** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} أي: بذلك؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده.
ولكن هذا ما جرى ولا كان. ولهذا أتى بـ«أم» التي بمعنى: بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
وقال العَوْفي عن ابن عباس: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة ، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدَوَيْه عن أبي هريرة، قال: لما فتحت خيبر أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم[1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا» فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أبوكم؟» قالوا: فلان. قال: «كذبتم، بل أبوكم فلان». فقالوا: صدقت وبَرِرْت، ثم قال لهم: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟». قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهل النار؟» قالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا».
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟». قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟». فقالوا: نعم. قال: «فما حملكم على ذلك؟». فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لم يضرك .
ورواه أحمد، والبخاري، والنسائي بنحوه .
الملف الصوتي رقم (12)
(التفسير)
وهذه فيه مبلغ عتو اليهود وعنادهم وتكذيبهم؛ وفي هذه الآيات الكريمة: بيان مقالة اليهود وافترائهم على الله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:80].
وهي على ما يزعمون: مدة عبادتهم العجل -أربعون يومًا-، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: «مَن أهل النار؟» ـ قالوا: نمكث فيها يسيرًا مدة عبادتنا للعجل ـ، ثم أنتم تخلفوننا بعدَنا في النار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتم، اخسئوا فلن نخلفكم –والله-فيها أبدا، أنتم أهل النار»([2])، وأمَّا نحن فموحِّدون ، فقولهم: لن تمسنا النار، من التمني، ومن الكذب والافتراء على الله، ولذلك ردَّ الله عليهم بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80]، و(أم) هنا بمعنى: بل، فالله –سبحانه وتعالى- حاجَّهم وجادلهم، والمعنى: هل عندكم عهد من الله؟، فإن كان عندكم عهد من الله فإن لله لا يُخلف عهده، ولكن ليس الأمر كذلك، بل إنما أنتم تكذبون، ففي هذا: بيانٌ لمقالتهم وتكذيبه لهم حيث قالوا {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة:80] افتراءً على الله.
وفيه: التحذير من صفات اليهود وافتراء الكذب على الله، وذلك من أعظم الكفر والضلال، وفيه: التحذير من الكذب وأنه من صفات اليهود،- نسأل الله العافية والسلامة-
فائدة: اليهودية التي سمَّت النبي صلى الله عليه وسلم تسمى: زينب([3])، حيث جعلت له سُمًّا في الطعام وأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكل معه أحد الصحابة فمات، أما النبي صلى الله عليه وسلم فتأخرت وفاته بثلاث سنوات بعد هذا السم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}.
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهذا من أهل النار، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات -من العمل الموافق للشريعة-فهم من أهل الجنة.
وهذا المقام شبيهٌ بقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123، 124].
وقال أبو هريرة، وأبو وائل، وعطاء، والحسن: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قالوا: أحاط به شركه([4]).
وقال الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وعن السدي، وأبي رزين، نحوه([5]).
وقال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، في رواية عنهم، وقتادة، والربيع بن أنس: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الموجبة الكبيرة([6]).
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»([7]). وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهُنَّ مثلًا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها([8]).
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله أبدًا، لا انقطاع له([9]).
(التفسير)
وفي هذه الآيات الكريمات: إثبات الجنة والنار وأنهما مخلوقتان دائمتان لا تفنَيان، ففيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إنهما معدومتان الآن وإنما يُخلقان يوم القيامة؛ لأن وجودهما بلا جزاء عبث، والعبث محال على الله، هكذا يزعمون!
وهذا من جهلهم وضلالهم، لأنَّ أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار، فالعصاة يعذَّبون، ويفتح لهم باب إلى النار، وكذلك يفتح باب إلى الجنة للمطيعين.
وفيه: دليل على أن المشرك مخلَّد في النار، ولهذا قال تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة:81] وهذه سيئة الشرك، بدليل قوله: {وأحاطت به خطيئته} فالمشرك ليست له حسنة، فدلَّ ذلك على أن الشرك محبط للأعمال وأن صاحبه مخلد في النار.
أما المعاصي التي دون الشرك فلا يخلد صاحبها في النار، لأنها تضعف الإيمان ولا تقضي على عليه، أما سيئة الشرك فهي تقضي على الإيمان، ولهذا قال تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، وفيه: أن الجنة أعدها الله للمؤمنين الموحِّدين، لقوله:{والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82] فأهل الجنة هم أهل الإيمان والتوحيد، الذين آمنوا بالله ورسوله وصدَّقوا إيمانهم بالعمل، فآمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم وتصديقهم بالعمل، لأنَّ العمل يصدق ما في القلب، وما في القلب يتحقَّق بالعمل، ولهذا لابد من أمرين: تصديق بالباطن، وعمل في الظاهر، والتصديق الذي في الباطن يتحقق بالعمل، والعمل الذي في الظاهر يصححه الإيمان الباطن، ولهذا قال {والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82] فليس هناك إيمان ولا توحيد إلا بعمل، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون؛ لأن إبليس وفرعون يصدقان بقلوبهما ولكن ليس عندهما عمل يتحقق به ذلك التصديق، كما أن المنافقين يعملون -يصلون ويصومون -ولكن ليس عندهم إيمان يصحح عملهم، فالعمل في الظاهر لا بد له من إيمان يصححه، وإلا صار كأعمال المنافقين، والتصديق الذي في الباطن لا بد له من عمل يتحقق به، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، ولهذا قال تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82] فجمع بين أمرين: إيمان في الباطن وعمل في الظاهر.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}.
يُذكِّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى، أن يُعْبَد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية إلى أن قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 23-26] .
[1] قال الشارح حفظه الله: هي مثلثة؛ فجائز بثلاثة أوجه: سَم، سُم، سِم.
([2]) جزء من حديث أخرجه البخاري (3169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قلت: هذا اللفظ لم أجده في شيء من كتب السنة، واللفظ الوارد في الحديث: «من أهل النار؟»، قالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا».
([3]) ينظر: دلائل النبوة للبيهقي (4/263)، وفتح الباري (1/286).
([4]) ينظر: تفسير ابن أبي حاتم (827).
([5]) المصدر السابق.
([6]) المصدر السابق.
([7]) أخرجه الطيالسي (400)- ومن طريقه البيهقي في الكبرى (10/188)، وفي الشعب (281)- وأحمد (3818)، والطبراني في المعجم الكبير (10500)، وفي الأوسط (2529) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2687)، وقال في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره.
ولفظ الطيالسي والطبراني في الأوسط: «محقرات الأعمال».
([8]) تكملة الحديث السابق وهو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
([9]) جامع البيان (2/187)، وتفسير ابن أبي حاتم (832).