** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
يقول تعالى آمرًا عبيده، فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة، بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، والصلاة.
فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد .
قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث، وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها: فعل الصلاة.
روى ابن أبي حاتم : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله .
قال وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر.
وأما قوله: {وَالصَّلَاةِ} فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّـهِ أَكْبَرُ} الآية [العنكبوت:45]
والضمير في قوله: {وَإِنَّهَا لكبيرة} عائد على الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير . ويحتمل أن يكون عائدًا على ما يدل عليه الكلام، وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّـهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] وقال تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:34، 35] أي: وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا {وَمَا يُلَقَّاهَا} أي: يؤتاها ويلهمها {إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، وعلى كل تقدير، قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} أي: مشقة ثقيلة، {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني المصدقين بما أنزل الله .
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: وأن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي: أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم، فعل الطاعات وترك المنكرات.
فأما قوله: {يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ } قال ابن جرير، رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنًا، والشك ظنًا، نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخًا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده ([1]).
ومنه قوله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} قلت: وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أم أزوجك، ألم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول تعالى: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول الله: اليوم أنساك كما نسيتني([2]).
يعني أعاملكم معاملة المنسي، وإلا فالله سبحانه وتعالى منزه عن النسيان، كما قال الله تعالى في كتابه: {في كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، والمعنى أنه يعاملهم معاملة المنسي، في تركه يتركه فلا يصلح أمره.
(التفسير)
هذه الآيات الكريمات فيها الأمر بالاستعانة بالله والصبر والاستعانة على أداء الأوامر وترك المعاصي بالصبر والصلاة، فقال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } قال بعض السلف: قد وجدنا خير عيشنا بالصبر، ومنزلة الصبر والإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فمن لا صبر له، لا إيمان له.
كان بعض السلف ينادي: ألا لا إيمان لمن لا صبر له.
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله تعالى، يصبر الإنسان حتى يؤدي الواجبات، فلولا الصبر ما استطعنا أن نؤدي الواجبات، وثانيًا صبر على محارم الله حتى تترك المحرمات، لولا الاستعانة بالله والصبر، لما ترك المحرمات، والثالث صبر على أقدار الله المؤلمة، فيحبس نفسه على الجزاء، ويحبس لسانه عن التشكي، ويحبس جوارحه عما يغضب الله، وبهذا يكون صابرًا على أقدار الله.
فالمسلم والمؤمن يستعين على أداء الواجبات وترك المحرمات بالصبر، فيصبر على طاعة الله حتى يؤديها، ويصبر على محارم الله حتى يتركها، ويصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يسخطها، وكذلك الصلاة تعين المسلم على أداء الواجبات، «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى »([3])، ويقول: «يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»([4])، ففيها راحة وإعانة.
{وَإِنَّهَا} يعني الصلاة، أو الوصاية، {لَكَبِيرَةٌ} يعني شاقة وصعبة، {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، فالصلاة شاقة وصعبة إلا على الخاشعين الذي رزقهم الله الخشوع والإيمان، والإنابة لله عز وجل والخضوع والاستكانة لله عز وجل، الذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} يعني يتيقنون، فالظن هنا بمعنى اليقين، من المعلوم أن من شك في لقاء الله فهو كافر، فليس المراد الشك هنا، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: { وَرَأَى المُجرِمونَ النّارَ فَظَنّوا أَنَّهُم مُواقِعوها} [الكهف:53] يعني تيقنوا، وكما في خطاب الله للعاصي قال: «أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي»([5]) المعنى: هل تيقنت؟ فقال: لا. فالظن يأتي بمعنى اليقين، كما في هذه الآيات.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يتقنون أنهم ملاقو الله عز وجل، وأنهم راجعون إلى الله وسوف يحاسبهم، ويثيبهم على أعمالهم.
في هذه الآيات الكريمات: أمر المؤمن بالاستعانة بالله وبالصلاة على أداء الواجبات، يستعين بالصبر وبالصلاة على أداء الواجبات وترك المحرمات، وفيه عظم شأن الصلاة على أحد القولين، وأن الصلاة أمرها عظيم، وهي شاقة وصعبة إلا على المتقين، إلا على الخاشعين، الخاضعين لله، فإنها سهلة هينة عليهم، الذين يتيقنون أنهم سيبعثون، وسيلقون ربهم، وسوف يرجعون إليه، وسيجازيهم وسيحاسبهم، هؤلاء تكون الصلاة سهلةً عليهم.
وأما من لم يؤمن بالبعث وأنه ملاقي الله، فهي صعبة شاقة عليه؛ لأنه ليس عنده إيمان بالله، وبالبعث والجزاء والحساب، فتكون الصلاة عليه صعبة، أما المؤمن فهي هينة عليه.
إذا أخبر بعض أصحابه عن حاله، أو سأل طبيبًا، فلا بأس، والشاعر يقول([6]):
ولابُدَّ من شَكْوى إلى ذي مُروءةٍ |
يُواسيكَ أو يُسليكَ أو يتوجَّعُ |
فإنْ كان من باب الُمروءة خالياً |
يقسيكَ أو يُقصيكَ أو ليس ينفعُ |
أما إذا كان من باب الشكاية فيشكو ربه، فهو الممنوع، وأفضل شيء هو أن يشكو إلى الله: كما قال الله عن يعقوب: { قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّـهِ} [يوسف:86] يشكو إلى الله، { قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّـهِ} يشكو إلى الله تعالى، والناس ما يفعلون إلا المواساة ولا ينفعون الإنسان، لكن إذا دعت الحاجة وأخبر طبيبًا أو بعض إخوانه ليساعدوه في العلاج أو ما أشبه ذلك فلا بأس.
والأنين، جاء وثبت في البخاري أن الأنين ليس من التشكي، وورد عن الإمام أحمد أنه كان يئن، فقيل له: إن الأنين من الشكوى، فلم يأن، وهذا اجتهاد منه، والصواب أن الأنين ليس من التشكي، وكان الرسول صلى الله لما قالت عائشة له: واه رأساه قال لها: « بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ »([7]) وهذا ليس من التشكي، وكذلك الأنين ليس من التشكي على الصحيح.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال الله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم على سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]
(التفسير)
يعني عالمي زمانهم، فبنوا إسرائيل هم أفضل الناس في زمانهم، قبل وجود هذه الأمة، {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] فهم أفضل من الأقباط وأفضل من الترك والروم، وأفضل من جميع الأمم في زمانهم، بنو إسرائيل أفضل الناس على العالم في زمانهم، فلما جاءت هذه الأمة فهي أفضل من كل الأمم، وفي الحديث: ((تُوفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ آخِرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ)) ([8]).
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالمًا .
(التفسير)
عوالم متعددة، وعالم بني إسرائيل، عالم الترك، وعالم الفرس، وعالم الروم، ، عوالم متعددة أمم، عالم القبط، أمم متعددة، أفضلهم بنو إسرائيل في زمانهم، ثم لما جاءت هذه الأمة جعلها الله أفضل الأمم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وروي عن مجاهد، والربيع بن أنس ، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابًا لهذه الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} [آل عمران:110] وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً. أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ »([9]) ، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
(التفسير)
يعني سيذكر هناك الأحاديث التي تدل على فضل هذه الأمة.
وهذه الآية فيها: تذكير لبني إسرائيل بنعم الله عليهم، وأنهم إذا ذكروا نعمة الله وشكروها، كفر الله عنهم سيئاتهم، ورفع درجاتهم، وهو أيضًا أمر لهذه الأمة، وليس خاصًا ببني إسرائيل، فإذا ذكرت هذه الأمة نعم الله وشكرتها، كفر الله سيئاتها ورفع درجاتها.
{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} هذا تذكير بنعم الله على بني إسرائيل، إن الله فضلهم على عالم زمانهم، هذا خطاب لبني إسرائيل الموجودين في زمن النبوة؛ لأن النعم التي تكون على الآباء والأجداد تكون للأبناء أيضًا، فلهذا يذكرهم الله تعالى، {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} اذكروها حتى يزيدكم الله منها، حتى يرضى عنكم ويكفر عن سيئاتكم.
ففي هذه الآية الكريمة: أن من شكر نعم الله زاده الله منها، وأثابه ورفع درجاته، وفي هذه الآية دليل على أن بني إسرائيل أفضل الأمم في زمانهم، فهم أفضل من أمة القبط وأمة الفرس وأمة الروم، وأمة الترك وغيرهم من الأمم، ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالم زمانهم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} لما ذكَّرهم تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك، التحذير من حلول نقمه بهم يوم القيامة فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} يعني يوم القيامة {لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى} [الأنعام:164]، وقال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، فهذه أبلغ المقامات: أن كلا من الوالد وولده، لا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا، وقوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}.
الملف الصوتي رقم (8)
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] يعني عن الكافرين، كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ*وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 101-102]، وقوله: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36] وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، وقال: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} [الحديد: 15] الآية، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهبًا، كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وقال {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31]، وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء. هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم، ولا من غيرهم، كما قال: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 10] أي: أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فديةٌ ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدًا من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجيره منه أحد، كما قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [مؤمنون: 88]. وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 26]، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ*بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 25 ، 26]، وقال {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} الآية [الأحقاف: 28].
وقال الضحاك عن ابن عباس –رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] ما لكم اليوم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال ابن جرير: وتأويل قوله: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدلٌ ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات.
(التفسير)
الرُّشا، الرُشا جمع رشوة يعني ما في رشوة، ما تبع الرشوة هذه في الدنيا، الرُشا بالضم جمع رشوة، تختلف بالضم، الفتح، الكسر، والرَّشا بالفتح ولد الغزال، والرِّشا بالكسر الحبل الذي يتوصل به لإخراج الدلو من البئر، الرَشا والرُشا والرِشا تختلف، الرُشا جمع رشوة وهي الرشوة التي تعطى للإنسان ليفعل الباطل، والرَشا ولد الغزال، والرِشا بالكسر الحبل الذي يربط بالدلو لإخراج الماء رِشا، رَشا، رُشا، رِشا ثلاثة أوجه للرشا .
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
ولا يقبل منهم عدلٌ ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ*مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ*بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 24-26].
التفسير
وفي هذه الكلمة تحذير وتخويف من يوم القيامة وما فيه من الأهوال العظيمة وأنه يحتاج إلى إعداد العدة، هذا اليوم العظيم يوم القيامة، يومٌ عظيم يوم القيامة لو علمت بهوله لفررتَ من الأهل ومن الأوطان، تتشقق السماء، تنفطر، تنكدر النجوم، وتصير الجبال كالعهن المنفوش، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]، يومٌ عظيم، {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 33-37]، كلٌ تهمه نفسه، كل تهمه نفسُه لا يلوي أحد على أحد، {واتقوا يومًا}، اتقوا هذا اليوم وهو يوم القيامة، اتقوا احذروا أحواله وأعدوا العدة بالعمل الصالح، هذا أمر من الله تعالى لعباده، والعمل الصالح هو ما اجتمع فيه شرطان: أن يكون خالصًا لله، وأن يكون صادرًا عن هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] لا تجزي نفس، نفس نكرة في سياق النهي تعم أي نفس لا يمكن أن تغني نفسٌ عن نفس شيئَا، ولو كانت هذه النفس أقرب قريبٍ لك، لو كانت هذه النفس أباك، أو ابنك أو زوجتك أو قريبك ما ينفع، ما تنفعه ولا ينفعك، ما أحد ينفع أحد يوم القيامة، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، كما قال – سبحانه وتعالى- في آية لقمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] فهذا تحذير وتخويف من الله لعباده بأن يخافوا هذا اليوم ويعدوا العدة، يعني يوحدوا الله ويخلصوا له العبادة، ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، ويؤدوا حقه وحق عباده، حتى يسلموا من التبعات، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] لا تقبل الشفاعة للكفار كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، الكفار ليس لهم شفاعة أما المؤمن الموحد له شفاعة، كما تواترت الأخبار عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أن المؤمنون العصاة يشفع فيهم، الذي يشفع فيهم نبينا – صلى الله عليه وسلم - أربع شفاعات: كل مرة يحد الله له حَدًّا، يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان، مثقال برة من الإيمان، والبعض آخذ أدنى مثقال ذرةً من الإيمان، والمرة الأخيرة أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان، وهذا دليل على أن المعاصي إذا كثرت تضعف الإيمان لكن لا تقضي عليه، المعاصي ولو عظمت ولو كثرت ما تقضي على الإيمان، يعني لابد أن يبقى بقية من الإيمان يخرج بها من النار هذا العاصي، لكن إذا جاء الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر أو الظلم الأكبر أو الفسوق الأكبر قد ضاع الإيمان، ما يقضي على الإيمان إلا الكفر الأكبر يقضي على الإيمان بالله، أما المعاصي ولو عظمت ولو كثرت ما تقضي على الإيمان يبقى بقية.
ولهذا العصاة الموحدين يبقى عندهم أدنى أدنى أدنى مثقال حبةً من خردل من إيمان، فيخرج بها من النار، وكتابة أيضًا الأنبياء يشفعون والملائكة يشفعون، والأفراد يشفعون، والصالحون يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة من العصاة فيأخذهم ربٌ عظيم برحمته وشفاعته وشفع الملائكة وشفع النبيون ولا يبقى إلا رحمته، رحمه الله فيخرجون من النار لما له من خرق، يعني زيادة عن التوحيد والإيمان فيلقون في نهر الحياة ضبائع قد امتحشوا وصاروا فحمًا فينبتون كما تنبت الحبة يعني البذرة في حبل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، فالكفرة ليس لهم شفاعة أما العصاة الموحدين المؤمنون الذين ماتوا على التوحيد لكن ما فعلوا الكبائر من غير التوبة لهم شفاعة، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] يعني فداء، لو أراد الإنسان أن يفدي نفسه بالدنيا كلها ما قبل ما فيه، التعامل يوم القيامة بالحسنات والسيئات، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-« أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال –عليه الصلاة والسلام-: إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»، التعامل بالحسنات والسيئات يوم القيامة، ما فيه دراهم ولا دنانير، لو أراد تفدي نفسك بملء الأرض ذهبًا ما قبل منه، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 36-37]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] يعني فداء، {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48] لا أحد ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله، فهذا تخويف وتحذير يوم القيامة، أعدوا العدة يوم القيامة وهذا من بيان الله تعالى وإرشاده إلى عباده وإحسانه، حذرهم يوم القيامة الذي لا تغني نفسٌ عن نفسٌ شيئًا ولا يقبل منها شفاعة للكفرة ولا يخرجهم منها لا فداء ولا أحد ينصرهم من عذاب الله، أربعة أشياء: لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، ولا هم ينصرون.
[1] قال الشارح حفظه الله: كتسمية اللديغ بالسليم والأعمى بصيرًا، وهكذا يكن ذلك تفاؤلًا، كتسمية الصحراء مَفَازةً، وهي مَهلكة، تفاؤلًا بالفوز وقطعها بالسلامة.
([2]) أخرجه مسلم برقم (2968).
([3]) أخرجه أحمد (38/330)، وأبو داود برقم (1319).
([4]) أخرجه أبو داود (4985).
([5]) سبق تخريجه قريبًا.
([6]) نهاية الأرب (3/80) ولوعة الشاكي ودمعة الباكي (ص 5).
([7]) أخرجه البخاري برقم (5666، 7217).
(([8])) أخرجه أحمد في "المسند" (4/447) والنسائي في الكبرى (11367).
([9]) أخرجه أحمد في مسنده (33/219، 228، 231) .