** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله -عز وجل-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
بناء الكعبة والدعاء بقبول ذلك العمل فالقواعد: جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر - يا محمد - لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- البيت، ورفْعَهما القواعدَ منه، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وحكى القرطبي وغيره عن أُبيّ وابن مسعود أنهما كانا يقرآن: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قلت: ويدل على هذا قولهما بعده: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} الآية، فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، كما روى ابن أبي حاتم عن وهيب بن الورد: أنه قرأ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق ألا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلص في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}؛ أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات، {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]؛ أي: خائفة ألا يتقبل منهم كما جاء به الحديث الصحيح، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه.
وقد روى البخاري([1]) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أول ما اتخذ النساء المنْطَق من قِبَل أم إسماعيل اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسِقَاء فيه ماء، ثم قَفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم -عليه السلام- حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [ إبراهيم: 37 ]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ماء السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْفَ درعها، ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحَدًا؟ فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه -تريد نفسها- ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غُوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو قال: بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوِّضُهُ، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - و قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا مَعينًا". قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة ؛ فإن هاهنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم -أو أهل بيت من جُرْهم- مقبلين من طريق كَدَاء. فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين، فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء. فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء عندنا. قالوا: نعم. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس. فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلامُ، وتعلم العربية منهم، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك ذلك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرِكَتَه. فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشَرّ، نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئًا. فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جَهْد وشدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غَيِّرْ عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك، وطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده. فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم. فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله -عز وجل- فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم، لدعا لهم فيه. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه". قال: "فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُريه يُثَبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله. ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا - وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}" قال: "فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل -عليه السلام- بمدد طويلة
قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة
-صلوات الله وسلامه عليه- دائمًا إلى يوم الدين.
قال محمد بن إسحاق بن يسار، في "السيرة"([2]): ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يَهُمُّون بذلك ليسقفوها، ويهابون هَدْمها، وإنما كانت رَضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك، مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك. وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة، لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم، في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ، فيها ما يُهْدَى لها كل يوم، تَتشدق على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون. وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزَألَّت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوما تَتَشدق على جدار الكعبة -كما كانت تصنع- بعث الله إليها طائرًا اختطفها، فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. قال: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا؛ لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مَخزُوم.
قال: ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم، وكان شق الحِجر لبني عبد الدار بن قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحَطيم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هَدْمها: فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترعْ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم -عليه السلام- أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا.
قال: فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلًا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها -أيضًا- أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس[3].
]النزاع في وضع الحجر الأسود
وقضاء محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- القضاء العادل [
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن - يعني الحجر الأسود - فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدوا للقتال. فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا: لعَقَة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلهم - قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم، فيه. ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: «هَلُمَّ إليَّ ثوبًا» فأتي به، فأخذ الركن -يعني الحجر الأسود- فوضعه فيه بيده، ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا». ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بني عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي: الأمين.
فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لَمَا تصوبت العُقَاب***إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش***وأحيانًا يكون لها وثَاب
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت***تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت***عقاب تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خَلَّت***لنا البنيانَ ليس له حجاب
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء***لنا منه القواعدُ والتراب
غداة تُرفع التأسيس منه***وليس على مُسَوِّينا ثياب
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي***فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ***ومُرَّة قد تَقَدَّمَتها كلاب
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا***وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
]بناء ابن الزبير الكعبة على ما كان يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم[
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تكسى القباطي، ثم كُسِيت بعدُ البُرود[4]، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
قال: قلت: ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين، وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض، وبناها على قواعد إبراهيم -عليه السلام- وأدخل فيها الحِجر، وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، ملصقين بالأرض، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مَرْوان له بذلك.
روى مسلم بن الحجاج في صحيحه([5])، عن عطاء، قال: لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم -أو يُحزبهم- على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فُرِقَ لي[6] رأي فيها، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهَى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه، وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبعث عليها صلى الله عليه وسلم. فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم، عز وجل ؛ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري. فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها. فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء، حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه. قال ابن الزبير: إني سمعت عائشة، رضي الله عنها، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لولا أن الناس حديث عهدُهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّيني على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه. قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى له أُسًّا[7]، نَظَر الناس إليه فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في أوله عشرة أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قُتِل ابنُ الزبير، كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره. وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه.
وقد رواه النسائي في سننه، عن عائشة بالمرفوع منه. ولم يذكر القصة.
وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام، وقربِ عهدهم من الكفر. ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك ؛ ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وددنا أنا تركناه وما تولى.
كما روى مسلم([8]) عن عبد الله بن عبيد، قال: وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خُبَيبٍ -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها. قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوه منه».
فأراها قريبًا من سبعة أذرع. زاد الوليد بن عطاء –أحد رواته-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ ».
قالت: قلت: لا. قال: «تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا. فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها، يَدَعونه[9] حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط».
قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فَنَكَتَ ساعة بعصاه، ثم قال: وَدِدْتُ أني تركته وما تَحَمَّل.
]حبشي يهدم الكعبة قرب القيامة[
وفي الصحيحين([10]) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبشة». أخرجاه.
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كأني به أسودَ أفحَجَ، يقلعها حجرًا حجرًا». رواه البخاري([11]).
وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده([12])، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حلْيتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله».
والفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق.
وهذا -والله أعلم- إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح البخاري([13]) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج».
]دعاء الخليل[
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، قال ابن جرير: يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، ولا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك.
وقال عكرمة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} قال الله: قد فعلت. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} قال الله: قد فعلت.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين، في قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [ الفرقان: 74 ].
وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم -عليه السلام-: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وهو قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وقد ثبت في صحيح مسلم([14])، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
تفسير المناسك
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}
قال سعيد بن منصور: أخبرنا عتاب بن بشير، عن خُصيف، عن مجاهد، قال: قال إبراهيم: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد.
فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله.
ثم انطلق به نحو مِنًى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّر وارمه. فكبر ورماه. ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه. فكبر ورماه. فذهب الخبيث إبليس، وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات. قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرار. قال: نعم.
وروي عن أَبِي مِجْلز وقتادةَ نحوَ ذلكَ.
*****
*****
(التفسير)
هذه الآيات الكريمات في بناء الكعبة والمؤلف -رحمه الله- استطرد فأتى ببنيان الكعبة في العصور فيما بعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- إلى زمن عبد الملك بن مروان.
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:127]، في هذه الآية الكريمة تنويه من الله تعالى بخليله إبراهيم وابنه إسماعيل في عملهم الصالح، وهو بناء الكعبة الذي هو من أفضل القربات وأجلّ الطاعات، وأنهما يعملان هذا العمل الصالح ويسألان الله القبول، وهكذا المؤمن يعمل العمل الصالح ويسأل الله القبول؛ كما قال الله تعالى عن عباده المؤمنون: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
ثبت في الحديث الصحيح: أن عائشة -رضي الله عنها- سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية، مَن هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة؟ أهم الذين يسرقون ويزنون ويخشون أن يعاقبوا؟ فقال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويخافون ألا تقبل منهم» {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}([15]) وهكذا الخليل وابنه إسماعيل -عليهم الصلاة والسلام- يعملان هذا العمل الصالح ويرفعان بيت الرحمن -يبنيان بيت الرحمن- ويسألان الله القبول.
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} القواعد: الأساسات التي يقوم عليها البناء والعمد، يرفع إبراهيم القواعد وإسماعيل؛ فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء جاء بالمقام، وقام عليه وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وهكذا المسلم يجتهد في الإخلاص، وفي متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في العمل الصالح، ثم يسأل ربه القبول {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ثم دعيا الله فقالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}[البقرة:129]؛ يعني: في العرب، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، قد استجاب دعاء خليله إبراهيم وبعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "أنا دعوة أبي إبراهيم"([16]).
قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:127، 128].
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}؛ يعني: مستسلمين خاضعين لأمرك، مستجيبين لأوامرك {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، فأراه الله المناسك، بعث الله جبرائيل فأرى نبيه وخليله المناسك، أراه الصفا كما سمعنا، وأراه المروة، وأراه الجمرات، وأراه المشعر الحرام، وأراه عرفة .
{وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} سأل الله التوبة.
وهذه الآية الكريمة فيها أن الخليل -عليه الصلاة والسلام- هو الذي بنى الكعبة، قد جاءت آثار وروايات أن الكعبة بنيت قبل إبراهيم، وأنه بناها آدم، أو بنتها الملائكة، لكن كلها آثار لا تثبت.
والصواب: أن أول مَن بناها إبراهيم الخليل -عليه السلام- ، المسجد الحرام هو أول المساجد ثم بعد ذلك بُني بيت المقدس، بناه حفيد إبراهيم، وهو: يعقوب –إسرائيل- بنى المسجد الأقصى بعد بناء المسجد الحرام بأربعين سنة -بينهم أربعين سنة- كما ثبت في الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أن المسجد الحرام أول مسجد في الأرض، ثم المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة"([17])، المسجد الأقصى بناه يعقوب، ويعقوب هو: حفيد إبراهيم، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- رزقه الله ابنان إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة -ابنة عمه.
ثم إسحاق أنجب: يعقوب، ويعقوب هو: إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب، وآخرهم عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام.
وأما إسماعيل فهو نبي أيضًا، ومن سلالته: نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فهما أول مَن بنى الكعبة.
ولم يكن في زمن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حجر، فإنه بنى الكعبة بأمر من الله، وبوحي من الله، والأساسات؛ أساس الكعبة، وهي: الحجارة الخضر، هذه كلها بوحي من الله، وتوقيف من الله، جبريل -عليه السلام- يوقف الكعبة من كذا إلى كذا، وهذا أساسها وحدودها، بوحي من الله؛ ولهذا لما جاء إبراهيم -عليه السلام- لإسماعيل قال: إن الله أمرني أن أبني بيتًا، وأشار إلى هذه الأكمة، فإذن إبراهيم دله على مكانها، ومكان الأساسات؛ ولهذا لما جاءت قريش لتبنيها، وحرك أحدهم العتلة الأساس ارتجت مكة كلها، أصابها زلزال لما حرك الحجر الأساس، فهي بوحي من الله -عز وجل- ورفع البناء ما يقارب 18 ذراع، فكانت الكعبة كلها بناء واحد، وليس هناك حجر.
ثم بعد ذلك تصدعت الكعبة في زمن قريش، قبيل نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمس سنوات، كان عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وثلاثين سنة، فبنتها قريش لما تصدعت، وهابوا أن يهدموها، فأول مَن هدمها أخذ شيئًا من الحجارة، فخافوا –خشوا- أن يصيبه شيء، قالوا: نتركه إن أصابه شيء في الليل تركناه، وإن لم يصبه شيء، فهذا عمل يحبه الله فنهدمها، نحن نريد الخير نهدمها لنبنيها، فلم يصبه شيء فهدموها، حتى وصلوا إلى الأساس الذي في الأرض.
والأساس: هي القواعد، والأساسات التي وضعها إبراهيم، وهي حجارة خضر، فأدخل واحد منهم العتلة في الأساس بين الحجرين، فلما حرك الأساس ارتجت مكة كلها، وأصابها زلزال فتركها، ثم تقاسمت القبائل الجهات من الكعبة، كل قبيلة تأخذ جهة تبنيها يريدون الشرف، قبيلة بنت ما بين الركنين، وقبيلة بنت جهة الحجر، قبيلة بنت ظهر الكعبة.
وقالوا فيما بينهم: لا تبنوا الكعبة إلا من مال حلال، لا تدخلوا في بناء الكعبة مالًا من الربا، أو من الكهانة، أو من الزنا، فجمعوا مالًا ليبنوا به الكعبة فلم يجدوا مالًا حلالًا يبنوا به الكعبة؛ لكثرة الحرام، ما وجدوا ولا استطاعوا، فأخرجوا الحِجر -ستة أذرع، أو سبعة أذرع أخرجوها- ما استطاعوا أن يبنوا، فالمال موجود، لكن من حرام، ولا يريدون إلا أن يبنوها من حلال، فلم يجدوا مالًا حلالًا يكفي لبناء الكعبة، فأخرجوا ستة أذرع أو سبعة أذرع -وهو الحِجر- يسميه بعض الناس: «حجر إسماعيل»، وهذه التسمية خاطئة، حتى أن بعض الناس يظن أن إسماعيل دفن في هذا الحجر، ولا يصح، ولم يكن في زمن إسماعيل حجر، بل يسمى بالحطيم، حطم الكعبة، يسمى الحجر؛ لأنه محجر، ويسمى الحطيم؛ لأنه محطوم من الكعبة، ولا علاقة لإسماعيل به، إسماعيل وإبراهيم بنيا الكعبة، ولم يكن هناك حجر في زمانهما، هذه تسمية خاطئة.
ثم بعد ذلك بقيت على بناء قريش، ولم يجعلوا لها إلا بابًا واحدًا، وهو الباب الشرقي فرفعوه، حتى إذا أراد أن يدخل أحد يحتاج إلى سلم، ولا يدخل فيه إلا مَن أرادوا، وبقيت هكذا حتى بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد ولاية عبد الله بن الزبير، بايع له أهل مكة في زمن يزيد بن معاوية، أو قبل تولية يزيد، بعد موت معاوية، بويع لعبد الله بن الزبير، بايعه أهل مكة وأهل المدينة وأهل الطائف، وهو صحابي جليل، استتب له الأمر، ثم بعد ذلك بايع أهل الشام مروان بن الحكم، ولم يكن معه إلا بلدة أو بلدتين في الشام، حتى كاد أن يبايع عبد الله بن الزبير، ثم بعد ذلك توفي مروان، وتولى بعده ابنه: عبد الملك بن مروان، وصار له أتباع، وصار يأخذ من الشام بلدة بعد بلدة حتى توسع، واحترقت الكعبة في زمن عبد الله بن الزبير، فتركها عبد الله بن الزبير حتى جاء الناس للحج والموسم؛ حتى يروا الاحتراق، وحتى يجرئهم على عبد الملك بن مروان، وقال لهم: انظروا إليه قد ترك الكعبة لم يبنها.
فلما انتهى الموسم أراد عبد الله بن الزبير أن يبنيها فاستشار الناس ماذا أعمل؟ هل أبنيها من جديد أو أبني المكان المحترق؟ قال بعض الناس: ابن المكان المحترق، واترك الكعبة على ما كانت عليه، اترك حجارة بعث عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسلم الناس عليها، لا تغير شيئًا، فقال لهم: لو أن بيت أحدكم وَهَى وضعف لا ترضون أن تصلحوه، وألا تبنوه من جديد، هذا بيت ربكم، وكان بلغه عن خالته عائشة -رضي الله عنها- الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لولا قومك حديث عهد بكفر؛ لنقضت الكعبة، وأدخلت الحجر -الذي أخرجته قريش- وجعلت لها بابين بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا"([18]).
فعمل بهذا الحديث؛ هدم الكعبة، ثم بناها من جديد، وأدخل الحجر، وسد الباب الشرقي؛ يعني: أنزل الباب الشرقي - كانت قريش رفعته- وفتح بابًا غربيًا، بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرج الناس منه، وصار بعد ذلك يستلم الأركان كلها، في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلم الركن اليماني والحجر الأسود، ولا يستلم الركن الشامي ولا الركن العراقي؛ لأنه ليس على قواعد إبراهيم، ولما حج معاوية -رضي الله عنه- جعل يستلم في خلافته جعل يستلم الأركان كلها (الأركان الأربعة)، فأنكر عليه عبد الله بن عباس، قال له: كيف تستلم الأركان كلها؟ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يستلم إلا الركن اليماني والحجر الأسود، فقال معاوية: يا ابن عباس! أفي البيت شيء مهجور؟ -البيت ما يهجر، كيف نهجر الركن؟- فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، ولم أرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلم إلا الركنين اليمانيين، قال: صدقت، فرجع إلى قوله ([19]).
ولما بناها عبد الله بن الزبير صار يستلم الأركان الأربعة كلها؛ لأنها صارت على قواعد إبراهيم، لما أدخل الحجر صارت الأركان كلها على قواعد إبراهيم، لكن في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست الأركان على قواعد إبراهيم، إنما ركنان فقط، وأما الركن الشامي والعراقي ليسا على قواعد إبراهيم؛ فلذلك لم يستلمهما.
فجعل ابن الزبير يستلمها كلها، وأدخل الحجر، نفس الحجر هذا، الحجر الآن موجود، ستة أذرع أو سبعة أذرع، أدخله، صار هذا حده- أدخله بدلا من أن يكون محجرًا أقام جدارًا وسقفه، وصار جزءًا من الكعبة، وجعل يستلم الأركان كلها، لكنها لم تطل مدته، فقد نازعه عبد الملك بن مروان، وجهز الجيوش لغزوه، ووكل ذلك إلى أميره في العراق: الحجاج بن يوسف، وجعل يرسل الجيوش ويقاتل عبد الله بن الزبير، حتى إنه هدم الكعبة ورماه بالمنجنيق، وقتل عبد الله بن الزبير، وصلبه على خشبة، ثم بعد ذلك أرسل إلى عبد الملك بن مروان يستأمره قال: ماذا يعمل؟ قال: أعد بناء الكعبة على ما كانت عليه في زمن قريش، فأخرج الحجر ستة أذرع وسد الباب الغربي ورفع الباب الشرقي، قال: لسنا من تخليط ابن الزبير في شيء.
ثم بعد ذلك وفد عليه الحارث فلما قال: إن ابن الزبير يزعم -يكذب على رسول الله- أنه بلغه حديث، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإدخال الحجر، قال: لا تقل هكذا يا أمير المؤمنين، نعم أنا سمعت عائشة تقول كذا وكذا، فنكت ساعة، وقال: ليتني تركته وما أراد.
وسوف يجتمعان عند الله –عز وجل-، والله تعالى يحكم بينهما حكم العدل، والصواب مع عبد الله بن الزبير، وهو الخليفة الذي بايعه أهل الحل والعقد، والآن الكعبة مبنية بناها الحجاج على بناء أهل الجاهلية، أخرج الحجر وسد الباب الغربي.
وفي زمن أبي جعفر المنصور استشار الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- في أن يبني الكعبة على ما بناها عبد الله بن الزبير، فقال: هل ترى أن أعيدها على ما كانت عليه في زمن عبد الله بن الزبير؟ فإن هذا هو الصواب والحديث يدل عليه، فتأمل الإمام مالك وفكر وأطرد، ثم قال له: أيها الخليفة! أرى ألا تفعل، وأن تتركها على حالها، فقال: ولم؟ قال: أخشى أن تكون الكعبة ملعبة للملوك، هذا يهدم وهذا يبني، فسد الباب، ورأي الإمام مالك موفق، قال: سد الباب حتى لا يتلاعب الملوك بالكعبة، لكن كل واحد يتولى يقول: أنا أبني الكعبة، وأخلد اسمي، ثم إذا جاء ملك آخر هدمها، وملك آخر هدمها، فتصير ملعبة؛ فلذلك رأى الإمام مالك أن يسد الباب، فكان رأيًا موفقًا، فهي الآن –الكعبة- على ما بناه أهل الجاهلية.
وكذلك ذكر المؤلف -رحمه الله- أن الكعبة تهدم في آخر الزمان، نعم هذا من أشراط الساعة الكبار، وذلك بعد يأجوج ومأجوج ومن الأشراط المتأخرة.
أشراط الساعة الكبار؛ أولها: خروج المهدي، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى ابن مريم، ثم خروج يأجوج ومأجوج -هذه متوالية- ثم تتوالى أشراط الساعة؛ منها: هدم الكعبة -والعياذ بالله- ونزع القرآن من الصدور والمصاحف، ومن آخرها: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، وآخر ذلك النار التي تسوق الناس إلى المحشر، لكن هدم الكعبة من آخرها -في آخر الزمان- يأتي رجل من الحبشة كما سمعنا في الحديث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ، ينقضها حجرًا حجرًا، ويلقيها في البحر، فيصلي الناس إلى الجهة، ثم بعد ذلك تنسى الجهة"([20])، في آخر الزمان تأتي ريح طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا يبقى إلا الكفرة، فعليهم تقوم الساعة -نسأل الله السلامة والعافية.
([1]) صحيح البخاري (3364).
([2]) انظر: السيرة (1/ 168) .
[3] قال الشارح حفظه الله: يعني أصابها زلزال -أصاب مكة زلزال- لما حرك الحجر بأساس إبراهيم؛ حركه بالعتلة -الحجارة بالأسفل- فزلزلت مكة كلها زلزالًا، فتركها.
[4] قال الشارح -حفظه الله-: قباطي يعني قماش يأتي من مصر، بلاد القبط، والبرود نوع من قماش الحرير.
([5]) صحيح مسلم (1333).
[6] قال الشارح -حفظه الله-: فرق لي: تبين لي، وظهر لي.
[7] قال الشارح -حفظه الله-: أُسًّا يعني: أساس -أساس الكعبة.
([8]) صحيح مسلم (1333).
[9] قال الشارح -حفظه الله-: أي: يتركونه.
([10]) صحيح البخاري (1591 و1596) وصحيح مسلم (2909).
([11]) صحيح البخاري (1595).
([12]) مسند أحمد (2/220).
([13]) صحيح البخاري (1593).
([14]) صحيح مسلم (1631).
([15]) أخرجه أحمد (6/159 و205) وابن ماجه (4198) والترمذي (3175).
([16]) أخرجه أحمد في المسند (4/127 و128) .
([17]) صحيح البخاري (3366) وصحيح مسلم (520).
([18]) صحيح مسلم (1333).
([19]) مسند أحمد (4/94).
([20]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9179) وابن أبي شيبة (14100) وأحمد في المسند (2/220) وأبو داود (4309).