** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون }.
[تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم]
لما ذكر الله تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم أيضًا بما أسبغ عليهم من النعم، فقال: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } وهو جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يَغُمّ السماء، أي: يواريها ويسترها. وهو السحاب الأبيض، ظُلِّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وأبي مجلز، والضحاك، والسدي، نحو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الحسن وقتادة: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } قال كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا، وأطيب.
وقوله: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا.
وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه، ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.
فالمنُّ المشهور إن أكل وحده كان طعامًا وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابًا طيبًا، وإن ركِّب مع غيره صار نوعًا آخر، ولكن ليس هذا المراد من الآية وحده؛ والدليل على ذلك رواية البخاري عن سعيد بن زيد، ا، قال: قال النبي ﷺ: «الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين»([1]). وهذا الحديث رواه الإمام أحمد. وأخرجه الجماعة في كتبهم، إلا أبا داود. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السُّم، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين»([2]) تفرد بإخراجه الترمذي.
وأما السَّلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبيه بالسُّمَّانى، كانوا يأكلون منه.
وروى السدي عن ابن عباس وابن مسعود، وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم: السلوى: طائر يشبه السُّمَّانَى.
وكذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك، والحسن، وعكرمة، والربيع بن أنس، رحمهم الله.
وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور، أو نحو ذلك.
وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحُمَّرة، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ. وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقوله تعالى: { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أمر إباحة وإرشاد وامتنان.
وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [البقرة:57]، أي: أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال: { كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ:15] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات.
ومن ها هنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلًا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مَبْرك الشاة، فدعا الله فيه، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى، فجاءتهم سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم. ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع المشي مع قدر الله، مع متابعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
التفسير
هذه الآية الكريمة فيها تعداد لنعم الله على بني إسرائيل بعد أن عدد نعمه عليهم في دفع النقم، الآيات السابقة بين الله أنه دفع عنهم النقم، دفع عنهم عدوهم، وأهلكه، وكذلك لما عبدوا العجل دفع الله عنهم شر الذنوب بالتوبة، ثم عدد نعمه عليهم فقال سبحانه وتعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}[البقرة:57].
وهذا في التيه، في الصحراء في سيناء، وهي التي بين فلسطين وبين مصر، وذلك أن الله تعالى أمرهم على لسان نبيهم أن يفتحوا بيت المقدس، فنكلوا وامتنعوا، وقالوا: لا، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] قال لهم موسى: ادخلوا وقد وعدني الله تعالى بالفتح، ولكن احملوا عليهم حملة الرجل الواحد، قالوا: {إن فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22].
حتى قالوا في النهاية: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24].
فعاقبهم الله، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26].
فهذا تحريم قدري، وليس تحريمًا شرعيًا، حرمها الله عليهم تحريمًا قدريًا ومنعهم من دخولها أربعين سنة، فصاروا في التيه، في الصحراء يدورون ولا يهتدون أربعين سنة حتى توفي موسى، وتوفي هارون في التيه، وتوفي هؤلاء الشيوخ الكبار الذين تربوا على ذل ومهانة فرعون، ونشأ جيلٌ جديد لم يعرفوا فرعون، ولم يتربوا على الذل، فعند ذلك فتح بهم يوشع بن نون فتى موسى بيت المقدس([3]) .
ولكن بنو إسرائيل لما عاقبهم الله بالتيه أنعم عليهم بهذه النعم، جعل الله الغمام والسحاب الرقيق الأبيض يظللهم من شدة الحر، وكذلك المن ينزله الله عليهم كل يوم، ويشبه العسل، فهو شراب، وقد يكون أحلى من العسل ؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57].
فالخطاب لبني إسرائيل يعني ظللنا على آبائكم وأجدادكم، وأنزلنا عليهم المن والسلوى.
قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة:57] لكنهم ظلموا أنفسهم ولم يظلموا الله، ظلموا أنفسهم بالمعاصي، فعاد وبال ذلك عليهم، وهذا فيه أيضًا العظة والعبرة وقد استفاد أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر الحافظ رحمه الله، فأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هم خير أصحاب الأنبياء؛ ولهذا حصل لهم الشدة والتعب والضنك في أسفارهم ، ومع ذلك صبروا وصابروا، ولم يتعنتوا، ولم يطلبوا آيات اقتراحية كما فعل بنو إسرائيل، ولهذا في غزوة بدر، قال الأنصار: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إننا معك مقاتلون، نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، فَسُرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ([4]).
وغزوة تبوك كما ذكر الحافظ رحمه الله كانت في شدة الحر، وكانت في سفر طويل، ومفازة بعيدة، ومع ذلك صبروا رضي الله عنهم وصابروا، ولم يطلبوا من نبيهم الآيات الاقتراحية، ولكن لما أصابهم الجهد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل لهم البركة، فجمعوا ما عندهم من الطعام وبرَّك حتى كثره الله وملئوا جميع أوعيتهم، وكذلك الماء كثره الله، فنبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهم وأرضاهم.
فيقول الحافظ: (الأكمل هذا في الإتباع المشي مع قدر الله)؛ يعني أنك تصبر على ما أصابك من قدر وجوع وألم مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، مع العمل بالشريعة بالصبر، يعني لا تتعنت كما فعل بنو إسرائيل ما مشوا مع قدر الله بل تعنتوا، تعتنوا وآذوا موسى، وطلبوا آيات اقتراحية، لكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مشوا مع القدر، وصبروا، وتحملوا، وصبروا على ما قدر الله عليهم من الشدة والضيق، واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخالفوه، ودعوا الله بالنصر والدعاء من القدر، فالله تعالى ربط الأسباب بالمسببات، والأسباب والمسببات كلها من القدر.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[البقرة: 58، 59]
يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد وعن دخولهم الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى، عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس، كما نص على ذلك السدي، والرّبيع بن أنس ، وقتادة، وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى حاكيًا عن موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا}[المائدة:21]
وقال آخرون: هي أريحاء ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد.
وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون، عليه السلام، وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلًا حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب -باب البلد سجَّدًا- أي: شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، وردّ بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال.
قال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي: ركعًا..
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: ركعًا من باب صغير.
ورواه الحاكم وابن أبي حاتم، وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم.
وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم: أن المراد هاهنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته.
وقال خصيف: قال عكرمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الباب قِبَل القبلة.
وقال ابن عباس ومجاهد، والسدي، وقتادة، والضحاك: هو باب الحطة من باب إيلياء بيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة.
وقال خصيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: فدخلوا على شق، وقال السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنُود، عن عبد الله بن مسعود: وقيل لهم {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}، فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي: رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا.
وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال ابن عباس: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال: مغفرة، استغفروا.
وقال الحسن وقتادة: أي: احطط عنا خطايانا.
{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:161]
وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات.
وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر]، وقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}[البقرة:59].
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدّلوا وقالوا: حبة في شعيرة»([5]).
وروى النسائي موقوفًا وببعضه مسندًا، في قوله تعالى: {حِطَّةٌ} قال: فبدلوا. فقالوا: حبة([6]).
وروى نحوه عبد الرزاق وعن طريقه البخاري ومسلم والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح ([7]).
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق من الحديث أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجدًا، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزؤوا فقالوا: حنطة في شعيرة.
وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم، وهو خروجهم عن طاعته؛ ولهذا قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59].
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء في كتاب الله من «الرِّجْز» يعني به العذاب.
وهكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، والسدي، والحسن، وقتادة، أنه العذاب..
وروى ابن أبي حاتم عن سعد -يعني ابن أبي وقاص ـ ، وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الطاعون رجْز عذاب عُذِّب به من كان قبلكم»([8]).
وهكذا رواه النسائي ([9]) وأصل الحديث في الصحيحين «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها» الحديث ([10]).
وروى ابن جرير عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به بعض الأمم قبلكم» وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين([11]) .
(التفسير)
في الآيتين الكريمتين بيان العناد والتعنت الذي حصل من بني إسرائيل بعد فتح بيت المقدس، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يشكروه على هذه النعمة، حين تم لهم الفتح بصحبة نبيهم يوشع بن نون، وهذه البلدة هي بيت المقدس أو أريحاء على خلاف، فأمرهم الله تعالى أن يشكروه، وأن يخضعوا له بالقول والفعل، فأمرهم الله أن يدخلوا بيت المقدس، أن يدخلوا باب المدينة باب القرية سجدًا، يعني ركوعًا، والركوع يسمى سجودًا؛ يعني يدخلون وهم راكعون خضوعًا لله، هذا بالفعل، والقول: أن يسألوا الله أن يحط عنهم خطاياهم، يقولون: حطة، حط عنا يا الله خطايانا واغفر الله، قال الله تعالى إذا فعلتم ذلك نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين، إن فعلتم ذلك وخضعتم لله، ودخلتم الباب سجدًا، وسألتم الله المغفرة، وأن يحط عنكم الخطايا فإن الله يستجيب لكم {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58].
يزيد المحسنين إحسانًا إلى إحسانهم، ولكنهم مع عنادهم وتعنتهم، عتوا فغيروا فعلًا وقولًا، أما الفعل: فقد أمرهم الله أن يدخلوا ركعًا فدخلوا يزحفون على أستاههم، يعني أدبارهم ومقاعدهم، الأست يطلق على المقعدة، فدخلوا يزحفون على مقاعدهم، فالله أمرهم أن يدخلوا راكعين خضوعًا له فعاندوا وخالفوا، ودخلوا يزحفون على أستاههم على مقاعدهم، ومنه قول القائل:
لأقطعن أست قارئكم
يعني مقعدته.
وأما بالفعل: فغيروا واستهزؤوا، وقالوا: حنطة، حبة شعير، من سخريتهم واستهزائهم بأمر الله.. فالله قال لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} حط عنا يا الله خطايانا واغفر لنا، فقالوا: حنطة، زادوا نونًا في الكلمة، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا من عتوهم وعنادهم فعاقبهم الله، قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:59].
وهو العذاب، هل هو الطاعون أو غيره؟ جاء الحديث الصحيح «أن الطاعون رجز بعثه الله على من كان قبلكم »([12]) فيحتمل أنه الطاعون أو غيره، أنزل الله عليهم رجزًا من العذاب بسبب فسقهم وعنادهم، فهذا من عنادهم.
ولهذا يقول العلماء: إن اليهود زادوا نونًا، حطة وقالوا: حنطة، والجهمية الذين أنكروا أسماء الله وصفاته، وهم أهل البدع أنكروا الأسماء والصفات، وزعموا أن إثبات الأسماء والصفات لله فيه تشبيه، وهذا من جهلهم وضلالهم. فأولوا النصوص، قالوا: معنى استوى على العرش: استولى، والاستيلاء غير الاستواء، استوى: يعني استقر وعلا صعد، ، فزادوا لامًا، وقالوا: معنى استوى: استولى، ولهذا يقول العلماء: (لام) الجهمية مثل (نون) اليهود، اليهود زادوا في حطة نون فصارت حنظة، والجهمية زادوا في استوى لاما.
ولهذا قال الله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59]. بدلوا قولًا وفعلًا، بدلوا قولًا غير الذي قيل لهم، قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} فدخلوا يزحفون على أستاههم، هذا في الفعل.. وقال الله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} فبدلوا وقالوا: حنطة؛ سخرية واستهزاء، وهذا فيه تحذير للأبناء الموجودين من بني إسرائيل أن يفعلوا مثل ما فعل آباؤهم فيصيبهم الرجز والعذاب، وتحذير لهذه الأمة أيضًا أن يسلكوا مسالكهم فيصيبهم ما أصابهم، أنزل الله عليهم الرجز وهو العذاب بسبب فسقهم كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يبق سواكم..
لكن الله قص علينا أخبارهم لنحذر أن نسلك مسلكهم، فالواجب على كل إنسان أن يتقي الله، وأن يمتثل أمر الله، وأن لا يستهزئ بآيات الله، وأن يمتثل أمر الله قولًا وفعلًا، لا أن يفعل كما فعلت بنو إسرائيل غيروا الفعل ودخلوا يزحفون على أستاههم، والله أمرهم أن يدخلوا ركعًا خضوعًا لله، وأمرهم أن يقولوا: حطة، يعني حط عنا يا الله، واغفر لنا خطايانا، وحط عنا، فبدلوا وقالوا: حنطة.
قال تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58].
وعدهم بالمغفرة والزيادة، فالزيادة لمن شكر، والمغفرة لمن استغفر وتاب، لكنهم لم يوفقوا، فغيروا في القول والفعل فأنزل الله عليهم العذاب والرجز، ففي هذا تحذير لهذه الأمة، وتحذير لبني إسرائيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلكوا مسلك آبائهم وأجدادهم في عنادهم وعتوهم، ومخالفة أمر الله فيصيبهم الرجز والعذاب كما أصابهم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60].
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى، عليه الصلاة والسلام، حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حَجَر يُحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من اثنتي عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك. {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها.
وقد بسطه المفسرون في كلامهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجُعِل بين ظهرانيهم حجر مربَّع وأمر موسى عليه الصلاة و السلام، فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعْلَمَ كلَّ سبط عينهم، يشربون منها لا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول.
وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل لهم.
وأما في هذه السورة، وهي البقرة فهي مدنية؛ فلهذا كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم. وأخبر هناك بقوله: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}[الأعراف:160] وهو أول الانفجار، وأخبر هاهنا بما آل إليه الحال آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار هاهنا، وذاك هناك، والله أعلم.
(التفسير)
وهذه الآية أيضًا فيها منة الله تعالى على بني إسرائيل في إنباعه الماء من الحجر، لما كانوا في التيه في الصحراء، قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} هذا من نعم الله عليهم يحملون معهم هذا الحجر ، فإذا نزلوا منزلًا ضرب موسى الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين، حتى لا يتنازعوا ويختلفوا، وأسباط بني إسرائيل مثل القبائل في العرب، العرب يسمون قبائل، والعجم أسباط، السبط مثل القبيلة، اثنا عشر سبطا، اثنات عشر قبيلة، كل قبيلة لها عين من الحجر ، وهذا من الخوارق العظيمة ..
فهذا حجر يحملونه معهم فإذا نزلوا وضعوه وضرب موسى الحجر بعصاه فانفجر منه اثنتا عشرة عينًا.
وقال تعالى في سورة الأعراف {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ} وانفجرت أقوى من انبجست، لأن انبجست يقال في أول خروج الماء، وانفجرت يقال في آخره، هذا في سورة الأعراف أخبر عن أول خروج الماء، وفي هذه السورة انفجرت، وسورة الأعراف مكية، لما كانوا في مكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة يخبرهم الله بصيغة الغيبة، يعدد الله نعمه على بني إسرائيل، يخبر الله نبيه ما أنعم به على بني إسرائيل، هناك قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159].
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف:160] هناك بصيغة الغيبة.
أما هنا في سورة البقرة فجاء بصيغة الخطاب؛ لأنها سورة مدنية، واليهود موجودون في المدينة، فالخطاب لليهود يبين الله نعمه عليهم {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]
كل قبيلة علمت العين التي لها، حتى لا يحصل نزاع ولا شقاق، قال الله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60].
أمرهم الله أن يأكلوا من المن والسلوى، وأن يشربوا من هذا الماء، وأن يشكروا الله على نعمه ويعبدوه ويخلصوا له العبادة، فمن شكر زاده الله من النعم، وأعقبه العاقبة الحسنة، ومن كفر سُلِبَت منه النعم.
وهذا عظة وعبرة للأبناء والأحفاد من بني إسرائيل، ليعتبروا ويشكروا الله على نعمه، وفيها عظة وعبرة لهذه الأمة، وبيان عاقبة الشاكرين، وأن من شكر نعمَ الله فإنها تبقى، ومن كفرها سُلب مع ما وعده الله من العقوبة، سلبت النعم مع ما وعده الله من العقوبة في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
*****
([1]) صحيح البخاري برقم (4478) ومسند أحمد (1/187) .
([2]) سنن الترمذي برقم (3013).
([3]) يوشع بن نون فتى موسى الذي ذكر في الرحلة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } [الكهف:60] كافأه الله بعد ذلك، صار نبيًا، وحُبست له الشمس ليلة السبت حتى فتح بيت المقدس.
([4]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/615) والمسند (3/105) وسنن النسائي الكبرى برقم (11141) ومسند أبي يعلى الموصلي (6/407).
([5]) صحيح البخاري برقم (4479) .
([6]) سنن النسائي الكبرى برقم (10989 و10990).
([7]) صحيح البخاري برقم (4641) وصحيح مسلم برقم (3015) وسنن الترمذي برقم (2956).
([8]) رواه البزار في مسنده برقم (3289) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (4/192) من طريق أبي مالك الأشجعي عن نافع عن أبيه به.
([9]) سنن النسائي الكبرى برقم (7523).
([10]) صحيح البخاري برقم (5728) وصحيح مسلم برقم (2218).
([11]) تفسير الطبري (2/116) وينظر: صحيح البخاري برقم (3473، 6974) وصحيح مسلم برقم (2218).
([12]) تقدم تخريجه.