** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}.
[كانت اليهود تنتظر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث كفروا به]
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ} يعني اليهود {كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو: القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} يعني: من التوراة، وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يَهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته. فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورأوا أنه من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
قال مجاهد: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه .
وقال السدي: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يقول: باعوا به أنفسهم، أي: بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أُنْزِل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه ومؤازرته ونصرته. وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ولا حسد أعظم من هذا. {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فالغضب على الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم .
قلت: ومعنى {فَبَاءُوا} استوجبوا، واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب. وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.
وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين.
وقد روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّرِ في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم، يقال له: بُولَس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النار»([1]).
(التفسير)
في هاتين الآيتين الكريمتين بيان ما عليه اليهود من الكفر الغليظ، وأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد العلم واليقين بأنه رسول الله، وأن هذا النبي الكريم جاء بالقرآن ومصدق لما معهم من التوراة وهم يعلمون ذلك، وكانوا قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفتحون؛ يستنصرون على الأوس والخزرج إذا غضبوا عليهم وقالوا هذا أوان نبي سوف يبعث ثم نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فاستفاد الأوس والخزرج استفادوا منهم، فلما بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم بادروا بالإيمان به وقاتلوا اليهود هم.
ولهذا قال: {ولَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} وهي التوراة يوافقها ويؤيدها؛ لأن كتب الله يؤيد بعضها بعضًا متوافقة، وكانوا من قبل يستفتحون {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ} وفي هذا: دليل على أن بني إسرائيل كفرهم غليظ والعياذ بالله، فهم مغضوب عليهم لأنهم كفروا بعد العلم وليس من يعلم كمن لا يعلم، فكفرهم كفر عناد واستكبار، فيه التحذير من أخلاقهم الذميمة.
قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} ذم الله تعالى صنيعهم، {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، بئس، يعني؛ ذم لهم، ذم لحالهم، حيث اعتاضوا لأنفسهم ورضوا لأنفسهم بالكفر، بدلًا من الإيمان بالله ورسوله، والعياذ بالله، {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} والذي حملهم علي ذلك البغي والحسد، {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه}، البغي والحسد والكبر والعياذ بالله، حسدوا العرب أن كان النبي منهم، وكانوا يتوقعون ويظنون أن يكون النبي من بني إسرائيل، فلما كان من بني إسماعيل، من العرب كفروا عن عناد وبغي وحسد، وهذا أعظم الكفر.
والكفر يتفاوت فهم كفروا بأنفسهم وصدوا عن سبيل الله، كما قال {الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}.
{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} يعني استحقوا وأصابهم هذا الغضب على غضب، والغضب الأول أنهم لم يعملوا بالتوراة وأحكامها، والغضب الثاني كفر بنبيه صلى الله عليه وسلم بعد معرفتهم به، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وهم أمة الغضب، وهم المغضوب عليهم نسأل الله العافية معهم علم ولم يعملوا به، ولهذا من فسد من علماء هذه الأمة ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عُبادها ففيه شبه بالنصارى.
في هذه الآية: التحذير من أفعال بني إسرائيل وفيه الحث على الإيمان، والتحذير من التكذيب والكفر والتحذير من العناد والاستكبار والبغي.
وفيه: أن {ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يعني عذاب يهينهم ويخزيهم ويذلهم.
وفيه: دليل على أن الجزاء من جنس العمل، فلما كان عملهم الكبر والبغي والحسد، كان عذابهم الإهانة والذل والحقار والصغار، فالجزاء من جنس العمل فالمؤمنون الذين تواضعوا لله وخضعوا له وذلوا له سبحانه وتعالى أكرمهم الله لهم الكرامة والكفار الذين تكبروا عن عبادة الله وحسدوا واتصفوا بالحسد والبغي لهم الإهانة والصغار والذل ولهذا قال {ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا يُحشر المتكبرون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم جزاء لعملهم، لما كانوا يتكبرون ويترفعون عن الناس ويرون أنهم فوق الناس عوقبوا من جنس عملهم فصاروا حقيرين ذليلين يطؤهم الناس بأرجلهم نسأل الله السلامة والعافية.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}.
[دعاء اليهود الإيمان مع كفرهم بالحق]
يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي: على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نُقِرُّ إلا بذلك، {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يعنى: بما بعده {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أي: وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الحق {مُصَدِّقًا} منصوبًا على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] ثم قال تعالى: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنُزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيًا وعنادًا واستكبارًا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء والتشهي كما قال تعالى {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
وقال السدي: في هذه الآية ُيعيّرهم الله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. والآيات البينات هي: الطوفان، والجراد، والقٌمَّل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفَلْق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي: معبودًا من دون الله في زمان موسى وأيامه. وقوله {مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148]، {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149].
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمات يبين الله سبحانه وتعالى ما عليه اليهود من الكفر والعناد والاستكبار وعدم الإيمان وعدم توحيد الله تعالى وإخلاص الدين له والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ويعير اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل أباؤهم؛ لأنهم مقرون لهم على ذلك، فالله تعالى يذكر أفعال الأجداد ليبين أن الأحفاد إذا كانوا مقرين لهم فحكمهم حكمه، فالراضي كالفاعل، والأبناء والأحفاد يأخذون حكم الآباء والأجداد إذا كانوا مقرين لأفعالهم.
واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين أباءهم على الكفر، فاستكبروا عن عبادة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واستمروا على ما عليه أباؤهم وأجدادهم من العناد والكفر، ولهذا قال سبحانه: {وإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعني يكفينا الإيمان بالتوراة والإنجيل، {ويَكْفُرُونَ بِمَا ورَاءَهُ} بما دونه وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة الخاتمة من التصديق بالأنبياء السابقين.
ولهذا قال سبحانه: {وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} ما جاء به محمد هو الحق مصدقًا لما معهم من التوراة والإنجيل، ولكنهم إنما قالوا نؤمن بما أنزل علينا من باب العناد والاستكبار وإلا فلو كانوا صادقين لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإيمانهم بزعمهم أن إيمانهم برسلهم وموسى وعيسى كافٍ هذا ليس بصحيح، فإن من كفر بواحد من الأنبياء فقد كفر بالجميع.
والأنبياء متضامنون، فالمتقدم بَشَّرَ بالمتأخر، والمتأخر صدَّق المتقدمَ، فهم متضامنون ودينهم واحد دين الأنبياء واحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء أخوة لعلات ديننا واحد وأمهاتنا شتى» دين واحد هو التوحيد وطاعة الأوامر واتِّبَاع كل نبي في زمانه، وأما الشرائع فإنها تختلف، الحلال والحرام والأوامر والنهي تختلف كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجًا} ولهذا قال سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ} وهم كذبوا نوحًا فقط فجعل تكذيبهم لنوح تكذيب لجميع المرسلين، {كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ} ولم يكذبوا إلا رسول واحد وهو هود، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ} وهم لم يكذبوا إلا صالح، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المُرْسَلِينَ} {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ} فتكذيبهم لواحد تكذيب للجميع، لأن الأنبياء دينهم هو واحد وهم متضامنون فالمتقدم بشر بالمتأخر والمتأخر صدق المتقدم.
ولهذا بين الله سبحانه وتعالى كفر اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعيرهم الله سبحانه وتعالى فقال: {وإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعني يكفينا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، قال الله تعالى: {وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} ما جاء به محمد هو الحق، مصدق لما معهم ويوافق ما معهم فما عذرهم لو كانوا صادقين، {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وهذا إنما هو تعيير لهم بأفعال أجدادهم آبائهم فإن اليهود قتلة الأنبياء، كما قال الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} كذبوا الرسل وقتلوا بعضهم مثل قتل زكريا وقتل يحيى وقتل جمع كثير من الأنبياء والرسل وكذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا، ولهذا قال {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كنتم صادقين أنكم مؤمنون بما جاء في التوراة والإنجيل فهؤلاء أنبياؤكم قتلتموهم وهم جاءوا بالتوراة والإنجيل، لأن التوراة كتاب عظيم أنزله الله على موسى وكثير ما يقرن الله بينه وبين القرآن العظيم كما قال سبحانه: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وقَالُوا إنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}.
والأنبياء الذين جاءوا بعد موسى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة، داود وسليمان وزكريا حتى جاء عيسى حتى أرسل الله عيسى وأنزل عليه الإنجيل وهو كتاب مكمل للتوراة وفيه تخفيف لبعض الأحكام وتحليل لبعض المحرمات وما عدا ذلك فهو العمل بالتوراة.
وكل الأنبياء جاءوا بالعمل بالتوراة ومع ذلك قتلوهم، فهم كاذبون في قولهم نؤمن بما أنزل علينا لو كانوا صادقين لما قتلوا أنبياء الله، ولهذا {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فدل على أنهم ليسوا مؤمنين، إن كانوا صادقين في أنهم مؤمنون بالتوراة لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو جاء بالشريعة الخاتمة وشريعته موافقة للشرائع السابقة وهو مصدق بالأنبياء السابقين، وأيضا كيف يقتلون الأنبياء السابقين وهم من بني إسرائيل وقد جاءوا بالتوراة، لو كانوا صادقين في إيمانهم بما أنزل عليهم.
ثم قال سبحانه وتعالى: {ولَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأَنتُمْ ظَالِمُونَ}، وهذا إنما هو خطاب لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل أباءهم وأجدادهم، لأنهم مقرون لهم على ذلك وراضون بأفعالهم فحكمهم حكمهم، (ولقد جاءكم موسى بالبينات)، يعني جاء أجدادكم، وإلا فاليهود لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم يعني أجدادكم وأباءكم جاءهم موسى بالبينات، البينات بالحجج الواضحات، أعطاه الله الحجج العظيمة وآيات عظيمة منها اليد ومنها العصى ومنها الدم، وغير ذلك من الآيات والطوفان والجراد والقمل والضفادع، وكذلك إنزال المن والسلوى والحجر الذي ضربه موسى بعصاه ... إلى غير ذلك من الآيات.
ثم {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأَنتُمْ ظَالِمُونَ} لما عبدتم العجل كيف تدعون أنكم تؤمنون بالتوراة وأنتم تعبدون العجل، وتجعلونه ربًا وإلهًا من بعد ما ذهب موسى لمناجاة الله عز وجل في الطور عبدوا العجل، صنع لهم السامري عجلًا جسدًا له خوار من الذهب والفضة الذي أخذه من القبط فجعله على هيئة العجل وصار له خوار، يدخل الهواء يصوت كالخروف فعبدوه من دون الله، فعبدوه بعد ما ذهب موسى، وعندهم نبي الله هارون ونهاهم وحذرهم لكنهم لم يطيعوا أمرهم وأرادوا قتله كما قال هارون: {إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}.
لما جاء موسى عليه الصلاة والسلام من مناجاة الله وجدهم يعبدون العجل غضب غضبًا شديدًا حتى أنه ألقى الألواح التي بيده وتكسرت وفيها كلام الله من شدة الغضب، وقد أخبره الله قبل ذلك، قال الله تعالى: {فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} ولكنه لما جاء وشاهدهم تأثر تأثرًا كبيرًا ولهذا قال ليس الخبر كالمعاينة أخبرهم الله أنهم عبدوا العجل أنهم فتنوا فلم يغضب فلما جاء وراءهم وشاهدهم يعبدون العجل غضب غضبًا شديدًا من شدة الغضب ألقى الألواح التي بيده فتكسرت، والله تعالى لم يعاتبه لأنه معذور في هذا.
وأخذ برأس أخيه من شدة الغضب وهو نبي كريم مثله يجره بلحيته ورأسه ويقول: كيف تتركهم يعبدون العجل؟! فقال هارون: {إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} ولهذا قال: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} من بعد موسى {وأَنتُمْ ظَالِمُونَ} يعني ظلم الشرك، والظلم أعظم الظلم هو ظلم الشرك كما قال الله سبحانه وتعالى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
الظلم ثلاثة أنواع: ظلم الشرك والكفر وهذا هو أعظم الظلم، والثاني: ظلم العباد فيما بينهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، والثالث: ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله فيما دون الشرك واتخاذ العجل من الظلم الأول في النوع الأول وهو ظلم الشرك.
وفي هذه الآيات الكريمات من الفوائد: بيان ما عليه اليهود من العتو والعناد والاستكبار وأن كفر اليهود كفر عناد واستكبار لا عن جهل.
وفيه: أن الكفر أنواع قد يكون الكفر بالاعتقاد قد يكون بالاستكبار عن العمل، وقد يكون الكفر بالقول وقد يكون بالعمل، وقد يكون بالاستكبار عن العمل مع التصديق، وهذا هو كفر اليهود وكفر إبليس وفرعون كفر استكبار عن العمل، ولو كانوا مصدقين ليسوا مكذبين قال الله عن إبليس {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فهو معترف ومؤمن بربه، فرعون ومن معه قال الله فيهم {وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًا} وقال عن اليهود: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ففيه أن اليهود كفرهم كفر عناد واستكبار وإن كانوا مصدقين.
وفيه: الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يكون إلا بالقلب والكفر لا يكون إلا بالقلب، فالكفر يكون بالقلب وهو الجحود ويكون بالاستكبار عن العمل، ويكون بالقول ويكون بالرفض والترك إذا ترك دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله، ويكون بالظن السيء كظن المشركين الذين يظنون بالله ظن السوء، ظنوا أن الدين سيضمحل وأنه سينتهي، وأن الله لا ينصر حزبه ولا نبيه ولا رسوله وأنه يديل الكفار على المسلمين إدالة مستقرة، هذا ظن كفر {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} فالكفر يكون بالجحود والاعتقاد ويكون بالشك ويكون بالظن، ويكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بالرفض والترك، كمن ترك دين الله وترك الصلاة، فهو كافر بهذا الرفض والترك وإن كان مصدقًا، نسأل الله السلامة والعافية.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
[عصيان اليهود بعد أن رفع الله عليهم الطور وأخذ الميثاق]
يعدد تبارك وتعالى، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه؛ ولهذا قال: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وقد تقدم تفسير ذلك.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال: أشربوا حبه، حتى خَلُصَ ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس .
وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد ﷺ -وهذا أكبر ذنوبكم، وأشد الأمر عليكم-إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل من دون الله؟!
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة بيان أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان بالله وبرسله واتباع ما أنزله الله كما قال الله تعالى في آياته {ولَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وقَالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وآمَنتُم بِرُسُلِي وعَزَّرْتُمُوهُمْ وأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} هذا الميثاق أن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمنتم برسله وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا ثم الجزاء {لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ولأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
وفي الآية التي سبقت آية الميثاق {وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} هذا هو الميثاق أخذه الله عليهم {وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ} أول فقرات هذا الميثاق توحيد الله، وبالوالدين إحسانًا، الثاني وبذي القربى الإحسان لذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنًا لعموم الناس، وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة لكنهم لم يلتزموا بهذا الميثاق ومن ذلك أن الله أخذ عليهم أن لا يسفكوا الدماء لا يسفك بعضهم دماء بعض ولا يأخذ بعضهم مال بعض، كما قال في الآية الأولى {وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ولا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ وإن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
وفي هذه الآية قال الله تبارك وتعالى: {وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ورَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أخذ الله عليهم الميثاق ولم يلتزموا به، ولما لم يلتزموا رفع الله عليهم جبل الطور، صار فوق رؤوسهم، فصار الواحد ينظر إليهم يخشى أن يسقط عليهم فالتزموا التزامًا تحت التهديد والوعيد ولذلك خالفوا بعد ذلك، لم يلتزموا لكن التزموا خوفًا من أن يسقط عليهم الجبل، كما قال تعالى في آية الأعراف {وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} نتق الله جبل الطور جعله فوق رؤوسهم {وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} خذوا ما أتيناكم من الأوامر وأنهم التزموا ما أتيناكم بقوة، فالتزموا التزامًا مؤقتًا خوفًا من أن يسقط عليهم الجبل ثم خالفوا، هنا قال سبحانه: {وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ورَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} خذوا ما أتيناكم من الأوامر والنواهي بعزيمة صادقة وإقبال وإخلاص خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا. فماذا قالوا؟ {قَالُوا سَمِعْنَا وعَصَيْنَا} هذا العتو والعناد والعياذ بالله، مع أنهم شاهدوا الآيات وشاهدوا المعجزات ومع ذلك ورفع الجبل فوقهم ماذا قالوا؟ {قَالُوا سَمِعْنَا وعَصَيْنَا}.
ولهذا ينبغي للمسلم أن يقول: سمعنا وأطعنا إذا جاءه أمر الله وأمر رسوله يقول: سمعنا وأطعنا، هذا الفرق بين المؤمن والكافر، المؤمن يقول: سمعنا وأطعنا، والكافر يقول: سمعنا وعصينا.
{قَالُوا سَمِعْنَا وعَصَيْنَا}، قالوا يسمعون {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}، وقال عن اليهود {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ويَقُولُونَ سَمِعْنَا وعَصَيْنَا واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ورَاعِنَا} وهنا قالوا سمعنا وعصينا.
{وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ورَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وعَصَيْنَا} فمن شأن المؤمن قبول الأوامر والنواهي وامتثال أمر الله واجتناب نواهيه، وأن يقبل أوامر الله بانشراح صدر وطواعية وإيمان وصدق ورغبة فيما عند الله ورهبة فيما عنده، هذا شأن المؤمن.
قال الله تعالى: {وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ} يعني أشربوا في قلوبهم حب العجل هذا تقدير مضاف، حُذف ليتكلم عليه، تقدير وأشربوا في قلوبهم حب العجل حب عبادة العجل، هذا العجل الذي صنعه السامري أشربوا في قلوبهم عجلا جسدا له خوار يشاهدونه من الذهب والفضة جاء وصنعه بيده وهم يشاهدونه وجعل لهم عجلًا وقال لهم {هَذَا إلَهُكُمْ وإلَهُ مُوسَى} قبل أن يأتي {فَنَسِيَ} ويرونه السامري يرونه صنعه بيده ومع ذلك عبدوه وزيادة على ذلك أشربوا في قلوبهم حبه كما يتشرب الإنسان الشيء كما تشرب الجلد أو الشيء الماء، تشربوا ماذا يتشربوا، يعني يخلص إليه فهؤلاء خلص إلى قلوبهم حب العجل، فشربت قلوبهم حب العجل كما يتشرب الشيء الماء، الإسفنج إذا وضعت عليه الماء وتشرب فكذلك هؤلاء قلوبهم تشربت حب العجل، مع أنه واضح ضلالهم ونفورهم؛ ولكن الهداية بيد الله، ومن يهده الله فهو المهتد ومن يضلل الله فلا تجد له وليا مرشدًا، أضلهم الله عميت قلوبهم وعميت بصائرهم، حتى أشرب في قلوبهم حب العجل ووصل إلى قلوبهم محبته وأشربوا حب العجل بكفرهم يعني بسبب كفرهم وعنادهم وعدم قبولهم للأوامر عوقبوا عقوبة أخرى، وأشربوا في قلوبهم بكفرهم.
قال الله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمَانُكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قل لهم يا محمد بئس هذا الإيمان الذي تدعونه أين الإيمان، إذا قيل لهم أمنوا بما أنزلنا قالوا نؤمن بما أنزل علينا، أين الإيمان بئس هذا الإيمان الذي تدعونه ليس إيمان وإنما هو كفر تسمونه إيمان وهو كفر، قد فعلتم نواقض متعددة.
فيه من الفوائد فيه بيان عتو، بني إسرائيل واليهود وعنادهم لأنبيائهم، وفيه أن الإنسان قد يجتمع فيه أنواع من الكفر فهؤلاء اجتمع فيهم أنواع الكفر منها: قتل الأنبياء، ومنها عبادة العجل، ومنها الاستكبار عن عبادة الله، ومنها العناد لأنبياء الله وتكذيبهم إلى غير ذلك من أنواع الكفر، فقد يجتمع في الإنسان أنواعٌ كثيرةٌ من أنواع الكفر نسأل الله السلامة والعافية فيزداد كفره ويزداد عذابه.
فيه: دليل على أن الكفار متفاوتون في الكفر، فالكافر الذي يؤذي المسلمين ويفتنهم عن دينهم ويؤذيهم أشد عذابًا من الكافر الذي لا يفتن المسلمين.
هناك كافر كفره على نفسه ولا يؤذي أحدًا هذا أخف، وهناك كافر يؤذي المسلمين ويفتنهم عن دينهم هذا أشد عذاب، قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} نسأل الله السلامة والعافية.
وفيه: أن الله تعالى ذم هؤلاء اليهود، ذم ما يدعونه من الإيمان، بئس هذا الإيمان الذي تدعونه فإنه ليس بإيمان بل هو كفر لاشتماله على أنواع من الكفر.
*****
([1]) قال الشارح -حفظه الله-: نسأل الله العافية إذا صح الحديث محمول على أنهم تكبروا عن عبادة الله عز وجل فيكون كفرهم والعياذ بالله كبرهم، تكبروا عن عبادة الله، فكان كِبرهم استكبار عن عبادة الله ولهذا قال «تعلوهم نار الأنيار» نسأل الله السلامة والعافية.