** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
[أول ما نسخ من القرآن القبلة]
قال على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة: 115]، وقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}.
[هل القبلة عين الكعبة أم جهة الكعبة]
روى الحاكم عن على بن أبي طالب رضي الله عنه {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: شطره: قِبَلَه.
ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أمَرَ تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شَيء، سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قَالبُه، وقَلْبُه نحو الكعبة.
وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
[مسألة تحويل القبلة كانت معلومة عند اليهود ]
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: اليهودُ -الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس -يعلمون أن الله تعالى سَيُوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّته، وما خصه الله تعالى به وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا؛ ولهذا هددهم تعالى بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
(التفسير)
هذه الآيات الكريمة فيها توجيه المسلمين إلى الكعبة، ولهذا قال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] وقوله: {فَوَلِّ} هذا أول الأوامر في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم كان يحب قبلة إبراهيم، وأنه يقلب وجهه في السماء، ويتطلع، ويرجو أن يوجهه الله إلى قبلة إبراهيم، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} يعني أنك تحب ذلك، وتحب قبلة إبراهيم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} هذا أمر بالتوجه وفيه دليل على وجوب استقبال القبلة في الصلاة وأن الصلاة لا تصح إلا باستقبال القبلة {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وقوله سبحانه: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أينما كنتم في أي جهة من الأرض شرقها، أو غربها، أو جنوبها، أو شمالها، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره، فيجب على كل مسلم يريد الصلاة أن يتجه إلى القبلة في أي مكان من الأرض.
وهل يجب عليه أن يصيبها بعينها، أو تكفي الجهة؟ تكفي الجهة، إلا إذا كان يشاهد الكعبة في المسجد الحرام، فيجب عليه أن يصيب عينها، فإن انحرف عنها يمينًا، أو شمالاً فلا تصح صلاته.
وهذه مسألة أود الانتباه لها، وهي أن بعض المصلين في المسجد الحرام تجده ينحرف عن القبلة يظن أنها تكفي الجهة، فينحرف عن الكعبة، وهذا غلط يجب عليك إذا كنت تشاهد الكعبة أن تصيب عينها بحيث لو كان معك خط بين سجودك والكعبة يصل إلى الكعبة، فيجب على من يشاهد الكعبة أن يصيب عينها، وأما إذا كان لا يشاهد الكعبة، فيكفيه الجهة فقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144].
ولا يسقطُ استقبال القبلة عن المصلي إلا في حالات :
الحالة الأولى: المريض الذي لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، ولا يستطيع أحد أن يوجهه؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»([1]).
الثاني: حال القتال، في القتال والحرب والجهاد مع العدو، فإذا حاربت في الصلاة فإن المسلمين يصلون، وإذا كان العدو في غير جهة القبلة، فالمسلمون يتجهون للعدو، وفي هذه الحال تسقط القبلة، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس صلاة الخوف.
قال الإمام: صلاة الخوف جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم على ستة أوجه أو سبعة أوجه كلها جائزة.
ومن الأوجه أنه إذا كان العدو في غير جهة القبلة أن يصلي المسلمون إلى جهة العدو حتى لا يأتي عليهم العدو.
والنبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف على هذه الصفات المختلفة، ومن هذه الصفات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصف الصحابة صفين، والعدو أمامهم، ثم يكبر، ويكبرون جميعًا، ثم يركع، ويركعون جميعًا، ثم يرفع، ويرفعون جميعًا، ثم يسجد، ويسجد الصف الأول، ويبقى الصف الثاني واقفًا يحرس خشية أن يهجم عليهم العدو، فيسجد الصف الأول مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا قام للركعة الثانية تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني، ثم يركع، ويركعون جميعًا، ثم يرفع، ويرفعون جميعًا، ثم يسجد الصف الأول الذي كان هو الصف الثاني، ويقف الصف الثاني الذي كان هو الأول ـ يحرس ـ، ثم يسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقضي الصف الأول ركعة، ويقضي الصف الثاني ركعة، هذه إحدى الصلوات صلاة الخوف.
ومن إحدى صفات صلاة الخوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمهم إلى طائفتين؛ طائفة صلى بهم ركعتين، وطائفة صلى بهم ركعتين، فالأولى له فريضة، والثانية له نافلة.
ومنها: أنه إذا كان العدو في جهة القبلة، يكون العدو اتجاه القبلة فتسقط القبلة في هذه الحالة.
ومنها: حال المسايفة - كما ذكر المؤلف -، والمسايفة حال القتال بالسيوف، إذا اختلط المسلمون بالعدو لا يوجد إلا قطع الرقاب بالسيوف ليس هناك وقت للاتجاه للقبلة، حتى إن صلاة الخوف قد تكون ركعة في بعض الأحاديث، صلاة الحضر أربع ركعات صلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة، وحتى إذا اشتد القتال وبقي المسايفة قال بعض العلماء: يكفي تكبيرة واحدة، الله أكبر على الصلاة..
ففي حال المسايفة لا يوجد إلا قطع الرقاب، وهم في هذه الحالة يسقط عنهم استقبال القبلة في حال المسايفة، وفي حال الخوف إذا كان العدو في غير القبلة، وفي حالة عجز المريض، وصلاة النافلة في السفر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي النافلة في السفر إلى أي جهة يتوجه إلى جهة قصده([2])، وهذا تخفيف لأن صلاة النافلة مبنية على التخفيف.
وفي سنن أبي داود([3]) أنه يكبر أول ما يكبر في النافلة جهة القبلة، ثم ينصرف إلى جهة سيره جهة الشمال يصلي جهة الشمال جهة الشرق جهة الشرق، ولا يستقبلها في هذه الحالة.
وفي صلاة الليل، وصلاة الضحى، يصلي وهو ماش في الليل، يصلي في السفر أما في البلد فلا.
وبعض الناس يسأل سواء في السيارة مثلاً، أو في الطائرة، أو في الدابة تصلي، وتتنفل في الليل، أو يصلي النافلة، فلا بأس يصليها لغير جهة القبلة إذا كان في السفر، أما إذا كان في البلد فلا .
فالتطوع على الراحلة في البلد لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.. ولكن قف في البلد وصل في البيت أو في المسجد، لأن هذا ليس بسفر والتطوع على الراحلة خاص بالسفر.
ففي هذه الحالات يسقط استقبال القبلة كما في المريض العاجز الذي لا يستطيع أن يحول وجهه إلى القبلة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
والثاني: في حال الخوف والقتال مع الأعداء إذا كان العدو في جهة القبلة.
والثالث: حالة المسايفة.
والرابع: إذا جهل القبلة شخص في البرية، وجهل جهة القبلة فإنه يجتهد ويسشهد بالعلامات ويجب عليه أن يجتهد وأن ينظر في النجوم، وينظر في القمر، وينظر في الشمس أو يستعمل البوصلة ويسأل إذا وجد من يسأله وينظر في المحاريب ويفعل الأسباب التي يستطيعها، فإذا فعل الأسباب وأخطأ، فصلاته صحيحة في هذه الحالة ولو لغير القبلة لأنه أخذ الأسباب، ولو تبين له بعد ذلك أنه صلى إلى غير جهة القبلة، فصلاته صحيحة فإن صلى بغير اجتهاد، وتبين له أنه خلاف القبلة، فيجب عليه الإعادة، لكن إذا صلى باجتهاد، فقد أدى ما عليه.
قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] فيه دليل على وجوب استقبال القبلة، وأنه شرط من شروط الصلاة، وأن من كان يشاهد الكعبة، فإنه يجب أن يصيب عينها، وإن كان لا يشاهدها فتكفيه الجهة، ولا يسقط استقبال القبلة إلا في هذه الحالات الأربع التي سبقت.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:144] وهم اليهود والنصارى وفيه دليل على أن اليهود يعلمون أن الله تعالى سيوجه نبيه إلى القبلة، ولكنهم يتكاتمون فيما بينهم، وفيه دليل على انحراف اليهود عن الصراط المستقيم، وأنهم يكتمون الحق مع علمهم به، وبأنه لا يجوز كتمان الحق، وأن من يكتم الحق وهو يعلمه، فقد تشبه باليهود.
وفيه: أن الله تعالى توعد اليهود، وتوعد أمثالهم ممن يكتمون الحق بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]، فالله تعالى ليس بغافل عما يعمله اليهود من كتمانهم للحق، وكذلك ممن تشبه بهم، وسوف يجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
[عناد اليهود وجحودهم]
يخبر تعالى عن كُفر اليهود وعنادهم، ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96، 97] ولهذا قال هاهنا: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}.
وقوله {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به، وأنه كما هم مُسْتَمْسكون بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضًا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، ولا كونه متوجهًا إلى بيت المقدس؛ لأنها قبلة اليهود، وإنما كان ذلك عن أمر الله تعالى وطاعته.
ثم حذر الله تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره.
ولهذا قال مخاطبًا للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد به الأمة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة: بيان عناد اليهود والنصارى، وجحودهم، وكفرهم، وأنهم يعلمون الحق ثم لا يعملون به.
وفيه: تحذير هذه الأمة أن تعمل مثل عملهم، فيصيبهم ما أصابهم، فالله تعالى أخبرنا عن كفر اليهود وعنادهم تحذيرًا لنا قال بعض السلف: مضى القوم ولم يُعْنَ به سواكم.
وفيه: تحذير هذه الأمة أن تسلك مسالك الظالمين، فيصيبهم ما أصابهم، ولهذا قال العلماء : من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى، فاليهود مغضوب عليهم، حل عليهم الغضب لأنهم تركوا الحق عن علم لا عن جهل، فكذلك العالم من هذه الأمة إذا ترك الحق عن جهل انحرف عن عناد عن علم، ففيه شبه من اليهود، فهو غاو، وهو مغضوب عليه يحل عليه الغضب، ومن ترك الحق عن جهل، فإنه يكون ضالاً كالنصارى، ولهذا أمرنا في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم وهم اليهود وأشباههم، وطريق النصارى وهم الضالون {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] هم الذين منَّ الله عليهم بالعلم والعمل، غير المغضوب عليهم: الذين معهم علم ولم يعلموا به، ولا الضالين: وهم الذين يعملون على جهل وضلال، ولهذا قال بعض من العلماء: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، فيكون غاويًا مغضوبًا عليهم ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، فيكون ضالاً، ولهذا قال سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145] هذا فيه دليل على جحودهم، وعنادهم، واستمرارهم على الكفر لو أتاهم الرسول بكل حجة، وبكل دليل ما اتبعوهم فلا حيلة فيمن أراد الله فتنته، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96] {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:97]، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة، وحث لها على العمل بالحق، وتحذير لها من كتمان الحق، وجحوده، وعدم قبوله {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة:145].
وفيه: بيان شدة اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الحق الذي معه الذي جاءه من الله.
وفيه: تأييس لهم لليهود أن يتابعهم النبي - صلى الله عليه وسلم -كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3]، ثم قال تأييسًا لهم: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] هذه جملة فعلية {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] هذه حالهم {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] جملة اسمية تفيد الاستمرار، وتأييس في المستقبل {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:5] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] لكم دينكم الباطل، ولي ديني الحق، وكذلك هنا قال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة:145] أنت مستمر على الحق الذي أنت عليه، وأنت لا يمكن أن تتابعهم على ضلالهم {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145] هذا دليل على أنهم أيضًا على أنهم في ما بينهم مختلفون، {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145] .
ثم قال سبحانه: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم – وهو معصوم والمراد أمته؛ كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وهذا شرط تقديري على بيان مقادير الأشياء، والرسول معصوم، فالخطاب له، والمراد الأمة أن من انحرف عن الحق بعد معرفته، فعليه الوعيد الشديد، فإنه ليس هناك ولي ينصره ولا يدفع عنه عذاب الله إذا نزل به، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] مالك من ولي يتولاك، ولا نصير ينصرك، ويدفع عنك عذاب الله، ولو اجتمع أهل الأرض جميعًا ما استطاعوا أن ينقذوك من عذاب الله إذا تركت الحق، وعملت بالهوى، هذا خطاب للرسول، والمراد الأمة.
وفيه: التحذير لمن ترك الحق، واتبع الهوى، وكان عالمًا، لأنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، فهذا فيه تهديد ووعيد للعلماء الذين ينحرفون عن جهة الصواب، ويتركون الحق مع علمهم به وهو وعيد شديد لهم {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] مالك من ولي يتولاك، ولا ناصر يدفع عنك عذاب الله، ولا يمكن أن يفتديه من عذاب الله بشيء حتى ولو كان له مليء الأرض ذهبًا ما استطاع ما يقبل منه؛ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91] وهنا قال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] هذا فيه الفرق بين العالم والجاهل؛ فالجاهل إذا اتبع الباطل عن جهل هذا أخف وإن كان ليس بمعذور ويجب عليه أن يتعلم، ويسعى إلى الحق، لكن ليس الجاهل كالعالم الذي يعلم الحق، ثم يعدل عنه، ويتبع الأهواء هذا خطره عظيم، وأمره جسيم، والوعيد عليه شديد.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
[معرفة اليهود بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم الحق ]
يخبر تعالى أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدُهم ولده، والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير: «ابنك هذا؟» قال: نعم يا رسول الله، أشهد به. قال: «أما إنه لا يَجْنِي عليك ولا تجْنِي عليه».
قال القرطبي: ويروى أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام رضي الله عنه: أتعرف محمدًا كما تعرف ولدك ابنك، قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه[4].
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
ثم ثبّت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمة: بيان أن اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الحق، ويعلمون صدقه، ولكنهم يكتمونه.
وفيه: دليل على عناد اليهود، وجحودهم، وشدة عنادهم، وجحودهم الحق حيث إنهم يكتمون الحق مع يقينهم به.
وفيه: تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك اليهود والنصارى في جحد الحق، وحث لها على اتباع الحق، وقبوله ولزومه ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الأنعام:20] يعني يعرفون صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي مرسل من عند الله، وأن ما جاء به هو الحق كما أنهم يعرفون أبناءهم، ولا يشكون في ذلك، والعرب تضرب المثل بهذا تقول أنت تعلم صحة هذا كما تعلم ابنك، فيقول: نعم، يعني أنك تعلم صحة هذا كما تعلم صحة انتساب ولدك إليك، كما قال عبد الله بن سلام الإسرائيلي - رضي الله عنه - الصحابي الجليل الذي أسلم - رضي الله عنه – قال: أعرف هذا وأكثر. يعني يعرف صحة النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني أكثر من معرفتي بولدي لأن ولدي قد يحصل فيه شك ويمكن أن أعرف أنه ولدي، ولكن يتطرق الشك لما حصل من أمه، بخلاف نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الأمين جبريل نزل بالوحي على الأمين محمد، فليس هناك شك ولا يتطرق الشك، أما الولد فقد يتطرق الشك إليه.
قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] .
فيه: دليل على شدة العناد، وأنهم يكتمون الحق مع علمهم به، وفيه تحذير هذه الأمة من صفات اليهود من صفات أهل الكتاب، وهو كتمان الحق مع العلم به، وأن كتمان الحق مع العلم به جحود، ونكران، وكفر غليظ ممن حصل منه نسأل الله السلامة والعافية.
ثم ثبَّت الله نبيه فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة:147] يعني ما جاءك من عند الله هو الحق فاثبت عليه أنت، ومن تبعك ولهذا قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147] يعني فلا تكون من الشاكين في ذلك، والنبي - صلى الله على وسلم – لم يشك والصحابة لم يشكوا، ولكن المقصود بيان ثبات المؤمنين وأنهم على الحق، وأن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق.
([1]) صحيح البخاري (7288) وصحيح مسلم (1337).
([2]) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلاَةَ اللَّيْلِ، إِلَّا الفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ». أخرجه البخاري في الصحيح برقم (1000).
([3]) عن أَنَس بْن مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ ". سنن أبي داود (1225).
([4]) قال الشارح حفظه الله: يعني يعرفه أكثر من ولده.. نزل جبريل الأمين من السماء إلى الأمين في الأرض وهو محمد عليه الصلاة والسلام فيقول: ما عندي شك أما ولدي فيه شك ما أجزم مثلما أجزم بصحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم .