، قيل: يكره ذلك؛ لأنه بدعة، وقيل: لا يكره للحاجة إليه، وقيل: يكره النقط دون الشكل؛ لبيان الإعراب، والصحيح أنه لا بأس به.

(الشرح)

بين المؤلف رحمه الله: أن الصحابة والتابعين ليسوا بحاجة إلى التنقيط والتشكيل؛ لأنهم عرب، ثم بعد ذلك فشا اللحن في اللسان وفسد اللسان بسبب دخول الأعاجم, فلما فتحت الأمصار واختلط الناس بالأعاجم فسد اللسان العربي، فصاروا يحتاجون إلى تنقيط وتشكيل، ثم بعد ذلك وجد علم النحو وما كان الناس يحتاجوا إلى علم النحو، ولذلك أمر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي أن يضع مبادئ علم النحو؛ لأن الناس اختلطوا بالأعاجم بعد فتحهم الأمصار، ففسد اللسان، فاحتاجوا إلى التنقيط والتشكيل ووضع علم القواعد.

أما قبل ذلك فلم يحتاجوا إلى شيء؛ لأنهم عرب فصحاء؛ ولهذا قال: (ثم فشا اللحن فنُقطت المصاحف وشكلت بالنقط الحمر، ثم شكلت بمثل خط الحروف، فتنازع العلماء في كراهة ذلك، وفيه خلاف عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من العلماء) فبعض العلماء يكره أن تشكل بخط الحروف، وبعضهم قال: لا يكره، (قيل: يكره ذلك؛ لأنه بدعة، وقيل: لا يكره الحاجة داعية إليه، وقيل: يكره النقط دون الشكل؛ لبيان الإعراب) قال المؤلف رحمه الله: (والصحيح أنه لا بأس به) للحاجة إليه.

(المتن)

والتصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت) إلى أمثال ذلك من الأحاديث، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة.

(الشرح)

يعني: أنه يجب التصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يتكلم بصوت، وينادي آدم بصوت) كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ينادي آدم يوم القيامة، يقول: يا آدم» بصوت فيقول: «لبيك وسعديك! فيقول الرب سبحانه: أخرج بعث النار, فيقول: يا رب من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة».

وفي الحديث الآخر: «إن الله ينادي بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب»، احتج العلماء: على أن كلام الله يكون بحرف وصوت، وأنكر الأشاعرة أن يكون كلام الله بصوت، وقالوا: إن كلام الله لا يُسمع، فهو معنى قائم في نفسه مثل العلم، ليس بحرف ولا صوت، وهذا باطل.

(المتن)

وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق حيث تلي وحيث كتب، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل في أفعال العباد، ولم يقل قط أحد من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال: لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق، وأما من قال: إن المداد قديم، فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف:109].

(الشرح)

كل هذه المباحث تتعلق بالقرآن، والسبب في هذا: أن أهل البدع تكلموا في الباطل؛ فأهل السنة كـ شيخ الإسلام وغيره اضطروا إلى الرد عليهم، وإلا فإن هذه الأمور لا ينبغي؛ لأن هذه الأمور معلومة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

ولذلك يقول المؤلف: (وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله غير مخلوق) رداً على المعتزلة الذين يقولون: كلام الله مخلوق، وقالوا: من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، يقول المؤلف: (كلام الله غير مخلوق حيث تلي وحيث كُتب) فإن تلي فالمتلو هو كلام الله، وإن كتب فالمكتوب كلام الله، قال المؤلف: (فلا يُقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة)؛ لأن هذا من البدع، ولأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد.

لأنه إذا قيل: أنها مخلوقة يدخل فيه القرآن المنزل، وإذا قيل غير مخلوق يدخل فيه أفعال العباد، ولهذا قال الإمام أحمد في كلمته المشهورة: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع"، (ولم يقل قط أحد من السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال: لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق، وأما من قال: إن المداد قديم فهذا من أجهل الناس) والمداد: هو الحبر الذي يكتب به, من قال: إنه قديم هذا من أجهل الناس, والحبر معروف أنه حادث يكتب به، فهذا من أجهل الناس وأبعدهم من السنة، (قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف:109])، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته بالحبر.

(المتن)

وكذلك من قال: ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء.

(الشرح)

قوله: (من قال: ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال) هذا يقوله الأشاعرة والكلابية، يقولون: ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، والكلابية يقولون: ما في المصحف حكاية عن كلام الله، ويقولون: كلام الله معنى قائم بنفسه، وأما المصحف فليس فيه كلام الله والعياذ بالله, حتى إن بعض الفسقة يغلو ويدوس المصحف بقدميه، ويقول ما فيه كلام الله؛ فكلام الله في نفسه لا يُسمع، وهذا من أبطل الباطل.

ويقولون: إن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وحكاية وعبارة عن كلام الله، أما كلام الله فهو في نفسه لا يسمع، وليس بحرف ولا صوت، وهذا بدعة وضلال، وهو قول المبتدعة والضلال من الأشاعرة والكلابية.

وأما القول الحق فيقول: (بل القرآن الذي أنزله الله على محمد ما بين الدفتين) ما بين دفتي المصحف هذا هو القرآن الذي أنزله الله على محمد، (والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء)، فالمسلمون يقولون: إن هذا المصحف فيه كلام الله فيحترمونه ويعظمونه ويرفعونه.

(المتن)

وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة فهو مبتدع ضال، كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت فإنه أيضاً مبتدع منكر للسنة، وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم فهو ضال، كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله.

(الشرح)

وهذا الكلام من ألفاظ أهل البدع، (فمن زاد على السنة وقال: ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة فهو مبتدع ضال) لأن هذا مخالف قول أهل السنة، (وكذلك من قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت فهو مبتدع مخالف للسنة) وهذا قول الأشاعرة والكلابية.

(وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم) المداد حبر من يقول: إنه قديم المداد حادث، (وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم فهو ضال كمن قال: ليس في المصحف كلام الله فهو ضال) ومن قال: إن الحبر الذي يكتب به قديم فهو ضال أيضًا.

(المتن)

وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه.

هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة.

(الشرح)

فهؤلاء مبتدعة يقابلهم ذلك الذين يقولون: ما في المصحف كلام الله هؤلاء المبتدعة، وزاد بعض الجهال أن قالوا: (إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله) عكس أولئك، فالأشاعرة يقولون: ما في المصحف كلام الله وما فيه إلا ورق وجلد ومداد وحروف وأصوات تدوسها بقدميك وما فيه كلام الله.

وقابلهم بعض الجهال فقال: إن الورق كلام الله والجلد كلام الله والوتد كلام الله وقطعة من الحائط كلام الله، فهؤلاء مبتدعة وأولئك مبتدعة، فالجلد ما هو بكلام الله، والورق ما هو بكلام الله، لكن كلام الله مكتوب في المصحف، وأما الورق والجلد والمداد فليس كلام الله.

(فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه، وهذا الغلو من جانب الإثبات يقابله الغلو من جانب النفي) يعني الأشاعرة الذين يقولون: ليس في المصحف كلام الله غلو في النفي، وهؤلاء الذين قالوا: إن الورق والجلد كلام الله غلو من جهة الإثبات فهؤلاء يقابلون هؤلاء، ولهذا قال المؤلف: (هذا الغلو من جانب الإثبات يقابله التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة).

(المتن)

وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة نفياً وإثباتاً، وإنما حدثت هذه البدعة من مئة سنة أو أكثر بقليل، فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف ويشكل به قديم فهو ضال جاهل، ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن فهو ضال مبتدع، بل الواجب أن يقال: هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها كما دخلت معانيه، ويقال: ما بين اللوحين جميعه كلام الله، فإن كان المصحف منقوطاً مشكولاً كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة كان أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.

(الشرح)

قوله: (وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة نفياً وإثباتاً) يعني يقال: هذه النقطة من كلام الله أو هذا الشكل من كلام الله، أو هذه النقطة ليس كلام الله أو هذا الشكل ليس كلام الله، يقول المؤلف: فهذه بدعة، فلا يقال هذه النقطة من كلام الله، ولا يقال ليست من كلام الله، فالذي يقول: إن هذه النقطة من كلام الله مبتدع, والذي يقول: ليست من كلام الله مبتدع، والذي يقول: هذه التشكيلة من كلام الله هذا مبتدع واللي يقول: ليس من كلام الله فهذا مبتدع أيضاً.

يقول المؤلف: (وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل؛ فإن من قال: إن المداد الذي تُنقط به الحروف ويشكل به قديم فهو ضال جاهل) والمداد: هو الحبر الذي يُنقط به الحروف وتشكل، وهو حبر معروف تركيبه وتنقط وتشكل, والذي يقول قديم جاهل وضال.

 (ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن فهو ضال مبتدع) فإعرابه: كالمدود، وكذلك إخراج الحروف من مخارجها، وهذا كله من القرآن، فمن قال: إنه ليس من القرآن فهو ضال مبتدع.

ثم قال المؤلف: (بل الواجب أن يقال هذا القرآن العربي هو كلام الله) وهذا القرآن العربي والذي نقرأه هو كلام الله، ويدخل في ذلك حروفه بإعرابها كما دخلت معانيه, ويقال: ما بين اللوحين جميعه كلام الله، أي: ما بين الغلاف الأول والغلاف الثاني وهذا حق، وكذلك يقال: إن القرآن العربي كلام الله ويدخل فيه حروفه بإعرابها وتدخل فيه معانيه، فنقول: إن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه.

يقول المؤلف: (فإن كان المصحف منقوطاً مشكولاً) أُطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله، وإن كان غير منقوط ولا مشكول كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة كان أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله.

يقول المؤلف: الصحابة كتبوا القرآن ما فيه نقط ولا تشكيل، يقال: ما بين اللوحين كلام الله، ومن بعدهم نقطها وشكلها فيقال: ما بين اللوحين كلام الله، فإن كان مشكولاً منقوطاً فهو كلام الله، وإن كان ليس بمشكول ولا منقوط فهو كلام الله.

يقول المؤلف: (فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي)؛ لأنه حصل نزاع في زمنه رحمه الله، فبعضهم قال: إن النقط ما هي من كلام الله، والتشكيل ما من كلام الله، وبعضهم قال: بل هو كلام الله، وبعضهم يقول ليس من كلام الله فالمؤلف يقول: هذه فتنة، ويقول: إن المصاحف القديمة مكتوبة بدون نقط ولا شكل ومع ذلك فهي كلام الله، والمصاحف الجديدة فيها نقط وتشكيل فهي كلام الله (فلا يجوز أن يُحدث في الدين ما ليس منه).

والله أعلم, وفق الله الجميع لطاعته وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد