** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}.
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46].
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما يقولون: السَّامُ عليكم. والسام هو: الموت. ولهذا أُمرنا أن نرد عليهم بـ «وعليكم»([1]). وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.
والغرض: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولًا وفعلًا. فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}.
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له. وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»([2]) .
وروى أبو داود عنه: «من تشبه بقوم فهو منهم»([3]) .
ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولم نُقَرر عليها.
وقال الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما ([4]): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} قال: كانوا يقولون للنبي ﷺ أرعنا سمعك. وإنما {رَاعِنَا} كقولك: عاطِنَا.
وقال ابن أبي حاتم([5]) : وروي عن أبي العالية، وأبي مالك، والربيع بن أنس، وعطية العوفي، وقتادة، نحو ذلك.
وقال مجاهد([6]) : {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} لا تقولوا خلافًا. وفي رواية: لا تقولوا: اسمع منا ونسمع منك.
وقال عطاء([7]) : {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} كانت لُغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها.
وقال السدي([8]) : كان رجل من اليهود من بني قينقاع، يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي ﷺ، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع.
وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع: غَيْرَ صاغر. وهي كالتي في سورة النساء.
فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، بنحو من هذا.
*****
(التفسير)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:104].
في هذه الآية: تحذير المؤمنين من التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعبادتهم، وهذه الآية فيها النهي عن التشبه بالأقوال.
قوله: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}؛ يعنى لا تشبهوا باليهود في قول هذه الكلمة، فاليهود يقولون: راعنا؛ يعنى: ارعنا سمعك، انتبه لنا، وهم يقصدون معنى آخر، يقصدون الرعونة، يصفون الرسول بالرعونة وضعف العقل.
يقولون: راعنا؛ يعنى: يا أيها الضعيف العقل، فراعنا، كلمة موهمة تحتمل هذا وهذا.
في الظاهر يقولون: راعنا؛ يعنى: ارعنا سمعك، انتبه لنا، نريد أن نكلمك، وهم في الباطن يريدون وصف النبي بالرعونة، وضعف العقل، فالله تعالى نهاهم عن هذه الكلمة الموهمة، لا تشبهوا بالكلمة الموهمة؛ وإنما قولوا كلمة واضحه، قولوا انظرنا، انظرنا يا رسول الله، اسمع لنا، أما كلمة راعنا كلمة محتملة موهمة للحق والباطل، فلا تشبهوا باليهود في قول هذه الكلمة.
كما قال الله تعالى في الآية: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:46].
ففي هذه الآية نهي المؤمنين عن التشبه بالكفار في أقوالهم، وقد جاءت السنة بالنهى عن التشبه بالكفار في الأقوال والأفعال كما في الحديث الذي ساقه المؤلف رحمه الله قال: «ومن تشبه بقوم فهو منهم»([9]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أقل أحواله التحريم وإلا فالظاهر يوهم الكفر.
ومن التشبه الآن بالكفار فيما يسمى بعيد الحب، ينتشر بين طلاب المدارس والطالبات في عيد الحب هذا، وهو من أعياد الكفرة يتبادلون الهدايا والأزهار، ويلبسون الشيء الأحمر، حتى أن بعض المدارس كلهم في هذا اليوم الذى يسمي بعيد الحب يلبسون ثيابا حمر وخطوط حمر وكل ثيابهم، وحقائبهم، ودفاترهم، وهداياهم، ويشترون الأزهار في هذا اليوم ويتهادون، كل هذا مشابهة للكفرة، لا يجوز هذا، هذا محرم، عيد الحب من أعياد الكفرة فكيف انتشر، ويزداد عامًا بعد عام، كيف انتشر بين أولادنا وبناتنا، هذا التشبه بهؤلاء الكفرة، فلا يجب التشبه بالكفرة لا بأقوالهم، ولا بأفعالهم، ولا بعاداتهم، ولا بعبادتهم، ولا بألبستهم.
يجب على المسلمين أن يكونوا منفردين عن الكفرة، متميزين لا يوافقونهم في أقوالهم ولا في أزيائهم ولا في ألبستهم ولا في أعيادهم ولا في عبادتهم.
فهذه الآية فيها تحريم التشبه بالكفرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا}[البقرة:104] لا تقولوا كما قالت اليهود راعنا فإنهم يقصدون المعنى الباطل، وصف الرسول بالرعونة.
{لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا}، قولوا كلمة واضحة، لا لبس فيها، ليست محتملة، المعنى واحد راعنا وانظرنا، لكن هذه كلمة موهمة وفيها تشبه بالكفرة، وهذه كلمة واضحة ليس فيها إيحاء، فنهاهم عن الكلمة الموهمة التي يقولها اليهود لئلا يتشبهوا بهم في قصد المعنى الباطل وأن يقولوا الكلمة الواضحة، فإذا أرادوا أن يقولوا يا رسول الله انتبه لنا، انظرنا بدل من أن يقولوا راعنا.
{وَاسْمَعُوا} واسمعوا كلام الله وامتثلوا أمره {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
في هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين باسم الإيمان لأن هذا يكون أدعى إلى القبول.
وفي هذه الآية: تحريم التشبه بالكفار في أقوالهم وكذلك في الأفعال، وإنه لا يجوز لهم أن يقولوا الكلمة الموهمة، وأن يقولوا الكلمة الواضحة.
وفيه: أنه يجب على المسلم أن يسمع كلام ربه وكلام رسوله.
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:24]
وفيه: أن الله أعد للكافرين عذابا أليما بسبب كفرهم وعنادهم وجحودهم وجحدهم حق الله وتوحيده والإيمان به وبرسله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم. ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد ﷺ، حيث يقول تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
*****
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة: شدة عداوة المشركين واليهود للمؤمنين، وأن من عداوة المشركين لهم أنهم يودون لو يقطعون الأسباب؛ أسباب الخير الذى تنزل عليهم من السماء لو كان بأيديهم. لو كان بأيديهم لقطعوا الأسباب التي تنزل بالخير عليهم من السماء، لقطعوا مجاديح السماء؛ ولكن ليس بأيديهم، ولكنهم لا يودون للمؤمنين أي خير، يودون لهم الشر والأذى والضرر بجميع أنواعه، ويودون أن يقطعوا أسباب الخير والمدد الذى يأتي من السماء لو كان بأيديهم، {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ}[البقرة:105]أهل الكتاب اليهود والنصارى والمشركين كلهم سواء كلهم أعداء الله، كلهم يودون الشر والضرر للمسلمين، كلهم يودون قطع أسباب الخير من السماء، ولكن الله سبحانه وتعالى خص المؤمنين خصهم بهذا الخير، وأنعم عليهم بالإيمان، وأنعم عليهم بهذا الرسول، وأنزل عليهم الكتاب والحكمة، وهو سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء، لا أحد يحجر عليه والهداية ملكه، فإذا أعطاها للمؤمنين فهو فضله، وإذا منعها الكافرين فهو عدله، لم يمنعهم شيئًا يملكونه، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
وإذا عرف المسلم شدة عداوة اليهود، والنصارى، والمشركين له عرف أنهم أعداء فعاملهم علي أنهم أعداء، فلا يقبل كلامهم، ولا يقبل أعمالهم، ولا يقبل توجيهاتهم، هذه القنوات الفضائية التي تعج بالشرور، كلها من الكفرة، ومع ذلك قَبِلها المسلمون، دشوش، والقنوات الفضائية، وما ينشر في الإنترنت من الشرور، ومن التشكيك في دين الإسلام، ومن الدعوة إلى اليهودية والنصرانية، وتعليم الإجرام، والقتل، ومن العري، والتفسخ، وكل هذا من الكفرة ومع ذلك قبلها وتلقاها المسلمون، وهم أعدائهم، ولا يودون لهم إلا الهلاك.
قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ}[البقرة:105] والمشركون هم أعداء، والواجب الحذر منهم، وعدم قبول ما يأتي من الكفرة من الأقوال، أو الأفعال، أو التوجيهات، أو غير ذلك فهم أعداء، لا يودون إلا الشر بجميع أنواعه، ولا يودون للمسلم الخير، ولكن الله اختص المؤمنين بهذا الخير، فعليهم أن يحافظوا علي هذا الخير، يحافظوا على عقيدتهم، وعلى أخلاقهم، وعلي دينهم، وعلي إيمانهم، وأن يقبلوا هدي الله، وأن يحذروا أعدائهم الكفرة، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، يمن به علي من يشاء من عباده.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس([10])رضي الله عنهما: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ما نبدل من آية.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد([11]): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي: ما نمحو من آية.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد([12]): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قال: نثبت خطها ونبدل حكمها. حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
وقال ابن أبي حاتم([13]): وروي عن أبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي، نحو ذلك.
وقال السدي([14]): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} نسخها: قبضها.
وقال ابن أبي حاتم([15]): يعني: قبضها ورفعها، مثل قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة.
وقوله: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثًا»([16])
وقال ابن جرير([17]): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالًا والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبَارة إلى غيرها. وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة.
وقوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} فقرئ على وجهين: «ننسأها ونُنْسها». فأما من قرأها: «نَنسأها» -بفتح النون والهمزة بعد السين-فمعناه: نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس([18]): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود([19]): {أَوْ نُنْسِهَا} نثبت خطها ونبدل حكمها.
وقال عبيد بن عمير، ومجاهد، وعطاء([20]): {أَوْ نَنْسَأْهَا} نؤخرها ونرجئها.
وقال عطية العوفي: {أَوْ نَنْسَأْهَا} نؤخرها فلا ننسخها.
وقال السدي مثله أيضًا، وكذا قال الربيع بن أنس.
وأما على قراءة: {أَوْ نُنْسِهَا} فقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن قتادة في قوله([21]): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} قال: كان الله تعالى يُنْسي نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أي: في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس([22]) رضي الله عنهما: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية([23]): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فلا نعمل بها، {أَوْ نُنْسِهَا} أي: نرجئها عندنا، نأت بها أو نظيرها.
وقال السدي([24]): {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقول: نأت بخير من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة([25]): {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقول: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى.. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا.
وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله -في دعوى استحالة النسخ إما عقلًا كما زعمه بعضهم جهلًا وكفرًا، وإما نقلًا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكًا.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير([26]): فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال([27]): وهذا الخبر وإن كان خطابًا من الله تعالى لنبيه ﷺ على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل جلاله تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة.
فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
(قلت) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرَّم ذلك، وكما أباح لنوح عليه الصلاة والسلام بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نُسخ حِلُّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حَرَّم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها وقد حرم في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ثم نسخه قبل الفعل أمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، فلا يصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورًا من البشارة بمحمد ﷺ والأمر باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته، عليه السلام، وأنه لا يُقبل عمل إلا على شريعته.
وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته، عليه الصلاة والسلام، فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد ﷺ نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدًا بالله تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بَيَّن تعالى جواز النسخ، ردا على اليهود، عليهم لعائن الله، حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} الآية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} [الأعراف: 54] وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل في صدرها خطابًا مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في وقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} الآية [آل عمران: 93] كما سيأتي تفسيرها، والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلهم قال بوقوعه.
*****
(التفسير)
هذه الآيات الكريمة: فيها بيان النسخ، وأن الله-سبحانه وتعالى- ينسخ بعض الأحكام، لما له من الحكمة البالغة، وما فيها من مصالح لعباده.
وفى هذه الآيات: وقوع النسخ.
والنسخ في اللغة التغيير، نسخت الشمس الظل إذا غيرته، ونسخت الكتاب.
وشرعًا: رفعُ الحكمِ الشرعي الثابتِ بخطابٍ متقدِّمٍ بخطابٍ متراخٍ عنه، وقد أنكرت اليهود النسخ، وقالوا: أن النسخ يذهب منه البداء، ويلزمه أن الله كان جاهلًا بالحكم، ثم علمه، وهذا من جهلهم وضلالهم، وفي الآية الرد عليهم، قال الله تعالى: {مِنْ آيَةٍ أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا}[البقرة:106].ننسها: نتركها، وفي قراءة، ننسأها: نؤخرها.
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا} خير للعباد و مصلحة لهم، فهو يشرع للعباد ما يكون فيه صلاح لهم، ثم بعد مدة ينسخ هذا الحكم ويشرع حكمًا آخر لأنه-سبحانه وتعالى- عالم إن هذا أصلح لهم وأنفع لهم ولهذا قال تعالى: {مِنْ آيَةٍ، أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أو مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106].
وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[البقرة:107] فإذا كان سبحانه له ملك السموات والأرض يتصرف فيهما بما يشاء، فله الحكم، يحكم في عباده بما يشاء.
والنسخ أنواع، فتارة ينسخ اللفظ ويبقى الحكم، كما نسخ رجم الزانيين، كان آية تتلى في القرآن بلفظ: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالًا من الله، والله عزيز حكيم)، فنسخ لفظه وبقى حكمه، فترجم الزانية، وأحيانًا ينسخ الحكم ويبقى اللفظ كنسخ آية التربص، الوصية للمرأة كانت تتربص بعد وفاة زوجها حولًا، ثم نسخ بأن تتربص أربعة أشهر، وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ}[البقرة:240] هذه نسختها الآية التي قبلها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234].
فنسخت آية التربص بحول بآية التربص أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد ينسخ الحكم من حكم أخف إلى حكم أشد، أو بالعكس، وقد ينسخ الحكم من حكم أشد إلى حكم أخف وقد ينسخ الحكم من حكم إلى حكم مماثل، والنسخ موجود الآن في الشرائع السابقة، ولكن اليهود قوم بهت، أنكروا و كذبوا وأنكروا النسخ فأكذبهم الله.
آدم عليه السلام شرع له الله أن يتزوج الابن أخته حتى يتكاثر الناس، وكانت حواء تأتى بذكر وأنثى في كل بطن في كل مرة، فيجوز للإنسان أن يتزوج أخته التى ليست معه في بطن واحد، وأخته التي من بطن واحد حرام عليه، وأخته التي في بطن سابق، أو في بطن لاحق يجوز أن يتزوجها، حتى يتكاثر الناس، فلما تكاثر الناس حرم الله زواج الأخ لأخته في شريعة نوح لما نزل من السفينة أمر أن يأكل جميع الحيوانات في البر، ثم نسخ الله بعده ذلك بعض الحيوانات، في شريعة يعقوب كان يجوز الجمع بين الأختين، ونسخ في التوراة في شريعة التوراة كان الواجب القصاص، كان يجب على القاتل القتل وليس هناك دية ولا عفو، والعفو في شريعة الإنجيل، ولهذا في شريعة الإنجيل فمن ضربك على خدك الأيمن فأدر الأيسر تسامح.
وفى شريعتنا يخير أولياء المقتول بين القتل قصاصًا وبين أخد الدية وبين العفو مجانًا.
فالنسخ موجود في جميع الشرائع، وهو يدل على حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بعباده فيشرع لهم ما يناسبهم من الأحكام، أما دعوة اليهود استحالة النسخ فهذا من باطلهم وكفرهم وضلالهم، ولا يلزم منه البداء على الله، الله تعالى عالم بكل شيء، يشرع الحكم وهو عالم أنه سينسخه فيما بعد لما له من الحكمة في ذلك.
([1]) أخرجه البخاري (2935)، من طريق عائشة، بلفظ، عن عائشة رضي الله عنها: أن اليهود، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، فلعنتهم، فقال: «ما لك» قلت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: «فلم تسمعي ما قلت وعليكم» .
([2]) أخرجه أحمد (5115)، والطبراني في الكبير (14109)، وضعفه الألباني في السلسلة (1694) .
([3]) أخرجه أبو داود (4031)، وأحمد (5115)، وضعفه الألباني في السلسة الضعيفة (1694) .
([4]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1038) .
([5]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1032) .
([6]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1040) .
([7]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1039) .
([8]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1049) .
([9]) سبق تخريجه .
([10]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1065) .
([11]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1050) .
([12]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1051) .
([13]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1055) .
([14]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1066) .
([15]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1057) .
([16]) أخرجه البخاري (6436)، من طريق ابن عباس، ومسلم (1048)، من طريق أنس .
([17]) ينظر: جامع البيان (2/471) .
([18]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1065) .
([19]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1062) .
([20]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1063) .
([21]) ينظر: جامع البيان (2/474) .
([22]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1067) .
([23]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1068) .
([24]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1069) .
([25]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1070) .
([26]) ينظر: جامع البيان (2/488) .
([27]) ينظر: جامع البيان (2/488) .