(متن)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإني أسأل الله أن يطيل عمركم، وأن يحسن عملكم، وأن يبارك في علمكم، قال الشيخ السعدي رحمة الله عليه في تفسيره:
سورة القدر، وهي مكية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
يقول تعالى مبينًا لفضل القرآن وعلو قدره: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كما قال تعالى: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وذلك أن الله [تعالى] ، ابتدأ بإنزاله في رمضان [في] ليلة القدر، ورحم الله بها العباد رحمة عامة، لا يقدر العباد لها شكرًا.
وسميت ليلة القدر، لعظم قدرها وفضلها عند الله، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية.
ثم فخم شأنها، وعظم مقدارها فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي: فإن شأنها جليل، وخطرها عظيم.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي: تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر [خالية منها] ، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث من تبارك وتعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرًا طويلا نيفًا وثمانين سنة.
تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا أي: يكثر نزولهم فيها مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ هِيَ أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي: مبتداها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر.
وقد تواترت الأحاديث في فضلها، وأنها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه، خصوصًا في أوتاره، وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة.
ولهذا كان النبي ﷺ، يعتكف، ويكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر [والله أعلم] .
(شرح)
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، أما بعد.
فهذه السورة الكريمة كما ذكر المؤلف رحمه الله سورة القدر، سميت سورة القدر لقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يعني: القرآن؛ أنزل القرآن في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان، ابتدأ نزوله في رمضان في ليلة القدر، كما قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة/185]، وفي هذه السورة قال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وليلة القدر في رمضان، فالقرآن نزل في رمضان في ليلة القدر، وقال تعالى في سورة الدخان إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان/3] وهي ليلة القدر، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان/4، 5].
سميت ليلة القدر كما بين المؤلف رحمه الله؛ لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، من صحة ومرض، وحياة وموت، وفقر وغنى، وعز وذل، قول لأنها عظيمة القدر، مفخمة عند الله، أو للأمرين جميعًا ، فسميت ليلة القدر للأمرين؛ لأنها يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، ولأن قدرها عند الله عظيم، ولهذا فخمها الله فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هذا أمر تندهش له العقول، كما قال المؤلف رحمه الله، يعني: العمل فيها والعبادة، يعدل ألف شهر، وألف شهر تعادل فوق ثمانين سنة، أكثر مِن عمر مَن عُمِّر طويلًا.
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ سالمة من الآفات ومن الشرور، حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. يعني: مبتداها من غروب الشمس، ومنتهاها طلوع الفجر، وهي كما قال المؤلف رحمه الله وهي ليلة القدر باقية في هذه الأمة.
اختلف الناس فيها؛ قيل: إنها رفعت، وهذا قول ضعيف، والصواب أنها باقية، وقال بعض العلماء: إنها باقية ولكن لايدرى في السنة في أي ليلة، وهذا قول ضعيف، وقيل إنها يدرى أنها ترفع وباقية، وهي في شهر رمضان (.....) ، وهذا قول مرجوح أيضًا، أنها باقية ومعروفة، وفي شهر رمضان، وفي العشر الأواخر منه، وهذا هو الصواب، والصواب أنها تطلب في أوتاره وعشرها، يقول النبي ﷺ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ والأوتار أرجى من غيرها، يقول: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوتر فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى، والسبع الأواخر من رمضان أرجى من غيرها؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن رجالًا من أصحاب النبي ﷺ، أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، فقال أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ.
وليلة السابع والعشرين أرجى من غيرها، كما أخبروا به عن أبي بن كعب وجماعة، قال: إن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين اجتهادًا منه، ولكن لا يعلم في أي ليلة هي.
والصواب أنها متنقلة، في بعض السنين تكون ليلة واحد وعشرين، وبعض السنين ليلة ثلاث وعشرين، وبعض السنين ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في الأشفاع وقد تكون في الأوتار، هذا هو الصواب.
قد ثبت أن النبي ﷺ قال: وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فوقف المطر، فمطروا في تلك الليلة، (.....) في المسجد، فأصبح رسول الله ﷺ في صلاة الفجر، وإن أثر الماء والطين في (.....) وأرنبة أنفه، فصارت ليلة القدر في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين، فهي متنقلة.
هذا هو الصواب، أنها باقية، وأنها في كل سنة، وأنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها متنقلة، وأنها قد تكون في الأشفاع وفي الأوتار، لكن أرجاها ليلة السابع والعشرين، وأرجاها السبع الأواخر، وأرجاها الأوتار، ولكن قد تكون في الأشفاع وقد تكون في الأوتار.
ولا يعلم أي ليلة هي، ويلزم بذلك، والحكمة في ذلك أن الله أخفاها ليجتهد العباد في العمل، كما أخفى ساعة الإجابة يوم الجمعة؛ ليطلبها العباد في جميع اليوم، ولكن أرجاها ساعتان حين يدخل الإمام يوم الجمعة حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي لسورة البينة:
بسم الله الرحمن الرحيم
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ.
يقول تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أي: من اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ من سائر أصناف الأمم، مُنْفَكِّينَ عن كفرهم وضلالهم الذي هم عليه، أي: لا يزالون في غيهم وضلالهم، لا يزيدهم مرور السنين إلا كفرًا.
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الواضحة، والبرهان الساطع.
ثم فسر تلك البينة فقال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي: أرسله الله، يدعو الناس إلى الحق، وأنزل عليه كتابًا يتلوه، ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولهذا قال: يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً أي: محفوظة عن قربان الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، لأنها في أعلى ما يكون من الكلام.
ولهذا قال عنها: فِيهَا أي: في تلك الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي: أخبار صادقة، وأوامر عادلة تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فإذا جاءتهم هذه البينة، فحينئذ يتبين طالب الحق ممن ليس له مقصد في طلبه، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
(شرح)
هذه السورة سميت سورة البينة؛ لقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي: لا يزالون على كونهم بغيهم حتى تأتيهم البينة.
وفسر البينة، بأنها رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً رسول من الله أرسله الله يدعو الناس إلى الحق، وإلى أهل الكتاب، يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً يعني: محفوظة من الشياطين، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ .
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ يعني: أخبار صادقة وأوامر عادلة.
وفي هذه الآية دليل على أن الكفر غير الشرك، استدل به بعض العلماء على أن الكفر غير الشرك، قال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فعطف المشركين على الكفار؛ فدل على أن الكفر غير الشرك، الكفر جحد الحق، والشرك هو صرف العبادة لغير الله، وكل ما هو مخرج من الملة.
وقال آخرون: الكفر هو الشرك، والشرك هو الكفر، الكافر يسمى كافرًا؛ لأنه جحد الحق وهو توحيد الله، ويسمى مشركًا؛ لأنه عبد الشيطان، والمشرك (.....) لأنه عبد غير الله، وهو أيضًا كافر؛ لأنه جحد حق الله، ولم يفرد الله بالعبادة.
(متن)
وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول وينقادوا له، فليس ذلك ببدع من ضلالهم وعنادهم، فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابًا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق، ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم، لم يزدهم الهدى إلا ضلالا ولا البصيرة إلا عمى، مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد، ودين واحد فما أمروا في سائر الشرائع إلا أن يعبدوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله، وطلب الزلفى لديه، حُنَفَاءَ أي: معرضين مائلين عن سائر الأديان المخالفة لدين التوحيد. وخص الصلاة والزكاة بالذكر مع أنهما داخلان في قوله لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لفضلهما وشرفهما، وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين.
وَذَلِكَ أي التوحيد والإخلاص في الدين، هو دِينُ الْقَيِّمَةِ أي: الدين المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم.
(شرح)
وهذا من العجائب أن أهل الكتاب ما تفرقوا إلا بعد مجيء البينات لهم؛ بعد وضوح الحق لهم، الواجب على الناس أن يتفقوا وأن يتحدوا، إذا جاءهم الحق ويعملوا به، ولكنهم ما زادهم الحق إلا ضلالًا ونفورًا وتفرقًا، ولهذا قال: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق، ومع ذلك تفرقوا؛ لرداءتهم ونذالتهم، ما زادهم النور إلا عمى، كما قال الله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا زادهم ما أنزل الله من القرآن والوحي، زادهم طغيانًا وكفرًا والعياذ بالله.
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى: القرآن.
وقال الله تعالى في القرآن قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ، هو شفاء للمؤمنين، ولكنه وقر في آذان الكفار وعمى في أبصارهم - نسأل الله السلامة والعافية، ولا يزيدهم إلا طغيانا وضلالًا.
مع أن الله تعالى الكتب التي جاءت من عنده كلها تأمرهم بإخلاص العبادة لله؛ ولهذا قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ الدين المستقيم، الذي لا عوج فيه.
(متن)
ثم ذكر جزاء الكافرين بعدما جاءتهم البينة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ قد أحاط بهم عذابها، واشتد عليهم عقابها، خَالِدِينَ فِيهَا لا يفتر عنهم العذاب، وهم فيه مبلسون، أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لأنهم عرفوا الحق وتركوه، وخسروا الدنيا والآخرة.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ لأنهم عبدوا الله وعرفوه، وفازوا بنعيم الدنيا والآخرة.
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ.
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها ولا رحيل، ولا طلب لغاية فوقها، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، ورضوا عنه، بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل المثوبات ذَلِكَ الجزاء الحسن لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي: لمن خاف الله، فأحجم عن معاصيه، وقام بواجباته.
(شرح)
هذا فيه بيان جزاء الكافرين، وجزاء المؤمنين.
الكفار سواء من أهل الكتاب من اليهود والنصارى أو من غيرهم، جزاؤهم جهنم مخلدين فيها خلودًا دائما.
هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ شر الناس؛ لأنهم عرفوا الحق وتركوه، وأما المؤمنون الذين آمنوا وصدقوا إيمانًا بالعمل الصالح فـ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وجزاؤهم الجنات يخلدون فيها، وفوق ذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، رضي الله عنهم فأحلهم دار كرامته، ورضوا عن ربهم .
قال ذَلِكَ الجزاء الحسن لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ لمن خاف، الخشية التي تحمل الإنسان على أداء الفرائض والانتهاء عن المحارم والوقوف عند حدود الله، هذه الخشية جزاؤهم، ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ذلك الجزاء لمن خشي الله، من خشي الله وخافه، الخشية الحقيقية فإن الخشية الحقيقية تحمل الإنسان على إخلاص الدين لله وأداء الفرائض وترك المحارم؛ ولهذا صار هذا الجزاء لمن خشي ربه.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي قال رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة، وأن الأرض تتزلزل وترجف وترتج، حتى يسقط ما عليها من بناء وعلم؛ فتندك جبالها، وتسوى تلالها، وتكون قاعًا صفصفًا لا عوج فيها ولا أمت.
وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا أي: ما في بطنها، من الأموات والكنوز.
وَقَالَ الإنْسَانُ إذا رأى ما عراها من الأمر العظيم مستعظمًا لذلك: مَا لَهَا؟ أي: أي شيء عرض لها؟
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ الأرض أَخْبَارَهَا أي: تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر، فإن الأرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم، ذلك بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا أي: وأمرها أن تخبر بما عمل عليها، فلا تعصي لأمره يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ من موقف القيامة، حين يقضي الله بينهم أَشْتَاتًا أي: فرقًا متفاوتين. لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ أي: ليريهم الله ما عملوا من الحسنات والسيئات، ويريهم جزاءه موفرًا.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وهذا شامل عام للخير والشر كله؛ لأنه إذا رأى مثقال الذرة، التي هي أحقر الأشياء، وجوزي عليها فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا.
وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير، ولو قليلًا، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا.
(شرح)
هذه السورة تسمى سورة الزلزلة؛ لما فيها من قوله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا إذا: ظرف لما يستقبل من الزمان عند النحاة، إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا يعني: في يوم القيامة، تدك الأرض وتتزلزل وترتج وترجف، وذلك أن الله تعالى يأمر إسرافيل فينفخ في الصور، نفخة الصعق والموت، فيموت الناس، ثم يمكث الناس أربعين، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث، قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، وتحصل هذه الأمور إذا قامت القيامة، من نفخ إسرافيل في الصور، تتزلزل الأرض وتدك الجبال، وتكور الشمس وتنكدر النجوم، وتسجر البحار وتفجر، وتزلزل ويخرج ما في باطن الأرض من الأموات، والبناء وغيرها، ولهذا قال: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا يعني: في يوم القيامة، تزلزل وترجف الأرض وترتج حتى يسقط ما عليها من بناء ومعلم، وتكون قاعًا صفصفًا ما فيها جبال، مستوية، تمد كما يمد الأديم.
وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا أي: ما في بطنها من الأموات والكنوز، (.....) إذا نفخ إسرافيل في الصور أخرجت الأرض أثقالها، وعادت الأرواح إلى أجسادها، أو أنها تخرج ما في أثقالها في النفخة الأولى، ثم ينزل الله مطرًا فتنبت أجسام الناس، فإذا كمل نباتهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور النفخة الثانية، نفخة البعث، فتعود الأرواح إلى أجسادها، والأرواح باقية في نعيم أو في عذاب، لا تموت، المؤمن إذا مات نقلت الروح إلى الجنة، ولفظت من جسده، والكافر تنقل روحه إلى النار ولفظت من جسده، فإذا جاء يوم القيامة بعث الله الأجساد بعدما تنبت ثم تعود الأرواح إلى أجسادها بعد النفخ في الصور.
في يوم القيامة تزلزل الأرض، إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا أي شيء حصل لها، يستنكر من شدة الهول، مستعظمًا لذلك.
قال الله: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا هذا جواب إذا، إذا حصلت هذه الأمور؛ يومئذ تحدث أخبارها، تتحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، وتشهد بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يعني: لأن الله أمرها بذلك، فهي تخبر بما عمل على ظهرها من خير أو شر.
في يوم القيامة يَصْدُرُ النَّاسُ ينصرف الناس أَشْتَاتًا أي: فرق، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ من عمل خيرا وجده، ولو مثقال ذرة، ومن عمل شرًّا وجده ولو مثقال ذرة، وهذه الآية عامة شاملة خالدة، لما سئل النبي ﷺ عن الخيل، فذكر أن الخيل أكثر من ثلاثة، ثم ذكر عن الحمر الحمير قال: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الآيَةَ الفَاذَّةَ الجَامِعَةَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الحمير، والإبل، والسيارات، وغيرها، من عمل خيرا على ظهرها، واستعملها في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الإحسان إلى عباد الله، نفعه ذلك؛ على سيارته أو على دابته أو على حماره، وإذا استعملها في معاصي الله وفي الشر، وفي العداوة لأهل الخير ولهذا الدين، وجد هذا الشر، سواء كان على دابة أو سيارة أو غيرها (.....) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ أيا كان، فالحمر داخلة في هذا، الحمير من عنده حمار إذا عمل فيه خير وجده وإذا عمل فيه شر وجده.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي :
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.
أقسم الله تبارك وتعالى بالخيل؛ لما فيها من آيات الله الباهرة، ونعمه الظاهرة، ما هو معلوم للخلق.
وأقسم تعالى بها في الحال التي لا يشاركها فيها أو لا يشاركها فيه غيرها من أنواع الحيوانات، فقال: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا أي: العاديات عدوًا بليغًا قويًا، يصدر عنه الضبح، وهو صوت نفسها في صدرها، عند اشتداد العدو.
فَالْمُورِيَاتِ بحوافرهن ما يطأن عليه من الأحجار قَدْحًا أي: تقدح النار من صلابة حوافرهن وقوتهن إذا عدون، فَالْمُغِيرَاتِ على الأعداء صُبْحًا وهذا أمر أغلبي، أن الغارة تكون صباحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ أي: بعدوهن وغارتهن نَقْعًا أي: غبارًا، فَوَسَطْنَ بِهِ أي: براكبهن جَمْعًا أي: توسطن به جموع الأعداء، الذين أغار عليهم.
والمقسم عليه، قوله: إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي: لمنوع للخير الذي عليه لربه. فطبيعة الإنسان وجبلته، أن نفسه لا تسمح بما عليه من الحقوق، فتؤديها كاملة موفرة، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية، إلا من هداه الله وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق.
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ أي: إن الإنسان على ما يعرف من نفسه من المنع والكند لشاهد بذلك، لا يجحده ولا ينكره، لأن ذلك أمر بين واضح. ويحتمل أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي: إن العبد لربه لكنود، والله شهيد على ذلك، ففيه الوعيد، والتهديد الشديد، لمن هو لربه كنود، بأن الله عليه شهيد.
وَإِنَّهُ أي: الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ أي: المال لَشَدِيدُ أي: كثير الحب للمال.
وحبه لذلك، هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه، قدم شهوة نفسه على حق ربه، وكل هذا لأنه قصر نظره على هذه الدار، وغفل عن الآخرة، ولهذا قال حاثًا له على خوف يوم الوعيد:
أَفَلا يَعْلَمُ أي: هلا يعلم هذا المغتر إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ أي: أخرج الله الأموات من قبورهم، لحشرهم ونشورهم.
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ أي: ظهر وبان ما فيها وما استتر في الصدور من كمائن الخير والشر، فصار السر علانية، والباطن ظاهرًا، وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي: مطلع على أعمالهم الظاهرة والباطنة، الخفية والجلية، ومجازيهم عليها. وخص خُبْرَه بذلك اليوم، مع أنه خبير بهم في كل وقت؛ لأن المراد بذلك، الجزاء بالأعمال الناشئ عن علم الله واطلاعه.
(شرح)
هذه السورة تسمى سورة العاديات؛ لأن الله أقسم بالعاديات، وهذه الآية فيها قسم، يقسم الله بالعاديات وهي الخيل، في أوصافها التي مختصة بها.
قال: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا العاديات هي الخيل، تعدو عدوا سريعًا تسرع في المشي، يقال: العادي، يقال: فلان يعدو، يعدو؛ يعني: يسرع، فالعاديات هي الخيل التي تعدو وتسرع، وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا يعني: الصوت؛ صوت نفسها في صدرها عند اشتداد العدو؛ تسمع صوتًا.
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا هي الخيل، الموريات؛ يعني: بحوافرها؛ حوافر الخيل، تطأ على الأحجار، فتقدح النار، ترى شرر النار، القدح يعني، إذا احتكت بالحجارة، تضرب الحجارة، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا يعني: توري النار، وتخرج النار بضرب حوافرها على الأحجار.
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا أي: تغير على الأعداء، في الصباح وقت الصباح، يعني: في الأغلب، وقد تغير في المساء، فالمغيرات يعني: الخيل، أصحابها يغيرون على العدو صباحًا.
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا يعني: تثير الغبار، حينما تجري وتسرع في العدو، فتثير النقع؛ الغبار.
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا يعني: تتوسط براكبها جموع الأعداء، فتدخل في جموع الأعداء، هذا قسم.
والمقسم به إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ يقسم الله بالخيل على هذا على هذه الصفات وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا هي الخيل، قال هذه الأوصاف إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ منوع للخير الذي لزمه إلا من وفقه الله وسلم، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ من وفقه الله وسلم من هذا الوصف، وإلا فالإنسان طبيعته ظلوم جهول منوع.
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ يعني: يشهد على ذلك على نفسه، يعرف هذا بنفسه، أو إن الله هو شاهد عليه مطلع عليه.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ يعني: من طبيعته حب المال، الخير هو المال، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا.
ثم قال سبحانه: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ يعني: هذا تذكير له وتهديد، أفلا يعلم المغتر إذا بعثر ما في القبور أن أخرج الله الأموات التي في بطن الأرض وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ظهر وبان ما تخفيه صدور الناس، يوم القيامة الله تعالى يعلم ما في الصدور، وتظهر الحقائق وتظهر الخفايا.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ خبير بهم في هذه الحالة، وإلا هو خبير بجميع الأحوال، لكن خص هذا الذكر، خص هذه الحالة؛ لأن المراد الجزاء، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ في هذه الحالة وسوف يجازيهم، وهو خبير بجميع أحوال الناس.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي رحمة الله عليه:
الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ.
الْقَارِعَةُ من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك، لأنها تقرع الناس وتزعجهم بأهوالها، ولهذا عظم أمرها وفخمه بقوله: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ من شدة الفزع والهول، كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث أي: كالجراد المنتشر، الذي يموج بعضه في بعض، والفراش: هي الحيوانات التي تكون في الليل، يموج بعضها ببعض لا تدري أين توجه، فإذا أوقد لها نار تهافتت إليها لضعف إدراكها، فهذه حال الناس أهل العقول، وأما الجبال الصم الصلاب، فتكون كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي: كالصوف المنفوش، الذي بقي ضعيفًا جدًا، تطير به أدنى ريح، قال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ثم بعد ذلك، تكون هباء منثورًا، فتضمحل ولا يبقى منها شيء يشاهد، فحينئذ تنصب الموازين، وينقسم الناس قسمين: سعداء وأشقياء، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ أي: رجحت حسناته على سيئاته فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ في جنات النعيم.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ بأن لم تكن له حسنات تقاوم سيئاته.
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ أي: مأواه ومسكنه النار، التي من أسمائها الهاوية، تكون له بمنزلة الأم الملازمة كما قال تعالى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا.
وقيل: إن معنى ذلك، فأم دماغه هاوية في النار، أي: يلقى في النار على رأسه.
وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ وهذا تعظيم لأمرها، ثم فسرها بقوله هي: نَارٌ حَامِيَةٌ أي: شديدة الحرارة، قد زادت حرارتها على حرارة نار الدنيا سبعين ضعفًا. نستجير بالله منها.
(شرح)
نسأل الله العافية، وهذه السورة سورة القارعة، سميت بالقارعة لذكر القارعة في أولها، والقارعة اسم من أسماء القيامة، القيامة لها أسماء تسمى القارعة والغاشية والصاخة؛ لأنها تقرع القلوب بأهوالها وتصخ الآذان والأسماع بأهوالها.
الْقَارِعَةُ التي تقرع القلوب بأهوالها، مَا الْقَارِعَةُ تفخيم لها، فخمها بقوله مَا الْقَارِعَةُ استفهام غرضه التفخيم، ثم قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ لتفخيمها وتعظيم شأنها.
ثم بين فقال: تكون متى؟ فقال: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ من شدة الفزع والهول كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ يعني كالجراد المنتشر الذي يموج بعضه في بعض، ولا يدري أي يتوجه هذا العقلاء يكون هذا هذا العقلاء العقلاء من شدة الهول، يكون الناس كالفراش المبثوث، فالفراش الحشرة الضعيفة إذا أشعلت النار تساقطت قال الله تعالى في سورة الحج يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ هذا حال الناس كأنهم سكارى من شدة الهول، يخرجون من قبورهم حفاة لا نعال عليهم عراة لا ثياب عليهم ، قالت عائشة رضي الله عنها، يا رسول الله الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم لبعض؟! قال الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ الناس من شدة الهول ما أحد ينظر إلى أحد ولا أحد الأمر عظيم كأنهم سكارى كأنهم جراد منتشر (.....) ما أحد ينطر إلى أحد الكل يتمنى الخلاص، والأنبياء يقولون اللهم سلم سلم والكل يتمنى خلاص نفسه.
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ الصلب هذه الجبال الصلبة كالعهن كالصوف المنتوف تسير في الهواء ثم تنتهي.
ثم تنصب الموازين للقضاء بين الناس فينقسم الناس إلى قسمين، حينما توزن الأعمال فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ رجحت حسناته على سيئاته فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ في الجنة ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ رجحت سيئاته على حسناته، أو لم يكن له حسنات الكافر هو الذي ليس له حسنات الكفار يقررون على أعمالهم ثم يساقون إلى النار سوقا نسأل الله العافية.
من رجحت سيئاته على حسناته فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ يعني يوصله إلى النار وسميت أمًّا لملازمته لها، كملازمة الطفل لأمه، وقيل المراد بالأم أم الدماغ يعني يلقى على أم رأسه ينكس على رأسه في النار والعياذ بالله وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ.
نسأل الله السلامة والعافية.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له، ومعرفته، والإنابة إليه، وتقديم محبته على كل شيء: أَلْهَاكُمُ عن ذلك المذكور التَّكَاثُرُ ولم يذكر المتكاثر به، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، من التكاثر في الأموال، والأولاد، والأنصار، والجنود، والخدم، والجاه، وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر، وليس المقصود به الإخلاص لله تعالى.
فاستمرت غفلتكم ولهوتكم وتشاغلكم حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ فانكشف لكم حينئذ الغطاء، ولكن بعد ما تعذر عليكم استئنافه.
ودل قوله: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية؛ لأن الله سماهم زائرين، ولم يسمهم مقيمين، فدل ذلك على البعث والجزاء بالأعمال في دار باقية غير فانية، ولهذا توعدهم بقوله: كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي: لو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى القلوب، لما ألهاكم التكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة، ولكن عدم العلم الحقيقي، صيركم إلى ما ترون.
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أي: لتردن القيامة، فلترون الجحيم التي أعدها الله للكافرين.
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ أي: رؤية بصرية، كما قال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا.
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ الذي تنعمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره، وأديتم حق الله فيه، ولم تستعينوا به، على معاصيه، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل.
أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك، قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ... الآية.
(شرح)
وهذه السورة تسمى سورة التكاثر؛ لقوله تعالى أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ معنى ألهاكم يعني شغلكم، شغلكم التكاثر عما خلقتم له، خلقتم لعبادة الله وتوحيده وطاعته، والقيام بأمره وأداء حقه سبحانه، شغلكم عن ذلك التكاثر، التكاثر في أي شيء عام ؛ التكاثر في الأموال والتكاثر في الأولاد، والتكاثر في الجنود والتكاثر في الخدم عام ، حذف الله الشيء المتكاثر به؛ لإرادة العموم ، واستمر هذا الانشغال بالأموال والأولاد والتكاثر وزينة الدنيا حتى جاءكم الموت وأنتم على ذلك حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ يعني: حتى متم ودفنتم في المقابر، استمر هذا التكاثر حتى جاءكم الموت ونقلتم إلى المقابر، وسمى المقابر زيارة للدلالة على أنها البرزخ طريق إلى الآخرة وأنها ليست المستقر الأخير ويغلط بعض الناس يكتبون في الصحف نقل إلى فلان إلى مثواه الأخير هذا غلط ما هو مثواه الأخير ، المثوى الأخير الجنة أو النار ، هذا من الأغلاط الشائعة أن يكتب الصحفيون نقل إلى مثواه الأخير إلى مصيره الأخير. هذا قد يقوله الكافر الذي ينكر البعث، ليس المثوى الأخير وإنما هذا المقابر مؤقت برزخ طريق مرور إلى الآخرة ولهذا سماه الله زيارة حتى زرتم والزائر ما يستقر ، سماها الله زيارة للدلالة على أن هذا برزخ طريق إلى الآخرة، الاستقرار في الجنة أو في النار هذا المثوى الأخير، إما في الجنة أو في النار أما القبر ما هو مثوى أخير، فقول بعض الناس الصحفيين أنه نقل إلى مثواه الأخير هذا من الأغلاط الشائعة، وبين لهم أن هذا خطأ.
كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا تهديد ووعيد، سوف تعلمون أمامكم.
كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ علما يقين يصل إلى القلوب لعلمتم ما خلقتم له ولعملتم له، وكان عندكم استعداد ليوم القيامة.
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ تردون إلى الله يوم القيامة فترونها، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ بأعينكم ، هذه الرؤية ، علم اليقين هو العلم الذي يحصل بالخبر ، وعين اليقين الذي يحصل بالنظر، وحق اليقين هو الذي يحصل بالمباشرة، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ.
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ما أنعم الله به عليكم هل شكرتم الله، فيجازيكم جزاء الشاكرين أو كفرتم فيجازيكم جزاء الكافرين.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .
أقسم تعالى بالعصر، الذي هو الليل والنهار، محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح.
والخسار مراتب متعددة متفاوتة:
قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم.
وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات:
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به.
والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة.
والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه.
والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم.
(شرح)
هذه السورة سورة قصيرة من أقصر السور في القرآن، تسمى سورة العصر قال فيها الإمام الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل الله على خلقة حجة إلا هذه السورة لكفتهم، يعني إذا كفتهم بالقيام بالحجة، وليس معنى أن تكفيهم عن كل شيء.
أقسم الله تعالى بالعصر والعصر هو الزمان محل الليل والنهار محل أعمال العباد وقيل غير ذلك ، لكن هذا هو المختار أنه الزمان ، والله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته.
وجواب القسم إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ والإنسان المراد الجنس ، جنس الإنسان في خسار، وهلاك إلا من استثناه إلا من اتصف بالصفات الأربع، الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، الإيمان مبني على العلم، ليس هناك إيمان إلا بعلم صحيح يكون عن بصيرة.
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أدوا الواجبات الظاهرة والباطنة من حقوق الله وحقوق العباد وبهذا يكمل الإنسان نفسه، إذا آمن وعمل صالحا كمل نفسه.
ثم وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ يعني يوصي بعضهم بعضا بالإيمان والعمل الصالح، فيدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ . يوصي بعضهم بالصبر على طاعة الله والصبر عن معاصي الله والصبر على أقدار الله المؤلمة.
وبهذا الأمرين يكمل الإنسان غيره ، بهذه الأمور الأربعة يكون الإنسان يكمل نفسه ويكمل غيره فينجو من الخسارة ويسلم من الخسارة ومن ضيع هذه الأمور الأربعة تمت خسارته، ومن ضيع بعضها أو شيئا منها فاته من الربح وحصل على الخسارة بقدر ما فاته من هذه الصفات ، هذه الصفات من أقامها واستقام عليها وكملها فهو الرابح، ومن ضيعها فهو الخاسر والهالك ، ومن ضيع شيئا منها فاته من الربح وحصل على شيء من الخسارة على حسب تضييعه.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي رحمه الله تعالى قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ.
وَيْلٌ أي: وعيد، ووبال، وشدة عذاب لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الذي يهمز الناس بفعله، ويلمزهم بقوله، فالهماز: الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل، واللماز: الذي يعيبهم بقوله.
ومن صفة هذا الهماز اللماز، أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به، وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الأرحام، ونحو ذلك، يَحْسَبُ بجهله أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ في الدنيا، فلذلك كان كده وسعيه كله في تنمية ماله، الذي يظن أنه ينمي عمره، ولم يدر أن البخل يقصف الأعمار، ويخرب الديار، وأن البر يزيد في العمر.
كَلا لَيُنْبَذَنَّ أي: ليطرحن فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ تعظيم لها، وتهويل لشأنها.
ثم فسرها بقوله: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ التي وقودها الناس والحجارة الَّتِي من شدتها تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ أي: تنفذ من الأجسام إلى القلوب.
ومع هذه الحرارة البليغة هم محبوسون فيها، قد أيسوا من الخروج منها، ولهذا قال: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي: مغلقة فِي عَمَدٍ من خلف الأبواب مُمَدَّدَةٍ لئلا يخرجوا منها كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا نعوذ بالله من ذلك، ونسأله العفو والعافية.
(شرح)
نسأل الله العافية، هذه السورة تسمى سورة الهمزة لما فيها من قوله وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الويل : شدة العذاب والهلاك، وقيل: واد في جهنم، الواضح شدة العذاب والهلاك ، لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الذي يهمز الناس في فعله وفي إشارته، واللمز الذي يلمزهم بقوله، فالهمزة يكون بالفعل والإشارة، واللمز يكون بالقول، هذا له الويل بهذا الوصف، الذي يهمز الناس، ويلمزهم ويسخر منهم بقوله أو بفعله متوعد بهذا الويل، وَيْلٌ شدة العذاب لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ يهمز الناس بفعله، وبإشارته ويلمزهم بقوله، ومن ذلك الإشارة باللسان أو الإشارة بالعين ، كلها داخلها في ذلك.
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ من صفة هذا الهماز أنه يجمع المال من حلال وحرام ويظن كأنه مخلد ليس له هم إلا جمع المال من حلال وحرام ثم يمسك فلا ينفق كأنه يظن أنه مخلد في هذه الدنيا.
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ فلذلك كان كده وسعيه وعمله إنما هو لأجل الدنيا ولا يدري أن البخل يكون سببا في هلاكه وأن البر يزيد في العمر، وأن البخل يقصف الأعمار.
قال الله : كَلَّا ردع وزجر، لَيُنْبَذَنَّ ليطرحن فِي الْحُطَمَةِ وهي النار، من أسماء جهنم الحطمة من أسماء النار، ولذلك فخم قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ تفخيم وتعظيم من شأنها مثل الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ تفخيم وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ فسرها بقوله نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ التي تتقد ، تشتعل على الأجسام الَّتِي من شدتها تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ تنفذ حتى تصل إلى القلوب، نسأل الله العافية ، تنفذ من الأجسام إلى القلوب تتقد في الأجسام ثم تنفذ إلى القلوب.
ومع ذلك فهم محبوسون فيها أبد الآباد، لا يخرجون منها إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة من وراء عمد من خلف الأبواب فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ لئلا يخرجون منها نسأل الله السلامة والعافية.
نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.
أي: ما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه، ورحمته بعباده، وأدلة توحيده، وصدق رسوله محمد ﷺ، ما فعله الله بأصحاب الفيل، الذين كادوا بيته الحرام وأرادوا إخرابه، فتجهزوا لأجل ذلك، واستصحبوا معهم الفيلة لهدمه، وجاءوا بجمع لا قبل للعرب به، من الحبشة واليمن، فلما انتهوا إلى قرب مكة، ولم يكن بالعرب مدافعة، وخرج أهل مكة من مكة خوفًا على أنفسهم منهم، أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أي: متفرقة، تحمل حجارة محماة من سجيل، فرمتهم بها، وتتبعت قاصيهم ودانيهم، فخمدوا وهمدوا، وصاروا كعصف مأكول، وكفى الله شرهم، ورد كيدهم في نحورهم، وقصتهم معروفة مشهورة، وكانت تلك السنة التي ولد فيها رسول الله ﷺ، فصارت من جملة إرهاصات دعوته، ومقدمات رسالته، فلله الحمد والشكر.
(شرح)
نعم وهذه السورة تسمى سورة الفيل لذكر الفيل فيها أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ألم تر هنا رؤية ليست بصرية، بما تعلم ألم تعلم ؛ لأن الرسول ﷺ ما رأى ذلك لأن هذه الحادثة وقعت في العام الذي ولد فيه النبي ﷺ وسمي هذا العام بعام الفيل والفيل هذا فيل كبير جاء به أبرهة ملك الحبشة وسبب ذلك أن أبرهة ملك الحبشة جعل في اليمن هو ملك اليمن والحبشة كعبة من ذهب وأراد أن يصرف حج الناس إليها قال الناس تحج إلى مكة فيحجون إلى اليمن وضع كعبة من ذهب فجاء رجل من أهل الحرم غضب وجاء في الليل ودخلها ولطخها بالعزرة والنجاسات فلما جاء ووجد ذلك غضب وجهز جيشا لهدم الكعبة وجاء وصار في طريقه كلما لقي أحدا من العرب هزمهم وأخذه معهم يدلونه حتى وصل إلى مكة وأخذ إبلا لعبد المطلب جد النبي ﷺ وكان عبد المطلب رجلا وسيما وجاء إلى أبرهة فلما جاءه عظمه وقام إليه؛ لأنه وسيم، فقال له: إني أريد إبلي، فقال: أني لما رأيتك أعجبتني عجبتني ولذلك قدرتك ولما سمعت كلامك احتقرتك، أنا جئت لأهدم بيتا فيه مجدك ومجد آبائك تسألني عن الإبل؟! فقال: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه، ما تستطيع هذا أمامك، وأمر أهل مكة فخرجوا إلى الجبال وقال أبيات مشهورة (.....) يستغفر الله ويطلب أن يحميهم فكفاه وكان معه فيل كبير سماه محمود ومعه فيلة أخرى هذا الفيل برك لما وصل فإذا وجه لأي جهة قام مسرعًا وإذا وجه إلى مكة برك ، ثم بعد ذلك أرسل الله عليهم طيرا أبابيل طيور صغيرة تحمل ثلاثة أحجار في المنقار حجر وفي رجليها حجرين ، كل حجر مطبوخ في جهنم والعياذ بالله، ثم تلقي الأحجار كل واحد تلقيه على واحد ما يخطئه فتدخل من رأسه حتى يتفتت جسمه ويتفتت فصار كما قال الله كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق لزرع أكلته الدواب ثم داسته.
أَلَمْ تَرَ ألم تعلم كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ. وهذه إرهاصات لنبوة النبي ﷺ ومقدمات قيل إن المكان الذي أهلكهم الله فيه اسمه وادي محسر ولهذا يسرع الناس فيه (.....) مكان عذاب والصواب أنه ليس هذا مكانه وإنما مكانه في المغمس كان يمسى المغمس .
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
قال كثير من المفسرين: إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها؛ أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام، لأجل التجارة والمكاسب.
فأهلك الله من أرادهم بسوء، وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب، حتى احترموهم، ولم يعترضوا لهم في أي: سفر أرادوا، ولهذا أمرهم الله بالشكر، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ أي: ليوحدوه ويخلصوا له العبادة، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ فرغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية، الموجبة لشكر الله تعالى.
فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة، وخص الله بالربوبية البيت لفضله وشرفه، وإلا فهو رب كل شيء.
(شرح)
نعم وهذه السورة سورة لأيلاف قريش كما قال المؤلف رحمه الله قال بعض العلماء أنها متعلقة بالسورة التي قبلها لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ يعني لأجل إِيلَافِهِمْ، فعلنا ما فعلنا وأهلكنا أصحاب الفيل، لأجل إيلاف قريش يعني لأجل أمنهم واستقامة مصالحهم وانتظام أحوالهم ورحلتهم ؛ لأنهم رحلتان؛ رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى الشام، فأهلك الله عدوهم ومن أرادهم بسوء وعظم أمر للحرم.
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ إيلافهم ولهذا قال إيلافهم من أجل إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ؛ لأن الشام بارد فتكون رحلة الصيف، واليمن دافئ قد يكون دافئ في بعض الجبال.
ثم قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ يوحدوه ويخلصوا له العبادة، لأنه هو الذي أهلك عدوهم وهو الذي حمى البيت وهو رب كل شيء لكن الإضافة للتشريف رب البيت، إذا قيل: بيت الله ، ناقة الله عبد الله ، رسول الله ، فالإضافة للتشريف وإلا فهو رب كل شيء كما قال تعالى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ كما قال في سورة الأنعام : وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ الآية قبل الأخيرة من سورة الأنعام،
فالله تعالى رب كل شيء لكن خص البيت للتشريف والتكريم فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أطعمهم وأسبغ عليهم النعم فجعلهم في رغد من العيش وأمن خوفهم فجعلهم في حرم يأمن من جاءه أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي رحمه الله تعالى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ.
يقول تعالى ذامًا لمن ترك حقوقه وحقوق عباده: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي: بالبعث والجزاء، فلا يؤمن بما جاءت به الرسل.
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي: يدفعه بعنف وشدة، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثوابًا، ولا يخشى عقابًا.
وَلا يَحُضُّ غيره عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ومن باب أولى أنه بنفسه لا يطعم المسكين.
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ أي: الملتزمون لإقامة الصلاة، ولكنهم عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ أي: مضيعون لها، تاركون لوقتها، مفوتون لأركانها وهذا لعدم اهتمامهم بأمر الله حيث ضيعوا الصلاة، التي هي أهم الطاعات وأفضل القربات، والسهو عن الصلاة، هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم وأما السهو في الصلاة، فهذا يقع من كل أحد، حتى من النبي ﷺ.
ولهذا وصف الله هؤلاء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة، فقال: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ أي يعملون الأعمال لأجل رئاء الناس.
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ أي: يمنعون إعطاء الشيء، الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية، أو الهبة، كالإناء، والدلو، والفأس، ونحو ذلك، مما جرت العادة ببذلها والسماحة به.
فهؤلاء -لشدة حرصهم- يمنعون الماعون، فكيف بما هو أكثر منه.
وفي هذه السورة، الحث على إكرام اليتيم، والمساكين، والتحضيض على ذلك، ومراعاة الصلاة، والمحافظة عليها، وعلى الإخلاص فيها وفي جميع الأعمال.
والحث على فعل المعروف وبذل الأمور الخفيفة، كعارية الإناء والدلو والكتاب، ونحو ذلك؛ لأن الله ذم من لم يفعل ذلك، والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين.
(شرح)
نعم هذه السورة تسمى سورة الماعون؛ لوجود هذه الجملة أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ يعني تعجب يا محمد من حال هذا الشخص ولكل من يصلح له الخطاب هذا الذي اتصف بهذا الوصف أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ يكذب بالدين يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة فهو كافر بتكذيبه بيوم القيامة.
ومع ذلك يسيء إلى عباد الله فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ يدفعه دفعا شديدًا.
وَلا يَحُضُّ نفسه ولا يحض غيره ومن باب أولى لا يحض نفسه على طعام المسكين.
ثم قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ شدة العذاب والهلاك للمصلين الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ يسهون عن الصلاة فيؤخرونها عن وقتها أو يسهون عنها فيتساهلون في أركانها وفي واجباتها فهم يسهون عن الصلاة لا يسهون فيها.
فرق بين السهو عن الصلاة والسهو في الصلاه ، السهو في الصلاة يقع من كل أحد حتى من الرسول ﷺ يسهو في صلاته ، ومن سهى في صلاته ترك واجبا أو تركا ركنا ثم أتى به يسجد سجدتين، أما السهو عن الصلاة يعني السهو عنها تضييع لوقتها أو تضييع لبعض واجباتها.
ولهذا توعد بالويل قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ من شدة العذاب الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ثم وصفهم بالرياء فقال الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ في أعمالهم وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ يمنعون العارية في شيء لا يضرهم إعطاؤه كالفأس والدلو والإناء وما أشبه ذلك والإبرة وغير ذلك مما ينتفع به ولا يضر صاحبه فهؤلاء وصفوا بهذه الأوصاف؛ لأنهم هذا الشخص يكذب بيوم القيامة ، ويدفع اليتيم دفعا شديد ولا يطعم المسكين ثم توعد الساهين عن الصلاة ووصفهم بأنهم يراءون في أعمالهم ويمنعون الماعون ، نسأل الله السلامة والعافية وهذا وصف الكافر الذي يكذب بيوم الدين.
(متن)
ومن تفسير ابن سعدي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ.
يقول الله تعالى لنبيه محمد ﷺ ممتنًا عليه: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي: الخير الكثير، والفضل الغزير، الذي من جملته، ما يعطيه الله لنبيه ﷺ يوم القيامة، من النهر الذي يقال له الكوثر ومن الحوض.
طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته كنجوم السماء كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.
ولما ذكر منته عليه، أمره بشكرها فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ خص هاتين العبادتين بالذكر؛ لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات.
ولأن الصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به.
إِنَّ شَانِئَكَ أي: مبغضك وذامك ومنتقصك هُوَ الأبْتَرُ أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذِّكر.
وأما محمد ﷺ، فهو الكامل حقًّا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع ﷺ.
(شرح)
وهذه السورة تسمى سورة الكوثر ، وقيل في سببها أن الكفار قالوا إن محمد أبتر فنزلت هذه الآية إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ.
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ هذه منة من الله الكوثر الخير الكثير، ومن جملته الكوثر نهر في الجنة الذي يصب في الحوض في موقف القيامة، قال بعض العلماء : الكوثر هو الحوض، والصواب أنه عام يشمل الحوض وغيره ، الخير الكثير ومن جملته نهر الكوثر والحوض الذي في موقف القيامة يصب فيه ميزابان ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج وطوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر وآوانيه عدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ حتى يدخل الجنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، هكذا ثبت في الأحاديث. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.
ثم لما امتن عليه أمره بهاتين العبادتين فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أمر بهاتين العبادتين الصلاة أفضل العبادات لأن كل عضو من أعضاء الإنسان يأخذ قسطا من العبادة ركوع وسجود خضوع قراءة تلاوة تسبيح ذكر ، والنحر هذا من أجل العبادات يتقرب إلى الله بإراقة الدم ثم يتصدق باللحم وينفق المال ففيه إحسان في عبادة الله وفي الصلاة إحسان في عبادة الخالق والنحر وتوزيع اللحم إحسان إلى المخلوق جمع بين العبادات.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ. يعني مبغضك ومتنقصك، هو الأبتر المقطوع من كل خير ومن كل ذكر ، فأما الرسول ﷺ وهو الذي رفع الله ذكره وأعلا ذكره وهو الحاصل على كل خير وكل كمال يمكن للبشر عليه الصلاة والسلام هو أكمل الناس وأعبد الناس وأشجع الناس وأفضل الناس في جميع الصفات عليه الصلاة والسلام وأتقى الناس وأشجع الناس عليه الصلاة والسلام. نعم.