** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:148].
[لكل أمة قبلة]
قال العوفي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} يعني بذلك: أهل الأديان، يقول: لكل قبيلة قبلة يرضونها، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون.
وقال أبو العالية: لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهَداكم أنتم أيتها الأمة للقبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي نحو هذا.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة:48].
وقال هاهنا: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: هو قادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
(التفسير)
فهذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى، فيها أن لكل أمة وجهة يتوجهون إليها، ولكل شرعة ومنهاج يعملون به، وهدى الله سبحانه وتعالى هذه الأمة إلى الحق، وهداهم للصراط المستقيم، وهداهم لقبلة إبراهيم، فوجههم إلى البيت العتيق، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، على هذه الأمة.
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: «إن الله هدانا للقبلة التي ضل عنها، اليهود والنصارى وهدانا إلى القبلة، وهدانا إلى يوم الجمعة، وقد ضلوا عنها»، هذا من فضل الله تعالى وإحسانه على هذه الأمة، أن هداهم ووجههم الوجهة الحقة، الوجهة التي يقبلها ويرضاها سبحانه وتعالى، ولهذا قال سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} لكل من اليهود وجهة، وللنصارى وجهة وللمجوس وجهة، وهدى الله هذه الأمة للوجهة، للقبلة، لقبلة إبراهيم، التي يرضاها الله.
قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وهذا أمر من الله سبحانه وتعالى بالمبادرة إلى الخيرات، والمسابقة إليها، والخيرات عامة في كل ما أمر الله به، وما نهى عنه، فالأوامر يفعلها المسلم والنواهي يتركها، وأعظم ما يجب فعله، الواجبات والفرائض وأعظمها التوحيد لله عز وجل وإخلاص الدين له.
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أخلصوا العبادة لله عز وجل، وأدوا الجمعة جماعات، وأدوا الفرائض من الصلاة والزكاة والصوم والحج، وانتهوا عن المحرمات التي أعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم العدول عن سفك دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ثم بعد ذلك المسابقة إلى النوافل، والمستحبات، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} بادروا إلى الخيرات وسابقوا إليها وتنافسوا فيها، قبل فوات أوانها. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة:48].
قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أينما تكونوا من الأرض، فالله قادر على جمع أجسادكم بعد أن تفرقت، وقادر على أن يعيد الذرات التي استحالت، يعيدها خلقًا جديدًا، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4]، {إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وفي هذه الآية الكريمة منة الله تعالى على هذه الأمة، حيث وجههم لقبلة إبراهيم.
وفيه: أن كل من الطوائف المنحرفة لها وجهة.
وفيه: الأمر بالمسابقة للخيرات، ومن ضمن ذلك إخلاص الدين لله وأدائه للفرائض، وتركه للمحارم.
وفيه: إثبات البعث، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على بعث الأجساد.
وفيه: إثبات قدرة الله على كل شيء، وأن كل شيء داخل تحت قدرة الله تعالى، وليس هناك شيء من الأشياء إلا والله قادر عليه، {إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وفيه: الرد على المعتزلة والقدرية الذين يقولون: أن هناك شيء لا يقدر عليه الله، وهي أفعال العباد، يقولون: أن الله لا يقدر على خلقها، والعباد هم الذين خلقوا أفعالهم باستقلال، وهذا من جهلهم وضلالهم، نعم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
[لماذا تكرر ذكر نسخ القبلة ثلاث مرات؟]
هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام، من جميع أقطار الأرض.
قيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال: أولًا {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} إلى قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فذكر في هذا المقام إجابته إلى طَلْبَتِهِ وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها؛ وقال في الأمر الثاني: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فذكر أنه الحق من الله وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من الله يحبه ويرتضيه.
وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صُرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم إليها.
[حكمة نسخ القبلة]
وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} أي: أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس.
وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني: مشركي قريش.
ووجه بعضهم حُجّة الظلمة -وهي داحضة -أن قالوا: إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين إبراهيم: فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم، فلم يرجع عنه؟ والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولًا لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم -وهي الكعبة -فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا، فهو، صلوات الله وسلامه عليه، مطيع لله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين، وأمتهُ تَبَعٌ له.
وقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أي: لا تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين، وأفْرِدُوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه.
وقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عطف على {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} أي: لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: إلى ما ضَلّت عنه الأمم هديناكم إليه، وخَصصْناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرفَ الأمم وأفضلها.
(التفسير)
في هاتين الآيتين الكريمتين: أمر من الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم، بالتوجه إلى الكعبة، يقول الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} ثم قال بعده: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} قد سبق الأمر الأول في قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] هذه ثلاث أوامر من الله تعالى، فيه الأمر بالتوجه إلى الكعبة، كما بيَّن المؤلف رحمه الله تعالى، أن الأمر الأول فيه بيان إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلبته، حيث أن النبي عليه الصلاة والسلام يحب أن يوجه على قبلة إبراهيم، فهو ينظر في السماء ويقلب وجهه في السماء؛ رغبة في أن يوجهه الله إلى الكعبة، ومحبة لذلك فأجاب الله طَلبته، فوجهه إلى الكعبة، قال سبحانه وتعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فوجه إلى القبلة التي يرضاها.
وأما الأمر الثاني: في قوله تعالى في هذه الآية: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} هذا أمر بالتوجه إلى المسجد الحرام، وفيه بيان حكمة، وهي أن الله تعالى يرضاه وأنه الحق من عند الله عز وجل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}.
ففي الأمر الأول: فيه بيان طلبة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث وجه إلى القبلة التي يرضاها، وفي الأمر الثاني: فيه بيان أن الله تعالى يرضى ذلك وأنه هذا هو الحق من عنده، ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلا يغفل سبحانه وتعالى عن أعمال عباده، فهو منزه عن الغفلة والذهول والنسيان، بخلاف الآدمي، فإنه يعتريه الغفلة والذهول والنسيان.
وفيه: إثبات لكمال العلم لله عز وجل، وأنه لا يعتري علمه ضعف، ولا نسيان ولا ذهول، ولا غفلة ولا نقص.
وأما الأمر الثالث: الأمر بالتوجه إلى الكعبة، فهو لبيان الحكمة، وذكر حكم متعددة؛ قال سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ثلاث حكم:
الحكمة الأولى: قطع حجة أهل الكتاب؛ اليهود والنصارى؛ لأنه لو لم يوجه إلى الكعبة لاحتج عليه اليهود والنصارى، وقالوا: نجد في كتبنا أن هذا النبي قبلته الكعبة، فكيف لا يتوجه إلى الكعبة، فلما وجه إلى الكعبة انقطعت حجتهم كلهم، ولم يكن لهم حجة، فقد وُجِّه إلى الكعبة فوافق ما في كتبهم، ولهذا قال سبحانه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فلا تبالوا بهم.
ووجه بعضهم حجة الظالمين، من مشركي العرب أنهم قالوا: إذا كان على ملة إبراهيم، وإذا كان الاتجاه ملة إبراهيم، فلم يصرف عنها، إذا كان الاتجاه إلى بيت المقدس وهو على ملة إبراهيم، وهو على دين إبراهيم، فلم يصرف عنها؟
والله سبحانه وتعالى بين أنه عليه الصلاة والسلام عبد لله هو وأمته، وأنه مطيع لله في الحالين، فوجه في الحالة الأولى إلى بيت المقدس ثم وجه في الحالة الثانية إلى الكعبة.
والله تعالى له الحكمة البالغة فانقطعت بذلك حجة المشركين، ولهذا قال سبحانه: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} فلا تخشون الناس واخشوني، فلا تخشون الناس، والذين ظلموا {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ولا تخشوا الظالمين، واخشوني، فيه إفراد الله تعالى بالخشية، والخشية خوف مع العلم، فهو أعلى من الخوف، الخشية خوف مع علم، وتعظيم وإجلال، {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}.
والحكمة الثانية: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فيه بيان الحكمة وهي إتمام لله سبحانه وتعالى، النعمة على هذه الأمة، وتوجيهها إلى القبلة التي هي قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إلى الكعبة المشرفة.
والحكمة الثالثة: وفي قوله {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي ليهديكم الله سبحانه وتعالى إلى القبلة، والدين الذي ضلت عنه الأمم السابقة.
ففيه: فضل هذه الأمة، وكمالها وإتمام الله تعالى عليهم من النعمة، وعناية الله تعالى بهذه الأمة وتفضيلها على سائر الأمم.
وفيه: فضل هذه الأمة ومبادرتها إلى امتثال أمر الله عز وجل في الحالين، حينما وجه إلى بيت المقدس، توجه عليه الصلاة والسلام وتوجه معه الصحابة، وجهه الله إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشرة شهرًا، أو سبعة عشرة شهرًا، ثم وجه الله إلى القبلة فتوجهوا في الحالين، فنحن عبيد مأمورون، مطيعون لله في الحالين، فلا نعترض على الله ونعلم أن ربنا حكيم.
ولهذا كان امتثالهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجه إلى الكعبة، خرج رجل إلى قباء وجدهم يصلون فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجه إلى الكعبة، فاستداروا وهم في الصلاة[1]، هذا من كمال امتثالهم لله عز وجل، وكذلك أيضًا ما حصل أيضًا من الناس في قباء.
في اليوم الثاني أيضًا الذين استداروا وهم في الصلاة، كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، فصار الإمام في مكان المأموم، والمأموم في مكان الإمام، استداروا في صلاة واحدة، أولها إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة، لأن الواجب لا يجب على الإنسان إلا بعد العلم وهم لم يعلموا إلا في ذلك الوقت، وهكذا المؤمن الممتثل لأوامر الله تعالى، في جميع أحواله، عبد مأمور، نحن عبيد لله مأمورون، نمتثل لأمر ربنا وإن عرفنا الحكمة فالحمد لله وإن لم نعرفها نعلم أن ربنا حكيم عليم، ونقول: سمعنا وأطعنا.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}
[بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة توجب ذكر الله وشكره]
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم، أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب - وهو القرآن - والحكمة؛ - وهي السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَّهُون بالقول الفِرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة.
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ...} الآية [آل عمران: 164].
وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28].
قال ابن عباس: يعني بنعمة الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا نَدَب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره، فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}.
قال مجاهد في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} يقول: كما فعلت فاذكروني.
وقال الحسن البصري في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قال: اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي.([2])
وفي الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه».
وروى الإمام أحمد: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك، في ملإ من الملائكة -أو قال: في ملأ خير منه -وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا، وإن دنوت مني ذراعًا دنوت منك باعًا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة». صحيح الإسناد: أخرجه البخاري .
(التفسير)
قال الشارح -حفظه الله-: نعم، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أسرع بالخير من العبد، وأن الله تعالى لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العبد العمل، وهذه صفات متقابلة تليق بالله عز وجل، فمن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن تقرب من الله شبرًا تقرب منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، هذه صفات متقابلة، تليق بالله عز وجل، ومن ثمراتها أن الله تعالى أسرع بالخير من العبد، وأن الله تعالى لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العبد العمل.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} أمر الله تعالى بشكره، ووعده على شكره بمزيد الخير، فقال: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
وورى الإمام أحمد: عن أبي رجاء العطاردي، قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه». وقال روح مرة: «على عبده» ([3]).
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة: منة الله تعالى على هذه الأمة بإرساله هذا الرسول الكريم، الذي يتلو عليها آيات الله تعالى، ويزكيها ويطهرها من أدران الشرك والمعاصي ومن البدع، ويعلمها الكتاب والحكمة، هذه أكبر نعمة، هذه أعظم نعمة، هذه أعظم نعمة أنعم الله بها على الناس إرسال الرسل مبشرين ومنذرين، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213] هذه هي أعظم نعمة.
وقد من الله تعالى على هذه الأمة بهذا النبي الكريم، فقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164].
وقال سبحانه وتعالى في هذه الآية: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} خطاب لهذه الأمة {رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} هذه منة الله تعالى، وهذا فضله سبحانه وتعالى، فمن قبل هذه النعمة وشكرها، زاده الله من الخير، ومن كفرها فذلك وبال عليه، وقد خسر خسرانًا مبينًا.
قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} يتلو آيات الله، من القرآن وينزل عليه الوحي، صباحًا ومساءًا، ويزكيكم يزكي نفوسهم ويطهرها، من الشرك والمعاصي، {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.
ثم قال سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} الواجب على هذه الأمة تجاه هذه النعمة ذكر الله وشكره، ذكر الله تعالى في القلب، وتعظيمه وإجلاله سبحانه وتعالى، وخشيته وخوفه سبحانه وتعالى، وذكره باللسان، في تمجيده وتقديسه وتحميده سبحانه وتعالى، وذكره بالجوارح، في استعمالها في مرضاة الله عز وجل.
قوله سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} كما أن الشكر يكون بالقلب، ويكون باللسان ويكون بالجوارح، يكون الشكر بالقلب الاعتراف بالنعمة، واللسان بالثناء على الله بها، والجوارح باستعمالها في طاعة الله، كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة |
|
يدي ولساني والضمير المحجبا |
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} فمن ذكر الله ذكره الله، كما في الحديث، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»[4].
{وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} أمرٌ من الله تعالى لعباده بالشكر، وتحذير من الكفر، والكفر هو جحود النعمة، الكفر هو الجحود، جحودها بالقلب وجحودها باللسان، إنكار النعمة وعدم قبولها، هذا هو الكفر، نسأل الله السلامة والعافية، نعم.
وفيه: الواجب على هذه الأمة الثناء على الله عز وجل وتعظيمه سبحانه وتعالى وإجلاله، والمبادرة إلى فعل الخيرات وإخلاص العبادة لله عز وجل، وأداء الواجبات وترك المحرمات، شكرًا لله على هذه النعمة العظيمة، التي من بها الله سبحانه وتعالى علينا.
*****
[1] ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
([2]) قال الشارح -حفظه الله-: كقوله حق الله على العباد، وحق العباد على الله، فإذا أدى العباد حق الله ووحدوه فإن الله تعالى، أوجب على نفسه ألا يعذبهم.
([3]) قال الشارح -حفظه الله-: هذا الحديث صحيح، وظاهره فيه إشكال، يعني أن عمران يلبس الخز، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، نهى عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع أصابع، لكن ذكر أنه نوع من اللباس، ليس يعني من الخز الحرير المعروف، الذي هو من دود القز.
[4] ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟