** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].
[فضل الأمة المحمدية]
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يقول تعالى: إنما حَوّلناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شُهَداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل.
والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته» قال: فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: الوسط: العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم.
ورواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وروى الإمام أحمد أيضًا: عن أبي سعيد الخدري ت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه، فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال له من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا» فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: «عدلًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}».
روى الإمام أحمد : عن أبي الأسود أنه قال: أتيتُ المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتاً ذَريعاً. فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمرّت به جنازة، فَأثْنِيَ على صاحبها خيرا. فقال: وجبت وجَبَت. ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرَّا، فقال عمر: وجبت وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة». قال: فقلنا. وثلاثة؟ قال: «وثلاثة». قال، فقلنا: واثنان؟ قال: «واثنان» ثم لم نسأله عن الواحد.
وكذا رواه البخاري، والترمذي، والنسائي.
[من حكمة تحويل القبلة]
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} يقول تعالى: إنما شرعنا لك -يا محمد- التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حالُ من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه، أي: مُرْتَدّاً عن دينه {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنُوا بتصديق الرسُول، وأنَّ كلَّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرْية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:124 ،125]، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
ولهذا كان مَن ثَبَتَ على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك، وتوجه حيثُ أمره الله من غير شك ولا رَيْب، من سادات الصحابة.
وقد ذهب بعضُهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلّوا إلى القبلتين.
وروى البخاري في تفسير هذه الآية:
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: بينا الناسُ يصلون الصبح في مسجد قُباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. فتوجهوا إلى الكعبة. ورواه مسلم .
ورواه الترمذي وعنده: أنهم كانوا ركوعاً، فاستداروا كما هم إلى الكعبة، وهم ركوع. وكذا رواه مسلم عن أنس، مثله.
وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله، وانقيادهم لأوامر الله عزَّ وجلَّ رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن البراء رضي الله عنه، قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.
ورواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه.
وروى ابن إسحاق: عن ابن عباس: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعه إلى القبلة الأخرى. أي: لَيُعْطيكم أجرَهما جميعًا {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً من السبي قد فُرِّقَ بينها وبين ولدها، فجعلت كُلَّما وجدت صبيًّا من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تَدُور على ولدها، فلما وجدتُه ضمتُه إليها وألقمتُه ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار، وهي تقدر على ألا تطرحه؟» قالوا: لا، يا رسول الله. قال: «فوالله، للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها».
(التفسير)
هذه الآية الكريمة؛ آية عظيمة، فيها فوائد، وحكم، وأسرار يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] .
في هذه الآية الكريمة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] يعني خيارًا عدولاً، والوسط يطلق على المتوسط من الشيء، ويطلق على الخيار، والعدل، والمراد هنا الثاني الخيار والعدل .
يقال: فلان وسط الحلقة. يعني متوسط وسْط الحلقة بإسكان السين، أما إذا قال وسَط: المراد هنا الخيار والعدول {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي خيارًا عدولاً، وأما الصلاة الوسطى يعني الصلاة الفاضلة، ولا يلزم أن تكون بينهم، ولهذا قيل الصلاة الوسطى قيل أنها صلاة الفجر، وقيل صلاة الظهر، وقيل صلاة المغرب، وقيل صلاة العشاء، وقيل صلاة العصر وهو الصواب لأنه جاء تفسيرها في الحديث عن الصلاة الوسطى قيل صلاة العصر، وفي مصحف عائشة - رضي الله عنها – {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ}([1]) فالوسطى هي الفاضلة، ولهذا جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ، يَعْنِي: كَاذِبًا، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا، فَإِذَا أَعْطَاهُ وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ» ([2]) لأنه ختم عمله، بعد هذه الصلاة العظيمة بالحلف بغير الله بأخذ مال أخيه بغير حق.
فالوسط يطلق على الخيار والعدول ففيه دليل على فضيلة هذه الأمة، وفي الحديث الصحيح يقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً . أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» ([3]) أو كما قال عليه الصلاة والسلام «هذه الأمه أفضل الأمم» وقال سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110]، ففي هذه الآية فضيلة هذه الأمة، وخيارها، ويقال محمد - صلى الله عليه وسلم - خير العرب أوسط العرب نسبًا يعني خيرهم نسبًا، ففي هذه الآية فضيلة هذه الأمة، وخيريتها، والمراد: من استقام على دين الله من آمن بالله، واستقام على دين الله تحصل له الخيرية، أما من لم يستقم وتنكب الصراط المستقيم فتهدر الخيرية في حقه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] يعني بهذه الصفات من تحققت فيه هذه الصفات، فقد حصلت له الخيرية؛ الإيمان بالله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن فاتته هذه الصفات فاتته الخيرية.
ففيه فضيلة هذه الأمة، وخيريتها، وأجرها، وثوابها عند الله عز وجل، ومن أسباب خيريتها بعثة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فهي أمة مرحومة، وهي أفضل الأمم، وهي آخر الأمم خلقًا، وأولهم دخول الجنة كما في الحديث نحن الآخرون يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ لَنَا عِيدًا ، فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى»([4])، ونحن نسبقهم، وندخل الجنة قبلهم هذا من فضل الله تعالى، وإحسانه لهذه الأمة، ففيه فضيلة هذه الأمة، وخيريتها، وأسبقيتها، ومن خيريتها، وفضيلتها أنها ستشهد على الأمم السابقة لأن الشاهد لابد أن يكون عدلاً خيارًا، وهذه الأمة موصوفة بهذا الوصف، والشاهد الذي يشهد عند القاضي لابد أن يكون عدلًا، فالفاسق، وضعيف الإيمان، ومن يرتكب شيئًا من خوارم المروءة لا يصلح للشهادة.
وهذه الأمة مزكاة زكاها الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال سبحانه: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، أو كما سمعنا في الأحاديث أنها تشهد على الأمم، تشهد على أمة نوح، وغيرها من الأمم إذا أنكرت الأمم إبلاغ رسالة نبيها شهدت هذه الأمة، فيقول: كيف تشهدون وأنتم لم تحضروا؟ قالوا: أرسل الله لنا رسولاً، وأنزل علينا كتابًا، وأخبرنا بأن الأنبياء بلغوا أممهم، فنحن نشهد، فتشهد هذه الأمة على الأمم، ثم يشهد عليها نبيها، وهذا هو على قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ففي هذه الآية: خيرية هذه الأمة، وفضيلتها، وأجرها، وثوابها عند الله عز وجل.
وفيه: أنها تشهد على الأمم، ويشهد عليها الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] فيه دليل على تحويل القبلة، وأن الله تعالى حول القبلة من جهة إلى جهة، وله الحكمة البالغة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر للمدينة وجَّهه الله إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم وجَّهه إلى الكعبة قبلة إبراهيم، وكان يحب القبلة، ويقلب وجهه في السماء ينظر في السماء يتطلع يرجو أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144].
وفيه: دليل على تحويل القبلة، وفيه بيان الحكمة من تحويل القبلة، وهي أن يعلم الله - علم ظهور - من يثبت على الإيمان، ويستقيم على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ومن يرتد، ولا يتحمل، ولهذا ارتد قوم هم من ضعفاء الإيمان ارتدوا لما حُولت القبلة، واعترض اليهود على الله، وعلى شرعه، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سماهم الله سفهاء فقال: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
وفي هذه الآية: بيان الحكمة قال: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] إلا لنعلم علم ظهور، وهو سبحانه وتعالى عالم بالسرائر، والضمائر، ولا يخفى عليه خافية، ولكنه سبحانه وتعالى إنما يثيب ويعاقب على العمل على ما ظهر {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: ليعلم علم ظهور يظهر للناس، وهو عالم سبحانه وتعالى بالشيء قبل أن يكون {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، فيكون مرتدًا يعني من حكمة تحويل الكعبة أن يعلم من يثبت من أهل الإيمان، ومن يرتد من ضعفاء الإيمان، ويتبين الصادق في إيمانه ممن يعبد الله على حرف، وعلى طرف، فينقلب على عقبيه.
وفيه: دليل على أن الأحكام معللة، وفيه الرد على من أنكر تعليل الأحكام.
ففيه: دليل على أن الأحكام لها حكم، ولها أسرار، ففي رد على الأشاعرة والجهمية وغيرهم ممن ينكر الحكم والأسرار، ويقولون بأن الله يفعل بالمشيئة - تعالى الله عما يقولون.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] بيَّن الله سبحانه وتعالى أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة صعبة وشاقة وشديدة لا يتحملها كثير من الناس، ولكن من هداه الله، فإنه يسهل عليه أن يتابع الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يقبل شرع الله ودينه، فهي كبيرة {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة:143] يعني أن تحويل القبلة أمر صعب وشاق إلا على من هدى الله؛ وهم ضعفاء الإيمان، ومن لم يوفق للخير، فهو أمر صعب عليهم، وشاق على اليهود وضعفاء الإيمان وغيرهم ممن يرتد إذ لم يتحملوا ذلك، واعترضوا على الله وعلى شرعه وقالوا: ما لهؤلاء يتوجهون مرة إلى بيت المقدس، ومرة يتوجهون إلى الكعبة؟! فرد الله عليهم وقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس فيه دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فإن الله تعالى سمى الصلاة إيمانًا، فهو دليل على أن العمل داخل في مسمى الإيمان، ففيه رد على المرجئة ودليل على أن العمل داخل في الإيمان.
وسبب نزول هذه الآية: أنه مات بعض الصحابة الذين صلوا إلى بيت المقدس قبل أن تتحول القبلة، فلما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة قال المؤمنون: ما حال إخواننا الذين صلوا إلى بيت المقدس قبل أن تتحول القبلة هل يضيع عملهم؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني ما كان الله يضيع ثواب صلاتكم إلى بيت المقدس، فكله مُدَّخر عند الله، لأنهم لما صلوا إلى بيت المقدس كانوا مأمورين بذلك، فهذا من شرع الله في ذلك الوقت، وهم مثابون على صلاتهم، ثم حولت القبلة بعد ذلك، فثوابهم محفوظ عند الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس.
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] فيه إثبات اسمين من أسماء الله وهما الرءوف، والرحيم، وفيه إثبات صفتين من صفات الله: صفة الرأفة، وصفة الرحمة، وفي الحديث: عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ» قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»([5]) فالله تعالى رحيم بعباده، فلا يضيع أعمالهم.
ومن كمال متابعة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ([6])، فاستقبلوا الكعبة وهم في الصلاة، وهم ركوع، وكانوا متوجهين إلى الشام، فاستداروا وهم في الصلاة وهم ركوع وصار الإمام في مكان المأمومين، والمأمومون في مكان الإمام.
وفيه: دليل على قبول خبر الواحد، وفيه الرد على أهل البدع الذين لا يقبلون خبر الآحاد.
ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100] واختلف العلماء في السابقين الأولين:
فقال بعض العلماء: السابقون الأولون الذين صلوا إلى القبلتين، الذين صلوا إلى القبلة الأولى بيت المقدس، وصلوا إلى القبلة الثانية لما حولت.
وقال آخرون من أهل العلم: السابقون الأولون هم الذين أسلموا قبل الفتح يعني قبل صلح الحديبية، وهذا هو الصواب يقول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] والمراد بالفتح: صلح الحديبية، سُمي فتحًا لما يعقبه من النصر، وفتح مكة فتح آخر، وهذا هو الصواب لأن الله نص على ذلك قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]، فصلح الحديبية حد فاصل، فمن أسلم قبل صلح الحديبية، فهو من السابقين الأولين، ومن أسلم بعد صلح الحديبية، فليس من السابقين الأولين، فهو من الطبقة الثانية، ومنهم خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أسلم بعد صلح الحديبية، وعبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين.
ثم الطبقة الثالثة مسلمة الفتح الذين أسلموا بعد فتح مكة، ومنهم أبو سفيان وابناه؛ يزيد ومعاوية أسلموا بعد فتح مكة، فالسابقون الأولون الذين سبقوا صلح الحديبية، ولهم فضل عظيم لا يلحقهم من أسلم بعد صلح الحديبية، ولهذا لما حصل ما حصل بين عبد الرحمن بن عوف، وكان من السابقين الأولين، وبين خالد بن الوليد، وكان ممن أسلم بعد صلح الحديبية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب خالد بن الوليد لما سب عبدالرحمن، وقال: «لا تسبوا أصحابي» يعني لا تسبوا أصحابي الذين لهم الصحبة الأولى - وإلا فخالد من الصحابة - يعني لا تسبوا أصحابي السابقين، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» يعني لو أنفق خالد بن الوليد مثل أحد ذهبًا، وأنفق عبد الرحمن مدًّا، والصاع أربع أمداد، أربع حفنات، ونصف الصاع حفنتان، لو أنفق خالد بن الوليد مثل أُحُد ذهبًا، وأنفق عبد الرحمن صاعًا، أو نصف صاع لسبقه عبد الرحمن، هذا تفاوت عظيم بين الصحابة، فكيف بين الصحابة وبعضهم؟ فهذا خطاب لخالد «لا تسبوا أصحابي» كعبد الرحمن بن عوف، لأنه حصل نزاع بين عبد الرحمن وخالد، فخالد سب عبد الرحمن فقال لهم: «لا تسبوا أصحابي» المتقدمين «فو الذي نفسي بيدي لو أنفق أحدكم» كخالد من المتأخرين «مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفة» ما بلغ مد أحدهم، والمد هو ملء كفي الرجل المتوسط، فلو أنفق عبد الرحمن مدًّا أو نصف المد، وأنفق خالد مثل أحد ذهبًا سبقه عبد الرحمن، وهذا فضل عظيم فكيف بمن لم يكن من الصحابة؟ لا يمكن أن يسبقهم.
ولهذا لما أراد بعض العلماء أن يقارن بين ورع عمر بن العزيز ومعاوية بن أبي سفيان، فمعاوية بن أبي سفيان صحابي أسلم يوم الفتح، ولكن عمر بن عبد العزيز اشتهر بالورع فهو معروف بالورع أكثر من ورع بعض الخلفاء الراشدين، فقال: إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية في جهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يعدل بورع عمر بن عبد العزيز وعبادته.
والمقصود أن الصحابة اختصهم الله، فلا كان ولا يكون مثلهم فهم أفضل الناس، أفضل الناس بعد الأنبياء، ولا يلحقهم من بعدهم إلى يوم القيامة، اختارهم الله لصحبة نبيه، وصاحبوا رسول الله، وشهدوا التنزيل، وجاهدوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم - وبلغوا دين الله وعرفوا الأحكام، وأسباب النزول فلهم من المزايا ما ليس لغيرهم.
([1]) فضائل القرآن (ص 325) للقاسم بن سلام.
([2]) صحيح البخاري (2358 و2369) وصحيح مسلم (108) عن أبي هريرة.
([3]) أخرجه أحمد في "المسند" (4/447).
([4]) صحيح البخاري (876) من حديث أبي هريرة.
([5]) صحيح البخاري (5999) وصحيح مسلم (2754).
([6]) صحيح البخاري (403) وصحيح مسلم (526).