شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 07

00:00
00:00
تحميل
41

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأضفر وحصبائها اللؤلؤ والجوهر نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.

(التفسير)

ترابها المسك، وهو المسك الأزفر، ففي الدنيا ترى التراب تتسخ به الثياب وكذا الطين، وأما في الجنة فالتراب مسك والحصى يكون من اللؤلؤ.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهار الجنة تفجر تحت تلال، أو من تحت جبال المسك».

وروى أيضًا عن مسروق، قال: قال عبد الله: «أنهار الجنة تفجر من جبل المسك» .

وقوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} [البقرة:25]، وروى ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفا به؟ فتقول لهم الولدان: كلوا، فاللون واحد، والطعم مختلف، وهو قول الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يشبه بعضه بعضًا، ويختلف في الطعم.

وقال عكرمة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب. وقال سفيان الثوري عن الأعمش، عن أبي ظبيان عن ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء، وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.

(التفسير)

هذا مروي عن ابن عباس، يعني الاسم يشابه الاسم في الدنيا، وكذلك يشابه أصل المعنى، ولولا ذلك لما عرفنا ما في الجنة، فالجنة فيها ماء والدنيا فيها ماء، لكن ليس ماء الجنة مثل ماء الدنيا، لكن لابد أن نعرف أنه ماء، نعلم أنه سائل يروي.

والجنة مثلًا فيها فاكهة، ونحن نعرف أنها فاكهة، لكن تختلف عن فاكهة الدنيا.

ولولا معرفة الأسماء وأصل المعنى لما عُرفت الأشياء، فهناك اتفاق بين المسميات في الأصل والمعنى.

ففي الاسم النخيل نخيل، لكن يختلف في اللون والطعم واللذة والرائحة، لكن لابد من أن نعرف أصل المعنى.. فلو لم نعرف أصل المعنى، ما عرفنا ما في الجنة.. فمثلا هذا ماء وهذا طعام وهذا شراب وهذه زوجة.

أهل الجنة لهم زوجات، وأهل الدنيا لهم زوجات، لكن تختلف الزوجات، والدنيا فيها نخيل، والجنة فيها نخيل، يختلف هذا عن ذاك، لكن فيه اتفاق في الاسم وأصل المعنى.

فمثلًا الدنيا فيها ماء والآخرة فيها ماء، ونحن نعرف أن الماء سائل يروي، لكن يختلف هذا السائل بين الدنيا والجنة.

وكذلك العسل يتفق في أصله الحلو، لكن يختلف، فلابد من الاتفاق في أصل المعنى وفي الاسم، قال ابن عباس: ليس مما في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء.

هذه الأسماء وأصل المعنى، هذا لابد، يعني المسألة متشابهة تشابه آخر، لكن الكلام في الأشياء وفي المسميات، نعم، مثل الآن أسماء الله وأسماء الآدميين، فيها اتفاق في الاسم وأصل المعنى، فالله تعالى موصوف بالعلم، وهو العليم الحكيم، والإنسان موصوف بالعلم {فبشرناه بغلام عليم} فالاسم متفق، والإنسان سمي عليم، والله هو مسمى العليم، يعني أسماء الله نوعان: أسماء مشتركة مثل عليم حليم سميع بصير، وفيها أسماء خاصة، فمثلًا من أسماء الله العليم، ومن أسماء المخلوق العليم، والله تعالى هو الموصوف بالعلم، ومخصوص بالعلم، فيه اتفاق بين أسماء الله وأسماء المخلوق بأي شيء بالاسم وبأصل المعنى، نحن نعرف أن العلم ضده الجهل، هذا متفق بين الخالق وبين المخلوق، لكن علم الله غير علم المخلوق، علم المخلوق محدود وضعيف وناقص ويعتريه الخلل، لكن علم الله تعالى أزلي وشامل ولا يلحقه نقص، وهكذا القدرة، فتكون القدرة ضد العجز، فالله موصوف بالقدرة والإنسان موصوف بالقدرة، لكن القدرة الله وقدرة المخلوق تختلف، مسميات الجنة ومسميات الدنيا، الاتفاق في أصل المعنى وفي الاسم، وأما الحقيقة والكُنْهُ فمختلف، نعم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد، وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم، وفي رواية عنه: لا حيض ولا كلف، وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك . 

التفسير

ولا مانع من إرادة هذه الأشياء كلها، هي مطهرة من الأخلاق الرديئة، ومطهرة من الحيض والنفاس، والبصاق والمخاط.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسئول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم، بر رحيم. 

التفسير

هذه الآية الكريمة فيها وصف المؤمنين وفيها ثوابهم وجزاؤهم العظيم، قال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} والبشارة تكون في الخير وتكون في الشر، ففي الشر تبشرهم بعذاب أليم، وفي الخير كما في هذه الآية: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذينَ آمَنوا أَنَّ لَهُم قَدَمَ صِدقٍ عِندَ رَبِّهِم} [يونس:2] فالبشارة تكون في الخير وتكون في الشر، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيه استحباب البشارة بشارة المؤمن فيما يسره.

ولهذا لما نزلت توبة الله على كعب بن مالك وصاحبيه، هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، ذهب مبشرون يبشرونهم.

قال كعب بن مالك: فَكَمُلَ لَنا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلاَمِنا، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحالِ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. فآذَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ بِتَوْبَةِ الله - عز وجل - عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْر فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءني الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُني نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ بِبشارته، وَاللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُما، وَانْطَلَقْتُ أتَأمَّمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهنِّئونَني بالتَّوْبَةِ.([1])

هذا هو الشاهد بالبشارة، هذه هي البشارة المستحبة.

وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فيه صفات الجنة والنار.

وفيه أن الجنة أعدها الله للمؤمنين، وأن نعيم الجنة هي للإيمان.

وفيه أن الإيمان لابد فيه من العمل لقوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وأن الأعمال تصدِّق ما في القلوب، والإيمان الذي في القلوب، يتحقق بالأعمال، والأعمال التي في الجوارح يصححها الإيمان الذي في القلوب، فلابد في الإيمان من الأمرين، لابد من إيمان في القلب، وتصديق في القلب يتحقق بالأعمال، وعمل بالجوارح يصححه الإيمان، ولهذا قال سبحانه: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَـكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31، 32] لا صدق الخبر ولا صلى، { وَلَـكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هذا التكذيب بالقلب، وتولى وأعرض عن العمل، فالإيمان لابد فيه من العمل، ولهذا قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} جنات وبساتين، تجري من تحتها، من تحت الأشجار ومن تحت البيوت أنهار الماء، والعسل واللبن والخمر، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} تشابه في اللون، مختلف الطعم، وهذا أحد الأقوال.

{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} مطهرة حسيًا ومعنويًا، حسيًا من البصاق والحيض والنفاس، ومعنويًا من الأخلاق الرديئة، .

{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا هو تمام السعادة، خالدون ماكثون مستمرون مقيمون، لا يرحلون، ولا يموتون، ولا يبولون ولا يتغوطون، ولا يهرمون، صحة دائمة، ولا يمرضون، فالشباب الدائم، والصحة دائمة والقوة دائمة، والنعيم دائم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{إِنَّ اللَّـهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّـهُ بِهَـٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

روى السدي في تفسيره، عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17] وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وقال سعيد، عن قتادة: أي: إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئًا مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا؛ أن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت[2].

وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضُرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلئوا من الدنيا ريًا، أخذهم الله تعالى عند ذلك.

ثم تلا: {فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ فَتَحنا عَلَيهِم أَبوابَ كُلِّ شَيءٍ} [الأنعام:44]، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلًا ما، أي: أي مثل كان، بأي شيء كان، صغيرًا كان أو كبيرًا . 

وقوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} أي ما هو أكبر منها لأنه لا شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يشاك شوكة، فما فوقها إلا كُتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة»، فأخبر أنه لا يستصغر شيئًا يضرب به مثلًا، ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك، لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:37] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:31] وقال تعالى: {أَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ {٢٤} تُؤتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذنِ رَبِّها وَيَضرِبُ اللَّـهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرونَ {٢٥} وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ ما لَها مِن قَرارٍ {٢٦} يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظّالِمينَ وَيَفعَلُ اللَّـهُ ما يَشاءُ} [إبراهيم:24-27]، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا عَبدًا مَملوكًا لا يَقدِرُ عَلى شَيءٍ } الآية [النحل: 75]، ثم قال: {وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا رَجُلَينِ أَحَدُهُما أَبكَمُ لا يَقدِرُ عَلى شَيءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَولاهُ أَينَما يُوَجِّههُ لا يَأتِ بِخَيرٍ هَل يَستَوي هُوَ وَمَن يَأمُرُ بِالعَدلِ} الآية [النحل: 76]، كما قال: { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية [الروم: 28]، وقال مجاهد في قوله ـ تعالى ـ: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} الأمثال صغيرها وكبيرها، يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.

روى السدي في تفسيره، عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} يعني به المنافقين، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} يعني المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم، وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به {وَيَهْدِي بِهِ} يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلًا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} قال: هم المنافقون. 

وتقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جحرها للفساد.

وثبت في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور». 

فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به في الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وهذه الصفات؛ صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: {أَفَمَن يَعلَمُ أَنَّما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هُوَ أَعمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبابِ {١٩} الَّذينَ يوفونَ بِعَهدِ اللَّـهِ وَلا يَنقُضونَ الميثاقَ {٢٠} وَالَّذينَ يَصِلونَ ما أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيَخشَونَ رَبَّهُم وَيَخافونَ سوءَ الحِسابِ} الآيات، إلى أن قال: { وَالَّذينَ يَنقُضونَ عَهدَ اللَّـهِ مِن بَعدِ ميثاقِهِ وَيَقطَعونَ ما أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيُفسِدونَ فِي الأَرضِ أُولـئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةُ وَلَهُم سوءُ الدّارِ} [الرعد:19-25]، والعهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.

وقيل: بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، والعهد الذي نقضه أهل الكتاب هو ما أخذه الله عليهم في التوراة، من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق؛ ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا.

وقيل: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات، التي لا يقدر أحدٌ من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي عن مقاتل بن حيان -أيضًا - نحو هذا، وهو حسن، وإليه مال الزمخشري.

وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] ورجحه ابن جرير، وقيل: المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه . 

وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: {أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: {أُولـئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةُ وَلَهُم سوءُ الدّارِ} [الرعد:25]، وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب. 

وقال ابن جرير في قوله تعالى: {أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الخاسرون: جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خسرًا وخسرانًا وخسارًا، كما قال جرير بن عطية:

إن سليطًا في الخسار إنه

أولاد قوم خلقوا أقنه

 

(التفسير)

في هذه الآيات الكريمات بيان أن الله سبحانه وتعالى، لا يستحي أن يضرب المثل لما فيه من الذكرى والموعظة، فلما ضرب الله المثل بالنار والماء للمنافقين، تكلم بعض الناس وقالوا: كيف يضرب المثل؟ فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} لبعوضة، لا يستحي أن يضرب أي مثل؛ لأن فيه شيئًا من الموعظة والتذكير، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} لعلهم يتذكرون، ففيه ذكرى وموعظة فالله تعالى لا يستحي من ضرب المثل، يضرب المثل بالبعوضة، وبالعنكبوت وبغيرها.

وفيه دليل على أن الأمثال فيها فائدة للمؤمنين، وفيها مضرة على الكافرين، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} فهم مؤمنون بها، ويعلمون أن الله ضربها للموعظة والذكرى، فيستفيدون ويؤمنون {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} فيعترضون على الله، فالأمثال فيها هداية للمؤمنين، وفيها إضلال للكافرين.

ففي هذه الآيات فائدة ضرب الأمثال، وأنه تعالى لا يستحي أن يضرب أي مثل، لما فيه من الموعظة.

وفيها: أن الله تعالى لا يستحي أن يضرب المثل، ولكن جاء في الحديث «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»([3]) فالله تعالى يوصف بالحياء كما ينبغي لجلاله وعظمته، وجاء في الحديث الآخر: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ»([4]) ، وفي هذه الآية يقول تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا} والله لا يستحيي من الحق.

وفيها: أن الله تعالى يضرب الأمثال، لما فيها من الذكرى والموعظة، وأن الأمثال فيها هداية للمؤمنين، وإضلال للكافرين {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} .

وفيه أن الفسوق نوعان: فسوق أكبر وهو فسوق الكفر، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {وَإِذ قُلنا لِلمَلائِكَةِ اسجُدوا لِآدَمَ فَسَجَدوا إِلّا إِبليسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَن أَمرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] يعني فسوق الكفر، والنوع الثاني: فسوق المعصية، فالمعاصي تسمى فسقًا، والكفر فسق، والفسق في هذه الآيات هو فسوق الكفر، بدليل أنه وصف في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} فهم ينقضون عهد الله إلى عباده بطاعته، وأداء حقه والقيام بأمره، ونقض العهد تركه، أي ترك الأوامر وارتكاب النواهي، وسواء كانت هذه الآية في المنافقين أو في أهل الكتاب أو عامة لجميع المشركين، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} قيل المقصود صلة الأرحام، وقيل: عامة في كل ما أمر الله به أن يوصل، صلة الأرحام وغيرها، {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} من معاصي {أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} والمراد بالخسارة هنا خسارة الكفر، لأن هذه هي أوصاف الكفار، كما قال في آيات الرعد: {وَالَّذينَ يَنقُضونَ عَهدَ اللَّـهِ مِن بَعدِ ميثاقِهِ وَيَقطَعونَ ما أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيُفسِدونَ فِي الأَرضِ} [الرعد:25] في هذه الآيات ضرب المثل وأن الأمثال فيها موعظة، وفيها أن الأمثال يهدي بها الله المؤمنين، ويضل بها الكافرين، وفيها وجوب أداء حق الله عز وجل ، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، وتحريم القطيعة وتحريم الفساد في الأرض، وأن من اتصف بهذه الصفات فهو كافر، {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} لأنهم لم يؤدوا ما أوجب الله عليهم، فالذي ينقض عهد الله، لا يستجيب لأمر الله تعالى ولا يؤدي أوامره، ومن أعظم الأوامر التوحيد، ويرتكبون النواهي ومن أعظم النواهي الشرك، فالمشركون خاسرون خسران الكفر، أسأل الله السلامة والعافية.

 

([1]) أخرجه: البخاري 6/ 3 (4418)، ومسلم 8/ 105 (2769) (53) و (54) و (55).

([2]) كالبعوضة التي إذا امتلأت ماتت، وإذا جاعت بقيت.

([3]) أخرجه أبو داود (1488) والترمذي (3556) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه .. قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.

([4]) أخرجه أبو داود في "السنن" (4012) من حديث يعلى رضي الله عنه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد