شعار الموقع

شرح كتاب المختار في أصول السنة لابن البناء_4 تابع باب ذكْرُ الإيمانِ بأنَّ القُرْآنَ كَلَامُ اللهِ وبَابُ ذِكْرِ النَّهْي عَنْ مَذَاهِبِ الْوَاقِفَةِ

00:00
00:00
تحميل
74

المتن:

قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر :28]، قَالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَسُرَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ([1]).

الشرح

هَذَا الْأَثَرُ مَوْقُوفٌ على ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، ذَكَرَهُ المؤلِّفُ -رحمه الله- تَحْتَ البابِ الثالثِ من أبوابِ هَذَا الكتابِ؛ وهُو: (ذِكْرُ الإيمانِ بأنَّ القُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وأَنَّ كَلَامَ اللهِ ليسَ بِمَخْلُوقٍ، ومَنْ زَعَمَ أنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ).

هذا البابُ مُشْتَمِلٌ على هَذِهِ الجُمَلِ الثَّلَاثِ:

الجملةُ الأُولَى: الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كَلَامُ اللهِ؛ يَعْنِي: القرآنُ كَلَامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، صِفَةٌ من صِفَاتِهِ.

الجملةُ الثانِيَةُ: أن القرآنَ كَلَامُ الله لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، كَلامُ اللهِ لَفْظُهُ ومَعْنَاهُ، حُرُوفُهُ، وأَلْفَاظُهُ، ومَعَانِيهِ.

الجملةُ الثالثةُ: أنَّ مَنْ زَعَمَ أنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ.

هذا الأَثَرُ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في تَفْسِيرِ قَوْلِ الله -تعالى-: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر :28]، قالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ. قالَ: وَسُرَّ الإمِامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رحمه الله- بِهَذَا الحَدِيثِ.

ذَكَرَهُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة)، ولم يَذْكُرْ لَهُ المؤلِّفُ هُنَا سَنَدًا، فهذا تَفْسِيرٌ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر :28]، هَذَا التَّفْسِيرُ إذا صَحَّ سَنَدُهُ عن ابنِ عَبَّاسٍ، يَحْتَاجُ إلى ذِكْرِ السَّنَدِ.

المتن:

وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخِطَّابِ قَالَ: «القُرْآنُ كَلَامُ اللهِ -تعالى- فَلَا تَصْرِفُوهُ عَلَى آرَائِكُمْ»([2]).

الشرح:

هَذَا الأَثَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ رواه الآجُرِّيُّ في (الشريعة)، وأَكْثَرُ هَذَا الكِتَابِ مَنْقُولٌ عن الآجُرِّيِّ في (الشريعة)، قال: «القُرْآنُ كَلَامُ اللهِ فَلَا تَصْرِفُوهُ عَلى آرَائِكُمْ».

ومِن الآرَاءِ الَّتِي يَصْرِفُهَا بعضُ المُبْتَدِعَةِ: القَوْلُ بأنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ، فهَذَا كَلَامُ عُمَرَ إنْ صَحَّ عَنْهُ هذا، لأنَّهُ أَيْضًا لم يَذَكُرْ له سَنَدًا.

فقال: «القُرْآنُ كَلَامُ اللهِ -تَعَالى- فَلَا تَصْرِفُوهُ عَلَى آرَائِكُمْ». يَعْنِي: لا تَصْرِفُوا كَلَامَ اللهِ على آرَائِكُمْ؛ يَعْنِي: المُخَالِفَةَ للشِّرْعِ كَقَوِلِ أهلِ البِدَعِ من المُعْتَزِلَةِ وغيرِهِمْ: إنَّ القُرْآنَ مَخْلُوٌق. لا شكَّ أن هذا من الآراءِ البَاطِلَةِ الفَاسِدَةِ.

المتن:

24- وَأَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الصَّوَّافِ، قَالَ: وَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ بَعْدَ أنْ حَدَّثَنِي بِهِ فِيمَا كَتَبْتُهُ بِيَدِي عَنْهُ، أَخْرَجَهُ مِنْ كِتَابِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَمَلَةِ السِّيَرِ، أنَّ الهَمْدَانِيَّ شَاعِرَ عَلِيٍّ قَامَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُنَاظِرُ الخَوَارِجَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ حَكَّمْتَ فِي دِينِ اللهِ الرِّجَالَ. فَقَالَ: لَا، وَالله مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا، إِنَّمَا حَكَّمْتُ الْقُرْآنَ، وَأَنَا لَهُ مُتَّبِعٌ([3]). فَأَنَشَأَ الهَمْدَانِيُّ يَقُولُ:

أَيُّهَــا السَّــاعُونَ إِنَّ عَلِيًّــا لـَمْ يُحَـكِّمْ فِـي دِينِـهِ مَخْلُوقا
إِنَّمَـا حَـكَّمَ الْقُــرَآنَ وَقَـدْ كَا نَ بِتَحْكِيمِــهِ الْقُـرَآنَ حَقِيقا
أَعْلَـمُ النَّـاسِ بِالْكِتَـابِ وَبِالسُّنـ نَةِ وَاللهُ يُلْهِــمُ التَّوْفِيقـَـا

الشرح:

هَذَا الأَثَرُ سَاقَ لَهُ المُؤَلِّفُ سَنَدًا عنْ أبي مِخْنَفٍ وغَيْرِهِ من حَمَلَةِ السِّيَرِ.

 قال: «شَاعِرُ عَلِيٍّ ». تَخْصِيصُ عَلِيٍّ بقول: . هَذَا شِعَارٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، وكَذَلِكَ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ: "عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ". لَا يُخَصَّصُ عَلِيٌّ بشَيء، الصَّحَابَةُ كُلُّهُمُ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُمْ.

المَعْرُوفُ عِنْدَ العُلْمَاءِ أنَّ الصَّحَابَةَ يُتَرَضَّى عَنْهُمْ يُقَالُ: رَضِيَ اللهُ عن الصَّحَابِيِّ، والرُّسُلُ يُصَلَّى عليهم؛ نقول: عليهم الصَّلاةُ والسَّلَامُ. ومَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ يُتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ، نقول: رَحِمَهُ اللهُ.

ولكن لا مَانِعَ أن نُصَلِّيَ على غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ أحيانا؛ ما لم يُتَّخَذْ شِعَارًا، فلَا بَأْسَ أنْ نُصَلِّيَ على بعضِ الصحابة، الصَّحَابِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، أو غيره في بعض الأحيان لا حَرَجَ.

ومن ذَلِكَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كان إذَا أَتَاهُ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ صَلَّى عَلَيْهِ، ولما أَتَى ابنُ أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ قال: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ([4]).

قال ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره: «وَقَدْ غَلَبَ هَذَا فِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مِنَ النُّسَّاخِ لِلْكُتُبِ، أَنْ يُفْرَدَ عَلَيٌّ بِأَنْ يُقَالَ: ، مِنْ دُونِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، أَوْ: "كَرَّمَ الله وجهه" وهذا وإن كان معناه صَحِيحًا، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُسَاوى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، فَالشَّيْخَانِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، أَجْمَعِينَ» ([5])، يعني: إذَا أُرِيدَ أَنْ يُخصَّصَ، كان ينبغي أن يُخَصَّصَ أبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمَانُ، وهم أفضلُ من عَلِيٍّ، فلماذا نُخَصِّصُ عَلِيًّا بقولنا: ؟

بعضُ النُّسَّاخِ الذين ليس عِنْدَهُمْ بَصِيرَةٌ إذا مَرُّوا على ذِكْرِ عَلِيٍّ قالوا: كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ. أو قالوا: .

ولكن لأن الشِّيعَةَ مَعْرُوفُونَ أنهم يُخَصِّصُونَ آلَ البَيْتِ، وعَلِيٌّ من آلِ البَيْتِ فيقولون: .

هذا الأَثَرُ الذِي رَوَاهُ الهَمْدَانِيُّ شَاعِرُ عَلِيٍّ، أنه قام إليه وهو يناظِرُ الخوارجَ؛ فقال: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ حَكَّمْتَ فِي دِينِ اللهِ الرِّجَالَ». في النِّزَاعِ الذِي كَانَ بَيْنَهُ وبينَ مُعَاوِيَةَ في بعضِ الوقَائِعِ كصِفِّين أو غيرها، بعضُ جَيْشِ مُعَاوِيَةَ رَفَعُوا المَصَاحِفَ، وقالوا: نَتَحَاكَمُ إلى كِتَابِ اللهِ؛ فقالَ عَلِيٌّ كما هو مشهور: «كِلَمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ».

لَكِنَّ الخَوَارِجَ عَابُوا على عَلِيٍّ فقالوا: حَكَّمْتَ في دِينِ اللهِ الرِّجَالَ. فقال: «لَا، وَالله مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا، إِنَّمَا حَكَّمْتُ الْقُرْآنَ، وَأَنَا لَهُ مُتَّبِعٌ».

فقوله: «لَا، والله مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا». فيه الرَّدُّ على من قال: إنِّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ لأَنَّهُ حَاكِمٌ، وكتابُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، كَلَامُ اللهِ لَفْظُهُ ومَعَانِيهِ صِفَةٌ من صِفَاتِهِ ليسَ مَخْلُوقًا.

والشاهد قوله: «والله مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا، إِنَّمَا حَكَّمْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا لَهُ مُتَّبِعٌ». فَأَنْشَأَ الهَمْدَانِيُّ يَقُولُ:

أَيُّهَــا السَّــاعُونَ إِنَّ عَلِيًّــا لـَمْ يُحَـكِّمْ فِـي دِينِـهِ مَخْلُوقا
إِنَّمَـا حَـكَّمَ الْقُــرَآنَ وَقَـدْ كَا نَ بِتَحْكِيمِــهِ الْقُـرَآنَ حَقِيقا
أَعْلَـمُ النَّـاسِ بِالْكِتَـابِ وَبِالسُّنَّةِ وَاللهُ يُلْهِــمُ التَّوْفِيقـَـا

قَوْلُ عَلِيٍّ في مُنَاظَرَةِ الخَوَارِجِ: «مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا، إِنَّمَا حَكَّمْتُ الْقُرْآنَ». رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ في (الأسماء والصفات).

ثُمَّ قال: هَذِهِ الحِكَايَةُ عن عَلِيٍّ شَائِعَةٌ فيما بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ. وَلَا أَرَاها شَاعَتْ إِلَّا عَنْ أَصْلٍ، والله أعلم([6]).

وذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ – كما في مجموع الفتاوى([7])- وقال: رَوَاهُ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ، وابْنُ شَاهِين، واللَّالَكَائِيُّ، وغيرُهُمْ من غَيْرِ وجهٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالب أنه قال: «واللهِ مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا، إِنَّمَا حَكَّمْتُ القُرْآنَ».

المتن:

 25- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ المُهَلَّبِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدٍ الغِفَارِيِّ، وكَانَ مَوْلًى لِلنَّبِيِّ عِتَاقَةً عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا ذُكِرَ الْقُرْآنُ فَقُولُوا: كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ومَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. ([8]).

الشرح:

ذكر ابنُ حَجَرٍ في (الإصابة) في تَرْجَمَةِ الصَّحَابِيِّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الغَافِرِ مَوْلَى النَّبِيِّ ﷺ ، وقيل: عُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ الغَافِرِ، قال: رَوَى أبُو مُوسَى من طَرِيقِ عَلِيِّ بنِ محمد بن المَنْجُورِيِّ، عن حماد عن ثَابتٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عبد الغَافِرِ، وكانَ مَوْلى النَّبِيِّ ﷺ قال: قال النبي ﷺ: إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا ([9])... الحديث. وفي إِسْنَادِهِ محمدُ بنُ عَلِيٍّ الحَنَاحَانِيُّ، ذَكَرَهُ الحَاكِمُ وقَالَ: أكثرُ أحاديثه مَنَاكِير. وأَخْرَجَه ابنُ مَنْدَهْ منْ غَيْرِ طريِقِهِ مُخْتَصَرًا، لكنه قال: عن عُبَيْدِ بْن عبد الغَافِرِ، فالمقصود ابن عَبْدِ الغَافِر.([10]) اهـ.

وأما هَذَا الأَثَرُ الذِي رَوَاهُ عُبَيْدُ بنُ عَبْدِ الغَافِرِ-وكان مولى النبي ﷺ عن النبي ﷺ أنه قال: إِذَا ذُكِرَ الْقُرْآنُ فَقُولُوا: كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ومَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. هذا رَفَعَهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ عُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ الغَافِرِ، وكان مولى النبي ﷺ، وفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ؛ لأن الْمَتْنَ -واللهُ أَعْلَمُ- لا يَصِحُّ عن النبيِّ ﷺ ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ، فالْأَقْرَبُ -واللهُ أَعْلَمُ- أنَّ هَذَا ليسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ.

مَسْأَلَةُ خلق الْقُرْآنِ حَدَثَتْ في المُتَأَخِّرِينَ، وهذا من كِلَامِ العلماءِ، وصِيغَةُ الكَلَامِ، ومِثْلُ هذا الأسلوب لا يُنَاسِبُ أنَّهُ مِنْ كَلامِ النَّبِيِّ ﷺ، والمُحَدِّثُونَ يَعْرِفُونَ هَذَا.

وقد ذكر المُحَشِّي أنه قال: قال النبي ﷺ: إذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا... الحديثَ. وفيه سَالِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بن علي الحَناحَانِيُّ، ذكره الحاكم؛ فقال: أكثرُ أَحَادِيثِهِ مَنَاكِيرُ.

ففي إِسْنَادِهِ أيضًا مَن هو حَدِيثُهُ المَنَاكِيرُ، فهَذَا يَدُلُّ على عَدَمِ صِحَّتِهِ، ولا حاجةَ إلى مِثْلِ هذا الحديث، لكنَّ المؤلفَ -رحمه الله- يُرِيدُ أَنْ يُثْبِتَ كُلَّ ما وَرَدَ في البابِ.

أما القول: (كَلَامُ اللهِ، ومَنْ قَالَ القُرْآنُ مَخْلُوقٌ)، فهذا كَلَامٌ من كَلَامِ الأَئِمَّةِ، ولو كَانَ هَذَا ثَابِتًا؛ لاسْتَدَلَّ به الإمام أحمد والأئِمَّةُ.

لو صَحَّ لاحْتَجَّ به الأَئِمَّةُ في كُلِّ مُنَاسَبَةٍ، ولم أَرَ أحدًا من الأئمةِ كالإمامِ أحمدَ وغيرِهِ؛ حينَمَا قالوا: القرآنُ غير مخلوق. رَفَعُوه إلى النَّبِيِّ ﷺ، وقالوا: إن هذَا ثَابِتٌ عنِ النَّبِيِّ ﷺ.

المتن:

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: «سُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْقُرْآنِ خَالِقٌ هُوَ أَوْ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللهِ تعالى» ([11]).

الشرح:

هَذَا الْأَثَرُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ «أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ خَالِقٌ هُوَ أَوْ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ الله» ، وَهَذَا حَقٌّ .

المتن:

26- أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ الْأَزْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَنْمَاطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ الزَّمِّيُّ، قَالَ: وَكَتَبَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ إِدْرِيسَ بِالْكُوفَةِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا بِبَغْدَادَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ مِنَ الْيَهُودِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمِنَ النَّصَارَى؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمِنَ المَجُوسِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمِنَ الصَّابِئِينَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمِمَّنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. فَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: مَا هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الله مَخْلُوقٌ، وَهَذَا كَلَامُ الزَّنَادِقَةِ»([12]).

الشرح:

هَذَا الأثرُ عن عبدِ الله بنِ إِدْرِيسَ،  وَالشاهد فِيهِ أن عبد الله بن إدريس أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا بِبَغْدَادَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ». إلى أن قال رحمه الله: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا كَلَامُ الزَّنَادِقَةِ».

وقد مَرَّ بنا قول القائل: ما المَحْذُورُ من القولِ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؟

المَحْذُورُ كما قال ابن إدريس: «من قال: إنَّ القرآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أنَّ الله مَخْلُوقٌ». لأنَّ الكَلَامَ صِفَتُهُ صِفَةُ الله، واللهُ بِذَاتِهِ، وَأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ هو الخَالِقُ؛ فمن قال: إنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ. فقد قال: إن اللهَ مَخْلُوقٌ -والعياذ بالله-، وهَذَا كُفْرٌ وضَلَالٌ. هَذَا هُو المَحْذُورُ.

المتن:

27- وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُو عِنْدَنَا كَافِرٌ، زِنْدِيقٌ، عَدٌّو لِلَّهِ؛ لَا نُجَالِسُهُ وَلَا نُكَلِّمُهُ»([13]).

الشرح:

نسألُ الله العَافِيَةَ، هذا الْأَثَرُ رَوُاهُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة)، عن أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُو عِنْدَنَا كَافِرٌ، زِنْدِيقٌ، عَدٌّو لِلَّهِ؛ لَا نُجَالِسُهُ، وَلَا نُكَلِّمُهُ». وهَذَا حَقٌّ، سبقَ أنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا هُوَ على العُمُومِ، يقال: مَنْ قَالَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ، كَافِرٌ على العُمُومِ.

أما الشَّخْصُ المُعَيَّنُ فُلَانُ بنُ فُلَانِ إذا قال: إنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ. فلا بُدَّ من إقامَةِ الحُجَّةِ عليه، إذَا أُقِيمَتِ الحُجَّةُ عليه وَأَصَرَّ؛ حُكِمَ بِكُفْرِهِ، وقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ، قَدْ يَكُونُ جَاهِلًا، قَدْ يَكونُ تَابَ ورَجَعَ عن هذه المَقَالَةِ، ثم نُقِلَتْ عنه قَبْلَ تَوْبَتِهِ، لَا بُدَّ أن نَسْأَلَهُ، وَنُبَيِّنَ لَهُ، أنت تَقُولُ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ. تُبَيِّنُ لَهُ أنه صِفَةُ الله، وأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أنْ يَجْعَلَ الرَّبَّ مَخْلُوقًا، وإِذَا أَصَرَّ بعدَ أن انْكَشَفَتْ الشُّبْهَةُ عَنْهُ حُكِمَ بِكُفْرِهِ، وأما قبل ذلك فلا يحكم بكفره.

ومِثْلُه اللَّعْنُ يكونُ عَلَى العُمُومِ؛ لعَنَ اللهُ المُرَابِيَ، لعَنَ اللهُ السَّارِقُ، لعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، لعن الله الزَّانِيَ، لعن الله شَارِبَ الخَمر.

لكنْ فُلَانُ بن فلان شَرِبَ الخَمْرَ هل نَلْعَنُهُ؟ الصَّوابُ: لَا يُلْعَنْ؛ لأنَّ الشَّخْصَ المُعَيَّنَ لا يُدْرَى قد يكونُ تَابَ، قد يكونُ مَعْذُورًا، ما عَلِمَ الحُكْمَ، قد يَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ مَاحِيَةٌ، قد يُصَابُ بمصائبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ.

واللَّعْنُ هُوَ الطَّرْدُ والإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ ولهَذَا لمَّا جِيءَ بِرَجُلٍ إلى النَّبِيِّ ﷺ يَشْرَبُ الخَمْرَ، كان كَثِيرًا ما يُجْلَدُ؛ فقَالَ بعضُ الصَّحَابَةِ -وكَانَ يُجْلَدُ- فَجِيءِ بِهِ مَرَّةً فَجُلِدَ فقال بعضُهُمْ: أَخْزَاهُ اللَّهُ، أو لَعَنَهُ اللهُ مَا أَكْثَرَ ما يُؤْتَى بِه! فَقَال النَّبِيُّ ﷺ: لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ([14]).

فالمُعَيَّنُ لا يُلْعَنُ، والمُعَيَّنُ لا يُكَفَّرُ بِعَيْنِهِ؛ حتى تَكْشِفَ الشُّبْهَةَ، ويُصِرَّ بَعْدَ ذَلِكَ، ورُبَّمَا هذا من العِلْمِ على العُمُومِ، نقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كَافِرٌ، من أنكر رؤية الله في الآخِرَة فَهُو كَافِرٌ. وهكذا؛ مِثلُ اللعن على العموم، فَرْقٌ بينَ تَكْفِيرِ المُعَيَّنِ والتَّكْفِيرِ على العُمُومِ، فرق بين لَعْنِ المُعَيَّنِ واللَّعْنِ على العُمُومِ.

المتن:

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ، وقَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ، فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ الْعَظِيمِ»([15]).

الشرح:

هذا الأثر رَوَاهُ أَبو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ في (الشريعة)، واللَّالَكَائِيُّ في (شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة)، والمؤلف -رحمه الله- يُرِيدُ أن يَذْكُرَ أَقْوَالَ العُلَماءِ والأَئِمَّةِ مع النُّصُوصِ من كِتَابِ اللهِ، وسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، وأنَّها مُتَضَافِرَةٌ؛ تَدُلُّ على أن القولَ بأن القرآنَ مَخْلُوقٌ كُفْرٌ وضَلَالٌ، وأنه من أقوالِ أهل البِدَعِ، وأنَّهُ مُخَالِفٌ لكتابِ اللهِ، ومخالف لسُنَّةِ رَسُولِهِ، ومخالف لما عليه الأَئِمَّةُ.

المتن:

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: «القُرْآنُ كَلَامُ الله، وَكَلامُ الله مِنَ الله، وَلَيْسَ مَنِ الله شَيْءٌ مَخْلُوقٌ»([16]).

الشرح:

وهَذَا حَقٌّ من الإمامِ مالكٍ، إمامِ دارِ الهِجْرَةِ في زَمَانِهِ، وهو أحد الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ- يقول: «القُرْآنُ كَلَامُ الله، وَكَلامُ الله مِنَ الله، وَلَيْسَ مَنِ الله شَيْءٌ مَخْلُوقٌ». هَذَا رَوَاهُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة)، ورواه اللَّالَكَائِيُّ في (شرح اعتقاد أهل السُّنَّةِ).

والإمامُ مَالكٌ مَعْرُوفٌ أنَّهُ إمامٌ لأَهْلِ السُّنَّةِ والجماعَةِ، وهو الذي رُوِيَتْ عنه المَقَالَةُ المشهورةُ الَّتِي تَلَقَّتْهَا الأُمَّةُ بالقَبُولِ لمَّا سألَ رَجُلٌ عن الاستواءِ كَيْفَ اسْتَوَى؟ فقال: «الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإيمانُ بِهِ وَاجِبٌ، والسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ»([17]).

المتن:

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : «لَوْ أَنِّي سُلْطَانٌ لَقُمْتُ عَلَى الْجِسْرِ، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِي رَجُلٌ إلَّا سَأَلْتُهُ؛ فَإِذَا قَالَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَأَلْقَيْتُهُ فِي الْمَاءِ»([18]).

الشرح:

وهذا رواهُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة)، وأَبُو دَاوُدَ في (مسائل الإمام أحمد)، واللَّالَكَائِيُّ في (شرح الاعتقاد).

 عَبْدُ الرحمن بن مهدي من الأَئِمَّةِ المُحَدِّثِينَ، ومن أهلِ السُّنَّةِ والجمَاعَةِ المَعْرُوفِينَ، يقول: «لَوْ أَنِّي سُلْطَانٌ لَقُمْتُ عَلَى الْجِسْرِ، -جسر على النهر- فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِي رَجُلٌ -يعني من المبْتَدِعَةِ- إلَّا سَأَلْتُهُ؛ فَإِذَا قَالَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَأَلْقَيْتُهُ فِي الْمَاءِ»، وذلك لكُفْرِهِ وضَلَالِهِ، نسأل الله السلامة والعافية.

المتن:

وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ -وذَكَرَ الجَهْمِيَّةَ- فَقَالَ: «هَمْ -والله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ- زَنَادِقَةٌ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله»([19]).

الشرح:

وهَذَا رَوَاهُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة) عن يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وقال ابنُ هانِئٍ في (مسائل الإمام أحمد): سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: «أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ». وسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْقُرْآنُ عِلْمٌ مِنْ عِلْمِ الله؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الله مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ».

وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ مِنَ العُلَمَاءِ ومن الأئمة؛ لمَّا ذَكَرَ الجَهْمِيَّةَ قال: «هُمْ -والله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ- زَنَادِقَةٌ». حَلَفَ، والزِّنْدِيقُ هو: المنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الإسلامَ ويُبْطِنُ الكُفْرَ، يَعْنِي: الجَهْمِيَّةَ يَدَّعُونَ أنهم مسلمون، ويَتَسَتَّرُونَ بأنهم يعْمَلُونَ بالقُرْآنِ والسُّنَّةِ؛ وهُمْ كَفَرَةٌ في البَاطِنِ، فَهُمْ لا يُصَرِّحُونَ بالكفر خَشْيَةَ أن تُقَامَ عليهم الحُدُودُ.

رِسَالَةُ الإمام أحمدَ في الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ رَدَّ على الجَهْمِيَّةِ، لأنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أسماءَ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وإِنْكَارُ الأَسْمَاء والصفاتِ يُنْتِجُ العَدَمَ، ذَاتٌ ليسَ لهَا أسماءٌ وصِفَاتٌ، لا وُجُودَ لها إلا في الذِّهْنِ.

وأصلُ الزِّنْدِيقِ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ، ويُطْلَقُ الزِّنْدِيقُ على الجَاحِدِ في الزَّمَن الماضي.

وفي زَمَنِنَا هَذا يُسَمَّى: عَلْمَانِيًّا. العَلْمَانِيُّونَ هم الزَّنَادِقَةُ، هم المنَافِقُون، العَلْمَانِيُّونَ من الصَّحَفِيِّينَ وغَيْرِهِمْ الذين يَطْعَنُونَ في الإسلام ويطعنون في الدِّينِ، يتَسَتَّرُونَ باسم الإسلام هم منافقون، أعمَالُهُمْ وأفعَالُهُمْ وأقوالُهُمْ تدل على كُفْرِهِمْ، نسأل الله السلامة والعافية.

المتن:

 وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَسَأَلَهُ يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ عَمَّنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللهِ وَأَسْمَاءَهُ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ كَفَرَ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران :61]، أَفَلَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ؟ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللهِ وَأَسْمَاءَهُ، وَصِفَاتِهِ، مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ كَافِرٌ لَا يُشَكُّ فِي ذَلِكَ، إِذَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ، وَكَانَ رَأْيَهُ وَمَذْهَبَهُ، وَكَانَ دِينًا يَتَدَيَّنُ بِهِ، كَانَ عِنْدَنَا كَافِرًا»([20]).

الشرح:

أَوْرَدَ المَقَالَةَ للإمامِ أَحْمَدَ إمامِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ؛ لمَّا سَأَلَهُ يَعْقُوبٌ الدَّوْرَقِيُّ عَمَّنْ قال: القرآنُ مخلوقٌ. فقال الإمام أحمدُ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الله وَأَسْمَاءَهُ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ كَفَرَ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران :61]، أَفَلَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ؟ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الله وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهُ مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ كَافِرٌ لَا يُشَكُّ فِي ذَلِكَ، إِذَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ، وَكَانَ رَأْيَهُ وَمَذْهَبَهُ، وَكَانَ دِينًا يَتَدَيَّنُ بِهِ، كَانَ عِنْدَنَا كَافِرًا».

وقال ابنُ هانِئٍ في (مسائل الإمام أحمد): سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: «أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران :61]، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ». وسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْقُرْآنُ عِلْمٌ مِنْ عِلْمِ الله؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الله مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ»([21]).

نسأل الله العافية، وهذا قولُ أهلِ العِلْمِ قَاطِبَةً.

المتن:

 وقال ابْنُ عُيَيْنَةَ: هَذِهِ الدُّوَيْبَةُ؟ -يَعْنِي: بِشْرًا الْمِرِّيسِيَّ- قَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. فَقَالَ: «كَذَبَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف :54]. فَالْخَلْقُ: خَلْقُ الله، وَالْأَمْرُ: الْقُرْآنُ»([22]).

الشرح:

سفيانُ بنُ عُيَيْنَةُ الإمامُ المُحَدِّثُ المَشْهُورُ قال: «هَذِهِ الدُّوَيْبَةُ، يَعْنِي: بِشْرًا المِرِّيسِيُّ». سَمَّاهُ الدُّوَيْبَةَ تَحْقِيرًا لَهُ، بِشْرٌ المِرِّيسِيُّ جَهْمٌ من الجَهْمِيَّةِ المتأخرين، تَزَعَّمَ طائفةً يُسَمَّوْنَ المِرِّيسِيَّةَ على مذهبِ الجَهْمِ، ويقولونَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ. والإمام عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ له مؤلف خاصٌّ رَد فيه على بِشْرٍ المِرِّيسِيِّ، (ردُّ عثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارِمِيِّ على الكافرِ العَنِيدِ أو الضَّالِ العَنِيدِ بشر المِرِّيسِيِّ). المِرِّيسِيَّةُ جَهْمِيَّةٌ فَهُمْ كَفَرَةٌ.

يَقُولُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: هَذِهِ الدُّوَيْبَةُ، يَعْنِي: بِشْرًا الْمِرِيسِيَّ- «قالوا: يا أبَا مُحَمَّدٍ». كُنْيَةُ سُفْيانَ بنِ عيينةَ، «يَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ». يَعْنِي: بِشْرًا المِرِّيسِيَّ، فَقَالَ: «كَذَبَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف :54]، فَالْخَلْقُ: خَلْقُ الله، وَالْأَمْرُ: الْقُرْآنُ».

سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ -رحمه الله- يَرُدُّ على بِشْرٍ المِرِّيسِيِّ يقولُ: اللهُ -تَعَالى- فَرَّقَ بَيْنَ الخَلْقِ والأَمْرِ؛ فقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف :54]، فَالخَلْقُ: المَخْلُوقَاتُ، وَالأَمْرُ: كَلَامُ الله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل :40]، إذن الأَمْرُ كلامُ الله، فلو كانَ الكَلَامُ مَخْلُوقًا؛ لمَا فَرَّقَ اللهُ بينهما، فإنه فَصَلَ قال -تعالى-: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف :54]، لو كانَ الأَمْرُ - هو الكلام- مَخْلُوقًا لقال: أَلَا لَهُ الخَلْقُ فَقَطَ. فَلَمَّا فَرَّقَ الله بينَ الخَلْقِ والأَمْرِ قال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ  [الأعراف :54]، دَلَّ عَلى أنَّ الكَلَامَ غَيْرُ الخلقِ، فالخلقُ شَيءٌ، وكلامُ اللهِ صِفَةٌ من صِفَاتِهِ.

كلامُ الله نَوْعَان:

كَلَامٌ كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ؛ كقولِهِ -تعالى-: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس :82].

وكَلَامُ الله الدِّينِيُّ الشرْعِيُّ وهو: القرآنُ، والكتبُ المنَزَّلَةُ، وهذا كَلامُ الله الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ.

وكلامُ اللهِ الكَوْنِيُّ القَدَرِيُّ؛ مثلُ ما جاء في الحديث: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ. ([23]) الْبَرُّ والفَاجِرُ لا يُمْكِنُ أن يَتَجَاوزَا كَلامَ اللهِ الْكَوْنِيَّ؛ لَكِنَّ كَلَامَ الله الدِّينِيَّ يَتَجَاوَزُهُ الفَاجِرُ.

كَلامُ الله الدِّينِيُّ قال: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، هَذَا كَلَامُ الله الدِّينِيُّ فالفاجِرُ يَتَجَاوَزُ هَذَا ولا يُصَلِّي؛ لَكِنَّ كَلَامَ اللهِ الكَوْنِيَّ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس :82]، لا يُمْكِنُ أنْ يَتَجَاوَزَهُ، إذَا أَرَادَ الله -كَوْنًا وَقَدَرًا- شَيْئًا أن يكونَ لا بُدَّ أنْ يَفْعَلَ.

المتن:

وَقَالَ وَكِيعٌ: «مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ كَفَرَ» ([24]).

الشرح:

وَكِيعُ بنُ الجَرَّاحِ شَيْخُ الإمَامِ أَحْمَدَ والشَّافِعِيِّ، يقولُ-رحمه الله-: «مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ»، كَمَا قَالَهُ الأئمِةُّ والعُلَمَاءُ، رواه الآجُرِّيُّ في (الشريعة).

المتن:

وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الطَّبَّاعِ: سَمِعْتُ رَجُلًا سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الله، أُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ: «سُبْحَانَ الله!! أَنْهَاكَ عَنْ مُسْلِمٍ، وَتَسْأَلُنِي عَنْ كَافِرٍ؟»([25]).

الشرح:

الإمامُ أحمدُ -رحمه الله- كَفَّرَ من يَقُولُ: القَرْآنُ مَخْلُوقٌ. لمَّا سَأَلَهُ؛ أَيُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ؟ قال: لا. قال: فَأُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فقَالَ: سُبْحَانَ الله!! أَنَا أَنْهَاكَ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الفَاسِقِ، وَتَسْأَلُنِي عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الكَافِرِ!!. إذَا كُنْتُ نَهَيْتُكُ عَنِ الصَّلاةِ خَلْفَ الفَاسِقِ الَّذِي يَشْرَبُ المُسْكِرَ؛ فالَّذِي يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ كَافِرٌ، ولا يُصَلَّى خَلْفَهُ من بابِ أَوْلَى، نسأل الله العافية! 

المتن:

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَنَاظَرَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ بِحَضْرَةِ وَالٍ كَانَ بِمِصْرَ-وَكَانَ يُسَمِّيهِ حَفْصًا المُنْفَرِدَ-؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ- فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: كَفَرْتَ وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا، فَانْصَرَفُوا، فَسَمِعْتُ حَفْصًا يَقُولُ: أَشَاطَ وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الشَّافِعِيُّ بِدَمِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: «الْقُرْآنُ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ»([26]).

الشرح:

هَذَا رَوَاهُ الإمِامُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة) بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَاظَرَهُ حَفْصٌ الفَرْدُ -وهو من المُعْتَزِلَةِ ومِنَ الجَهْمِيَّةِ- بحَضْرَةِ وَالِي مِصْرَ، وكَانَ الشَّافِعِيُّ يُسَمِّيهِ: حَفْصًا المُنْفَرِدَ؛ يَعْنِي: المُنْفَرِدَ بالكَلَامِ البَاطِلِ، انْفَرَدَ بِهَذَا الكَلَامِ البَاطِلِ؛ بأنَّهُ يقولُ بِخَلْقِ القُرْآنِ، فقال له الشَّافِعِيُّ: «كَفَرْتَ وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ». ثُمَّ قَامُوا، فَانْصَرَفُوا، «فَسَمِعْتُ حَفْصًا يَقُولُ: أَشَاطَ وَالله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الشَّافِعِيُّ بِدَمِي». يَعْنِي: أَهْدَرَ دَمِي.

المتن:

قال الشافعي: «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ». هَذِهِ مَقَالَةُ الشَّافِعِيِّ؛ مِثْلُ مَقالة الإمامِ أحمدَ وغيره.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: «مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى الله، وَقَالَ عَلَى الله مَا لَمْ يَقُلْهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى»([27]).

الشرح:

وهذا الأثر رَوَاهُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة)، أَبُو عُبَيْدٍ القاسمُ بْنُ سَلَّامٍ الفَقِيهُ المعروف؛ له كتاب (الإيمان)، وله كتاب (الأموال)، صاحبُ المؤلفات في التَّوْحِيدِ، والعَقِيدَةِ، والفِقْهِ؛ يقول: «مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى الله، وَقَالَ عَلَى الله مَا لَمْ يَقُلْهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى». وهَذَا مِثْلُ مقالة عبدِ الله بنِ المبارك، يَقُولُ عبدُ الله المبارك: «إِنَّا نَسْتَجِيزُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَجِيزُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة»([28]). يَعْنِي: كَلَامَ الجَهْمِيَّةِ أَشَرُّ من كلامِ اليهودِ والنصارَى، نَسْتَطِيعُ أن نَحْكِيَ أقوالَ اليهودِ والنصارى، ولا نَسْتَطِيعَ أنْ نَحْكِي كلامَ الجَهْمِيَّةِ؛ لخُبْثِهَا وفَسَادِهَا وشَرِّهَا.

المتن:

28- قَالَ الآجُرِّيُّ: وَقَدِ احْتَجَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ. ([29]). وَذَكَرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ كَانَ الْكَلَامُ قَبْلَ خَلْقِ الْقَلَمِ، وَإِذَا كَانَ أَوَّلَ خَلْقِ الله مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ دَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ؛ ولِأَنَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ.

قَالَ أَحْمَدُ: وَقَدْ رَوَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ([30]).

الشرح:

أَثَرُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، والبَيْهَقِيُّ في (الأسماء والصفات) مِنْ طَرِيقِ عبدِ الله بْنِ المُبَارَكِ، ورِجَالُهُ رِجَالٌ ثِقَاتٌ، ورَوَاهُ الآجُرِّيُّ في (الشريعة) من طُرُقٍ، والحَدِيثُ لهُ شَوَاهِدُ.

وفِيهِ أنَّ الإمامَ أحمدَ -رحمه الله- احْتَجَّ بحديث ابن عباس: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ. احْتَجَّ به على أنَّ كَلامَ الله مُنَزَّلٌ غيرُ مَخْلُوقٍ، وذكر أنَّهُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ على من يقول: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ.

وَجْهُ ذَلِكَ حَدِيثُ النبي ﷺ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قالَ لَهُ: اكْتُبْ. فيقول: قَدْ كَانَ الكلامُ قَبْلَ خَلْقِ القَلَمِ، فإذا كانَ أوَّلَ ما خلقَ الله من شيءٍ القَلَمُ؛ دَلَّ على أن كَلَامَهُ ليسَ بمَخْلُوقٍ؛ لأنَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الأشياءِ، قال لِلْقَلَمِ: اكْتُبْ الأشياءَ، كتبَ اللهُ المخلوقاتِ بالقَلَمِ.

في الحديث: كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ([31]). وأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قالَ لَهُ: اكْتُبْ. وقَوْلُ الله قَبْلَ خَلْقِ القَلَمِ، فإذا كانَ القَلَمُ أَوَّلَ المخلوقاتِ؛ أوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيءٍ القَلَمُ دَلَّ على أنَّ كَلَامَ اللهِ ليسَ بَمَخْلُوقٍ؛ لأنَّهُ ثَابِتٌ بخَلْقِ القَلَمِ؛ لأنَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الأَشْيَاءِ، هَذِهِ حُجَّةُ الإمامِ أحمدَ -رحمه الله- في الحديث.

قال الإمامُ أحمدُ: وقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا عن ابنِ عَبَّاسٍ.

المتن:

وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَوْفٍ: سَمِعْتُ هَارُونَ الْقِزْوِينِيَّ يَقُولُ: «مَنْ وَقَفَ عَلَى الْقُرْآنِ بِالشَّكِّ، وَلَمْ يَقُلْ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ كَمَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ»([32]).

الشرح:

هارونُ القزويني صَوَابُهُ: هَارُونُ الْفَرَوِيُّ؛ كما في (الشريعة) لِلآجُرِّيِّ، وكما في (شرح الاعتقاد) لِللالَكَائيِّ، وهُوَ هارونُ بنُ مُوسى بن أبي عَلْقَمَةَ الفَرَوِيُّ المَدِينِيُّ، روى عنه التِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ، قال أبو حاتم: شيخٌ. وقال النسائيُّ: لا بَأْسَ بِهِ. ترجمته في التَّهْذِيبِ([33]).

قال ابنُ أَبِي عَوْفٍ: سَمِعْتُ هَارُونَ الفَرَوِيَّ يَقُولُ: «مَنْ وَقَفَ عَلَى الْقُرْآنِ بِالشَّكِّ، وَلَمْ يَقُلْ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ كَمَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ».

يعني: المُتَوَقِّفَ، فبعضُ الناس يقول: القرآنُ مخلوقٌ، وبعضهم يقول: أنا مُتَوَقِّفٌ، فلا يقول: مخلوق، ولا غير مخلوق. يقول هَارُونُ الفَرَوِيُّ: من تَوَقَّفَ وَشَكَّ، فَهُو كَمَنْ قال: مَخْلُوقٌ. لا فَرْقَ؛ فالذي يقول: القرآنُ مخلوقٌ. كَافِرٌ، والذي يَشُكُّ كَافِرٌ.

فالوَاجِبُ الجَزْمُ تقولُ: القُرْآنُ كلامُ الله مُنَزَّلٌ، وغَيْرُ مَخْلُوقٍ. فمن قال: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ. كَفَرَ، ومنْ شَكَّ وتَوَقَّفَ وقال: لا أقول: مَخْلُوق ولا غير مخلوق، فهو كافر مثل من قال: القرآنُ مخلوقٌ.

وقد وَافَقَ هَارُونُ الفَرَوِيُّ أهلَ العِلْمِ، كَمَا سينقل المؤلف -رحمه الله- ليس خاصًّا بِهِ؛ بل هذا قولُ أهلِ العِلْمِ قَاطِبَةً، قوله: الذِي يَشُكُّ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَالَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ.

المتن:

29- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ سَالِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ مُنْذُ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا يَقُولُونَ: «مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا الْبَتَّةَ». قُلْتُ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لِأَنَّ امْرَأَتَهُ مُسْلِمَةٌ، وَمُسْلِمَةٌ لَا تَكُونُ تَحْتَ كَافِرٍ»([34]).

الشرح:

وهَذَا الأَثَرُ عن عبدِ الله بْنِ المُبَارَكِ الإمامِ المَعْرُوفِ، قال عنه الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في (التَّقْرِيبِ)([35]): ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير. وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ فَاضِلَةٍ، يقول: سَمِعْتُ النَّاسَ مُنْذُ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا يَقُولُونَ: «مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا الْبَتَّةَ».

تُطَلَّقُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ، ولَا يَرِثُ ولَا يُورَثُ، ويُقْتَلُ ولَا يُدْفَنُ في مَقَابِرِ المسلمين، ولا يُغَسَّلُ ولا يُصَلَّى عَلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لِأَنَّ امْرَأَتَهُ مُسْلِمَةٌ، وَمُسْلِمَةٌ لَا تَكُونُ تَحْتَ كَافِرٍ». مِصْدَاقًا لقَوْلِ الله -تَعَالى- في المسلماتِ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة  :10]، فامْرَأَتُهُ ليستْ حِلًّا له؛ لأنها مسلمةٌ وهو كافر؛ فلا تَحِلُّ لَهُ ولا يَحِلُّ لهَا، لكُفْرِهِ وضلَالِهِ.

المتن:

30- أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ الْأَزْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ -المَعْرُوفُ بِلُؤْلُؤٍ النَّهْدِيِّ- قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُذْيَفَةَ وَعَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا كُفِرَ بِالْقُرْآنِ، وَقَالُوا إِنَّهُ مَخْلُوقٌ؟ أَمَا إِنَّكُمَا لَنْ تُدْرِكَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَرِئَ اللهُ مِنْهُمْ، وَجِبْرِيلُ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَفَرُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيَّ. ([36]).

الشرح:

هذا الْأَثَرُ عَنْ حُذَيْفَةَ وعَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ في (الفِرْدوس)، والشِّيرَازِيُّ في (الألقاب)، كَمَا في (اللآلِئِ المَصْنُوعَة)؛ من طَريقِ الحسن بن علي المعروف بِلُؤْلُؤٍ، والحسن هذا ذَكَرَهُ ابن حجر في (الألقاب) فيِمَنْ عُرِفَ بلُؤْلُؤْ؛ فقال: وَالْحسن بن عَليّ الطَّحَّان روى التمار عَن وَاحِد عَنهُ فِي ألقاب الشِّيرَازِيّ([37]).

هذا الأثَرُ الأَقْرَبُ أنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ عن النبي ﷺ ولأن هذا الأسلوبَ ليسَ من كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ.

الأقْرَبُ أنَّهُ لا يَصِحُّ مَرْفُوعًا عن النَّبِيِّ ﷺ، ولَكِنْ هَذَا من كَلَامِ أهلِ العِلْمِ الذين قالوا: إنَّ من قال: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَهُوَ كَافِرٌ، لكنَّ المُؤَلِّفَ -رحمه الله- يذكرُ كُلَّ مَا قِيلَ في البَابِ.

وإذَا ثَبَتَ كُفْرُهُ؛ فَيَكُونُ بَرِئَ اللهُ مِنْه وجِبْرِيلُ، وصَالِحُ المؤمنين.

المتن:

31- وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ سَالِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيانَ بْنَ عُيَيْنَةَ سَنَةَ أُخِذَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ بِمَكَّةَ؛ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وهُوَ يَقُولُ: «شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ حَتَّى أُقَدِّمَهُ إِلَى الْقَاضِي، فَأَضِرَبَ عُنُقَهُ أَنَا بِيَدِي». وَبَسَطَ سُفْيَانُ كَفَّهُ اليُمْنَى وَرَدَّهَا.

وقَالَ سُفْيانُ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يَقُولُونَ: اللهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا دُونَهُ مَخْلُوقٌ إِلَّا كَلَامَهُ تعالى»([38]).

الشرح:

الأَثَرُ الأَوَّلُ: عَنْ سُفْيانَ بنِ عُيَيْنَةَ الإمامِ، يقول: حِينَ أُخِذَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ بِمَكَّةَ؛ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وهُوَ يَقُولُ: «شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ حَتَّى أًقَدِّمَهُ إِلَى الْقَاضِي فَأَضِرَبَ عُنُقَهُ أَنَا بِيَدِي». يَعْنِي: هَاتُوا شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلى بِشْرٍ أنه قال: القرآنُ مَخْلُوقٌ، حتَّى أَقْتُلَهُ.

فدَلَّ على أنَّ مَنْ قال: القرآنُ مَخْلُوقٌ، فإنه يستَحِقُّ القَتْلَ من قِبَلِ وُلَاةِ الأُمُورِ.

إذا قِيلَ: إنَّهُ يُقْتَلُ أو يَسْتَحِقُّ القتلَ، فليس معناه أن كُلَّ أَحَدٍ يَقْتُلُهُ، لا، فتكون المسْأَلَةُ فَوْضى؛ وُلَاةُ الأُمُورِ يَتَحَقَّقُونَ ويُحِيلُونَهُ إلى المحكمة وإلى القضاء، فإذا ثَبَتَ عَنْهُ واسْتُتِيبَ فلم يَتُبْ قُتِلَ من قِبَلِ ولاةِ الأمورِ.

أمَّا الأَشْخَاصُ فإنهم لا يَقْتُلُونَ أَحَدًا؛ حتَّى لا تَكُونَ المسألةُ فَوْضَى.

أمَّا الأَثَرُ الثَّانِي: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ يَقُولُ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يَقُولُونَ: اللهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا دُونَهُ مَخْلُوقٌ إِلَّا كَلَامَهُ ». رَواهُ اللَّالَكَائِيُّ مُخْتَصَرًا مِنْ قَوْلِ سفيانَ في بِشْرٍ، ومِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بلفَظ قال ابن عيينة: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يقول: «أَدْرَكْتُ مَشَايِخَنَا والنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: القُرْآنُ كَلَامُ الله، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ»([39]). وفي لفظٍ آخَرَ: «الْقُرْآنُ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ». وقال محمد بن عمار -أحد رواته -: ومَنْ مَشْيَخَتُهُ إِلَّا أَصْحَابُ رَسُولِ الله ﷺ ابنُ عَبَّاسٍ وجَابِرٌ، وذَكَرَ جَمَاعًة.

المتن:

32- وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيَّ يَقُولُ: «كَانَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ يَخْرُجُ إِلَى نَاحِيَةِ الزَّابَيْنِ يَغْتَسِلُ وَيَتَطَهَّرُ؛ وَكَانَ بِهِ المَذْهَبُ. قَالَ: فَمَضَى وَلِيدٌ الْكَرَابِيسِيُّ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ لَهُ: مَسْأَلَةً. قَالَ: وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَلَيْسَ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيْغَتَسِلُ بِالصَّاعِ؟ فَمَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ؟ قَالَ: إِبْلِيسُ يُوَسْوِسُ لِي فَيُوهِمُنِي أَنَّيِ لَمْ أَتَطَهَّرْ. قَالَ: فَهُوَ الَّذِي وَسْوَسَ لَكَ حَتَّى قُلْتَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ».

الشرح:

الزَّابَيْنِ نَهْرٌ احْتَفَرَهُ الحَجَّاجُ فَوْقَ وَاسِط، فَسَمَّاهُ بذلك، يعني: يَخْرُجُ يَغْتَسِلُ من النهر.

يعني: بِشْرًا المِرِّيسِيُّ هذا مُوَسْوِسٌ في الطهارة وفي العبادة أيضا، ومُوَسْوِسٌ أيضا في القول بأن القرآن كلام الله وهو مخلوق، هَذَا مِنْ وَسْوَسَتِهِ، ومن استِيلَاءِ الشيطانِ عَلَيْهِ.

يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ: «كَانَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ يَخْرُجُ إِلَى نَاحِيَةِ الزَّابَيْنِ يَغْتَسِلُ وَيَتَطَهَّرُ؛ وَكَانَ بِهِ المَذْهَبُ، قَالَ: فَمَضَى وَلِيدٌ الْكَرَابِيسِيُّ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ: مَسْأَلَةً. قَالَ: وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَلَيْسَ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيْغَتَسِلُ بِالصَّاعِ؟ فَمَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ؟ قَالَ: إِبْلِيسُ يُوَسْوِسُ لِي فَيُوهِمُنِي أَنَّيِ لَمْ أَتَطَهَّرْ، قَالَ: فَهُوَ الَّذِي وَسْوَسَ لَكَ حَتَّى قُلْتَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ».

كما ذَكَرَ مُحَقِّقُ (الأنوار) وَرَدَ في تَرْجَمَةِ بِشْرٍ هذا ما يَدُلُّ على أن عِنْدَهُ شَيْئًا من هَذِهِ الوَسَاوِسِ، أَعْظَمُهَا وَسْوَسَةُ العَقِيدَةِ، وهو القَوْلُ بأن القُرْآنَ مَخْلُوقٌ، ووَسَاوِسُ في الطَّهَارَةِ؛ يَغْتَسِلُ في النَّهْرِ ولا يَكْفِيهِ الماءُ القليلُ.

وكذلك أيضا ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ في ترجمته في (سيرِ أعلامِ النُّبَلَاءِ)([40]) عن البَلْخِيِّ أنه قال: «بَلَغَ مَنْ وَرَعِهِ -يعني بشرًا- أنَّه كَان لا يَطَأُ أَهْلَهُ لَيْلًا؛ مَخَافَةَ الشُّبْهَةِ». من وَسْوَسَتِهِ لا يَطَأُ زَوْجَتَهُ في اللَّيْلِ يخشى أن تكونَ غَيْرَ زَوْجَتِهِ، فلا يَطَأُ أهله إلا في النهار حَتَّى يَرَاهَا ويَرَى وَجْهَهَا، ويتحقق أنها زوجته.

ومن وَسْوَسَتِه أيضا أنه يقول: «ولا يَتَزَوَّجُ إلا من هِيَ أَصْغَرُ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ؛ مخافة أن تكون رَضِيعَتَهُ». فما يَتَزَوَّجُ إلا امْرَأةً أصْغَرَ مِنْهُ بعشر سنين خوفا أن تكون رَضَعَتْ مَعَهُ وهو لا يدري في الصِّغَرِ.

الشيطانُ اسْتَوْلَى عليه -والعياذ بالله- في العِبَادَةِ، والطَّهَارَةِ والوُضُوءِ، وأيضا فيما يَتَعَلَّقُ بالزَّوَاجِ والرَّضَاعَةِ، وأَعْظَمُهَا الوَسْوَسَةُ في القولِ بخلقِ القُرْآنِ.

نَسْأَلُ الله السَّلَامَةَ والعَافِيَةَ، ونَعُوذُ بالله من الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ.

المتن:

33- وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْمَوْصِلِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الزَّمَنُ: «رَأَيْتُ زُبَيْدَةَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللهُ بِكِ؟ قَالَتْ: غَفَرَ لِي فِي أَوَّلِ مِعْوَلٍ ضُرِبَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ فِي وَجْهِكِ؟ قَالَتْ: دُفِنَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ، زَفَرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ زَفْرَةً فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَهَذِهِ الصُّفْرَةُ مِنْ تِلْكَ الزَّفْرَةِ. قُلْتُ: فَمَا فَعَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ قَالَتِ: السَّاعَةَ فَارَقَنِي أَحْمَدُ فِي طَيَّارٍ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ فِي لُجَّةٍ حَمْرَاءَ، يُرِيدُ زِيَارَةَ الْجَبَّارِ ، قُلْتُ: بِمَ نَالَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: بِقَوْلِهِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ»([41]).

الشرح:

هَذِهِ الحِكَايَةُ أو الرُؤْيَا عَنْ عبدِ الله بنِ المُبَارَكِ، رواها ابْنُ الجَوْزِيِّ في (مَنَاقِبِ الإمامِ أحمدَ) مِنْ طريق أبي الفَتْحِ القَوَّاسِ، يقول عبد الله بن المبارك: «رَأَيْتُ زُبَيْدَةَ فِي الْمَنَامِ». زُبَيْدَةُ زَوْجَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وهِي مَشْهُورَةٌ بالخَيْرِ والصَّلَاحِ وبالأَعْمَال الخَيْرِيَّةِ فَقَد اسْتَخْرَجَتْ عَيْنًا في مكةَ؛ وجَعَلَتْ لهَا مَجْرى حتى شَرِبَ أهلُ مكة وشَرِبَ الحُجَّاجُ.

ومن الأعمالِ الخيْرِيَّةِ التي تُذْكَرُ بها عَيْنٌ اشْتُهِرَتْ بها، تسمى عَيْنَ زُبَيْدَةَ إلى الآن، وهي معروفة في مكة مَوْجُودٌ مَكَانُهَا، اسْتُخْرِجَتْ مَاءُ عَينِ زُبَيْدَةَ من الجبال وجعلتَهَا طَرِيقا.

في ذلك الوقتِ لم يكن عِنْدَهُمْ تَطُوُّرُ الصِّنَاعات والحَفَّارَاتِ؛ لكن مع ذلك سَخَّرَتِ العمالِ حَتَّى اسْتَخْرَجُوا هذه العَيْنَ من الجَبَلِ، وجَعَلُوهُا طَرِيقًا حَتَّى شرب منها أهل مكة، وشَرِبَ الحُجَّاجُ، وصَارَتْ عَمَلًا خَيْرِيًّا عَظِيمًا.

ويقول عبدُ الله بنُ المباركِ: إنَّهُ رَآهَا فسَأَلَهَا في الرُّؤْيَا-: «مَا فَعَلَ اللهُ بِكِ؟ قَالَتْ: غَفَرَ لِي فِي أَوَّلِ مِعْوَلٍ ضُرِبَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ». أَوَّلُ فَأْسٍ حَفَرَهَا العُمَّالُ بِتَوْجِيهِهَا وعَمَلِهَا غَفَرَ اللهُ لهَا.

 فقال:-ورأى في وجهها الصفرة-: «فَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ فِي وَجْهِكِ؟ قَالَتْ: دُفِنَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ، زَفَرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ زَفْرَةً فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَهَذِهِ الصُّفْرَةُ مِنْ تِلْكَ الزَّفْرَةِ». زَفَرَتْ جَهَنَّمُ على بِشْرٍ المِرِّيسِيِّ فاصْفَرَّ وَجْهُ زُبَيْدَةُ.

ثم سألها قال: «فَمَا فَعَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ قَالَتْ: السَّاعَةَ فَارَقَنِي أَحْمَدُ فِي طَيَّارٍ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ فِي لُجَّةٍ حَمْرَاءَ، يُرِيدُ زِيَارَةَ الْجَبَّارِ . قُلْتُ: بِمَ نَالَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: بِقَوْلِهِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ».

على كُلِّ حَالٍ هَذِهِ حِكَايَةُ مَنَامٍ، وعلى كلٍّ سَوَاءٌ صَحَّتْ أو لم تَصِحَّ؛ فالقُرْآنُ لَا شَكَّ أنَّهُ كَلَامُ الله مُنَزَّلٌ وغَيْرُ مَخْلُوقٍ، ولكنَّ المؤلِّفَ -رحمه الله- إنما ذَكَرَهَا للاسْتِئْنَاسِ بِهَا.

المتن:

34- حَدَّثَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الصَّوَّافِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الْعَوَّامُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: «مَرَرْتُ فِي بَعْضِ الْأَزِقَّةِ بِمَجْنُونٍ، وَقَدْ وَقَعَ فَقِيلَ لِي: تَقَدَّمْ فَاقْرَأْ عَلَيْهِ، فَتَقَدَّمْتُ لِأَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي شَيْطَانُهُ مِنْ جَوْفِهِ: دَعْهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، قُلْتُ لَهُ: فِي شَأْنِكَ وَإِيَّاهُ»([42]).

الشرح:

هَذَا الأَثَرُ عن العَوَّامِ والدِ أبي بَكْرٍ قال: «مَرَّ فِي بَعْضِ الْأَزِقَّةِ بِمَجْنُونٍ». المَجْنُونُ: مَصْرُوعٌ؛ فقيل له: «اقْرَأْ عَلَيْهِ». انْفُثْ عَلَيْهِ حتى يَخْرُجَ الجِنِّيُّ، فلما جاء لِيَقْرَأَ تَكَلَّمَ الجِنِّيُّ: لا، لا تَقْرَأْ عَلَيْهِ، هَذَا قَبِيحٌ، هذا يقول: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ. قال: فَتَرَكْتُهُ، وقلت: أَنْتَ وشَأْنَكَ، عَلَيْكَ به. فتركه فلم يقرأ عليه.

على كل حال هذه الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا من بابِ الاسْتِئْنِاسِ والتَّأْيِيدِ، قد تَصِحُّ وقد لا تَصِحُّ، والله أعلم.

 وهَذِهِ القِصَّةُ رَوَاهَا اللَّالَكَائِيُّ في (شَرْحِ الاعْتِقَادِ)، ورَوَاهَا البَغْدَادِيُّ في (تاريخِ بَغْدَادَ) عن أحمدَ بْنِ نَصْرِ بنِ مَالكٍ الخُزَاعِيِّ نحو هذه القصة.

العلماءُ يَذْكُرُونَ كُلَّ ما قيلَ في المسألة من باب الاسْتِئْنَاسِ، والأَدِلَّةُ من القرآن والسُّنَّةِ، وكَلامِ أهلِ العلم كافية في هذا. 

المتن:

بَابُ ذِكْرِ النَّهْي عَنْ مَذَاهِبِ الْوَاقِفَةِ، وَذِكْرِ اللَّفْظِيَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ لِلْقُرْآنِ الَّذِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ

الشرح:

هَذا الْبَابُ الرَّابِعُ منْ أَبْوَابِ الكِتَابِ عَقَدَهُ للنَّهْيِ عَنْ مَذْهَبِ الوَاقِفَةِ، وذِكْرِ اللَّفْظِيَّةِ، ومَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ لِلْقُرْآنِ الَّذِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

يعني: هَذَا الباب مُشْتَمِلٌ لثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

 الأمرِ الأَوَّلِ: مَذْهَبُ الْوَاقِفَةِ، والواقِفَةُ الَّذِين يَتَوَقَّفُون في الْقُرآنِ؛ شَكُّوا لا يَقُولُونَ: مَخْلُوقٌ ولا غيرُ مَخْلُوقٌ. ما حُكْمُهُمْ؟ سَبَقَ أَنَّ الوَاقِفَ كَافِرٌ، مَنْ قَالَ: القُرآنُ مَخْلُوقٌ فَهُو كَافِرٌ، والوَاقِفُ شَاكٌّ، حُكْمُهُ حُكمُ مَنْ قَالَ: القرآنُ مخلوقٌ.

الأمرِ الثَّانِي: ذِكْرُ اللَّفْظِيَّةِ، اللَّفْظِيَّةُ الذين يقولُون: لَفْظِي بالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. أو يقولون: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وهذا أيضًا من الأَلْفَاظِ المُبْتَدَعَةِ.

 العلماءُ قالوا: لا يقالُ لَفْظِي بالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ ولا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. هَذَا مُبْتَدَعٌ، ولهذا ثَبَتَ عن الإمامِ أحمدَ أنه قالَ: «من قال: لَفْظِي بالقُرْآنِ مَخْلوقٌ فَهُو جَهْمِيٌّ، ومَنْ قالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُو مُبْتَدِعٌ»(1)، فلا تَقُلْ: لَفْظِي بالقُرآنِ مَخْلُوقٌ ولا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لا تَبْتَدِعْ شَيْئًا لم يَقُلْهُ السَّلَفُ.

الأَمْرِ الثَّالِثِ الَّذِي تَشْتَمِلُ عليه الترجمة: مَنْ زَعَمَ أنَّ القُرْآنَ حِكَايةٌ لِلْقُرْآنِ الَّذِي في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، هذا يقوله الأشَاعِرَةُ والكُلَّابِيَّةُ، وغَيْرُهُمْ يقولُ: حِكَايَةٌ عن كَلَامِ الله، والعِبَارَاتُ تَكُونُ مُتَقَارِبَةً؛ حِكَايَةٌ عن كلامِ الله.

المتن:

35- قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ الله، وَوَقَفُوا، وَقَالُوا: لَا نَقُولُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَهَؤُلَاءِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَأَشَرُّ؛ لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي دِينِهِمْ، وَنَعُوذُ بِالله مِمَّنْ شَكَّ فِي كَلَامِ الرَّبِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ».

الشرح:

نَقَلَ المُؤَلِّفُ عن أبِي بَكْرٍ الآجُرِّيِّ -رحمه الله- في كتاب (الشريعة) قال: «وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ الله وَوَقَفُوا». يعني: تَوَقَّفُوا وشَكُّوا، ولم يَقُولُوا: غَيْر مَخْلُوقٍ. وقالوا: لا نَقولُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ولا نَقُولُ: مَخْلُوقٌ.

يقولُ: «فَهَؤُلَاءِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ». يَعْنِي: لا فَرْقَ. الَّذِي يقُولُ: القرآنُ مخلُوقٌ. والذِي يقُولُ: القُرْآنُ كَلامُ الله ونَتَوَقَّفُ. الحُكْمُ وَاحِدٌ؛ كلهم كَفَّرَهُمُ الْعُلماءُ والأئمةُ، مثل من قال: القرآنُ مَخْلُوقٌ بل وأَشَرُّ مِنْهُ، لأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي دِينِهِمْ. نعوذُ بالله ممن شَكَّ في كلامِ الرَّبِّ، أنه غير مخلوق.

المتن:

36- قَالَ الآجُرِّيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يُسْأَلُ: هَلْ لَهُمْ رُخْصَةٌ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ الله. ثُمَّ يَسْكُتُ؟ فَقَالَ: وَلِمَ يَسْكُتُ؟ لَوْلَا مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ كَانَ يَسَعُهُ السُّكُوتُ، وَلَكِنْ حَيْثُ تَكَلَّمُوا فِيمَا تَكَلَّمُوا، لِأَيِّ شَيْءٍ لَا يَتَكَلَّمُ؟

الشرح:

أَهْلُ البِدَعِ حولَ القُرْآنِ؛ منهم مَن يقول: القرآنُ مخلوقٌ لَفْظُهُ ومَعْنَاهُ. وهذا قولُ المُعْتَزِلَة، ومنهم من يقول: القرآنُ مَعْنًى قائمٌ بالنَّفْسِ. وهُم الكُلَّابِيَّةُ والأَشْعَرِيَّةُ. يقولون: القرآنُ معنًى قائمٌ بالنَّفْسِ؛ ليس ألْفَاظًا ولا حُرُوفًا، ولكنَّهُ معْنًى قائمٌ بالنَّفْسِ. وأما هذه الحُرُوفُ والأَلْفَاظُ الَّتِي في المصَاحِفِ الَّتِي بأَيْدِينَا يَقُولُونَ: ليسَتْ كَلَامَ الله ولكِنَّهَا عِبَارَةٌ تَأَدَّى بها كَلَامُ الله. فالأشعرية يقولون: عبارةٌ. والكُلَّابِيَّةُ يقولُون: حكايةٌ.

وكُلٌّ من الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: ليسَ فِي المُصْحَفِ كَلَامُ الله، وإِنَّمَا هَذِهِ العِبَارَةُ أو الحِكَايَةُ من جِبْرِيلَ، فجِبْرِيلُ هُو الذي فَهِمَ المَعْنَى القَائِمَ بِنَفْسِ الرَّبِّ، اضْطَرَّهُ اللهُ فَفَهِمَ المعنى القائمَ بِنَفْسِهِ فَعَبَّرَ بهذِهِ الحُرُوفِ والألفاظِ.

ومِنْهُمْ من يقولُ: إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَهُ من اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فما في القرآنِ حِكَايَةٌ عن كَلَامِ الله. ومنهم من يقول: الذي عَبَّرَ هو مُحَمَّدٌ ﷺ. وكُلٌّ من الطَّوَائفِ -والعياذُ بالله- كُلُّهُمْ ضَالٌّ.

ولهذا يقولُ العُلَمَاءُ: الأَشْعَرِيَّةُ مَذْهَبُهُمْ نِصْفُ مَذْهَبِ المعْتَزِلَةِ. المعْتَزِلَةُ يقولون: القرآنُ مخلوقٌ لَفْظُهُ ومعنَاهُ. والأشاعِرَةُ والكُلَّابِيَّةُ يقولون: القرآنُ نِصْفُهُ مَخْلُوقٌ وهُو الأَلْفَاظُ والحُرُوفُ، ونِصْفُهُ غَيْرُ مخلوقٍ وهُوَ المعَانِي؛ لأنَّهُمْ يقولونَ: الألفاظُ ليستْ كَلَامًا، الكَلَامُ يكونُ في النَّفْسِ وفي المَعْنَى وفِي القَلْبِ، والألفاظُ يَتَأَدَّى بها الكَلَامُ ويستدلون بمثل قول الأَخْطَلِ النَّصْرَانِيِّ:

إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا

يعنِي: دَلِيلًا على الأَلْفَاظِ ودليلًا على الكَلَامِ، وهَذَا الكَلَامُ هُوَ المعْنَى القِائِمُ بالنَّفْسِ، وهَذَا مِنْ أَبْطَلِ البَاطِلِ.

..................................

الحواشي:

([1]) انظر: الشريعة للآجري (1/495/160) .

([2]) انظر: الشريعة للآجري (1/492/156) .

([3]) أخرج هذه القصة ابن بطة في الإبانة (6/38/231) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/254/370) .

([4]) أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام، ودعائه لصاحب الصدقة، رقم (1497)، مسلم: كتاب الزكاة، رقم (1078).

([5]) انظر: تفسير ابنُ كَثِيرٍ (6/468)

([6]) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (1/593/525) .

([7]) انظر: مجموع الفتاوى (15/67).

([8]) انظر: جامع المسانيد والسنن(5/347/6633) ، قال ابن كثير: وهذا منكر جدًا لا يصح إلى حماد بن سلمة .

([9]) أخرجه الطبراني في الكبير (2/96/ 1427).

([10]) انظر: الإصابة (4/137).

([11]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/494/159) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/264/390) .

([12]) أخرجه الآجري في الشريعة (2/283) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/496/161) .

([13]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/499/163) .

([14]) أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج من الملة، رقم (6780).

([15]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/500/164) .

([16]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/501/165) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/275/410) .

([17])أخرجه اللالكائي  في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ( 3/440/ 663)، والبيهقي في الأسماء والصفات ( 2/305/867) ، والدارمي في الرد على الجهمية (1/66/104)،وأبو نعيم في الحلية (6/326) ، وجود إسناده الحافظ في الفتح .

([18]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/502/167) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/394/504) .

([19]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/503/169)، وابن بطة في الإبانة (6/64/275) .

([20]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/503/170) .

([21]) انظر: مسائل الإمام أحمد (2/430) .

([22])أخرجه الآجري في الشريعة (1/504/171) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/244/358) .

([23]) أخرجه الطبراني  في الكبير: (4/114/3838) .

([24]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/506) .

([25]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/506/173) .

([26]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/508/176) .

([27]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/509/177) .

([28]) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (1/111).

([29]) أخرجه أبو داود : كتاب السنة ، بَابٌ فِي الْقَدَرِ ، رقم (4700) .

([30]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/510/178) .

(([31] سبق تخريجه .

([32]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/496/161) .

([33]) انظر: تهذيب الكمال (30/112).

([34]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/270/405) .

([35]) انظر: تقريب التهذيب (1/320/3567).

([36]) أخرج الديلمي في الفردوس (2/295/4883) .

([37]) انظر: نزهة الألباب في الألقاب، لابن حجر (2/139).

([38]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/260/381) .

([39]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/260/383) .

([40]) انظر: سير أعلام النبلاء (8/336).

([41]) أخرجه ابن الجوزي في مَنَاقِبِ الإمامِ أحمدَ (1/627) .

([42]) أخرجه ابن بطة في الإبانة (6/117/380) .

(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول السنة (2/392/602) .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد