شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 02

00:00
00:00
تحميل
48

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين }

[لا ريب في القرآن]

 و { الْكِتَابُ } القرآن. والرّيب: الشك، قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه.

وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا.

ومعنى الكلام هنا: أن هذا الكتاب -وهو القرآن-لا شك فيه أنه نزل من عند الله، كما قال تعالى في السجدة: { الم  * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين } [السجدة: 1، 2]. وقال بعضهم: هذا خبر ومعناه النهي، أي: لا ترتابوا فيه.

ومن القراء من يقف على قوله: { لاَ رَيْبَ } ويبتدئ بقوله: {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين} والوقف على قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أولى للآية التي ذكرنا، ولأنه يصير قوله: {هُدًى} صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: {فِيهِ هُدًى}.

و{هُدًى } يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.

(التفسير)

مرفوعًا على النَّعتِ للكتاب يعني، ذلك الكتابُ هُدًى، يقول: في محلِّ رفع نعت الكتاب، أو في محلِّ نصبٍ على أنه حال، حالة كونه هُدًى.

والخُلاصة: أن في قوله: {لا ريب فيه} فيه قولان للقراء:

القولُ الأول: أن الوقفَ على قوله: ((لا ريب))، ((ذلك الكتاب لا ريب)) لا شكَّ، ثم قال: ((فيه هدى)).

والقولُ الثاني: أن الوقفَ على وقف ((فيه))، في قوله تعالى: ((لا ريب فيه هدى للمتقين)) وهذا أبلغ، لأمرَين:

الأمر الأول: أنها دلَّت عليها آيةُ السجدة ((لا ريب فيه هدى للمتقين)).

والأمر الثاني: أن تكون ((هدى)) صفة للقرآن، بخلافِ إذا قال: ((فيه هدى)) يعني: يقول مُشتمِل على الهُدى، فيكون أقلَّ بلاغة. 

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

[اختصاص الهداية بالمتقين]

وخصّت الهداية للمتَّقين، كما قال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيد } [فصلت:44]. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين } [يونس: 57].

وعن ابن عباس، وابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُدًى لِّلْمُتَّقِين } يعني: نورًا للمتقين.

[معنى المتقين]

عن ابن عباس: { هُدًى لِّلْمُتَّقِين } قال: هم المؤمنون الذين يتَّقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي.

وعنه { لِّلْمُتَّقِين } قال: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.

 وقال قتادة: { لِّلْمُتَّقِين } هم الذين نعتهم الله بقوله: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } الآية والتي بعدها [البقرة: 3، 4].

واختيار ابن جرير: أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال.

(التفسير)

الصوابُ، أنها تشملُ الأقوال هذه كلَّها: هم الذين يتَّقون الشركَ، وهم الذين يعمَلون بطاعةِ الله، وهم الذين يعرِفونَ الله، وهم الذين وصفَهم الله {يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}، كلُّ هذه أوصافٌ لهم.

سُمُّوا متقين لأنهم يتَّقون الشركَ، ويتَّقون المعاصي، ويتَّقون غضبَ الله بطاعته وتوحيدِه والإيمانِ به، وهم يتفاوَتُون في التقوى، المُؤمنون يتفاوَتون في التقوى، المُتقون طبقاتٌ ثلاث:

السابِقون المُقرَّبون يتَّقون الشركَ، والكبائر، والمعاصي، ويتَّقون أيضًا المكروهات كراهة تنزيه، ويتَّقون أيضًا التوسُّع في فُضول المُباحات.

والمُقتصِدون يتَّقون المعاصي والكبائر، ويعمَلون بالطاعات، لكنهم قد يفعَلون المكروهات كراهةَ تنزيه.

والظالِمون لأنفُسِهم يتَّقون الشركَ، ولكن قد يقعُوا في بعضِ المعاصِي.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقد روَى الترمذيُّ وابنُ ماجَهْ، عن عطيَّة السعديِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلُغُ العبدُ أن يكونَ من المُتَّقين حتى يدَعَ ما لا بأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بأسٌ»([1]).

ويُطلقُ الهُدى ويُرادُ بهِ ما يَقَرُّ في القلبِ من الإيمان، وهذا لا يقدِرُ على خلقِهِ في قلوبِ العبادِ إلا الله عزَّ وجلَّ قال الله تعالى: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، وقال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، وقال: { وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد }، وقال: { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا }. إلى غير ذلك من الآيات ([2])).

قال: (ويُطلقُ ويُرادُ به بيانُ الحقِّ وتوضيحُه والدلالةُ عليه والإرشادُ، قال الله تعالى: ((وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم))، وقال: ((إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)) ، وقال تعالى: ((وأما ثمود فهديناهم فاستحبُّوا العمى على الهدى)) ([3])، وقال: ((وهديناه النجدين)) على تفسيرِ من قال: المُرادُ بهما: الخيرُ والشرُّ، وهو الأرجحُ، والله أعلم)([4]).

[معنى التقوى]

وأصل التقوى: التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية.

 وقد قيل: إن عمر بن الخطاب سأل أبيّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى ([5]).

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ }

[معنى الإيمان]

قال أبو جعفر الرازي، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان التصديق.

وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس، {يُؤْمِنُونَ } يصدقون.

وقال مَعْمَر عن الزهري : الإيمان العمل.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: {يُؤْمِنُونَ } يخشون.

قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولًا واعتقادًا وعملًا قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القول بالعمل.

(التفسير)

وهذا هو الصوابُ، مؤمنين بالإيمان قولًا وعملًا واعتقادًا، هذا هو الإيمانُ الشرعيُّ، وأصلُه التصديقُ في القلبِ والإقرار، هذا هو الأصلُ الإيمان. لكن مُسمَّى الإيمان في الشرعِ يشملُ الاعتقاد اعتقادَ القلوب، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارِح، وأقوال اللسان، كلُّها داخلَة في مُسمَّى الإيمان.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل.

قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين } [يوسف: 17]([6])، وكذلك إذا استعمل مقرونًا مع الأعمال؛ كقوله: { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [الإنشقاق: 25، والتين: 6]، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولًا وعملًا، وهو يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة. ([7]).

ومنهم من فسره بالخشية، لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} [الملك: 12]، وقوله: { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيب } [ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. ([8])).

[المراد بالغيب]

وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله.

وكذا قال قتادة بن دعامة.

وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب النبي r وما سبقنا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد r كان بيِّنًا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانًا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إلى قوله: { الْمُفْلِحُون } [البقرة: 1-5].

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي معنى هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن ابن مُحَيريز، قال: قلت لأبي جمعة: حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله r قال: نعم، أحدثك حديثًا جيدًا: تغدينا مع رسول الله r ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: «نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني»([9]).

{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون }

[معنى إقامة الصلاة]

قال ابن عباس: ويقيمون الصلاة أي: يقيمون الصلاة بفروضها.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.

وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.

وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي r، فهذا إقامتها([10]).

[المراد بالإنفاق]

وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون } قال: زكاة أموالهم.

وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله r { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون } قال: هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة .

وقال جُوَيْبر، عن الضحاك: كانت النفقات قربانًا يتقربون بها إلى الله تعالى على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات المُثْبَتَات([11]).

(قلت) كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون } ولهذا ثبت في «الصحيحين» عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله r قال: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت». والأحاديث في هذا كثيرة([12]).

[معنى الصلاة]

وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها المشروعة المشهورة([13]).

{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون }

قال ابن عباس: { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون } أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان. وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا.

 

 [أوصاف المؤمنين]

 والموصوفون هنا هم الموصوفون  بما تقدم من قوله تعالى: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون }، عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول r، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ} الآية [النساء: 136].

وقال: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} الآية [العنكبوت:46].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} [النساء: 47] .

وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [المائدة: 68].

وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} الآية [البقرة: 285].

وقال: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} [النساء: 152] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمْر المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه.

لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم مفصلًا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلًا كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملًا، كما جاء في الصحيح: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم قد يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم.

{ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون }

[الهداية والفلاح من نصيب المؤمنين]

يقول الله تعالى: { أُوْلَـئِكَ } أي: المتصفون بما تقدم: من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات.

{ عَلَى هُدًى } أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون أي: في الدنيا والآخرة بأن أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا ففازوا بالثواب والخلود في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب.

(التفسير)

هذه الآياتُ الكريماتُ فيها وصفُ المُؤمنين، والله تعالى وصفَ في أول سورة البقرة ذكرَ صفاتِ المُؤمنين في أربع آيات، ثم ذكرَ صفاتِ الكفَّار ظاهرًا وباطنًا في آيتين، ثم ذكرَ صفاتِ الكفَّار باطنًا وهم المُنافِقون وإن كانوا يُظهِرون الإيمان في ثلاث عشرة آية.

فهذه الآياتُ الكريماتُ من أول سورة البقرة في صفاتِ المُؤمنين فيها من الفوائد والأحكام:

أن الحروفَ المُقطَّعة استأثَرَ الله بعلمِها، ولا يعلمُ معناها أحدٌ، وهذا هو الصوابُ.

وفيه: دليلٌ على أن هذا القرآن مُعجِزٌ؛ لأن الله تحدَّى البشرَ أن يأتُوا بمثلِه.

وفيه من الفوائد: بيانُ عِظَم هذا القرآن، وأنه كلامُ الله لا شكَّ فيه، لقوله: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)).

وفيه: أن هذا القرآن كلامُ الله، وأنه مُنزَّلٌ غيرُ مخلُوقٍ، وأنه لا شكَّ فيه ولا مِريةَ، ونفيُ الشكِّ يُفيدُ اليقين؛ لأنه يقينٌ أنه كلامُ الله عز وجل.

وفيه: الردُّ على الأشاعِرة الذين يقولون إن كلامَ الله هو المعنى القائِم بالنفسِ، وأن الحروفَ ليست من كلامِ الله. هذا باطلٌ، فهذا القرآن الذي نجمعُه حروفٌ وآيات هو كلامُ الله، حروفُه ومعانِيه، ليس كلامُ الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحُروف.

وفيه: أن هذا القرآن هُدًى، ونكَّر الهدايةَ لتشملَ جميعَ أنواع الهداية، فهذا القرآن فيه هدايةٌ للمُتَّقين: هدايةُ الدلالة والإرشاد، وهدايةُ التوفيقِ والتسديدِ.

والقرآنُ هُدًى لجميع الناس؛ لأن الله بيَّن فيه طريقَ الخير وطريقَ الشرِّ لكل أحدٍ، للمُؤمنين والكفَّار، لكنَّ الله تعالى وفَّق المُؤمنين فهداهم الله هدايةَ توفيقٍ وتسديدٍ وإلهامٍ، وخذلَ الكفَّارَ عدلًا منه وحكمةً. هدَى المُتَّقين فضلًا منه وإحسانًا، وخذَلَ الكفَّارَ عدلًا منه وحكمةً.

وفي هذه الآيات: بيانُ صفاتِ المُتَّقين، وأن صفاتهم: أنهم يُؤمِنون بالغيبِ، ويُقيمُون الصلاةَ، ويُنفِقون مما رزقَهم الله، ويُؤمِنون بما أُنزِل على الرسول وما أُنزِل من قبلِه، ويُوقِنون بالآخرة.

فهذه خمسة أوصاف هي صفاتُ المُتَّقين أهلُ الهداية وأهلُ الفلاح، دلَّت هذه الآياتُ على أن المُتَّقين هم أهلُ الهداية وهم أهلُ الفلاح، وهم على هُدًى من ربِّهم، هداهم الله ووفَّقهم وسدَّدهم، وحصَلُوا على الفلاح الكامِل، وهو الحصولُ على المطلُوبِ، والنجاةُ من المرهُوبِ. فسلِمُوا من شُرور الدنيا والآخرة، وحصَلوا على مرضاة الله وثوابِه، والتمتُّع بدارِ كرامتِه، والنظرِ إلى وجهِه الكريم. نسألُ الله أن يجعَلنا وإياكم منهم.

فهذه الآيات دلَّت على أن أوصافَ المُؤمنين أوصاف المُتَّقين أنه لا بُدَّ للمُؤمن أن يتَّصِفَ بها، حتى يكون من أهل الهداية وأهل الفلاح.

الوصفُ الأول: الإيمانُ بالغيبِ.

والإيمانُ بالغيبِ يشملُ كلَّ ما أخبرَ الله به أو أخبرَ به رسولُه، من الأخبار الماضِية والأخبار المُستقبَلَة، مثل: أخبار الأُمم السابِقة، وعن خلقِ السماوات والأرض، وعن خلقِ آدم، والأخبار عن أشراط الساعة، وعن اليوم الآخر، وعن الجنة والنار، والجزاء والحساب، كلٌّ داخِلٌ هذا في الإيمان بالغيبِ.

والوصفُ الثاني: إقامةُ الصلاة.

إقامتُها باطنًا وظاهرًا، ظاهرًا بالإتيان بالركوع والسجود والأفعال. وباطنًا بالإخلاص والصدقِ وحضور القلبِ والطُّمأنينة.

والوصفُ الثالث: الإنفاقُ مما رزقَهم الله.

الإنفاقُ من أموالهم، وهذا يشملُ النفقات الواجِبة والمُستحبَّة: النفقاتُ الواجِبة كالزكاة، والنفقات على الزوجات والأقارِب والأولاد والبهائِم والممالِيك، والإنفاقُ في المشاريع الخيريَّة، والصدقات، والإحسان. كلُّها داخلٌ في الإنفاقِ مما رزقَهم الله.

والوصفُ الرابع: الإيمانُ بما أُنزِلَ على النبي صلى الله عليه وسلم.

من الكتاب والسنة، والإيمانُ بما أُنزِلَ على الرُّسُل السابقين، الكتب السابِقة؛ كالتوراة، والإنجيل، والزَّبُور.

والوصفُ الخامِس: الإيقان بالآخرة.

{وبالآخرة هم يوقنون}، والآخرةُ هي التي تكونُ بعد البَعثِ، الإيقانُ بالآخرة الإيمانُ بالبعثِ والجزاءِ والحسابِ والنشرِ والحشرِ، ووزن الأعمال، والورود على الحَوض، والإيمان بالصِّراط، ثم الاستقرار في الجنة أو النار، كلُّها داخلُ الآخرة.

الإيمانُ باليوم الآخر يُوقِنون بهذه الأمور، يعني: يُصدِّقون ويعتقِدُونها حقًّا يقينًا لا ريبَ فيه ولا شكَّ فيه، لا ريبَ في البعثِ، ولا ريبَ في الحسابِ، ولا ريبَ في الوقوفِ بين يدَي الله، ولا ريبَ في الجنة، ولا ريبَ في النار، ولا ريبَ في الصراط ولا في الحَوض، ولا في الميزان، وكذلك لا ريبَ في الصراط الذي يُنصَبُ على متنِ جهنَّم، ولا ريبَ في الجنة والنار، ولا ريبَ في لقاءِ الله. كلُّ هذه داخلٌ في قولِه: {وبالآخرة هم يوقنون}.

هؤلاء هم أهلُ الهداية، هم أهلُ الهداية التي حَصَلَ لهم الهدايةُ التامَّة، وهم أهلُ الفلاح الذين حصَلُوا على مطلُوبهم على رِضا الله وكرامته، وسلِمُوا من شُرور الدنيا والآخرة. نسألُ الله أن يجعلَنا وإياكم منهم.

*****

 

([1]) وهذه هدايةُ التوفيق والتسديد، وخلقُ الهداية في القلوبِ وكونه يقبَلُ الحقَّ ويرضَى به ويختارُه هذا إلى الله، لا يملِكُ هذا إلا الله، هذه هدايةُ التوفيقِ والتسديدِ والإلهامِ وقبولِ الحقِّ والرِّضا به واختيارِه، هذا لا يقدِرُ عليه إلا الله، لا يقدِرُ عليه الرسولُ عليه الصلاة والسلام ولا غيرُه.

والنوعُ الثاني: هدايةُ دلالة وإرشاد وبيان، هذه يقدِرُ عليها الرُّسُل والدعاةُ والمُصلِحون، يُبيِّنون للناسِ الحقَّ، ولذا هذه الهداية الأولى نُفِيَت عن الرَّسُولِ، لقوله: ((إنك لا تهدي من أحببت)) يعني: لا تُوفَّق، وأُثبِتَت له الهداية الثانية وهي قولُه: ((وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)) يعني: تُرشِد وتدلُّ.

([2]) قال الشارح حفظه الله: وهذه هدايةُ التوفيق والتسديد، وخلقُ الهداية في القلوبِ وكونه يقبَلُ الحقَّ ويرضَى به ويختارُه هذا إلى الله، لا يملِكُ هذا إلا الله، هذه هدايةُ التوفيقِ والتسديدِ والإلهامِ وقبولِ الحقِّ والرِّضا به واختيارِه، هذا لا يقدِرُ عليه إلا الله، لا يقدِرُ عليه الرسولُ عليه الصلاة والسلام ولا غيرُه.

والنوعُ الثاني: هدايةُ دلالة وإرشاد وبيان، هذه يقدِرُ عليها الرُّسُل والدعاةُ والمُصلِحون، يُبيِّنون للناسِ الحقَّ، ولذا هذه الهداية الأولى نُفِيَت عن الرَّسُولِ، لقوله: ((إنك لا تهدي من أحببت)) يعني: لا تُوفَّق، وأُثبِتَت له الهداية الثانية وهي قولُه: ((وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)) يعني: تُرشِد وتدلُّ.

([3]) قال الشارح حفظه الله: هادٍ يعني: مُرشِد، وإنك تُرشِد. ((وأما ثمود فهديناهم)) يعني: دلَلناهم على الحقِّ وبيَّنَّنا لهم طريقَ الخير، ((فاستحبوا العمى على الهدى)) ما قبِلوا طريقَ الحقِّ.

([4]) قال الشارح حفظه الله: يعني: بيَّنَّنا له طريقَ الخير ((وهديناه النجدين)) بيَّنَّنا له طريقَ الخير وطريقَ الشرِّ، والمُرادُ بالآية: الهداية الأولى ((هدى للمتقين)) يعني: هذا القرآن فيه هدايةٌ للمُتَّقين هداية التوفيق والتسديد والإلهام، أن الله يهدِي ويُوفِّقُ المُتَّقين.

([5]) قال الشارح حفظه الله: يعني: تُشمِّر، التقوى الحسِّيَّة إذا وجدتَّ طريقَ فيه شوك تُشمِّر، والتقوَى المعنويَّة كذلك، يعني: تُشمّّر وتتَقِي المعاصِي، وتسلُك المسلَكَ الذي يُرضِي الله.

([6]) أي: بمُصدِّق.

([7]) لأن المؤلفَ ابن كثيرٍ له شرحُ على البخاري، شرحَ البخاريَّ لكنَّه مفقود، ما أدري هل وُجد شيءٌ منه.

([8]) فالخشيةُ داخلةٌ في مُسمَّى الإيمان.

([9]) في لفظٍ آخر: النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَدِدْتُّ أَنِّي رَأَيْتُ إِخْوَانِي أَوْ أَصْحَابِي». فقالوا: يا رسولَ الله! ألسنا إخوانَك؟ قال: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي الذِيْنَ يَأْتُونَ بَعْدُ، يَتَمَنَّى أَحَدُهُمْ رُؤْيَتِي أَوْ كَذَا بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ»، أو كما قال عليه الصلاةُ والسلامُ. وهذا ثابتٌ.

([10]) وكلُّ هذه المعاني داخلةٌ في إقامة الصلاة، كلُّ هذه المعاني كلُّها داخلة، يشملُ المُحافظةَ على إتمام الرُّكوع والسجود، وعلى الوضوء، وعلى المواقِيتِ، وعلى أدائِها في الوقت، وعلى أنها بالجماعة، وحُضور القلبِ، والطُّمأنينة، كلُّها داخلٌ في إقامتها.

([11]) وهذا فيه ضعفُ جُويبِر عن الضحَّاك، ضعيف.

([12]) وهذا هو الصوابُ: أنها تشملُ الزكاةَ وغيرها، تشملُ الزكاة والنفقات الواجِبة على الأهل والمماليك والأقارِب والبهائِم، وكذلك أيضًا أنواع الصدقات الأُخرى، الواجِبة والمُستحبَّة.

([13]) ومن الدعاء: قولُه تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} يعني: ادعُ لهم، أصلُ الصلاةِ: الدعاء.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد