** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[تحريم مكة]
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاها». وهكذا رواه النسائي، وأخرجه مسلم([1]).
وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعْضَد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلْتَقَط لُقَطَته إلا من عرَّفها، ولا يختلى خَلاهَا[2]»([3]).
فقال العباس -رضي الله عنه-: يا رسول الله! إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم. فقال: «إلا الإذخر»، وهذا لفظ مسلم ([4])، ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك ([5]).
ثم روى البخاري بعد ذلك عن صفية بنت شيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
وعن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة -: ائذن لي -أيها الأمير- أن أحدثَك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَد من يوم الفتح، سَمِعَته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به[6]، إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسول الله، ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب». فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخَرْبَة.
رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظه ([7]).
*****
(التفسير)
هذه الأحاديث فيها تحريم القتال في مكة، تحريم قطع الشجر الأخضر، وحش الحشيش، والمراد بالشجر والحشيش الذي نبت بماء المطر، أما ما أنبته الآدميون - ما زرعه الآدميون - من أشجار فلهم أخذه، لكن المراد ما أكل كاليابس، لهم أخذه وكذلك الشوك الذي يؤذي؛ ولهذا قال: « لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا »([8])، واستثنى قال العباس - عم النبي صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله إلا الإذخر - هو نبتٌ طيب - فإنه لقينهم ولبيوتهم؛ يعني: يقول نحن نحتاج الإذخر، فاستثناه النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نزل الوحي، قال: إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، وفي لفظٍ: "لقيننا وقبورنا"، وذلك أن الإذخر نبتٌ طيب، يجعل في البيوت وفي القبور، وفي الصاغة.
في البيوت يجعل بدل الخشب، يعني بين الأخشاب، قبل أن توجد الصبات والإسمنت، كان الناس يسقفون بالخشب، وكانوا هنا في نجد يضعون بين الخشب سعف النخل، لكن مكة ليس فيها نخل، ولا فيها سعف، فيجعلون بدلها الإذخر، بين الأخشاب.
وكذلك في القبور، يجعلونها بين اللبنات.
وكذلك لقينهم: وهم الصاغة، حينما يوقدون به لأجل إشعال النار، وإحماء الذهب؛ ولهذا قال: «فإنه لقينهم وبيوتهم»، وفي لفظ: «فإنه لبيوتنا وقبورنا»([9]).
وفي حديث قصة أبي شريح مع أمير المدينة عمرو بن سعيد وكان يقاتل عبد الله بن الزبير، فابن الزبير تولى الخلافة بعد موت يزيد، وتم له الأمر؛ بايعه أهل مكة، والمدينة والطائف، حتى دان له العراق، ثم قاتله عمرو بن سعيد -أمير المدينة- كان أميرًا ظالـمًا يجهز الجيوش لقتال عبد الله بن الزبير في مكة، فأنكر عليه الصحابة، قالوا: لا يجوز القتال في مكة، ومن ذلك أبو شريح.
فأبو شريح تأدب مع الأمير، هذا أمير ظالم، وفيه الأدب مع الأمراء قال: ائذن لي أيها الأمير – استأذنه- أن أحدثك حديثًا سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به -يعني أنه متأكد؛ يقول: سمعت بأذني، ووعاه قلبي- فإنه قال: الغد يوم الفتح - يعني: اليوم الثاني بعد فتح مكة -: «إن هذا البلد -يعني مكة- حرمها الله يوم خلق السموات والأرض»، ففيه دليل على أن الله هو الذي حرم مكة، وأما الحديث الآخر: «إن إبراهيم حرم مكة»، فالمراد: أظهر تحريمها، التحريم من الله، وإبراهيم هو الذي أظهر التحريم، حديث: «إن مكة حرمها إبراهيم، وإني حرمت المدينة»([10]).
معناه: حرَّم مكة إبراهيم؛ يعني: أظهر تحريمها، وإلا فالله هو الذي حرَّم، وهذا هو الجمع بين الحديثين، هذا الحديث فيه: أن الله هو الذي حرَّم، وإبراهيم هناك حرَّم؛ يعني: أظهر التحريم بأمر من الله، فقال أبو شريح: إن النبي قال: «فإن ترخص أحدٌ بقتال رسول الله» -يعني فتح مكة- فقولوا: «إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم».
أذن الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأباح له مكة القتال فيها حتى يتم الفتح، لتطهيرها من الشرك، "وإنما أحلت لي ساعة من نهار"، كانت هذه الساعة من الضحى إلى العصر حتى تم الفتح، ثم رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، عادت للتحريم مرةً أخرى، فعمرو بن سعيد كان يقاتل في الحرم، وأبو شريح نصحه، قال له: أخبرك الحديث، الرسول يقول: "عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس" فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك هذا الأمير؟ فرد عليه الأمير ردًّا سيئًا، قال -ماذا قال؟-: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح.
انظر هذا الظالم، يدعي أنه أعلم من الصحابي، يقول أنا أعلم بالحديث منك، أنت ما تعرف الحديث- أنا أعلم بذلك، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًا بدم – يدعي أن ابن الزبير عاص، ولا يعيذه الحرم، ويقول لا بد أن أقاتله، يقول إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخربة؛ يعني: بجناية، يقول: الحرم لا يعيذ الجاني، ولا يعيذ الظالم، ولا بد من قتاله، وهذا كلامٌ سيئ من عمرو بن سعيد.
الواجب عليه يقول: سمعًا وطاعة لله ورسوله، وأن يكف عن القتال، لكن هكذا الظلمة لا يبالون.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حَرَّمها؛ لأن إبراهيم بَلَّغ عن الله حُكْمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لها[11].
كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ..} الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره؛ ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بَدْءِ أمرك، فقال: «دعوة إبراهيم -عليه السلام- وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام»([12]). أي: أخْبرنا عن بدء ظهور أمرك. كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله.
*****
(التفسير)
يعني سألوه: أن يخبر عن أمره، فقال – إن أمري هكذا-: دعوة أبي إبراهيم، حينما قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، والله تعالى قدر هذا، مكتوب قبل خلق السموات والأرض، مكتوب أنه خاتم النبيين؛ ولهذا قال: «إني مكتوبٌ خاتم النبيين، وآدم منجدلٌ في طينته»([13])، ولكن مع ذلك إن الله قدر أن إبراهيم يدعو، وأن الله يستجيب دعاءه، فيوافق القدر، ما قدره الله وكتبه.
قال: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى -بشر به- ورؤيا أمي -عند الولادة، لما ولدته- رأت أنها خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[دعاء الخليل لمكة بالأمن والرزق]
وقوله تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}؛ أي: من الخوف؛ أي: لا يُرْعَبُ أهلُه، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا؛ كقوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه.
وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح»([14]).
*****
(التفسير)
ومن ذلك أن حمل السلاح منهي عنه في مكة، إلا إذا دعت الحاجة، وذلك كان الحجاج بن يوسف كان أميرًا لعبد الملك بن مروان، وأمره الخليفة أن يقتدي بابن عمر، وأن يأخذه في الحج، فاقتدى به، ولكن الحجاج أوعز إلى بعض جنوده أن يجلس عند ابن عمر –حوله-، فاحتك به وأصابه بالسلاح، حتى أثر فيه، فجاء الحجاج يزوره -فيمن يزوره- قال: قد علمنا يأبا عبد الرحمن الذي فعل ذلك، قال: أنت الذي فعلت ذلك، أنت الذي حملت السلاح في مكة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حمل السلاح فيها، وهذا من ظلمه –من ظلم الحجاج- أنه هو الذي تعمد هذا، وأوعز إلى بعض جنوده أن يصيبه بالسلاح، حتى تأثر ابن عمر.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقال في هذه السورة: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}؛ أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسب هذا؛ لأنه قبل بناء الكعبة.
وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم:35] وناسب هذا هناك؛ لأنه -والله أعلم- كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛ ولهذا قال في آخر الدعاء: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39].
وقوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
روى ابن جريرٍ عن أبي بن كعب {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ الْمَصِير} قال: هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يحجُرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر – أيضًا - أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقًا لا أرزقهم؟! أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير.
ثم قرأ ابن عباس: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، رواه ابن مَرْدويه. ورُوي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك -أيضًا.
وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:69، 70]، وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:23، 24]، وقوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ* وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33، 35].
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه في ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير. ومعناه: أن الله تعالى يُنْظرُهم ويُمْهلهُم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48]، وفي الصحيحين: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدًا، وهو يرزقهم ويعافيهم».
وفي الصحيح أيضًا: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
*****
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمة ذكر الله تعالى دعاء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما بنا الكعبة، قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}[إبراهيم:35]، وقد يكون هذا كما استظهر الحافظ، يكون هذا قبل بناء الكعبة، قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}، ولما بناها دعا بدعاءٍ آخر فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}، فهذا دعاء من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن يجعل البلد آمنًا فاستجاب الله دعاءه فجعله بلدًا آمنًا، وأمر بتأمينه.
فهو في كثيرٍ من الأوقات مؤمن،{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} دعا الله بأن يجعله بلدًا آمنًا، ودعا الله أيضًا لهم بالرزق قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، فاستجاب الله دعاءه، فالخيرات والأرزاق متوفرة، في هذا البلد الأمين، وهو بلدٌ آمن، استجابةً لدعاء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت:67]، واستجاب الله دعاءه في أن يرزقهم من الثمرات، فهو يرزقهم من الثمرات -{مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، إبراهيم خص في دعائه المؤمنين- قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} ؛ يعني: ومن كفر فأرزقه -أيضًا- فإن الله تعالى لا يخلق خلقًا ويهملهم، بل هو -سبحانه وتعالى- يرزق البر والفاجر، والمؤمن الكافر، والدنيا عرضٌ حاضر يأكل منها البر والفاجر، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء ([15]).
فالله تعالى يرزق المؤمن والكافر، ولكن الكافر يملي له، ويمهله الله، ثم بعد ذلك يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، وإذا مات على كفره فمآله إلى النار -نسأل الله العافية.
ولهذا قال سبحانه: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وفيه دليل على أن من مات على الكفر فلا حيلة في إخراجه من النار، بل هو من أهل النار المخلدين فيها، ويدل على ذلك قول الله تعالى عن عيسى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}[المائدة:72]، فالجنة حرام على الكافر، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا ينادي في بعض الغزوات: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مؤمنة»([16]).
في هذه الآية الكريمة: استجاب الله دعاء إبراهيم.
وفيها: أن البيت يجب أن يؤمن، وأن الله تعالى يسر له الرزق والعيش الرغيد.
وفيه دليل على أن الله يرزق المؤمن والكافر، وأن الكافر إذا مات على كفره، فمصيره إلى النار، وهو من أهلها، وأما المؤمن فإن الله تعالى يرزقه في الدنيا، ويعقبه العاقبة الحميدة، فيكون من أهل كرامته في الآخرة.
*****
([1]) السنن الكبرى (4270) للنسائي. وصحيح مسلم (1362).
([2]) قال الشارح -حفظه الله-: يعني: لا يحش حشيشها.
([3]) صحيح البخاري (1834) ومسلم (1353).
([4]) صحيح مسلم (1353).
([5]) صحيح البخاري (112 و2434 و6880) وصحيح مسلم (1355).
[6] قال الشارح -حفظه الله-: يعني: يؤكد الكلام بقوله: سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي.
([7]) صحيح البخاري (104) وصحيح مسلم (1354).
([8]) صحيح البخاري (1349 و1833 و1834).
([9]) صحيح البخاري (1349).
([10]) صحيح مسلم (1360).
[11] قال الشارح حفظه الله: التحريم من الله، وإبراهيم بلغ وأظهر التحريم عن الله.
([12]) أخرجه أحمد (4/128) والبزار (4199).
([13]) أخرجه أحمد (4/127) وابن أبي عاصم في "السنة" (409).
([14]) صحيح مسلم (1356).
([15]) سنن الترمذي (2320) عن سهل بن سعد وقال الترمذي: وَفِي البَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ».
([16]) سنن الترمذي (3092).