** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأعراف:171] فالطور هو الجبل، كما فسره به بالأعراف، ونص على ذلك ابن عباس، ومجاهد، وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس، وغير واحد، وهذا ظاهر.
وفي رواية عن ابن عباس: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور.
وقال الحسن في قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} يعني: التوراة. وقال مجاهد: {بقوة} بعمل بما فيه.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} يقول: اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ} يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ} أي: بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.
(التفسير)
في هذه الآية يذكر الله تعالى بعض تعنتات بني إسرائيل، وعنادهم وعتوهم وجبروتهم، وذلك أن الله تعالى أخذ عليهم العهد والميثاق أن يعملوا بالتوراة وأن يتابعوا الأنبياء، فتلكئوا وتباطئوا فرفع الله الجبل فوق رؤوسهم، هو جبل الطور، كما قال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}، وصار الواحد منهم ينظر إلى الجبل يخشى أن يسقط عليه.
قيل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} بحزم وعزم وقوة ونشاط ونفذوا أحكام التوراة واذكروا ما فيها أي اعملوا بما فيها ونفذوا أحكامها، {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، يعني لأجل أن تتقوا، لعل ليست للترجي، ولكن للتعليل والمعنى: لكي تتقوا، يعني إن عملتم بالتوراة ونفذتم أحكامها، وعملتم بما فيها، فأنتم من المتقين.
قال الله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، ثم تولوا بعد هذا بعد ما رأوا من هذه الآية، وأن الجبل رفع فوقهم، {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} تولوا وأعرضوا، ثم قال سبحانه: {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، لولا أن الله رحمكم وامتنَّ عليكم، وأرسل الأنبياء لهلكتم حينما توليتم عن أمر الله، وعن امتثال أمر الله تعالى، ومتابعة رسله.
وفي هذا الآية تحذيرٌ لهذه الأمة أن تسلك مسلك بني إسرائيل، وتتولى وتعرض عن طاعة الله، وتترك العمل بالقرآن وبالسنة، فهذا تحذيرٌ لهذه الأمة، أن يصيبهم ما أصابهم، فإن من ترك أوامر الله، واجترأ على محارم الله يكون خاسرًا، وفي هذا بيانٌ لهذه الأمة، وحثٌ لها على العمل بكتاب ربها، وسنة نبيها، لئلا تكون من الخاسرين، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
ففي هذه الآية بيان ما وصل إليه بنو إسرائيل من العتو والعناد، فأنبياوهم بينهم ومع ذلك يسلكون هذه المسالك، يرفع الجبل فوقهم، ثم يتولون بعد ذلك.
وفيه دليل أن التولي والإعراض عن طاعة الله من أسباب الخسران والهلاك.
وفيه تحذير من التولي والإعراض عن طاعة الله.
وفيه الحث على متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والعمل بالقرآن وبالسنة، وأن من تولى وأعرض فهو خاسر.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} يا معشر اليهود، ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت.
فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة.
فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم.
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول تعالى:
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163] القصة بكمالها.
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.فجعل الله منهم القردة والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير.
وقال شيبان النحوي، عن قتادة: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. فصار القوم قرودًا تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالًا ونساء.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فُوَاقًا ثم هلكوا. ما كان للمسخ نسل.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ الله هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء. ويحوله كما يشاء.
(التفسير)
القردة والخنازير الموجودة أمة من الأمم، فالقردة أمة، والخنازير أمة، والكلاب أمة، والقطط أمة، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}[الأنعام:38]، وأما الذين مسخوا من بني إسرائيل فهؤلاء ما عاشوا ولا أنسلوا، فالممسوخ لا يعيش، ولا ينسل، لكن مسخوا على صورة قردة، أما القردة الموجودة والخنازير الموجودة فهذه أمة من الأمم، حيوانات خلقها الله من قديم الزمان.
أما بنو إسرائيل الذين عصوا فمسخهم الله على صورهم، ثم ماتوا، وأما هذه القردة والخنازير التي تتناسل فهي أمم من الأمم، حيوانات خلقها الله من قديم الزمان، قبل مسخ هؤلاء ([1]).
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا} أي: فجعل الله هذه القرية، والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم نَكَالًا أي: عاقبناهم عقوبة، فجعلناها. عبرة، كما قال الله عن فرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25].
وقوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي من القرى. قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأحقاف: 27] فجعلهم عبرة ونكالًا لمن في زمانهم، وَمَوْعِظَةً لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما روى الإمام أبو عبدالله بن بطة عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وهذا إسناد جيد، والله أعلم.
(التفسير)
في هذه الآيات خطاب لبني إسرائيل الموجودين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطاب لليهود يذكرهم الله بما فعل بآبائهم وأجدادهم الذين عصوا أوامر الله، وتجرءوا على محارم الله، وتجاوزوا الحد في السبت، وأنهم مسخوا قردة وخنازير، هو تحذيرٌ لهم ولهذه الأمة، أن تسلك مسالكهم فيصيبهم ما أصابهم، ولهذا قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} أيها اليهود الذين اعتدوا منكم في السبت، وهم آباؤكم وأجدادكم في السالف من الزمان، والذين اعتدوا في السبت أهل قرية، وهذه القرية حرم الله عليهم اصطياد الحوت في يوم السبت، وكان يوم السبت يوم يعظمونه حرم الله عليهم اصطياد الحوت بسبب عتوهم وعنادهم حرمه الله.
التحريم تحريم اصطياد الحوت في هذا اليوم عقوبةً لهم، وكانوا حول البحر، بجوار البحر ولا يصبرون عن السمك، تعودوا أكله، وهم يسكنون حول البحر، منذ نشأتهم وهم يأكلون السمك، ويشتهون السمك، فحرمه الله عقوبةً لهم يومًا واحدًا، لا يأكلوا السمك، وهو يوم السبت، وأباح لهم أكله في بقية الأيام ستة أيام، ولكن من ابتلاء الله لهم، أن السمك لا يأتي في بقية الأيام، ولا يأتي إلا في يوم السبت، هذا ابتلاء وامتحان، فحرم الله عليهم هذا الحوت يوم السبت.
فصبروا مدة، ثم تجرءوا على محارم الله، لم يصبروا لما طال عليهم الأمد، قالوا :كيف نترك السمك، فتحيلوا وجعلوا الشصوص والحبائل، والشَّرك، ونصبوها للحوت، فلما جاءت يوم السبت دخلت في هذه الشصوص والحبائل وأمسكتها، فإذا انتهى يوم السبت أخذوها يوم الأحد أو ليلة الأحد، وقالوا: لم نصطد يوم السبت بل صدنا يوم الأحد، وهذه حيلة من الحيل.
هم وضعوها يوم الجمعة، وضعوا الشصوص والحبائل يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسكتها الحبال يوم السبت، ويأخذونها يوم الأحد، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»([2])، هذه من الحيل.
ومن الحيل أيضًا التي ارتكبها اليهود أن الله لما حرم عليهم الشحوم، شحوم بهيمة الأنعام تحيلوا، فأخذوا الشحوم وأذابوها، وباعوها وأكلوا ثمنها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ جَمَلُوهَا, ثُمَّ بَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»([3])، هذه حيلة إن الله حرمها، كونهم يذيبون الشحم ويصير دهن ويبيعونه هذا هو هو، ما تغير، وكذلك هؤلاء لما تحيلوا على أمر الله وجعلوا الشصوص والحبائل يوم الجمعة، فتصيد يوم السبت، ويأخذونها يوم الأحد هذا من التحيل، على محارم الله، ولهذا قال النبي مخاطبًا هذه الأمة: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»([4]).
فلما فعلوا ذلك نزلت بهم العقوبة، وكان عندهم طائفتان:
طائفةٌ نهتهم وحذرتهم وقالت هذا منكر، هذا حرام عليكم، هذا حيلة على محارم الله، احذروا غضب الله واحذروا عقوبته ونقمته، فلم يسمعوا لهم.
وطائفة سكتت وقالت: هؤلاء قومٌ هلكى اتركوهم ما يفيد فيهم الوعظ، ولا ينجع فيهم الوعظ.
فقالت الطائفة المنكرة في بيان فائدة الوعظ، أولًا: نستفيد نحن الآن، نخرج بعذر أمام الله، ونؤدي ما أوجب الله علينا، وثانيًا: لا نيأس لعلهم يتقون.
فلما جاء العذاب أصاب الطائفة التي فعلت المنكر ومسخهم الله قردة وخنازير، نعوذ بالله، مسخ شبابهم قردة، وشيوخهم خنازير، وذلك أن القردة تشبه الإنسان في الصورة، في الظاهر وتخالفه في الباطن، وهذه عقوبة من جنس عملهم؛ لأنهم تحيلوا؛ فهم في الظاهر أنهم ما صادوا يوم السبت، وإنما أخذوه يوم الأحد، لكن في الواقع أنهم نصبوا الشباك يوم الجمعة، وأنها تصيد يوم السبت، الواقع أنها صادت يوم السبت، ففي الواقع هم في الظاهر أنهم ما صادوا بل أخذوا يوم الأحد، وفي الباطن أنها صادت يوم السبت.
فعوقبوا من جنس عملهم، مسخوا قردة؛ لأن القردة في الظاهر تشبه الإنسان وفي الباطن على خلاف ذلك.
وفي هذه الآيات دليل على أن الجزاء من جنس العمل، قال الله تعالى حينما بسط هذه القصة في سورة الأعراف: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163]، ابتلاهم بسبب فسقهم.
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}[الأعراف:164]، قالوا ما في فائدة، {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164].
قال الله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165]، فيه دليل على أن من ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف ينجو، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166]، قلنا لهم يعني قولًا قدريًا، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ} [البقرة:65] فقلنا لهم، يعني قلنا لهم قولًا قدريًا {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.
والقول القدري لا يتخلف، أما القول الشرعي مثل: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51]، هذا قول شرعي، ولهذا بعض الناس اتخذ إلهين اثنين، أما القول القدري فلا أحد يتجاوزه، والقول الشرعي يتجاوزه الفاسق والكافر.
وفي هذه الآيات من الفوائد: تحريم الحيل، وأن الحيلة لا تحل المحرم.
وفيها دليل: على أن الجزاء من جنس العمل، وأن من عمل شيئًا جزاه الله من جنس عمله، فإن الله عاقب اليهود من جنس عملهم.
وفيها دليل: على وجوب إنكار المنكر، وفيه دليل على أن من أنكر المنكر فإنه ينجو، كما قال: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}، فينجيه الله.
وفيه: أن العقوبات تصيب فاعل المنكر، ولابد.. وأما الساكت يعني الطائفة الساكتة فقد سكت الله عنها، والناجية أخبر الله أنها نجت، والفاعلة أخبر الله أنها هلكت، والساكتة سكت الله عنها.
وفيه: فضل أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على الأمم السابقة، فإن بني إسرائيل لما صار عندهم السمك ولم يصبروا عنه، حرمه الله عليهم، وأما أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الله حرم عليهم لما أحرموا الصيد، وكان الصيد عندهم يتناولونه ويستطيعون أخذه، لكنهم صبروا فظهر فضل أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على غيرهم.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94]، فالصحابة لما أحرموا كان الصيد يتناولونه عندهم أمامهم أرانب وغيرها، فصبروا ولم يرتكبوا محارم الله، ولهذا قال: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}، أي يستطيع صيده بالرمح، ويستطيع أخذه باليد ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ}، بلوى ابتلاء.
وهنا بنو إسرائيل بلاهم، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، ابتلي بنو إسرائيل فلم يصبروا، وابتلي أصحاب محمد فصبروا، فظهر فضل أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- على غيرهم، فقال في بني إسرائيل: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، وقال لأصحاب محمد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ومن الحيل المحرمة قلب الدين على المعسر وهذا من الحيل على الربا، الذي يفعله بعض الناس ، كيف يتحيل على الربا؟ شخص يطلب من شخص عشرة آلاف فإذا حل الدين لا يستطيع الوفاء فيقول صاحب الدين: أزيد عليك الدين، فهذا ربا صريح.
وبعض الناس يتحيل يقول: أعطيني دينًا عشرة آلاف، قال: ما عندي شيء، قال: أبيعك سيارة، تبيعها وتوفيني علي الدين الأول، ويبقى الدين الثاني، هذه حيلة من الحيل المحرمة على الربا وهي قلب الدين على المعسر، وذلك أن الإنسان إذا كلف دين على شخص، ثم حل الدين، ولا يستطيع وفاءه، يقلب عليه الدين، كأن يبيع عليه سلعة أخرى.
قال: أعطني الدين، قال: ما عندي شيء، أنا فقير معسر، قال: أبيع عليك، أبيع عليك سلعة، أبيع عليك سيارة، فيبيع عليه سيارة مؤجلة، إذا كانت تساوي عشرين، يبيعها بخمسة وعشرين، أو يبيعها بثلاثين مؤجلها، ثم يقول: بعها في الحال، فيبيعها بعشرين، واشتراها بخمسة وعشرين، وهو عليه عشرون، فيوفي الدين الأول، ويبقى عليه الدين الثاني بزيادة، ثم إذا حل الدين، قال: أعطني ديني، قال: ما عندي شيء، قال: أبيعك سلعة أخرى، وهكذا فيتضاعف الدين على المدين. وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فهذا من الحيل المحرمة، .
ففي هذه الآيات تحريم الحيل.
وفيها فضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأمم السابقة، فإن الله ابتلى بني إسرائيل بالحوت يوم السبت، فلم يصبروا وارتكبوا محارم الله، وابتلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أحرموا بالصيد تناله أيديهم ورماحهم فصبروا، {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. يعني قلنا لهم قولًا قدريًا، كونوا قردة أذلة، وقول الله القدري لا يتخلف، فكانوا في الحال قردة خاسئين أذلة، وأما قول الله الشرعي فيتخلف عند بعض الفساق والعصاة، {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ }، فالمشركون عبدوا إلهين اثنين خالفوا قول الله الشرعي، ولكن لا يستطيع أحد أن يخالف قول الله القدري، فقول القدري مثاله: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، ومثال قول الله الشرعي: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}.
والأمر يكون أمرًا شرعيًّا، ويكون أمرًا قدريًّا:
فالأمر الشرعي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:58].
والأمر القدري مثل قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}[الإسراء:16]، يعني أمرًا قدريًا، يعني قدرنا عليها {فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16].
فالقول يكون قدريًّا، ويكون شرعيًّا، والأمر يكون شرعيًّا وقدريًّا، والإرادة تكون شرعية وقدرية وهكذا، والتحريم يكون شرعيًّا ، وقدريًّا :
التحريم الشرعي: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء:23].
والتحريم القدري: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}[القصص:12]، تحريم المراضع، {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}[الأنبياء:95] هذا تحريم قدري، وهكذا.
قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66]، يعني جعلنا هذه القرية التي مسخت نكالًا وعبرة.
وفيه: أن العقوبات فيها عبرة للأمم، فعقوبات المكذبين فيها عبرة للأمم الحاضرة، والأمم اللاحقة، فجعل الله مسخ هؤلاء عبرة للأمم الحاضرة المجاورة في زمانهم، وجعلها موعظةً لمن يأتي بعدهم.
قوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}، موعظة وزاجرًا للمتقين، فالمتقون هم الذين ينتفعون بالمواعظ والعبر {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} ما أمامها وما خلفها من الأمم، {لما بين يديها} لما قبلها، {وما خلفها} يعني ممن يأتي بعدها، وموعظةً للمتقين.
والحيل المحرمة هي التي يرتكب بها ما حرم الله ، أما الحيل التي ليس فيها انتهاك لمحارم الله، فهذه وإن سميت حيلًا، لا تكون ممنوعة، إذا لم يكن فيها ارتكاب لمحارم الله، فكونه يحتال فيفعل أمرًا مباحًا لا محذور فيه، فلا بأس به.
فكونه يفعل شيئًا ما يتحيل به لأمر مباح لا شيء فيه وله أمثلة تظهر عند التأمل، قد يكون هناك شيء محرم، ثم يسلك المرء طريقًا آخر، فيكون حلالًا، وهذا يتحيل على أن يتزوج فلانة، يتزوجها زواجًا شرعيًّا فهذا قد يكون من الحيل المباحة، يعمل حيلًا مثلًا، قد تكون مثلًا إذا خطبها مباشرة لا تقبله، فإذا أرسل رسولًا قبلته فتكون هذه من الحيل المباحة الشرعية.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
يقول تعالى: واذكروا -يا بني إسرائيل- نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم.
روى ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله[5] ثم احتمله ليلًا.
فقتله ثم احتمله ليلًا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى، عليه السلام.
(التفسير)
هذا ابن أخيه قتله، وجعله على باب أحدهم، ثم جاء في الصباح، جاء يطالب قال: أنتم قتلتم عمي، أنتم الذين قتلتموه، فقالوا: ما قتلنا، فقال: بل قتلتم، فحملوا السلاح ليتقاتلوا، ثم قال بعضهم: لما تتقاتلون، اذهبوا إلى نبيكم موسى واسألوه.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى، عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبًا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه. ثم مال ميتًا، فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد.
ورواه ابن جرير بنحو من ذلك، والله أعلم.
(التفسير)
هذه من أخبار بني إسرائيل، والقصة واضحة في أنه قتل قتيل منهم فلم يعلموا من قتله، فأمرهم الله على لسان نبيهم أن يذبحوا بقرة، ويضربوه ببعضها، فيحييه الله فيخبرهم بقاتله، أما كونه قتله ابن أخيه وكونه كذا، وأنه أخذ من ملء جلدها ذهبًا، فالله أعلم بصحة هذا كله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة:68-71].
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. لهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، فقالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هذه البقرة؟ وأي شيء صفتها؟
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي: لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني ووهب بن منبه، والضحاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عباس أيضًا.
وقال الضحاك، عن ابن عباس {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} يقول: نَصَفٌ بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون.
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض.
وقال السدي: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي: تعجب الناظرين وكذا قال أبوالعالية، وقتادة، والربيع بن أنس.
وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وفي التوراة أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأٌ في التعريب، أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}، أي: لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلَّها {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ} إذا بينتها لنا {لَمُهْتَدُونَ} إليها.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي أنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية، بل هي مكرمة حسنة.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة {مُسَلَّمَةٌ} يقول: لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد {مُسَلَّمَةٌ} من الشية.
وقال عطاء الخراساني: {مُسَلَّمَةٌ} القوائم والخلق {لا شِيَةَ فِيهَا}.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} قال الضحاك، عن ابن عباس: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها. يعني: أنَّهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها.
وقال عبيدة، ومجاهد، ووهب بن منبه، وأبو العالية، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف.
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمات بيان قصة البقرة، وذلك أن بني إسرائيل في زمن موسى -عليه الصلاة والسلام- قتل لأحدهم قتيل ولم يعلموا من قتله، فاختلفوا فيما بينهم حتى أدى ذلك إلى القتال، فسألوا نبيهم موسى -عليه الصلاة والسلام- أن يسأل ربه أن يخبرهم من القاتل، فأوحى الله إلى نبيه موسى وقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} اذبحوا بقرة، وخذوا شيئًا من لحمها واضربوا به القتيل، فيحيه الله فيخبر بمن قتله، ثم يرجع ميتًا كما كان، فاستنكروا ذلك وتعجبوا.
{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} تستهزئ بنا، كيف نذبح بقرة، نحن نسألك الآن نقول: أخبرنا من القاتل، تقول لنا اذبحوا بقرة، وهذا من تعنتات بني إسرائيل على نبيهم، {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} تستهزئ بنا، تسخر منا تقول اذبحوا بقرة.
فقال موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، أعوذ بالله أن أكون جاهلًا؛ لأن الساخر جاهل، كيف أخبركم عن الله، إن الله يأمركم أن تذبحوا، وتقولون أتتخذنا هزوًا، وفي هذه الآية دليل على مبلغ عتو بني إسرائيل، وعنادهم، فنبيهم موسى الكليم أحد أولي العزم، يخبرهم عن الله أنهم يذبحوا بقرة، ثم يخاطبون نبيهم بهذا الخطاب، يقولون: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} تستهزئ بنا، كيف يتجرءون على أن يقولوا لنبيهم هذا الكلام؟!
وهو نبيٌ كريم وكليم الله يخبرهم عن الله، ثم يقولون أتسخر منا، وتستهزئ بنا، فقال لهم: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
ففيه دليل: على أن الجاهل يحمله جهله على العظائم، ولهذا استعاذ نبي الله من الجهل، قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، الجهل داءٌ قاتل يوصل الإنسان إلى ما لا تحمد عقباه؛ حيث أنهم من جهلهم تجرءوا على نبيهم، وقالوا أتتخذونا هزوًا، هذا من جهلهم.
وفي هذه الآية الكريمة: تحذير هذه الأمة من الاعتراض على أمر الله، والاعتراض على ما جاء من عند الله، فإن بني إسرائيل اعترضوا على أمر الله، وهذا من جهلهم وضلالهم ولهذا استعاذ نبي الله من الجهل، قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
الملف الصوتي رقم (11)
وهذا من جهلهم وضلالهم، ولهذا استعاذ نبي الله من الجهل؛ فقال: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}؛ ثم بعد ذلك اطمأنوا إلى البقرة، ولو أخذوا أي بقرة ثم ذبحوها وأصابوا القاتل بشيء منها لكان كافيًا لهم، ولكنهم تعنتوا وشددوا في الأسئلة، فشدد الله عليهم.
ففيه: التحذير من التشديدات؛ والتحذير من الأسئلة التي يراد بها التعنت، فإنها يعود وبالها على أصحابها، ولذا قال I: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101]، وهذه من الأسئلة التي ينبغي تركها، ولو تركوها لكان خيرًا لهم؛ لو أخذوا أي بقرة وذبحوها كان كافيًا؛ قال لهم نبيهم: إن الله أمركم أن تذبحوا بقرة؛ لو امتثلوا لأمر الله وذبحوا بقرة وضربوه ببعضها لكفى وانتهى الأمر، لكنهم تعنتوا وشددوا وسألوا أسئلة تعنت، فشُدد عليهم؛ {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] بقرة وسط لا بكر لم يطرقها الفحل، ولا هرمة، بل هي متوسطة بين الكبيرة وبين الصغيرة.
في أول الأمر لو أخذوا أي بقرة كبيرة أو صغيرة، طرقها الفحل أو لم يطرقها كفاهم – لكن لما جاء السؤال شُدد عليهم، متى يبحثون؟ يبحثون عن البقرة التي اتصفت بهذا الوصف، ثم لم يكتفوا بهذا؛ فقالوا: البقر كثير، ما ندري ؛ هل هي حمراء أم صفراء أم بيضاء؟ ما ندري أي بقرة! {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69]؛ فقال لهم: صفراء فاقع لونها من شدة الصفر، تسر الناظرين.
ولو أخذوا أي بقرة في أول الأمر سوداء أو حمراء أو أو بيضاء أجزأهم، لكن لما شددوا صار لا يُجزئهم إلا البقرة الموصوفة بهذا الوصف؛ ثم قال لهم: بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين؛ ثم لم يكتفوا بهذا الحد، فسألوا سؤال تعنت {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] البقر كثير وتشابه علينا، ما ندري نوع البقرة؟ اسأل ربك يحدد لنا نوعيتها؛ هل هي بقرة تسني أم تحرث أم لا تحرث وهل هي مكرمة؟ لا ندري أي بقرة التي نذبحها؛ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71]، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] .
قال بعض السلف: لو لم يقولوا: {وإنا إن شاء الله لمهتدون} لما امتثلوا، لكنهم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، وفيه الدليل على تعليق المشيئة بالله؛ فقال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف:24].
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]: ليست مذللة تحرث الأرض؛ كالبقرة التي ذُللت على الحراثة، ولا بقرة تسني؛ أي تخرج الماء من البئر، بل هي لا هذا ولا هذا، بل هي بقرة مكرمة ليست مذللة تثير الأرض ولا تسقي الحرث؛ بل هي مكرمة معززة مربوطة مسلمة لا شية فيها فقالوا: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}؛ قال الله: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} بعد هذه الأوصاف؛ لأنهم لولا أنهم قالوا: إن شاء الله، وإنا شاء الله لمهتدون لما اهتدوا.
في هذه الآيات الكريمات التحذير من التعنتات، والتحذير من الأسئلة التي لا يراد منها الفائدة، ولهذه فإن الأسئلة التي يسألها المستفتي يُنهى عنها إذا كانت على وجه التعنت، أو الإيذاء للمسؤول، أو إيقاعه في العنت والحرج، أو للرياء والسمعة من السائل؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101].
في هذه الآيات: التحذير من التعنت على الأنبياء، والتحذير من الاعتراض على شرع الله أو على أوامر الله كما فعلت بنو إسرائيل.
وفيه: تعليق الأمر بالمشيئة {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}.
وفيه: أن الواجب على المسلم أن يمتثل لأمر الله، ولا يعارض أو يعترض عليه، ولا يسأل عن تفاصيل لم تُطلب منه؛ فإن الله تعالى قص علينا هذه القصة ليحذرنا من أفعالهم وتعنتاتهم واعتراضهم على نبيهم.
{قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] الآن وضحت، فطلبوا هذه البقرة بهذه الأوصاف فصارت قليلة في البقر: متى توجد البقرة متوسطة لا بكر ولا عوان، ووصفها صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، ووصفها أنها ليست مذللة للحراثة ولا للسقي، بل هي مكرمة، متى توجد هذه؟
وفي هذه القصة - في قصة بني إسرائيل - أنهم وجدوا هذه البقرة، لكن من أخبار بني إسرائيل أنهم وجدوها عند رجل بار بأمه؛ لم يجدوها عند غيره بهذه الأوصاف، فساوموه فامتنع من بيعها، حتى اتفقوا معه على أن يكون ثمنها ملء جلدها ذهبًا؛ يسلخونها ثم يبيعون الجلد بالذهب، لأنهم مضطرون إلى هذه البقرة، ولم توجد عند غيره؛ وهذا من تشدداتهم وتعنتاتهم؛ ولو أخذوا أي بقرة لأجزأتهم، لكن شددوا فشدد الله عليهم.
ففيه التحذير من التشديد والتعنتات وأن الجزاء من جنس العمل، ومن شدد شُدد عليه، ومن امتثل أمر الله يسر الله أمره وأعانه على أداء ما أوجبه عليه.
*****
([1]) وفي الحديث عن أم حبيبة أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا، فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ» . رواه مسلم (2663).
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَهُمْ مِنْ نَسْلِ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَلْعَنْ قَوْمًا قَطُّ فَمَسَخَهُمْ فَيَكُونُ لَهُمْ نَسْلٌ وَلَكِنْ هَذَا خَلْقٌ كَانَ، فَلَمَّا غَضِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْيَهُودِ فَمَسَخَهُمْ جَعَلَهُمْ مِثْلَهُمْ» راوه الطيالسي (305).
([2]) حديث ضعيف أخرجه ابن بطة في "إبطال الحيل" (رقم 42).
([3]) أخرجه البخاري (2223) ومسلم (1582) من حديث عمر رضي الله عنه.
([4]) حديث ضعيف أخرجه ابن بطة في "إبطال الحيل" (رقم 42).
([5] ) قال الشارح حفظه الله: قتله ليأخذ المال، وكان عقيمًا ليس له أولاد بل أقرب العصبة له ابن أخيه، فطال عليه الأمد فقتله، حتى يأخذ ماله.