** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (123)}.
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم؛ نعتَه واسمه وأمره وأمته. فحذرهم من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسدُ على مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته ، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
*****
(التفسير)
جاءت هذه الآيات الكريمة، كما ذكر المؤلف -رحمه الله- كررها الله -سبحانه وتعالى- والنداء لبني إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب -عليه الصلاة والسلام- ويعقوب أبوه إسحاق، وعمه إسماعيل، وإسحاق وإسماعيل أخوان، إلا أن إسحاق أمه سارة، امرأة إبراهيم وابنة عمه، وإسماعيل أمه هاجر السُّرية التي سراها لما أهداها ملك مصر لإبراهيم، لما أخدمها لسارة، ثم أعطتها إبراهيم يتسراها، وعلى هذا فالعرب واليهود أبناء العم؛ لأن العرب كلهم من سلالة إسماعيل بن إبراهيم – هو الأب الثاني.
وبنو إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب بن إسحاق، وإسماعيل وإسحاق أخوان، فيكونوا أبناء العم، العرب هم أبناء العم مع بني إسرائيل واليهود والنصارى هم أبناء العم.
والله تعالى يخاطبهم، يقول: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، يذكرهم بنعمته الدينية والدنيوية، فالدينية جعل فيهم الأنبياء والرسل، كما ذكرهم موسى -عليه الصلاة والسلام-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20].
الله تعالى أنعم على بني إسرائيل بأن جعل الأنبياء كلهم الذين جاءوا بعد إبراهيم من سلالته، وأنعم عليهم بالنعم الدنيوية، حينما أعطاهم الله المن والسلوى في التيه، وفجر لهم الحجر عيونًا، على قدر أسباط بني إسرائيل، إلى غير ذلك من النعم.
السلوى كالطير، والمن كالزنجبيل ينزل على الأشجار، فالله تعالى يذكرهم بنعمه الدينية والدنيوية: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، اذكروها واشكروها، {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}، المراد: بعالم زمانهم؛ لأن الله فضلهم على عالم زمانهم، فبنو إسرائيل هم أفضل الناس في زمانهم.
وأما بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- فهذه الأمة أفضل من بني إسرائيل؛ ولهذا قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، لكن في زمانهم هم أفضل الناس قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبل مجيء هذه الأمة، فبنو إسرائيل هم أفضل الناس، فضلهم الله على العالمين.
فضلهم على عالم زمانهم، وهذه ميزة واختصاص اختص الله به بني إسرائيل، ثم قال -سبحانه وتعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (123)}، أمرهم الله بتقواه، اتقوا يومًا، وهو يوم القيامة، لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، في يوم القيامة لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا.
ولا ينفع أحدٌ أحدًا، والاقتصاص يكون بالحسنات والسيئات، لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، لكن في الدنيا، قد تجزي نفسٌ عن نفس، قد تأخذ نفس بدل نفس، وقد يعفى، وقد يفدى بالمال، لكن في يوم القيامة ليس فيه افتداء بالمال، ولا تجزي نفسٌ عن نفس شيئًا، ما فيه إلا الحسنات والسيئات.
وقوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ}، يعني تفتدي به، إذا كانت ظالمة أو مشركة، أو سيئة فلا يقبل منها عدلٌ (مال) تدفعه فينقذها من عذاب الله، أي شيء يعدل بها، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36]، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91].
{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ}، لا يقبل من أي نفس عدل، يعني فداء تفتدي بها، تفادي بها نفسها، في الدنيا قد يقبل الفداء، لكن في الآخرة ليس هناك فداء، {وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}، الكافر لا تنفعه الشفاعة مطلقًا، والمؤمن تنفعه الشفاعة بشرطين: أن يأذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له.
إذا رضي الله عن المشفوع له، وأذن للشافع أن يشفع؛ نفعت الشفاعة، وأما الكافر فلا يكون له الشفاعة كما قال الله تعالى في هذه الآية ، وفي قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (123)}، يعني ولا أحد ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، من استحق العذاب، فلا أحد ينصره، ولا أحد يدفع عنه عذاب الله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}.
[ذكره إبراهيم الخليل، وتوليته إمامة الناس]
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله -عليه السلام- وأن الله جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد، حتى قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} أي: واذكر -يا محمد- لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم: أنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم؛ أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي {فَأَتَمَّهُنَّ} أي: قام بهن كلهن.
كما قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]؛ أي: وفَّى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه، وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [ النحل:120 - 123].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161]، وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:67، 68].
وقوله تعالى: {بِكَلِمَاتٍ} أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم، عليها السلام: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]. وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115]؛ أي: كلماته الشرعية. وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}؛ أي: قام بهن.
{ قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}؛ أي: جزاء على ما فَعَل، كما قام بالأوامر وتَرَكَ الزواجر، جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به، ويحتذى حذوه.
[ما هي كلمات الابتلاء؟!]
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل -عليه السلام- فروي عن ابن عباس في ذلك روايات: فروى عبد الرزاق، عن ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك. وكذا رواه أبو إسحاق.
وروى عبد الرزاق أيضًا: عن ابن عباس: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: ابتلاه بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: قَص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونَتْف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
قال ابن أبي حاتم: ورُوِي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنَّخَعي، وأبي صالح، وأبي الجلد، نحو ذلك.
قلت: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم ([1])، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَشْرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البرَاجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء»، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
قال وَكِيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء.
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط». ولفظه لمسلم([2]).
وروى محمد بن إسحاق، عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه - في الله - حين أمر بمفارقتهم. ومحاجَّته نمرود - في الله - حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه. وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه -في الله- على هول ذلك من أمرهم. والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده - في الله - حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
[عهد الله لا ينال الظالمين]
وقوله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لما جعل الله إبراهيم إمامًا، سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته، فأجيب إلى ذلك، وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طَلْبَتِهِ قوله الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه.
وأما قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فيخبره أنه كائنٌ في ذريته ظالم لا ينال عهده، ولا ينبغي أن يوليه شيئًا من أمره، وإن كان من ذرية خليله - ومحسن ستنفذ فيه دعوته، وتبلغ له ما أراد من مسألته.
واختار ابن جرير أن هذه الآية - وإن كانت ظاهرة في الخبر- أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالـمًا، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل -عليه السلام- أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه.
وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفةً، ولا حاكمًا، ولا مفتيًا، ولا شاهدًا، ولا راويًا.
*****
(التفسير)
هذه الآيات الكريمة فيها ابتلاء الله تعالى لنبيه وخليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من هذه الكلمات، وأنه وفى وأتم هذه الكلمات فجعله الله إمامًا، جزاءً له على وفائه بهذه الكلمات، والفضل من الله، فهو الذي وفقه، وهو الذي هداه، وهو الذي جعله إمامًا.
وفيها: بيان أن من ذريته من يرث الإمامة، فيكون إمامًا، ومن ذريته من يكون ظالـمًا، كما قال الله تعالى في سورة الصافات لما ذكر إبراهيم وإسحاق قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، والله تعالى يقول: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}، (وإذ): ظرف، والمعنى: واذكر يا محمد ابتلاء الله لإبراهيم.
{وإذ ابتلى إبراهيم}؛ يعني: اختبره وامتحنه، والتكاليف هنا اختبار، والله تعالى ابتلى عباده بالأوامر والنواهي، فالعباد كلهم مبتلون، كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، الله تعالى اختبر العباد وابتلاهم بالتكاليف.
واختبر إبراهيم وابتلاه بهذه الكلمات فأتمهن، يعني: وفَّى وأقام الأوامر، والمراد بالكلمات: الكلمات الدينية الشرعية؛ يعني: بشرائع وأوامر ونواهٍ، فأتمها إبراهيم ووفَّى -عليه الصلاة والسلام- بالكلمات وامتثل الأوامر، واجتنب النواهي، وصدَّق الأخبار، كما قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، فجزاه الله فجعله إمامًا للناس قدوة يقتدى به، كما قال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]؛ يعني: قدوة في الخير وإمامًا.
والكلمات نوعان:
- كلماتٌ دينية شرعية: مثل كلمات القرآن، وكلمات الأوراد الشرعية.
- وكلماتٌ قدرية؛ كما جاء في الحديث: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ ، وَلاَ فَاجِرٌ »([3]).
هذه الكلمات الكونية القدرية، لا يجاوزها البر والفاجر، وأما الكلمات الدينية، فيجاوزها الفاجر.
الكلمات الدينية مثل: {وأقيموا الصلاة}، هذه كلمات دينية، يجاوزها الفاجر، الفاجر لا يصلي، لكن الكلمات القدرية، لا يجاوزها أحد لا بر، ولا فاجر لا بد من نفوذها، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، لا يستعصي عليه شيء.
فهذه الكلمات المذكورة في الآية هي الكلمات الدينية، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، (كلمة ربك)؛ (صدقًا): في الأخبار، (وعدلًا): في الأحكام.
فإبراهيم عليه السلام صدَّق الخبر، ونفذ الأحكام -عليه الصلاة والسلام- فخبر الله صدق، وأوامره عدل، فلما وفَّى جازاه الله، وجعله للناس إمامًا.
{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}؛ يعني: قدوة يقتدى به في الخير، فالإمام يكون قدوة في الخير، والأشرار يكونون قدوة في الشر، فآل إبراهيم وآل محمد، وموسى قدوة في الخير، وفرعون قدوة في الشر، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، أئمة يقتدى بهم في الشر - والعياذ بالله.
فقال إبراهيم -عليه السلام-: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، سأل ربه أن يكون من ذريته أئمة، قال الله له: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، هذا فيه بيان أن ذريته انقسمت قسمين:
- قسمٌ ينال العهد، فيكون إمامًا.
- وقسمٌ يكون ظالـمًا، فلا ينال العهد.
وفيه دليل على أن الظالم لا ينال العهد ولا يولى، لا يجوز أن يولى الظالم، ولا يكون إمامًا للمسلمين، ولا يجوز أن يكون أميرًا، ولا قاضيًا، ولا رئيسًا، ولا مفتيًا، ولا –حتى- شاهدًا، ولا تصح شهادته لظلمه، فالظالم لا ينال العهد، {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
وفيه هذه الآية الكريمة التنويه، تنويه الله تعالى بإبراهيم -عليه السلام- وأنه إمام في الخير، جعله الله للناس إمامًا إلى يوم القيامة، وفيه أن الابتلاء والامتحان لا بد منه لجميع الخلق، حتى الرسل.
وأن الخلق كلهم مبتلون ومختبرون، بل لا تحصل الإمامة والتمحيص إلا بعد الابتلاء والاختبار، فالرسل مبتلون، وكما قال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.. قال هرقل: فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ([4]).
فالرسل يبتلون أولًا، ثم يكون لهم النصر والعاقبة، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، فلا بد من الابتلاء، وفيه: إثبات الكلام لله، وأنها صفةٌ من صفاته، وأن كلام الله نوعان: (كلامٌ قدري، وكلامٌ شرعي).
وفيه: الرد على المعتزلة الذين قالوا: إن كلام الله مخلوق، والرد على الأشاعرة الذين قالوا: إن الكلام ليس بحرف ولا صوت.
كلام الله صفةٌ من صفاته، ليس بمخلوق كما تقول المعتزلة، وليس هو المعنى، كما تقول الأشاعرة، بل هو بحرف وصوت.
وفيه: أن الظالم لا ينال عهد الله، ولا يجوز أن يولى أي ولاية، لا الإمامة العظمى، ولا الإمارة، ولا القضاء، ولا الإفتاء، ولا الإدارة، ولا يكون شاهدًا، ولا تقبل شهادته.
وهذا من باب الخبر ولكنه بمعنى الأمر، ولو كان خبرًا محضًا، لم يوجد في الدنيا إمامٌ ظالم، لكن يوجد الآن ظلمة خالفوا شرع الله، فهذا خبر بمعنى الأمر، والمعنى: لا تولوا الظالم.
ويقول تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)، المعنى: أمنوا البيت، واجعلوه آمنًا، وهو خبر بمعنى الأمر بمعنى آمنوا البيت، واجعلوه آمنًا فلا تسفكوا فيه دمًا، ولا تخيفوا فيه أحدًا، ولو كان خبرًا محضًا، ما حصل في مكة خوف، ولا حصل فيها رعب، مع أنه حصل في أوقات، طبعًا أخافوا الناس وقتلوا الناس، هذا يدل على أنه خبر بمعنى الأمر، وليس خبرًا محضًا؛ لأن خبر الله لا يتخلف، لو كان خبرًا محضًا.
ولا شك أن الذي يخالف الأوامر يعاقب، هذا أمر الله وأمر رسوله، هذا يختلف، إذا كان له حد يقام عليه الحد، وإذا لم يكن هناك حد فإنه يعذر.
وفي هذه الآيات: نفي الشفاعة وهذه في الكفار، ليس لهم شفاعة، أما المؤمنون، فلهم شفاعة، بشرط كما قال الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، ذكر الشرطين، فهذه الشفاعة للمؤمن، إذا أذن الله للشافع ورضي عن المشفوع له، أما الكفار فلا، كما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} يعني للكفرة.
ونفي الشفاعة عن الكفار، وأما المؤمن فله الشفاعة بالشرطين المذكورين.
والعاصي.. نقول المعصية تشمل الشرك، وما دونه كالظلم؛ والظلم نوعان:
- ظلمٌ أكبر، وهو ظلم الكفر.
- وظلمٌ أصغر، وهو ظلم الفسق والمعاصي.
فيقال: مؤمن ظالم، يعني الذي يتعدى حدود الله وهو مؤمن، فيقال: مؤمن ظالم، أو مؤمن فاسق، أو مؤمن عاصٍ.
*****
([1]) صحيح مسلم (261).
([2]) صحيح مسلم (5889 و5891 و6297) وصحيح مسلم (257).
([3]) أخرجه أحمد في المسند (3/419) والنسائي في الكبرى (10726).
([4]) صحيح البخاري (2804).