** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:153-154].
[فضل الصبر والصلاة]
لما فرغ الله تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر، والإرشاد إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيَشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها؛ كما جاء في الحديث: «عجبًا للمؤمن. لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له: إن أصابته سراء، فشكر، كان خيرًا له؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له».
وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات.
والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود.
وأما الصبر الثالث: وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذلك أيضًا واجب كالاستغفار من المعايب كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب، وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كَرِه وإن نازعت إليه الأهواء.
فمن كان هكذا، فهو من الصابرين الذين يُسلَّم عليهم، إن شاء الله.([1])
[حياة الشهداء]
وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم: «أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش، فاطَّلع عليهم ربُك اطِّلاعَة، فقال: ماذا تبغون؟
فقالوا: يا ربنا، وأيّ شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟
ثم عاد إليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يُسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك، حتى نُقْتل فيك مرة أخرى؛ لما يرون من ثواب الشهادة -فيقول الرب جلّ جلاله: إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون».
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه».
ففيه: دلالة لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا بالذكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيمًا.
(التفسير)
هذه الآيات الكريمات: فيها الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، وفيها بيان فضل الشهداء، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {١٥٣} وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} هذا نداء من الله تعالى وخطاب للمؤمنين، والخطاب الموجه للمؤمنين إما أمر، خير يأمرون به أو شر ينهون عنه، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن سمعت أن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا، فأرعها سمعك فإنه إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه»[2].
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} أمر بالصبر والصلاة، بعد أن ذكر في الآية السابقة، قال: أنه يأمر عباده بالشكر في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} قد أُمروا بالذكر والشكر، أمر هنا بالاستعانة بالصبر، وذلك لأن الإنسان إما في نعمة فيحتاج إلى شكر، وإما في مصيبة فيحتاج إلى صبر، وهناك حالة ثالثة وهي في معصية فيحتاج إلى توبة، هذه هي أحوال الإنسان، فهو بين مصيبة فهو محتاج إلى الصبر، ونعمة يحتاج إلى الشكر، وذنب ومعصية فيحتاج إلى التوبة، هذه عنوان السعادة، إذا كان الإنسان يشكر عند النعمة ويصبر عند المصيبة، ويتوب عند المعصية، هذا هو عنوان السعادة إذا أعطي الإنسان شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا ندم استغفر.
وأيضًا الصلاة تحتاج إلى صبر؛ لأنها من أعظم الطاعات، والطاعات تحتاج إلى الصبر.
والصبر ثلاثة أنواع: الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، فلولا تحلي المسلم بالصبر، لما أدى العبادة، وصبر عن محارم الله حتى يتركها، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فالمسلم يستعين بالصبر والصلاة على الشدائد، قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ {٤٥} الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45، 46] هذه كبيرة شاقة، وصعبة إلا على المؤمنين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
في هذه الآية الكريمة: أن الصبر والصلاة يستعان بهما في الشدائد.
وفيه: إثبات معية الله عز وجل وهي معية خاصة، صفات المعية لله.
والمعية صفة من صفات الله، والمعية لها صفة خاصة، والمعية نوعان: معية عامة ومعية خاصة، والمعية من صفات الله، والمعية معناها في اللغة المصاحبة، ولا تقبل المخالطة ولا الامتزاج، ولا المقاربة ولا المحاذاة، تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا. والقمر فوق، المعية لا تقبل الاختلاط.
ومعية الله نوعان:
* معية عامة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم: فالله معهم بعلمه واطلاعه، وإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته، فهو يراهم من فوق العرش، يراهم وهو فوق عرشه سبحانه وتعالى، يراهم ويعلم أحوالهم وينفذ بصره فيهم وقدرته فيهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، وتأتي المعية العامة في سياق التخويف والمجازاة، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] هذه هي المعية العامة، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] هذه هي المعية العامة.
* والمعية الخاصة: تأتي في سياق المدح والثناء، الخاصة تكون للصابرين، وللمؤمنين وللرسل، كما في هذه الآية، {إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} يعني معهم بعونه وتأييده، ونصره وتوفيقه وتسديده وهو فوق العرش.
قال سبحانه عن نبيه الكريم عندما قال لأبي بكر وهما في الغار: {لا تَحزَن إِنَّ اللَّـهَ مَعَنا} [التوبة:40] فهو معهما في الغار، بعلمه واطلاعه وإحاطته وتسديده، وتأييده وتوفيقه وهو فوق العرش سبحانه وتعالى.
وقال عن موسى وهارون: {إِنَّني مَعَكُما أَسمَعُ وَأَرى} [طه:46] لما قال موسى وهارون قالا: يا ربنا إنا نخاف من فرعون: {قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَن يَفرُطَ عَلَينا أَو أَن يَطغى} [طه:45] قال الله تعالى: {لا تَخافا إِنَّني مَعَكُما أَسمَعُ وَأَرى} [طه:46] هذه معية خاصة، ولما دخل معهم فرعون، في خطاب جاءت المعية العامة، {إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15].
{وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} فيه: بيان فضل الشهداء في هذه الآية الكريمة، وأن الشهداء ليسوا أمواتًا ولكنهم أحياء حياة برزخية، فالشهيد الذي بذل نفسه لله، وهي أغلى ما يملك في الدنيا، بذلها لله وأتلف جسده لله، عوض الله أرواحهم، أجسامًا تتنعم بواسطتها وهي في حواصل طير خضر، كما في الحديث: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة تجد أنهارها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعًا»[3] وسألهم ماذا تريدون؟ تقول: ربنا ماذا نريد أعظم من هذا النعيم؟ ثم اطلع عليهم مرة أخرى، فلما رأوا أنهم لا يتركون، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدنيا مرة أخرى حتى نقتل مرة ثانية، حتى يعظم الأجر والثواب، فقال الرب عز وجل: إني كتبت إنهم إليها لا يرجعون.
ولما تمنى عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وهو يقول لجابر: «قال أن الله أحيا أباك فكلمه كفاحًا، فقال: تمنى عبدي، قال: ربي أن تردني إلى الدار الدنيا، حتى اقتل مرة أخرى، فقال: إني كتبت إنهم إليها لا يرجعون »[4].
هذا فيه الرد على الخرافيين الذين يقولون: أن الله أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وآمنا به، بعض الصوفية يقولون إن الله أحيا أبوي الرسول وآمنا به، ثم ردهما مرة أخرى، وهذا باطل، فالحديث هنا يقول: إني قلت إنهم إليها لا يرجعون، ما أحد يرجع إلى الدنيا أبدًا.
وما حصل من الآيات من قتيل بني إسرائيل، رد الله عليه روحه وأخبر بالذي قتله ثم عاد ميتًا كما كان، وأما أرواح سائر المؤمنين فإنها تتنعم في الجنة وحدها، أرواح الشهداء تتنعم بواسطة حواصل طير خضر.
وأما أرواح سائر المؤمنين غير الشهداء تتنعم وحدها تأخذ شكل الطائر كما في هذا الحديث، المسلسل بالأئمة، هذا الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام مالك عن الإمام الشافعي عن الإمام الزهري، عن كعب بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه»[5] نسمة يعني: روح المؤمن، تأخذ شكل طائر، على شكل طائر، تعلق في الجنة يعني: تأكل من ثمارها، حتى يرجعهم الله إلى أجسادهم إلى يوم يبعثون.
هذا الحديث حديث مسلسل بالأئمة، فالإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الإمام الزهري عن كعب بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثون» فروحه تتنعم وحدها، أما الشهيد تتنعم بواسطة حواصل طير خضر، فتنعمها أكمل، لأن الشهيد بذل نفسه لله، بلي جسمه وأتلف جسمه لله، فعوض الله أرواحهم أجسادًا أخرى، أجسامًا تتنعم بواسطتها وهي حواصل طير خضر التي تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يبعث الله الناس يوم القيامة، فإذا بعث الله الأجساد عادت الأرواح إلى أجسادها.
فيه: فضل الشهداء وأن الشهيد ليس ميتًا ولكنه حي حياة برزخية، وإن كان ميتًا في أحكام الدنيا لكنه حي حياة برزخية، فهو ميت في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر:30] ولكنه حيٌ حياةً برزخية، فهو يقصد أنه ميت ويقصد أنه حي، يقصد بكلامه أنه ميت لأنه انقطعت يعني أحكام الدنيا، خرجت روحه فلم تكن لها أحكام أهل الدنيا، ويقصد أنه حي لأنه حيٌ حياة برزخية، والأنبياء أحياء حياة برزخية، أكمل من حياة الشهداء.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].
[يبتلى المؤمن فيصبر ويؤجر]
أخبر تعالى أنه يبتلي عباده أي: يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه؛ ولهذا قال: لباس الجوع والخوف.
وقال هاهنا {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} أي: بقليل من ذلك.
{وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} أي: ذهاب بعضها {وَالْأَنْفُسِ} كموت الأصحاب والأقارب والأحباب، {وَالثَّمَرَاتِ} أي: لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها، ولهذا قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
ثم بيَنَّ تعالى مَنِ الصابرون الذين شكرهم، فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي: تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم مِلك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة.
ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} أي: ثناء من الله عليهم ورحمة.
قال سعيد بن جبير: أي أَمَنَةٌ من العذاب {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نِعْم العدْلان ونعمت العلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة([6]) وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا([7]).
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[فضل الاسترجاع عند المصيبة]
وقد ورد في ثواب الاسترجاع، وهو قول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} عند المصائب أحاديث كثيرة.
فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: أتاني أبو سلمة رضي الله عنه يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا سُررْتُ به. قال: «لا يصيب أحدًا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم أْجُرْنِي في مصيبتي وَأَخْلِفْ لي خيرًا منها، إلا فُعِل ذلك به».
قالت أم سلمة رضي الله عنها: فحفظت ذلك منه، فلما تُوفي أبو سلمة استرجعتُ وقلتُ: اللهم أْجُرْنِي في مصيبتي وأَخْلِفْ لي خيرًا منها، ثم رجعت إلى نفسي. فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدَّتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأنا أدبغ إهابًا لي - فغسلت يدي من القَرَظ([8])، وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حَشْوُها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله، ما بي ألا يكون بك الرغبة، لكني امرأة، فيّ غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلتُ في السن، وأنا ذات عيال، فقال: «أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها الله، عز وجل عنك. وأما ما ذكرت من السِّن فقد أصابني مثلُ الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي».
قالت: فقد سلَّمْتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ونحوه في صحيح مسلم مختصرًا.
(التفسير)
يعني استجاب الله دعاها، لما توفي أبو سلمة، قالت: من خير من أبي سلمة؟ رجل خير منه، قالت: فقلت هذا الدعاء، فأخلفني الله الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أبي سلمة فتزوجها، وفي رواية أنها قالت: يا رسول الله إني امرأة مصبية، يعني عندها صبيان، قال: أولادك هم أولادي، قال: لقد طعنت في السن كبيرة في السن، قال: أصابني الذي أصابك، أنتي كبيرة في السن وأنا كذلك.
الرسول صلى الله عليه وسلم ما تزوج بعدد من الأزواج إلا لحكم ومصالح، لعناية ومصاهرة القبائل المتعددة، وهذا فيه نصر للإسلام والمسلمين، وليس المقصود الشهوة، كما يظن بعض الناس، تعدد المصالح، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذ زوجات إلا بعد ما طعن في السن، فبعد أن طعن في السن تزوج عليه الصلاة والسلام، بقي في شبابه مع خديجة، وهي تكبره بخمسة عشرة سنة.
هذه الآيات الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ {١٥٤} وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {١٥٥} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {١٥٦} أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} أخبر الله تعالى أنه يبلو عباده بالخوف والجوع، والخائف والجائع لا يهنأ له عيش، لا يهنأ العيش إلا مع الأمن، والحصول على العيش الرغيد، ولهذا قال الله تعالى في القرية التي كفرت بالله: {فَأَذاقَهَا اللَّـهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ} [النحل:112] عاقبهم بالجوع والخوف.
وامتن سبحانه وتعالى على قريش، بتأمينهم من الخوف، وإطعامهم من الجوع، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ {٣} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش:3 ، 4] .
وقال سبحانه هنا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} نقص من الأموال بضياع بعض الأموال، وفواتها من المزارع والحبوب والثمار، وكذلك نقص الثمرات في المزارع ونقص الأموال، التي في أيديهم هذا ابتلاء من الله تعالى يبتلي به عباده في السراء والضراء.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ} موت الأحبة من الأولاد والأقارب، ونقص الثمرات من الزروع والثمار، هذه كلها مصائب تحتاج إلى صبر ولهذا قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
([1]) قال الشارح حفظه الله: يسلم عليهم، قال سبحانه: ﴿سَلامٌ عَلَيكُم بِما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ﴾ [الرعد:24] نعم.
[2] ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
[3] ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
[4] ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
[5] ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
([6]) قال الشارح -حفظه الله-: العدلين يعني حينما يحمل على المركوب يكون العدلان، يكون واحد عن اليمين، وواحد عن الشمال، والثاني الزيادة تكون فوق، العدلان {أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الصلوات والرحمة والهداية هي العلاوة.
([7]) قال الشارح -حفظه الله-: كما تحمل على البعير وعلى الدابة، يكون من جهتين على اليمين، وعلى الشمال، حمل على اليمين وحمل على الشمال، وإذا أردت الزيادة تضعه فوقها، الزيادة هي العلاوة، يعني شيء زيادة حمل، هؤلاء أعطاهم الله العدلان والزيادة، زيادة ثواب وهي الهداية، الصلوات والرحمة عدلان، والثواب هو العلاوة.
([8]) قال الشارح حفظه الله: القرظ وهو الذي يدبغ به الجلد.