** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134-133].
يقول تعالى مُحْتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام -بأنَّ يعقوب لما حضرته الوفاة وصَّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي.
وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق -حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ك، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة؛ وحكى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت ن وجماعة من السلف والخلف.
وقوله: {إِلَهًا وَاحِدًا} أي: نُوَحِّدُه بالألوهية، ولا نشرك به شيئًا غيره {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: مُطيعون خاضعون كما قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]، والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعُهم واختلفت مناهجُهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلَّات ديننا واحد».
وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي: مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم: {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ولهذا جاء، في الأثر: «من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه».
*****
(التفسير)
جاء في هاتين الآيتين الكريمتين بيانُ كَونِ دين الأنبياء واحدًا، وهو التوحيد، وهو دين الإسلام بمعناه العامّ، ولهذا فإن الله -تعالى- بيَّن في هذه الآية أن يعقوب -عليه الصلاة والسلام- وهو: إسرائيل، دعا قومه إلى التوحيد وأمرهم بعبادةِ الله وإخلاصِ الدين له، فقال -تعالى-: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة:133]، يعني: معبودنا واحد وهو: الله، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] أي: منقادون خاضعون ذليلون له-سبحانه وتعالى.
فالإسلام بمعناه العامّ هو: دين الأنبياء جميعًا، كما قال الله -تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13]، فأمرهم بإقامة الدين.
وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح الذي ذكره المؤلف: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ لعَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُنَا شَتَّى»([1])، فقوله :ديننا واحد: هو التوحيد، وقوله: أمهاتنا شتى، يعني: الشرائع، فكلُّ نبيٍّ له شريعة، كما قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
فتبيَّن بهذا أنَّ الإسلام بمعناه العامّ، هو: دين الأنبياء جميعًا، فهو دين نوح، ودين هود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد وسائر الأنبياء، -صلى الله عليهم وسلم.
ولهذا قال الله -تعالى- عن نوح: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72].
وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس:84-85].
وقال عن التوراة التي يحكم بها الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44].
وقال عن الحواريين- أصحاب عيسى – عليه السلام-: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111].
وذَكر عن بِلقيس أنها قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، فالإسلام بمعناه العام هو دين الأنبياء جميعًا، وهو : توحيد الله - تعالى- والحذر من الشرك، وطاعة كلِّ نبي فيما جاء به من الشريعة.
أما الإسلام بمعناه الخاص، فهو: شريعة القرآن التي عليها محمد- صلى الله عليه وسلم-، فبعد بِعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- صار الإسلام بمعناه الخاص هو: الإيمان بمحمد –صلى الله عليه وسلم- والعمل بما جاء به من الشريعة الخاتمة،-شريعة القرآن- التي ليس عليها إلا محمدٌ وأمَّته.
و قوله -سبحانه- : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } [البقرة:134] أي: مضت، وقوله: {لهَاَمَاكَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:134] فيه دليل على أن الانتساب إلى الآباء والأجداد لا ينفع وحدَه إذا لم يكن من الأبناء والأحفاد عمل، ولهذا قال: {تِلكْ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]، فلا ينفع الإنسانَ عملُ آبائِه وأجدادِه ولو كان من أولاد الأنبياء إذالم يعمل هو، ويدل على ذلك من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُه لَمْ يُسْرِع بِهِ نَسَبُهَ»([2]).
وأما قوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا}[البقرة:133] حيث ذكر إسماعيل وهو عم ليعقوب-عليهما السلام، فذلك لِأنَّ العم يسمى أبًا وهو بمنزلة الأب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح لمَّا تحمَّل ما على عمه –العباس- : «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُل، صِنْوُ أَبِيهِ»([3]) أي: مِثلُ أبيه، والجد أيضا يسمى أبًا كما في قوله تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة:133] فسماهم آباء، مع أن إبراهيم جد ليعقوب-عليهما السلام.
وقد ذكر المؤلف أن اختيار الصديق –رضي الله عنه- كما رواه البخاري هو أن الجد يحجب الإخوة، وهذا هو المشهور عن الصديق وعن عائشة –رضي الله عنها- وعن جماعة من المحققين، وهو اختيار الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله-، وهو اختيار شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله.
ولكنَّ المشهور من مذاهب كثير من العلماء : أن الجد يقاسِم الإخوة، ويُعمل بالأحظِّ له، فيأخذ الأحظَّ، ولهذه المسألة أدلة، وكون الجد أبًا يحجب الإخوة هذا هو ما ذهب إليه الصديق وجماعة من الصحابة وجمع من المحققين وهو ظاهر بعض النصوص([4]).
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135].
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صُوريَّا الأعورُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهُدى إلا ما نحن عليه، فاتبعْنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثلَ ذلك. فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}.
وقوله {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: لا نريد ما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية، بل نتبع {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي: مستقيمًا. قاله محمد بن كعب القرظي، وعيسى بن جارية.
وقال مجاهد، والربيع بن أنس: حنيفًا، أي: متبِعًا. وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
*****
(التفسير)
بين الله - تعالى- في هذه الآية مقالة لليهود والنصارى، وهي: أن اليهود يدعون المسلمين إلى اليهودية، وكذلك النصارى يدعون المسلمين إلى النصرانية، وقد رد الله عليهم بأن الهداية إنما هي في اتِّباع الحنيفية من أثر إبراهيم وتوحيدِ الله وإخلاصِ الدين له، والعملِ بالشريعة الخاتمة شريعة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَقَالُوا كوُنُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135]،يعني: قالت اليهود: كونوا هودًا تهتدوا، وقالت النصارى :كونوا نصارى تهتدوا، فقال الله ردًّا عليهم: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة:135]،أي: الهداية في اتِّباع ملة إبراهيم حنيفًا، أي: مائلًا عن الشرك إلى التوحيد، مستقيمًا على توحيد الله وطاعته، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] هذا هو طريق الهداية وسبيل الهداية، فالهداية إنما هي في اتِّباع ملة إبراهيم، وهي: الإسلام، وليست في اتباع اليهودية ولا النصرانية.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أَنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصَّلًا وبما أَنزل على الأنبياء المتقدمين مجمَلًا ونَصَّ على أعيان من الرسل، وأجمَلَ ذكرَ بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلّهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150-151].
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبْرَانيَّة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا».
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرَ ما يصلي الركعتين اللتين قبل الفجر بـ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية، والأخرى بـ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]. وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلًا؛ ولَدَ كلُّ رجل منهم أُمَّة من الناس، فسُمُّوا الأسباط.
وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل، كالقبائل في بني إسماعيل؛ وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله تعالى من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم: {قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] وقال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} [الأعراف: 160] وقال القرطبي: والسبط: الجماعة والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويُصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما.
وقال ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل، وليسعْكم القرآن».
*****
(التفسير)
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين به بأن يؤمنوا إيمانًا مُجمَلاً، كما أن عليهم أن يؤمنوا إيمانًا مفصلاً، فيؤمنوا بالرسل السابقين ، وبما أنزل الله عليهم من الكتب إيمانا مُجمَلا، ويؤمنوا إيمانًا مفصلاً بمحمد –صلى لله عليه وسلم- وبالقرآن، ويعملوا بالقرآن تفصيلاً، ولهذا قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] و(ما أنزل إلينا)، أي: أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والحكمة، مع العمل بما فيهما، وذلك بتصديق الأخبار وتنفيذ الأحكام.
وقوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136] نؤمن بذلك إجمالاً، (و ما أنزل إلى إبراهيم) مثل الصحف التي قال الله عنها: {صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسَى} .
وقوله: {وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} الأسباط هم: أولاد يعقوب عليه السلام، والأسباط جمع سِبط، وكُلُّ سبطٍ قد ولد أُمَّة من الناس، فتكون شعوبًا، فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، كلها ترجع إلى جدٍ واحد وإلى أصلٍ واحد.
وقد ذكر الله -تعالى- بعضَ الأنبياء، ولم يذكر البعضَ الآخر، فنحن نؤمن بالأنبياء، ونؤمن بما أنزل الله عليهم من الكتب ، فنؤمن بمن سماهم الله من الأنبياء، وبما سمى الله من الكتب المنزلة عليهم كما بيَّن-سبحانه وتعالى.
وقد سمى الله من الكتب التي أنزلها عليهم: التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى.
ونؤمن أيضًا بالأنبياء الذين لم يسمهم الله، وبالكتب التي لم يذكرها، إجمالاً، فحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على كل نبيِّ، وبكل نبيٍّ بعثه الله، ولهذا نقول كما أمرنا الله، فقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَاأُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة:136]، فنؤمن بما أوتي موسى من التوراة التي أنزلها الله عليه، وبما أوتي عيسى من الإنجيل، وبما أوتي النبيون من ربهم عمومًا، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة:136]، كما يفعل الكفار الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].
وقد ورَدَت شرعية قراءة هذه الآية في ركعتي الفجر،فتقرأ في الركعة الأولى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] وفي الركعة الثانية: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]، أو تقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، والحكمة في ذلك كما ذكر الأئمة أنه: شرع أن يستفتح الإنسان حياته اليومية بالتوحيد.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:137-138].
يقول -تعالى-: {فَإِنْ آمَنُوا} أي: الكفار من أهل الكتاب وغيرهم {بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} أيها المؤمنون، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم {فَقَدِ اهْتَدَوا} أي: فقد أصابوا الحق، وأُرشدوا إليه {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: عن الحق إلى الباطل، بعد قيام الحجة عليهم {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} أي: فسينصرك عليهم ويُظَفِّرُك بهم {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وروى ابن أبي حاتم: قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب، حدثنا زياد بن يونس، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم، قال: أَرْسَلَ إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليُصلحه. قال زياد: فقلت له: إن الناس يقولون: إن مصحفه كان في حِجره حين قُتِل، فوقع الدم على { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فقال نافع: بَصُرَت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم.
وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} قال الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما: دين الله ، وكذا روي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي، نحو ذلك.
وانتصاب {صبغة} إما على الإغراء كقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم: 30] أي: الْزَمُوا ذلك عليكموه.
وقال بعضهم بدلاً من قوله: {مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:130].
*****
(التفسير)
قوله -تعالى-: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] في هذه الآية بيان أن الكفار إذا آمنوا بمثل ما آمن به المؤمنون فقد حصلت لهم الهداية، وهذا هو المطلوب، وأنهم إن تولَّوْا وأعرضوا واستنكفوا واستكبروا فإنما هم في شقاق.
وفي هذا: دليل على أن في الإيمان الطمأنينةَ والراحةَ والسكونَ والهدوءَ وراحةَ النفس وطمأنينةَ القلب، وأن الكافر إنما هو في شقاق و عذاب وقلق وضَنك.
وقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] هذا وعد من الله –عز وجل- بكفايته لنبيه وأتباعه وحزبه، أي: أن الله -تعالى- سيكفيهم شر أعدائهم إذا حققوا الإيمان وأخلصوا العبادة لله- عز وجل- وتوكَّلوا على الله حق توكله.
وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] أي: هو السميع لأقوال عباده العليم بأفعالهم وسوف يجازيهم.
فمن فوائد هذه الآية: إثبات اسم السميع ،واسم العليم، وأنهما من أسماء الله-تعالى-.
وفيها: إثبات صفة السمع،وصفة العلم لله سبحانه وتعالى، والسمع نوعان:
1- سمع الأصوات وإدراكها.
2-سمع استجابة، كقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: استجاب.
فالسميع والعليم ، اسمان من أسماء الله-سبحانه وتعالى- ويُعبَّد لهما، فيقال: عبد السميع، وعبد العليم.
وعلم الله -تعالى- عام، فالله -تعالى- يعلم الأشياء في الأَزَلِ قبل وجودها، ويعلم الأشياء والذوات والصفات في الحاضر، وفي المستقبل، ويعلم مالم يكن لو كان كيف يكون، فعلمه -سبحانه وتعالى- محيط بكل شيء.
وقوله:{صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة:138] يعني: دين الله، ، أو صبغة الله، أي: ملة إبراهيم، وقوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] يعني: لا دين أحسنَ من دين الله، وقوله:{ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] يعني: خاضعون ذليلون منقادون لِشَرْعه ودينه، عابدون له عبادةَ محبةٍ وخضوعٍ وذلٍّ.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:139-140-141].
يقول الله تعالى مُرشدًا نبيَّه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} أي: أتُناظِروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} المتصرِّف فينا وفيكم، المستحِقُّ لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له!
{وَلَنَا أَعْمَالُنَا} أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم بُرَآء منا، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام: { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80]، وقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} الآية[البقرة: 258].
وقال في هذه الآية الكريمة: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي: نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، ونحن له مخلصون، أي في العبادة والتوجُّه.
ثم أنكر تعالى عليهم، في دعواهم أن إبراهيم ومن ذُكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية فقال: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} يعني: بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودًا ولا نصارى، كما قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية والتي بعدها [آل عمران: 67 ، 68].
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} قال الحسن البصري: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين الإسلامُ، وإن محمدًا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِدوا لله بذلك، وأَقرُّوا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيه تهديد ووعيد شديد، أي: أن علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه.
ثم قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي: قد مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي: لهم أعمالهم ولكم أعمالكم {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وليس يُغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تَغترُّوا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله، الذين بُعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.
*****
(التفسير)
يقول الله -تعالى-: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة:139] هذا أمر من الله –تعالى- لنبيِّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب: أتجادلوننا وتحاجوننا في الله، وهو إلهنا ومعبودنا بالحق، وهو ربنا وربكم، ولنا أعمالنا نخلصها لله -عز وجل-، ونعبد الله -سبحانه وتعالى- مُخلِصين له الدين، ولكم أعمالكم التي ارتضيتموها لأنفسكم، وهو عدم الإيمان بالله وبرسوله، والإقامة على اليهودية والنصرانية، بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم، فنحن بُرَآء منكم وأنتم بُرَآء منا، فلنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، ولنا ديننا ولكم دينكم، كما قال الله -تعالى-: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، فكيف تحاجوننا وتجادلوننا في الله وهو ربنا ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ونحن مخلصون لله -عز وجل-؛ منقادون لشرعه ودينه، وأنتم لكم عملكم؟!
فأنتم لا تُسألون عن عملنا ونحن أيضًا لا نُسأل عن عملكم، لكنَّا ندعوكم إلى الإيمان بالله ورسوله،حتى تَحصُلوا على الفلاح، والنجاة والعزَّة والرفعة في الدنيا والآخرة.
ثم قال -سبحانه-: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] يعني: هل تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق كانوا على اليهودية أوالنصرانية؟!.
وقد قال الله -تعالى- ردًّا عليهم في سورة آل عمران: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65]، وهنا قال -سبحانه-: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ }.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:140] يعني: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة، فهل عندكم علم من الله حينما تصفون هؤلاء الأنبياء بالإقامة على اليهودية والنصرانية، أو باعتقاد اليهودية والنصرانية؟!، مع أنَّ اليهوديةَ والنصرانيةَ إنما كانتا بعد بعثة موسى، وبعد بعثة عيسى - عليهما السلام.
فاليهود إنما صاروا يسمَّون يهود بعد بعثة موسى عليه السلام، ولاسيما بعد وجود من لم يؤمن بموسى - عليه الصلاة والسلام - منهم، فإنه صار حينئذ وصف ذم.
وكذلك النصارى، كان لقبُ النصارى لقبَ مدح، ثم لما كفروا بعيسى صار وصف ذم.
وأما إسماعيل وإسحاق وإبراهيم، فقد كانوا قبل وجود اليهود والنصارى، فكيف تقولون إنهم كانوا هودًا أو نصارى؟! ثم قال -سبحانه-: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140] تهديد ووعيد، فالله عليم بأعمالكم، وأقوالكم ونيَّاتكم وسوف يجازيكم على ذلك، وهو -سبحانه وتعالى- القائم على كل نفس بما كسبت، وهو -سبحانه وتعالى- بالمرصاد لمن خالف أمرَه، وكفر برسله.
ثم قال -سبحانه-: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة:141] يعني مضت، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:141]،أي: من الأعمال والأقوال والنيات، {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:141] وإنما تسألون عن أعمالكم، فلا ينفعكم الانتسابُ مع سوء العمل، ولا الانتساب بدون عمل، ولا ينفعكم إلا عملُكم، أما الانتساب وحده فإنه لا يفيد، ولو كان الإنسان من أولاد الأنبياء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه»([5])، فأنتم لا تُسألون عن أعمالهم وإنما تسألون عن أعمالكم، فإنَّ كلَّ إنسان مسئول عن نفسه، يُسأل عن عبادة الله، ويُسأل عن إجابة المرسلين، يُسأل ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين، هذان سؤالان يُسْألُهما الخلائق.
السؤال الأول : ماذا كنتم تعبدون؟
والسؤال الثاني: ماذا أجبتم المرسلين؟.
أما عن أعمال غيركم فلا تُسألون عنها، وإنما تسألون عن عبادة الله -عز وجل- وإخلاص الدين له، وعن إجابة المرسلين، واتباع ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من الشريعة الخاتمة.
*****
([1]) أخرجه البخاري (3443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) أخرجه مسلم في الصحيح (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([3]) أخرجه مسلم في الصحيح (983) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([4]) ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُ الإْخْوَةَ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَشِقَّاءَ أَوْ لأَِبٍ لِلآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ حَيْثُ إِنَّ الْكَلاَلَةَ - سَوَاءٌ كَانَتِ اسْمًا لِلْمَيِّتِ الَّذِي لاَ وَلَدَ وَلاَ وَالِدَ لَهُ حَسَبَ اخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا - لاَ تَشْمَل الْجَدَّ لأِنَّهُ وَالِدٌ لِلْمَيِّتِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ لاَ يَحْجُبُ الأْخَ الشَّقِيقَ أَوْ لأِبٍ بَل يَرِثُ مَعَهُ.
ينظر: حاشية ابن عابدين 5 / 498، وتحفة المحتاج 6 / 398، ومغني المحتاج 3 / 11، والقوانين الفقهية ص 391، والمغني لابن قدامة 6 / 166.
([5]) سبق تخريجه.