** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
روى محمد بن إسحاق، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رافع بن حريملة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولًا من الله كما تقول، فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}، وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب {كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} قالوا: هم اليهود والنصارى، ويؤيد هذا القول، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: {وَإِذا جاءَتهُم آيَةٌ قالوا لَن نُؤمِنَ حَتّى نُؤتى مِثلَ ما أوتِيَ رُسُلُ اللَّـهِ اللَّـهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصيبُ الَّذينَ أَجرَموا صَغارٌ عِندَ اللَّـهِ وَعَذابٌ شَديدٌ بِما كانوا يَمكُرونَ} [الأنعام:123]، وقوله تعالى: {وَقالوا لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يَنبوعًا {٩٠} أَو تَكونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهارَ خِلالَها تَفجيرًا {٩١} أَو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفًا أَو تَأتِيَ بِاللَّـهِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلًا {٩٢} أَو يَكونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ أَو تَرقى فِي السَّماءِ وَلَن نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَينا كِتابًا نَقرَؤُهُ قُل سُبحانَ رَبّي هَل كُنتُ إِلّا بَشَرًا رَسولًا} [الإسراء:90-93] وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21] وقوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر:52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة، على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم، ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية، من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّـهَ جَهْرَةً} [النساء:153] وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: أشبهت قلوب مشركي العرب، قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ{٥٢} أَتَوَاصَوْا بهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات52-53]، وقوله: { قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل، بما لا يحتاج معه إلى سؤال آخر وزيادة أخرى، لمن أيقن وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى، وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذينَ حَقَّت عَلَيهِم كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤمِنونَ {٩٦} وَلَو جاءَتهُم كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا العَذابَ الأَليمَ} [يونس:96، 97].
*****
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمات، بيان المقالة الفظيعة التي قالها المشركون والفرية والاقتراح العظيم الذي سألوه فقالوا لنبي الله صلى الله عليه وسلم، وهم مشركو العرب: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} وهذه من الآيات الاقتراحية العظيمة، كما أخبر الله عنهم وقال تعالى: {وَقالوا لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتّى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يَنبوعًا أَو تَكونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهارَ خِلالَها تَفجيرًا {٩١} أَو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفًا أَو تَأتِيَ بِاللَّـهِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلًا {٩٢} أَو يَكونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ أَو تَرقى فِي السَّماءِ وَلَن نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَينا كِتابًا نَقرَؤُهُ قُل سُبحانَ رَبّي هَل كُنتُ إِلّا بَشَرًا رَسولًا} [الإسراء:90-93] هذا بشر رسول، الأمر بيد الله سبحانه، وهذه هي الآيات الاقتراحية، والمقصود منها التعنت والعناد، وهي زيادة في كفرهم وضلالهم، وكذلك أخبر الله عنهم وأنهم قالوا: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} ولقد أخبر الله تعالى أن هذا ناشئ عن الجهل، ولهذا قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} هذا من جهلهم وضلالهم، {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} ثم قال تعالى: {كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} وهم اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى كذلك، كما أخبر الله تعالى عن اليهود أنهم قالوا لموسى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} فقلوب الكفرة متشابهة، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تشابهت قلوب الكفار، مع قلوب اليهود والنصارى، في الكفر والعناد، والتعنت وسؤال الآيات الاقتراحية، ولهذا قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌٰ لِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} مع أن الله تعالى أوضح الآيات، الدالة على صدق الرسل وأنهم، جاءوا بالوحي من عند الله عز وجل، وأن الله تعالى أرسلهم إلى الناس، يدعونهم إلى توحيد الله عز وجل، والإيمان به واتباع رسله، وعبادة الله عز وجل، وقد وضح لهم الحق ولكنه استمروا على عنادهم، وفي هذه الآيات الكريمات، أن هذه المقالات كفرية.
وفيه: عتو العرب وعنادهم.
وفيه: أن الكفار يتشابهون في العتو والعناد.
وفي هذه الآيات: أن الله تعالى، أوضح الدلائل والحجج والبراهين، على صدق الأنبياء والرسل، وأنه إقامة الحجة على الخلق، فليس لهم عذر، انقطعت المعذرة، كما قال سبحانه وتعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] والله تعالى قد بين الآيات لمن يوقن، لمن عنده إيقان، ولمن طلب الحق وأراده، أما من لم يرد الحق، ولا يقصد الحق، فكما قال الله تعالى: {وَمَن يُرِدِ اللَّـهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا} [المائدة:41] نعم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}.
وقوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} لا نسألك عن كفر من كفر بك، كقوله {فَإِنَّما عَلَيكَ البَلاغُ وَعَلَينَا الحِسابُ} [الرعد:40]، وكقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ {٢١} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} الآية [الغاشية:21-22] وكقوله تعالى: { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] وأشباه ذلك من الآيات.
[أوصاف صلى الله عليه وسلم في التوراة]
وروى الإمام أحمد، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، وأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله؛ فيفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا).
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه في البيوع وفي التفسير.
*****
(التفسير)
وفي هذه الآيات الكريمة: بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومهمته، وأن الله أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، أرسله بالحق لا بالباطل، أرسله بالحق يدعو إلى الله تعالى، وإلى توحيد الله تعالى ودينه، ويبشر من أطاعه، وعبد الله ووحده بالجنة، وينذر من عصاه وكفر بالله بالنار، وأنه بعد ذلك إذا أدى رسالته وأدى مهمته فلا يضره أحد، ولا يضره الكافر، ولهذا قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} فهذه مهمتك يا محمد، أرسلك الله بالحق، تدعو إلى الحق وإلى الله، وإقامة دينه، في أرض الله بالحق، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} تبشر من وحد الله تعالى، وأطاعك بالجنة وتنذر من كفر بالله وعصاك بالنار، فإن أديت مهمتك فلا تسأل عن أصحاب الجحيم، وهم الكفرة فلا يضرك كفر كافر، فقد أديت ما عليك، كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ {٢٥} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} [الغاشية:25-26]، ما على الرسول إلا البلاغ، وفي هذه الآية الكريمة وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وإثبات رسالته.
وأن الله سبحانه وتعالى أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، من صفته البشارة والنذارة، فهو بشير للمؤمنين والمطيعين بالجنة، وهو نذير للكفار بالنار.
وفيه: أن الرسل وأتباعهم من الدعاة لا يضرهم العصاة، ولا يضرهم كفر الكافر ومعصية العاصي، فقد أدوا ما عليهم، وإنما يتحمل هؤلاء العصاة، يتحملون ذنبوهم وكفرهم، ويلقون عليه الجزاء يوم القيامة.
وفيه: صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة كما في البخاري([1])، قال: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه اللَّه حتى يقيم به الملة العوجاء، الملة العوجاء هي ملة التوحيد، وسميت عوجاء لكونها مائلة عن الشرك والبدع ، وهي في نفسها مستقيمة، ملة إبراهيم تسمى الملة العوجاء، لأنها مائلة عن الشرك والبدع، وهي في نفسها مستقيمة، ولكنها مائلة عن البدع والشرك ، ولذلك صارت عوجاء، كما قال تعالى: {دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا} [الأنعام:161] وهي ملة إبراهيم حنيفًا، والحنيف هو المائل عن الشرك والبدع، إلى التوحيد، وهي في نفسها مستقيمة، وهي مائلة عن الشرك والبدع، نعم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ{١٢٠} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
قال ابن جرير: يعني بقوله جل ثناؤه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم، إلى ما بعثك الله به من الحق.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَى} أي: قل يا محمد، إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل.
قال قتادة في قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَى} قال: خصومة علمها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضلالة، قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله».
قلت: هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} فيه تهديد ووعيد شديد، للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة، عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: هم اليهود والنصارى، وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله.
وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه.
وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: قال: هم الذين إذا مروا بآية رحمة، سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ.
وقوله: {أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} خبر عن {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة، على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} الآية [المائدة:66].
وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [المائدة:68] أي: إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حق الإيمان، وصدقتم ما فيها من الأخبار، بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ونعته وصفته والأمر بإتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {الَّذينَ يَتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ} الآية [الأعراف:157].
وقال تعالى: { قُل آمِنوا بِهِ أَو لا تُؤمِنوا إِنَّ الَّذينَ أوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذا يُتلى عَلَيهِم يَخِرّونَ لِلأَذقانِ سُجَّدًا {١٠٧}وَيَقولونَ سُبحانَ رَبِّنا إِن كانَ وَعدُ رَبِّنا لَمَفعولًا} [الإسراء:107-108] أي: إن كان ما وعدنا به، من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعًا.
وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ {٥٢} وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {٥٣} أُولَـئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:52-54].
وقال تعالى: { وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] ولهذا قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كما قال تعالى: {وَمَن يَكفُر بِهِ مِنَ الأَحزابِ فَالنّارُ مَوعِدُهُ} [هود:17].
وفي الصحيح: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار».
*****
(التفسير)
وفي هاتين الآيتين الكريمتين بيان من الله سبحانه وتعالى، وأمر لهم بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما، وعدم إرضاء اليهود والنصارى، قال سبحانه وتعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} أي حتى تتبع دينهم، .
وفيه: دليل على أن اليهود والنصارى لا يرضون عن المؤمنين، مهما تنازلوا، وكلما تنازلوا عن شيء طلبوا منهم أن يتنازلوا، حتى يخرجوهم من دينهم، وهذا يدل على أنه لا يجوز اتباع الكفرة واليهود والنصارى، ولا أن نتبع شيئا من دينهم، لأنه لن يرضيهم ذلك، لن يرضيهم حتى يكون المسلمون مثلهم في الكفر، {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وهذا خبر من الله تعالى، لا يتخلف، أن اليهود والنصارى لا يرضون عن المسلمين حتى يوافقوهم في الكفر، فلا ينبغي على المسلمين أن يتنازلوا عن شيء من دينهم، مهما تنازلوا لا يرضيهم، بل يزدادون عداوة وجورًا، كلما تنازلت يطلبون أن تتنازل، وتتنازل حتى يخرجوك عن دينك، {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ} فهدى الله الذي أنزله هو دينه الذي أمر به سبحانه وتعالى، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} هذا تهديد ووعيد لمن اتبع اليهود والنصارى، بعد معرفته للحق، وأنه ليس له ولي ينصره، من دون الله، ليس له ولي يتولاه بعد الله، وليس له ناصر ينصره، والمعنى أنه إذا حل به العذاب فلا أحد ينفعه، ولا أحد يدفع عنه عذاب الله، ولا أحد ينصره ولا أحد يتولاه.
وفي هذه الآية الكريمة: التحذير من طاعة اليهود والنصارى، والتحذير للمسلمين من أن يتنازلوا عن دينهم من اليهود والنصارى.
وفيه: دليل على أن اليهود والنصارى لا يرضون عن المسلمين، حتى يخرجوهم من دينهم، وأنهم مهما تنازلوا عن شيء فلن يرضيهم ذلك، حتى يتنازلوا عن دينهم.
ودل ذلك على وجوب الحذر من طاعة اليهود والنصارى وطاعة الكفار، وعدم موافقتهم لا في بدعهم، ولا في أعيادهم، ولا في احتفالاتهم، وعدم الاستجابة لهم.
وفيه: أن دين الله هو هدى الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الهدى الذي رضيه لهم، وهو الدين القيم، وتوحيد الله، وإقامة شرع الله، وإقامة دين الله في أمر الله.
وفي هذه الآية الكريمة: التهديد والوعيد الشديد، لمن أطاع الكفار، واتبع أهوائهم وأرائهم، واستجاب لمطالبهم.
وفي هذه الآية: تهديد ووعيد لمن استجاب لمطالبهم وأطاعهم، وأنه إذا أحلت به العقوبة، فلا أحد يتولاه ولا أحد ينصره، ولا أحد يدفع عنه عذاب الله.
وفيه: دليل على أن من أطاع الكفرة واستجاب لهم متعرض للوعيد الشديد، ومتعرض لمقت الله وعقوبته، وغضبه وسخطه، وعقوبته العاجلة والآجلة.
وفي هذه الآيات الكريمة: تحذير من طاعة اليهود والنصارى، وأن اليهود والنصارى لا يرضيهم التنازل الجزئي، ولابد من التنازل الكامل.
وفيه: أن هدى الله الذي أنزله على نبيه هو الدين الحق، الذي لا عوج فيه.
وفيه: أن من اتبع أهواء الكفار وأطاعهم واستجاب لمطالبهم، أن الله تعالى يتوعده، بالعذاب في الدنيا والآخرة، وأنه لا أحد يدفع عنه عذاب الله، ولا أحد يتولاه وينصره، ثم قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} هذا ثناء من الله تعالى، من أهل الكتاب المستقيمين على طاعة الله، فالذين آتاهم الله الكتاب من المؤمنين من اليهود والنصارى، وهذه الأمة هم الذي يتلونه حق تلاوته، فيعملون به حق العمل.
والتلاوة في الكتاب نوعان، تلاوة لفظية وهي تلاوة القرآن، تلاوة حروفه، وهذه عبادة، "من قرأ حرف من كتاب الله"، كما في حديث ابن مسعود، "فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها"، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف([2])، هذه هي التلاوة اللفظية، الأجر والعبادة، ولكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
والنوع الثاني: هي التلاوة الحكمية، وهي تصديق أخباره وتنفيذ أحكامه، ويصدق الله في أخباره، وأن يعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه وينفذ أوامره، يستجيب لله ولرسوله، وينتهي عما حرم الله، ويحكم شرع الله في أرض الله، وهذه هي التلاوة التي عليها مدار السعادة أو الشقاوة، والتلاوة اللفظية وسيلة للتلاوة الحكمية، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} .
هؤلاء هم المؤمنون حقًا، يؤمنون حقًا بالكتاب العزيز، وفي الكتب السابقة هم الذين يعملون به، يتلونه حق تلاوته، يعني يعملون به حق العمل، يصدقون أخباره، وينفذون أحكامه، هذه هي التلاوة الحكمية، فالتلاوة نوعان، تلاوة لفظية وتلاوة حكمية، والمقصود هنا التلاوة الحكمية.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني يعملون به حق العمل، ويصدقون أخباره وينفذون أحكامه، وينفذون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ويحكمونه في كل صغيرة وكبيرة، هؤلاء هم المؤمنين حقًا، وفيه دليل على أن المؤمنين الحق، هم الذين يتلون القرآن حق تلاوته، والذين يعملون به ويصدقون أخباره، وينفذون أحكامه.
وفيه: الوعيد الشديد لمن كفر بالله تعالى، {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَمَن يَكفُر بِهِ مِنَ الأَحزابِ فَالنّارُ مَوعِدُهُ} [هود:17] فمن كفر بالله وبكتابه وبرسوله، وبدينه وبرسله فهو الخاسر والنار موعده، وبئس القرار، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
*****
([1]) صحيح البخاري (2125 و4838).
([2]) رواه الترمذي (2910).