** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} .
وهذا -والله أعلم-فيه تسلية للرسول ﷺ وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومُصَلاهم، وقد كان رسول الله ﷺ يصلي بمكةَ إلى بيت المقدس والكعبةُ بين يديه.
*****
الملف الصوتي رقم (17)
...............باقي المتن ............................
فلما قدم المدينة وُجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعدُ، ولهذا يقول تعالى: {وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ} [البقرة:115]، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إلى المدينة، وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس؛ ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا إلى قوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: {قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142]، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ}.
وقال عكرمة عن ابن عباس: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ} قال: قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا، وقال مجاهد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ} قال: قبلة الله حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: الكعبة، وقيل: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة.
قال ابن جرير رحمه الله: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذنًا من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ}.
ورواه مسلم والترمذي والنسائي، وابن أبي حاتم وابن مردويه، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة، من غير ذكر الآية.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك، إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: نزلت فيمن اشتبهت عليه القبلة، لأجل الظلمة والسحاب، ونحوهما فصلى لغير القبلة.
[قبلة أهل المدينة ما بين المشرق والمغرب]
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه، في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين المشرق والمغرب، قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق».
وله مناسبة هاهنا، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه، من حديث أبي معشر، واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني، به «ما بين المشرق والمغرب قبلة»
قال ابن جرير: ويعني قوله: {إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: يسع خلقه كلهم بالكفاية، والإفضال والجود.
وأما قوله: {عَلِيمٌ} فإنه يعني: عليم بأعمالهم، ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.
*****
(التفسير)
هذه الآية الكريمة وهي قول الله تعالى: {وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فيها بيان سعة علم الله عز وجل وسعة جوده، سبحانه وتعالى، وإفضاله على عباده، وتشريعه سبحانه وتعالى لعباده ما فيه رحمة لهم، وإحسان بهم، هذه الآية كما قال المفسرون: قيل: إنها في صلاة الفريضة، وذلك بأن الله سبحانه وتعالى أمر بأن يتوجه المسلم إلى القبلة قبل تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة أو بعدها.
وقيل: إنها في صلاة النافلة، وذلك أن المتنفل في صلاة السفر له أن يتنفل إلى الجهة التي يقصدها، من شرقٍ أو غربٍ أو شمالٍ أو جنوب، وذلك أن صلاة النافلة أمرها مخفف، صلاة النافلة يخفف فيها ويتوسع فيها، ما لا يتوسع في صلاة الفريضة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفريضة، وهو في السفر نزل واستقبل القبلة، وأما صلاة النافلة، فإنه كان يصليها على راحلته، ويتوجه إلى الجهة التي يريدها، وجاء في سنن أبي داود أنه يكبر تكبيرة الإحرام إلى القبلة، ثم يتوجه إلى جهة سيره.
وقيل: إن هذا في حال الاشتباه - اشتباه القبلة -، كما أنها اشتبهت القبلة على الإنسان في السفر، أو اشتبهت على الأسير والسجين، فإنه يتحرى ويصلي، وصلاته صحيحة.
وقيل: إن هذه الآية إنما هي في حال المسايفة والخوف الشديد من الأعداء، فإنه إذا اشتد الخوف وصار القتال بين المسلمين والكفار، فإنه في هذه الحالة، يسقط استقبال القبلة ويستقبل جهة سيره، يصلون رجالًا على الأقدام وركبانًا، مستقبلين القبلة وغير مستقبليها، ويومئون في الركوع والسجود، وكذلك في حالة المسايفة، يعني في حال القتل بالسيوف ومقاتلة الأعداء والمناوشة ليس هناك وقت لاستقبال القبلة، بل يصلي إلى أي جهة حتى إنه يتخفف الصلاة، جاء أنه في صلاة الحضر أربع ركعات، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة، وجاء عن بعض السلف أنه عند المسايفة، تكون الصلاة تكفي فيها تكبيرة واحدة، عند قطع الرقاب بالسيوف، المسايفة يعني السيف، بينك وبين عدوك وهذا من سعة الله عز وجل، سبحانه وتعالى وإحسانه على عباده.
والآية تشمل هذه المعاني كلها، تشمل صلاة الفريضة قبل أن يوجه الله المسلمين إلى الكعبة، وتشمل أيضًا صلاة السفر، وأن المسافر يتجه إلى جهة قصده، وتشمل ما إذا اشتبه على الأسير، أو على المسلم في الأسفار، فإنه يتحرى ويصلي، على حسب تحريه وصلاته صحيحة، وتشمل حال الخوف واشتداد الخوف وقتال الأعداء في حال المسايفة، وكذلك صلاة الطالب والمطلوب، الطالب الذي يطلب عدوه، فإنه في هذه الحالة يصلي وهو يركض إلى القبلة أو لغير القبلة، وكذلك المطلوب الذي يطلبه عدوه، يصلي وهو يمشي أو هو يركض، متجهًا إلى القبلة أو إلى غير القبلة.
ولهذا قال سبحانه وتعالى تخفيفًا لعباده، وإحسانًا منه: {وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ} يعني فثم قبلة الله، هذه هي القبلة، أينما تولوا في هذه الأحوال كلها {وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} يسع عباده ويكفيهم، ويحسن إليهم سبحانه وتعالى في أمور دينهم ودنياهم، وهو عليم بأفعال عباده، وأحوالهم ونياتهم ومقاصدهم، وسوف يجازيهم على ذلك.
وفيه إثبات اسم الواسع والعليم، وأنه من أسماء الله الواسع، ومن أسمائه العليم، {إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} إن الله أطلقه على نفسه، فهو من أسماء الله الواسع، فيعبَّد بعبد الواسع، وعبد العليم، لإثبات صفة العلم لله سبحانه وتعالى، على ما يكون جل علاه وعظمته.
وهنا فوائد:
هنا مسألة فيها كلام لأهل العلم، عند شدة القتال هل تؤخر الصلاة أو لا تؤخر. والنبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة في غزوة الأحزاب، في بعض الأيام، صلى العصر بعد غروب الشمس، لما انشغل بالأعداء، وقال: «ملأ الله قبورهم نارًا، شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر» ([1]) وجاء في سنن النسائي بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى أربع صلوات، صلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء، وقال كثير من العلماء: إن هذا قبل نزول صلاة الخوف، قبل أن تشرع صلاة الخوف، فلما شرعت شرع للمسلم أن يصلي صلاة الخوف، ويصلي الصلاة في وقتها، على حسب حاله ولا يؤخرها، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أخر الصلاة في يوم الأحزاب، لأنه لم تشرع صلاة الخوف، فلما شرعت صلاة الخوف لم يحتج إلى تأخيرها.
وذهب المحققون من أهل العلم إلى أنه يجوز التأخير أحيانًا إذا لم يتمكن، ولو بعد شرعية صلاة الخوف؛ فإنه يجوز تأخير الصلاة إذا لم يتمكن المجاهدون من أداء الصلاة في وقتها، ولم يتهيأ لهم، أو أن أداء الصلاة في وقتها يفوِّت عليهم الفتح، ويمكن الأعداء منهم، فإنه في هذه الحال يؤخرونها، ولو بعد صلاة الخوف، كما فعل الصحابة في تُسْتر لما فتحوا تُسْتر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كان في وقت صلاة الفجر، كان الصحابة منتشرين، منهم البعيد ومنهم القريب، ومنهم من كان على الأسوار، يريدون أن يفتحوا الحصون، ومنهم من نزل، ومنهم كذا، فلو أدوا الصلاة في وقتها لفات عليهم النصر، وتمكن منهم الأعداء فأخروا الصلاة، واستمروا حتى تم لهم النصر، وفي اقتحام الحصون، وفي فتح الأبواب، حتى تم الفتح فصلوها ضحًى، فقال أنس رضي الله عنه: ما يسرني أن بها الدنيا، يعني أنه إنما أخرناها في الله ومن أجل الله، ومن أجل الجهاد في سبيل الله.
وذهب إلى هذا جمع من المحققين مثل البخاري وغيره إلى أنه يجوز تأخير الصلاة عن وقتها في هذه الحالة، إذا لم يتمكنوا من أدائها في الوقت.
ويقاس عليهم في حال الضرورة، كما لو حصل حريق -لا قدر الله للمسلمين إلا الخير- وصار رجال الإطفاء ولم يتمكنوا من إطفائه ولا يستطيعون المفارقة، ويخشون من المفارقة حصول أضرار عظيمة فإنه في هذه الحالة لا بأس أن يؤخروها ولو فاتتهم الصلاة، ولو بعد الوقت لأنه في حال الضرورة، وتقاس على ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم.
أما إذا كان يمكنهم أداؤها، ويمكنهم أن يتناوبوا، فعليهم أن يتناوبوا، يذهب جماعة يصلون ثم يأتون، ويذهب آخرون يصلون، ولا تؤخر الصلاة عن وقتها، لكن لو قدر في حالة الضرورة القصوى ولم يتمكنوا من التناوب، ولم يتمكنوا من ترك الموقف، ويترتب على هذا أضرار عظيمة لو ذهبوا، فإنه في هذه الحالة لا بأس أن يؤخروها.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ {١١٦} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
اشتملت هذه الآية الكريمة، والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله، وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، ممن جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولدًا، فقال تعالى سبحانه، أي : تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومقدرهم ومسخرهم ، ومسيرهم ومصرفهم، كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولدًا! كما قال تعالى: {بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ أَنّى يَكونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَم تَكُن لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ} [الأنعام:101].
وقال تعالى: { وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحمـنُ وَلَدًا{٨٨} لَقَد جِئتُم شَيئًا إِدًّا {٨٩} تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الأَرضُ وَتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا {٩٠} أَن دَعَوا لِلرَّحمـنِ وَلَدًا {٩١} وَما يَنبَغي لِلرَّحمـنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا{٩٢} إِن كُلُّ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ إِلّا آتِي الرَّحمـنِ عَبدًا {٩٣} لَقَد أَحصاهُم وَعَدَّهُم عَدًّا {٩٤} وَكُلُّهُم آتيهِ يَومَ القِيامَةِ فَردًا} [مريم:88-95].
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ {١} اللَّـهُ الصَّمَدُ {٢} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {٣} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4]، فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم، الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد! ولهذا روى البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي؛ فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا»، انفرد به البخاري.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدًا، وهو يرزقهم ويعافيهم».
وقوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، قال: أخبرنا أسباط، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: { قَانِتُونَ} مصلين.
وقال عكرمة وأبو مالك: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مقرون له بالعبودية، وقال سعيد بن جبير: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} يقول: الإخلاص، وقال الربيع بن أنس :يقول {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي: قائم يوم القيامة، وقال السدي : {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} يقول: له مطيعون يوم القيامة.
وقال خصيف، عن مجاهد: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} قال: مطيعون، كن إنسانًا فكان، وقال: كن حمارًا فكان.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مطيعون، يقول: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره.
وهذا القول عن مجاهد، وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت: هو الطاعة والاستكانة إلى الله، وذلك شرعي وقدري، كما قال تعالى: {وَلِلَّـهِ يَسجُدُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا وَظِلالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصالِ} [الرعد:15].
وقوله تعالى :{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خالقهما على غير مثال سبق، قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث: بدعة، كما جاء في «صحيح مسلم»: «فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه عن جمعه، إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه.
قال ابن جرير: فمعنى الكلام: فسبحان الله أنى يكون لله ولد، وهو مالك ما في السماوات والأرض ، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها، من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلام من الله لعباده، أن ممن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى الله بنوته، وإخبار منه لهم، أن الذي ابتدع السماوات والأرض، من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته، وهذا من ابن جرير، رحمه الله، كلام جيد وعبارة صحيحة.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه، فإنما يقول له: كن، أي: مرة واحدة، فيكون، أي: فيوجد على وفق ما أراد، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:82] وقال تعالى: {إِنَّما قَولُنا لِشَيءٍ إِذا أَرَدناهُ أَن نَقولَ لَهُ كُن فَيَكونُ} [النحل:40] وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50].
ونبه تعالى بذلك أيضًا، على أن خلق عيسى بكلمة: كن، فكان كما أمره الله، قال الله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
*****
(التفسير)
في هاتين الآيتين الكريمتين، الرد على النصارى واليهود الذين جعلوا لله ولدًا، كما قال الله تعالى: {وَقالَتِ اليَهودُ عُزَيرٌ ابنُ اللَّـهِ وَقالَتِ النَّصارَى المَسيحُ ابنُ اللَّـهِ} [التوبة:30]، فكل من اليهود والنصارى نسب الولد إلى الله تعالى، وكذلك المشركون أهل الأوثان، نسبوا الولد إلى الله، وقالوا: إن الملائكة بنات الله.
وفي هذه الآية الكريمة رد على هؤلاء الطوائف الثلاثة، قال تعالى: {قالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا} [يونس:68].
وهذه من مقولتهم، وهي مقالة كفرية، ومن زعم لله ولدًا، ومن نسب الولد إلى الله، هذا من أعظم الكفر، من الكفر الغليظ، وبين سبحانه وتعالى أن نسبة الولد إلى الله أمر عظيم بشع، من بشاعته تكاد السماوات أن تتشقق، وتكاد الجبال أن تنهد، وتكاد السماوات أن تتفطر، وتكاد الأرض أن تنشق، وتكاد الجبال أن تنهد، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحمـنُ وَلَدًا{٨٨} لَقَد جِئتُم شَيئًا إِدًّا} [مريم:88-89]، يعني أمرًا عظيمًا، هائلًا فظيعًا {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الأَرضُ وَتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّ} [مريم:89].
تكاد السماوات يتفطرن من هذا الشيء العظيم، وهو نسبة الولد إلى الله، {أَن دَعَوا لِلرَّحمـنِ وَلَدًا {٩١} وَما يَنبَغي لِلرَّحمـنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:91-92]، والدليل على كلمة ما ينبغي، تقال في أعظم الأمور{إِن كُلُّ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ إِلّا آتِي الرَّحمـنِ عَبدًا} [مريم:93]، كل من في السماوات والأرض يأتي يوم القيامة، معبد ومقهور ومذلل، مصرف ومدين، لا يملك لنفسه لا نفعًا ولا ضرًا، فكيف ينسب الولد إلى الله، وكل ما ينسب إلى الله، فهو مخلوق ومذلل، ومقهور ومصرف، مدين لله، فكيف ينسب الولد إلى الله تعالى، تعالى الله عما يقولون .
وقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} يعني تنزيهًا له، {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي كل الخلائق له قانتون، مطيعون، والطاعة طاعة قدرية، وهي طاعة غير اختيارية، وهي طاعة المخلوقات، المخلوقات كلها مطيعة لله عز وجل، كلها ساجدة إلى الله تعالى، وكلها مسبحة لله، {وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِه} [الإسراء:44]، {وَلِلَّـهِ يَسجُدُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا وَظِلالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصالِ} [الرعد:15]، والمؤمن يسجد لله اختيارًا، فالعبودية له معنيان، عبودية عامة وهذه تشمل جميع الخلائق حتى الكفار، فهم معبدون، مقهورون ومذللون، وعبودية خاصة وهي عبودية الاختيار، التي تحصل من المؤمن، {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ }، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنى يكون له ولد، كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة؟ ليس له زوجة، والولد يشبه أباه، والله سبحانه وتعالى لا يشبه أحدًا من خلقه، ليس له شبيه من خلقه، وهو منزه وليس محتاج إلى أحد.
بخلاف الإنسان فإنه محتاج إلى الزوجة، محتاج إلى الولد، ولاسيما في حال الكبر، يخدمه ويساعده، أما الله فلا يلحقه نقص ولا يحتاج إلى أحد، سبحانه وتعالى، ولهذا قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ} يعني الواحد المتوحد، في ذاته وأسمائه وصفاته، وفي أفعاله، {اللَّـهُ الصَّمَدُ} السيد الكامل الذي كمل سؤدده، والتي تصمد إليه الخلائق لقضاء حوائجها.
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} لم يتفرع منه شيء، ولم يتفرع بشيء، ليس له أصل ولا فرع، وليس ولد ولا والد، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ليس له مثيل، هذه السورة هي السورة العظيمة، هي صفة الله عز وجل، ولهذا قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}.
وقال تعالى: {بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ أَنّى يَكونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَم تَكُن لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ} [الأنعام:101] فكيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟
وفي هاتين الآيتين، الرد على اليهود والنصارى والمشركين، في نسبة الولد إلى الله، وفيه تنزيه الله سبحانه وتعالى عن اتخاذ الولد، وفيه أن نسبة الولد إلى الله من أعظم الكفر، ومن أغلظ الكفر، وفي هاتين الآيتين الرد على طوائف الكفر الذين نسبوا الولد إلى الله تعالى، فكيف يكون له ولد وكل له قانت، كل له مطيع، مذلل ومقهور، وكيف يكون له ولد؟ وهو بديع السماوات والأرض، وموجدهما على غير مثال سابق، وفيه إثبات صفة الخلق وأن الله هو الخالق وهو المبدع لكل شيء.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} كيف يكون له ولد؟ إذًا هذا رد آخر، إذًا الله سبحانه وتعالى رد على هؤلاء، بأنواع من الردود؛ الرد الأول: أنه منزه سبحانه وتعالى، في قوله: {سُبْحَانَهُ} .
والرد الثاني: أن كل من في السماوات وفي الأرض قانت ومطيع لله، كرهًا أو اختيارًا.
الرد الثالث: أنه بديع السماوات والأرض، مبدعهما ومنشأهما على غير مثال سابق، فكيف يكون له ولد؟
الأمر الرابع: أنه لا يحتاج إلى أحد وأنه إذا أراد شيئًا، قال له: كن فيكون.
الأربعة ردود ترد على من نسب الولد إلى الله تعالى، الأول التنزيه، حيث قال: {سُبْحَانَهُ}، والثاني: أن كل من في السماوات وفي الأرض قانت لله، والثالث: أنه بديع السماوات والأرض، والرابع: أنه لا يحتاج إلى أحد وأنه إذا أراد شيئًا، قال له: كن فيكون، وفي هذه الآية الكريمة: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فيه إثبات القضاء، وأن الله سبحانه وتعالى يقضي الأمر ويدبره.
وفيه إثبات الأمر الكوني، وفيه إثبات الإرادة، وفيه إثبات الكلام لله عز وجل، قوله: {كُن فَيَكُونُ} هذا هو الأمر الكوني والقدري، كلمة الله نوعان: كلمة قدرية، كما في هذه الآية، {كُن فَيَكُونُ} .
وفيه أن الله تعالى يخلق بالكلام، كل في هذا، إذا قضى أمرًا، {وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فيه إثبات القضاء.
وفيه إثبات الأمر وفيه إثبات الإرادة، وفيه إثبات الكلام لله عز وجل، وفيه أن الله يخلق بالكلام، وفيه أن كلام الله بحرف وصوت وهو مكون من حرف كن.
وفيه الرد على الأشاعرة الذين نفوا الكلام، ونفوا أن يكون بحرف وصوت، ونفوا الحروف، والأشاعرة يقولون: الكلام ليس بحرف ولا بصوت، كلام الله معنى قائم بنفسه، ولا يسمع وهو ليس بحروف ولا بأصوات، وهذا من جهلهم وضلالهم، كلام الله بصوت وبحرف، سمعه جبرائيل من الله عز وجل، سمع القرآن من الله، ونزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ{١٩٣} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {١٩٤} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء:193-195].
وكلام الله بحرف وصوت، فكن حرفان، فيه الكاف والنون، وفيه أن الله سبحانه وتعالى يخلق بالكلام، فإذا أراد شيئًا فإنه يقول له: كن فيكون، وفيه أنه لا يستعصي شيء على الله، ولا يمتنع شيء عن الله، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:83] هذا هو الأمر الكوني، أمر الله نوعان، أمر كوني قدري، كما في هذه الآية {كُن فَيَكُونُ} وأمر ديني شرعي مثل كلمات القرآن، والكلمات الدينية، مثل قوله عليه السلام: «أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر»([2]) هذه هي الآيات الكونية، التي لا يجاوزها البر ولا الفاجر، بخلاف الكلمات الدينية التي يجاوزها الفاجر، كلمات الدينية مثل: أقيموا الصلاة، الفاجر يجاوزها ولا يقيم الصلاة، بخلاف الكلمات الكونية ما يجاوزها الفاجر، مثل:إذا قال الله: كن ما يمتنع، لابد أن تكون، لا يمتنع أحد عن الله تعالى.
([1]) صحيح البخاري (4533 و6396).
([2]) رواه النسائي في السنن الكبرى (10726).