** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
[معنى نفي الجناح في الطواف بين الصفا والمروة]
روى الإمام أحمد عن عروة، عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بهما؟ فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها عليه كانت: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل. وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما. أخرجاه في الصحيحين.
وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: إن هذا العلم، ما كنت سمعته، ولقد سمعتُ رجالًا من أهل العلم يقولون إن الناس -إلا من ذكرتْ عائشة -كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية.
وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.
وقد روى البخاري نحو ذلك عن أنس.
وقال الشعبي: كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة[1]، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية.
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة ـ مع الحديث ـ: دليل على أن معرفة سبب النزول مهم، وأن سبب النزول يكون به معرفة الآية، ويكون به معرفة معنى الآية، وأن معنى الآية إنما يتضح أحيانًا من معرفة سبب النزول، فهذا عروة بن الزبير ابن أخت عائشة رضي الله عنها: فهم من الآية فهمًا خطئًا، لأنه لم يعرف سبب النزول ، فبينت له عائشة، لما بينت له سبب النزول أزالت الخطأ الذي توهمه، فإن عروة بن الزبير أخذ بظاهر الآية، وظن أن الآية تفيد أنه لا جناح على الإنسان في أن يترك الطواف بين الصفا والمروة، أخذًا من ظاهر الآية، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
فقال عروة لعائشة: إني أرى أن الآية، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فأنا أرى أنه لا جناح على من ترك الطواف، فلا جناح على من لم يطوف بهما، فلا جناح على من ترك الطواف بين الصفا والمروة، أخذًا من ظاهر الآية، فبينت له عائشة رضي الله عنها، فقالت له عائشة: بئس ما قلت، فإن كانت مثل ما قلت وكما تأولتها، لكانت الآية {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} صار فيه نفي، ولكن الآية مثبتة فلا جناح أن يطوف بهما فلو كانت كما فهمتها وكما تأولتها، لكانت الآية {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما}، وبينت له السبب، وأن السبب أنهم كانوا في الجاهلية يهلون لمناة الطاغية، وكان مناة صنم مشلل، وهو أحد الأصنام الثلاثة التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {١٩} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19، 20]، فكان لأهل المدينة، للأوس والخزرج صنم بالمشلل، يهلون لمناة الطاغية، فإذا أهلوا لمناة الطاغية، طافوا بالبيت، فطافوا بالبيت وطافوا بالصفا والمروة، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف في الصفا والمروة، لأنهم كانوا يهلون لمناة الطاغية، فأنزل الله تعالى هذه الآية لرفع الجناح، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وأن هذا التحرج من أهل الجاهلية لا وجه له.
والسبب الثاني أن بعض أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من الطواف في الصفا والمروة، ويرون أنه يقصد بالطواف بالبيت، وآخرون يرون أنه الطواف، ويتصورون أن الطواف هو من أمر الجاهلية، فأنزل الله في هؤلاء وهؤلاء كما قال الزهري.
وأيضًا أمر آخر، وسبب آخر وهو أن الصفا كان عليه صنم يسمى إساف، والمروة كان عليها صنم يسمى نائلة، وهما حجران، والأصل أن إساف اسم رجل ونائلة اسم امرأة، فجرا في الكعبة فمسخهما الله حجرين، فأخذوهما ووضعوا إساف على الصفا ووضعوا نائلة على المروة، فكانوا إذا طافوا بين الصفا والمروة يستلمون الصفا بإساف وإذا طافوا بالمروة استلموا نائلة، فتحرجوا لما جاء الإسلام أن يطوفوا بالصفا والمروة، فأنزل الله هذه الآية لرفع الجناح، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} معرفة سبب النزول مهم في معرفة معنى الآية.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[حكم السعي وأصله]
وفي صحيح مسلم من حديثُ جابر الطويلُ، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت، عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم قال: «أبدأ بما بدأ الله به»([2]). وفي رواية النسائي: «ابدؤوا بما بدأ الله به»([3]).
وروى الإمام أحمد: عن حَبِيبة بنت أبي تجراة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أَرَى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول: «اسعَوا، فإن الله كتب عليكم السعي»([4]).
واستُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، وقيل: إنه واجب، وليس بركن فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وقيل: بل مستحب. والصحيح أنه ركن أو واجب.
(التفسير)
هذا ما التقى عليه أهل العلم، فالسعي بين الصفا والمروة في الحج قيل: إنه ركن وهذا مذهب الحنابلة وجماعة. وقيل: إنه واجب إذا تركه يجبر بدم، وقيل: إنه سنة ليس فيه شيء.
والصواب: أنه ركن، والقول بأنه واجب قول قوي، ولا يتم الحج إلا به، فأركان الحج تكون أربعة: الإحرام والنية والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي، والسعي مختلف فيه، السعي عند جمهور العلماء ركن، وكذلك هو ركن في العمرة، أركان العمرة ثلاثة: الإحرام والطواف والسعي، فالسعي ركن في الحج وركن في العمرة، نعم، ولكن السعي لا يشرع تكراره، ولا يشرع التطوع به، السعي يكون مرة في الحج ومرة في العمرة سبعة أشواط، سبعة أشواط في الحج وسبعة أشواط في العمرة فقط، ولا تطوع، وليس هناك تطوع بالسعي، بخلاف الطواف بالبيت فأنه يستحب التطوع فيه في كل وقت، كل وقت يطوف سبعة أشواط ويصلي ركعتين في كل وقت مستحب، أما السعي بين الصفا والمروة فليس للإنسان أن يتطوع بالسعي، يقول: عندي فراغ سوف أسعى، تسعى إذا كان معتمرًا سعي العمرة، وإذا كان حاجا سعي الحج فقط ولا يزيد على سبعة أشواط في الحج، وسبعة أشواط في العمرة، ليس هناك تطوع في السعي إنما التطوع في الطواف في البيت.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي: مما شرع الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج.
وقد تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها، لما نفد ماؤهما وزادُهما، حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله، عز وجل، فلم تـزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله، عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها «طعام طعم، وشفاء سقم»، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله، عز وجل، ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغُفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر -عليها السلام.
وقوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} قيل: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك.
(التفسير)
وهذا ضعيف لا وجه له، هذا لا وجه له، هذا وجه ضعيف، والصواب أنه لا يزاد عليه، لا ثامنة ولا تاسعة ولا عاشرة، إلا إذا شك، هل طاف بين الصفا والمروة؟ هل سعى ستًا أو سبعًا، ما يزيد وإنما يبني على اليقين، شك هل طاف بين الصفا والمروة ستًا أو سبعًا، يجعله ستة، أما إذا شك هل هذا السابع أو الثامن؟ هذا ليس له أن يأتي بثامن، لكن يبني على اليقين، والصواب أنه لا يزاد ثامنة ولا تاسعة ولا عاشرة، هذا قول مرجوح قول ضعيف.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقيل: يطوف بينهما في حجة تطوع، أو عمرة تطوع. وقيل: المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات. حكى ذلك فخر الدين الرازي، وعزي الثالث إلى الحسن البصري، والله أعلم.
(التفسير)
{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} بأن حج حجة تطوع زيادة عن حجة الفريضة، واعتمر عمرة تطوع، أي زيادة عن عمرة الفريضة، فطاف بين الصفا والمروة للحج والعمرة، وقيل من تطوع خيرًا في سائر العبادات، من تطوع بنوافل الصلاة أو نوافل الصيام أو نوافل الصدقة، {فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
حكى ذلك فخر الدين الرازي، وعزي الثالث إلى الحسن البصري، والله أعلم.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي: يثيب على القليل بالكثير {عَلِيمٌ} بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه و {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
(التفسير)
وفي هذه الآية الكريمة: وجوب السعي بين الصفا والمروة، وأنه ركن في الحج والعمرة ـ في أصح أقوال أهل العلم وهو قول جمهور العلماء ـ.
وفيه: دليل على أن أصل السعي بين الصفا والمروة ما فعلته هاجر أم إسماعيل، من الطواف بهما وهي مضطرة إلى الله عز وجل، وأنه ينبغي على الإنسان أن يتذكر حالة هاجر وأن يظهر فقره إلى الله عز وجل، وحاجته إليه في هداية قلبه وهدايته إلى الصراط المستقيم.
وفيه: مشروعية التطوع للحج والعمرة، ومشروعية التطوع من الأعمال الصالحة.
وفيه: إثبات اسمين من أسماء الله وهو الشاكر والعليم، يقال: عبد الشاكر وعبد العليم، اسمان من أسماء من الله؛ لأن الله أطلقهما على نفسه، وسمى نفسه بها، {فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ومثل: {إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] فعزيز غفور هي من أسماء الله تعالى، {وَإِنَّ اللَّـهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحج:59]، عليم، حليم، {فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}
[اللعن الدائم لمن كتم الأحكام الدينية]
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه، التي أنزلها على رسله.
قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.
وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سُئِل عن علم فكتمه، أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار»([5]).
وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية.
وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}: يعني تلعنهم ملائكة الله، والمؤمنون.
وقد جاء في الحديث، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وجاء في هذه الآية: أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال، أو الحال، أن لو كان له عقل، أو يوم القيامة، والله أعلم.
ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} أي: رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
(التفسير)
وفي هاتين الآيتين الكريمتين: بيان حكم كاتم العلم، وأن كاتم العلم عليه الوعيد الشديد {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ثم استثنى الله تعالى الذين تابوا {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} هذا وعيد شديد لمن كتم العلم، والعلم هو الذي بينه الله تعالى في الكتاب، والمراد بالكتاب الجنس، جنس الكتاب هو جنس الكتب، المُنَزَّلة على الأنبياء فمن كتم العلم، في أي زمان في زمان نوح وفي زمان هود أو في زمان صالح، أو في زمان إبراهيم أو في زمان شعيب أو في زمان موسى أو في زمان عيسى، كل من كتم العلم بعد ما بينه الله في الكتاب، في الكتاب الذي أنزله على أنبيائه، والكتاب جنس يشمل جميع الكتب، والمعنى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} في الكتب المنزلة على الأنبياء.
قوله: {وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} فهذا يكتم العلم بعد بيانه، بعد أن بينه الله تعالى، ووضحه في الكتب المنزلة على أنبيائه، فمن كتم البينات، الدلالات التي تدل على الحق، والهدى الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله، في الكتب المنزلة عليهم فعليه هذا الوعيد الشديد، {أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ} واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} من الأنبياء والرسل والملائكة والمؤمنين، وكذلك أيضًا الحيوانات وكل فصيح وأعجمي، كلهم بلسان الحال أو بلسان المقال، وهذا وعيد شديد، وكتم العلم هو أن يكتمه عند الحاجة إليه، إذا كان الناس محتاجين إلى هذا العلم ثم يكتمه، والناس ليس هناك أحد يبين لهم، وهو عنده هذا العلم، ثم يكتمه والناس بحاجة إليه لا يعلمون هذا الحق ولا يعلمون هذا الهدى، أو يسأل عنه ثم يكتمه وهو يعلمه، إذا سأل عنه وهو يكتمه وليس عنده شك فيه، ثم يكتم هذا العلم، يدخل في هذا الوعيد الشديد، ولهذا قيل في الحديث: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من النار»([6]) والحديث فيه ضعف، لكن على كل حال له طرق يشد بعضها بعضًا، وهذا وعيد شديد.
وكما أن العالم الذي يبين للناس العلم ويعلم الناس ويربي الناس بصغار العلم قبل كباره له فضل عظيم، ويستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر، فإن الكاتم للعلم، يلعنه كل شيء يلعنه الله ويلعنه اللاعنون، ويلعنه كل شيء، حتى الحيوانات والدواب، أسأل الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية.
واستثنى الله من تاب، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} تابوا يعني رجعوا عن هذا الذنب العظيم، وأصلحوا أحوالهم، {وَبَيَّنُوا} بينوا للناس ما كتموه، ففيه دليل على أنه لا تصح التوبة إلا بالرجوع عن المعصية، ومعصية هذا الكاتم تكون التوبة منه بالبيان، كما أنه كتم معصيته بالكتمان، فتكون توبته بالبيان.
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} أي بينوا ما كتموه، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي رجعوا إلى الله عز وجل وتابوا إليه، وأصلحوا أحوالهم، وبينوا للناس ما كتموه، فإن الله يتوب عليهم، ومن تاب من أي ذنب توبة نصوح، بأن نقل عن المعصية وندم على ما مضى وعزم على عدم العودة إليها، فإن الله تعالى يرد المظلمة إليه فإن الله يتوب عليه، من أي ذنب كان، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] هذه الآية عامة، إن الله عمم وأطلق، لأن هذه الآية في التائبين إلى الله فعمم وأطلق.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لمن تاب، لأن الله عمم وأطلق، بخلاف آية النساء، {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه في غير التائبين، لأن الله خص وعلق، خص الشرك لأنه لا يغفر، وعلق ما دونه بالمشيئة، دليل على أنه في غير التائبين، أما هذه الآية فهي في التائبين، لأن الله عمم وأطلق، {إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} يعني لمن تاب، {فَأُولَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وفيه إثبات اسمين من أسماء الله تعالى، وهما التواب والرحيم، ويعبَّد، فيقال: عبد التواب، عبدالرحيم، عبد الشاكر، عبد العليم، كل هذه من أسماء الله، يعبد له وكل اسم يشتمل على صفة، صفة العلم وصفة الشكر في شاكر، وصفة التوبة، فهو سبحانه وتعالى يتوب على عباده ويوفقهم للتوبة، ثم يقبل توبتهم، كما قال الله تعالى في الثلاثة الذين خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذينَ خُلِّفوا حَتّى إِذا ضاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِما رَحُبَت وَضاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنّوا أَن لا مَلجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلّا إِلَيهِ ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لِيَتوبوا} [التوبة:118] {ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لِيَتوبوا} كيف يتوبون؟ كيف ذلك؟ إذا تاب عليهم وفقهم للتوبة، ليتوبوا ويقبل توبتهم، {ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لِيَتوبوا} وهو سبحانه يوفق للتوبة ثم يتوب عليهم، ثم يقبلها من عبده، فله الحمد والفضل سبحانه وتعالى.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا} أي: في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} فيها، أي: لا ينقص عَمَّا هم فيه {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: لا يغير عنهم ساعة واحدة، ولا يفتَّر، بل هو متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك.
[جواز لعن الكفرة]
(فصل) لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعده من الأئمة، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره؛ فأما الكافر المعين، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له، وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين.
وفي قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»([7])، فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن، والله أعلم.
(التفسير)
هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {١٦١} خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} فيه بيان حكم الكافر، وأن من مات على الكفر الأكبر فإنه يلعن ومصيره جهنم والعياذ بالله، مخلد فيها أبد الآباد، وليس له نصيب من الرحمة، ولا يستطيع أن يدفع أحد عنه عذاب الله، وليس له نصيب من الشفاعة، كما وصفهم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:58] فالكافر الذي مات على الكفر الأكبر، بأن جحد توحيد الله، وأنكر أمرا معلوم من الدين بالضرورة، أو عبد غير الله هذا الذي مات على الكفر الأكبر، هذا خالد مخلد في النار، وهو خالد في اللعنة التي تتبعه في قبره، وتلحقه إلى يوم القيامة، وهو مخلد في نار جهنم أبد الآباد ولا يخرج منها أبد الآباد، أما العاصي فإنه وإن خلد، فقد يخلد بعض العصاة، إلا أن خلود العصاة خلود مؤبد، فالخلود خلودان، خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا خلود الكفرة، والثاني هو خلود مؤمد له أمد ونهاية وهو خلود بعض العصاة، الذين عظمت جرائمهم وفحشت قبائحهم، كالقاتل، أخبر الله أنه يخلد لكنه خلود له أمد، لكنه خلود له نهاية، أما خلود الكفرة خلود مؤبد لا نهاية له، وفي هذه الآية دليل على أن الكافر مخلد في النار، وأنه لا يمكن خروجه، وذلك أن الله حرم الجنة على الكافرين، قال تعالى: {مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر مناديًا ينادي في بعض الغزوات «أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة»، فالكافر لا حيلة في خروجه من النار ولا حيلة في إنقاذه من عذاب الله، ولو اجتمع أهل الأرض جميعًا ما استطاعوا أن ينقذوه، ولو كان له ملأ الأرض ذهبًا ما قبلت منه فدية، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:37]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:91] نسأل الله السلامة والعافية، فمن مات على الكفر فلا حيلة فيه، فهم مخلدون أبد الآباد والعياذ بالله، هذا حكم الكافر الذي يموت على الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر، أوالنفاق الأكبر، أو الذنب الأكبر، أو الظلم الأكبر، أما من مات على ما دون الشرك، وما دون الكفر الأكبر، فهذا تحت مشيئة الله، فإن شاء الله غفر له وعفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه وهو على خطر من أن يعذب في قبره، أو تصيبه الشدائد والأهوال يوم القيامة ، وإذا دخل النار فإنه يعذب فيها على قدر جرائمه، ثم يخرج منها لا يؤبد أبد الآباد، لا يخلد لأن أصله طاهر، أصله التوحيد والإيمان، فهو مؤمن فالذنوب تخرج منه لطهارته، بخلاف الكافر فإن نجاسته نجاسة عينية، الكلب إذا غسلته في البحر ما يطهر أبدًا.
فكذلك الكافر إذا دخل النار لا يطهر يسمر فيها، بخلاف المؤمن فإن أصله طاهر، لكن المعاصي طاغية عليه، كالنجاسة التي تصيب الثوب أو البدن، إذا غسلتها طهرت، فكذلك العاصي يغسل ويتطهر بالنار، إذا لم يعفو الله عنه، فيكون النار ليعفو عنه، فإذا لم يعفو الله عنه فيجب أن يتطهر بالنار، يدخل ليتطهر على قدر جرائمه ثم يخرج منها، وأما لعن المعين ففيه، ففيه دليل على جواز لعن الكفار بالعموم، وهذا لا خلاف فيه، وكذلك إذا فسق بالعموم فلا بأس، فيقول: لعنة الله على اليهود، لعنة الله على النصارى، لعنة الله على الوثنيين، لعنة الله على المنافقين في العموم لا بأس بهز
وكذلك في العموم لعن المبتدعة والعصاة على العموم يعني تقول: لعن الله السارق، يعني جنس السارق، لعن الله آكل الربا، لعن الله من لعن والديه، لعن الله العاق لوالديه، الرسول لعنه، قال في الحديث: «لعن الله السارق»، «لعن الله من لعن والديه»، «لعن الله شارب الخمر»، هذا على العموم، أما المعين، من الكفرة والمعين من أهل البدع ففيه خلاف، وفيه قولان لأهل العلم، وقيل أنه يلعن الكافر المعين والصواب انه لا يلعن، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا» إلا في حالة، إلا لمن اشتد أذاه من اشتد أذاه على المسلمين وأذى المسلمين، فإنه يلعن كما لعن النبي صلى الله عليه وسلم رعل وذكوان لما قتلوا القراء، وكما كان النبي في صلاة الفجر، يقنت على أقوام ويدعو عليهم: اللهم اعصف ببني أمية، ويدعوا عليهم والصحابة يؤمنون.
فالكافر إذا أذى المسلمين ولو كان حيًا، ولو كان معينًا، يلعن ويدعى عليه، في الخلود، وكذلك الفاسق، لكن على الصحيح لا يلعن المعين، فلان شَرِبَ الخمرَ لا يُلْعَن، أو فلانًا سَرَق لا يُلْعَن، يكفي إقامة الحد عليه، والدليل على هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه كان رجل يدعى عبد الله ويلقب حمارًا، وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثيرًا ما يؤتى به، ويجلد في شرب الخمر، فأؤتى به مرة فقد شرب الخمر ليجلد، فقال رجل من القوم، أخزاه الله أو لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» يعني يكفي إقامة الحد عليه، يجمع بين أمرين، اللعن، قال: لا تعين عليه الشيطان، يكفي إقامة الحد عليه، فلا يلعن الشخص بعينه، لأنه إذا أقيم عليه الحد يكفي، وإذا لم يقم عليه الحد، فأنت لا تدري بحاله قد يكون ما علم الحكم، وقد يكون تاب، وقد يعفو الله عنه، فأنت لا تعلم عنه، وقد يصاب بمصائب، يكفر الله بها عنه، فلا تلعن شخص بعينه، ولو كان عاصيًا، معين فلان ابن بفلان، لكن تلعنه على العموم.
لعن الله من شرب الخمر، لعن الله السراق، لعن الله شارب الخمر، لعن الله آكل الربا، وكلك الكفار، لعن الله اليهود والنصارى، هذا هو الصحيح من قول العلماء، قال بعض العلماء يجوز أن يلعن الفاسق بعينه، لكن الصواب هو هذا، الصواب أن المعين لا يلعن، لا من الكفار ولا من الفسقة والمبتدعين بعينهم، ولكن يلعن الكفرة على العموم، يلعن الفساق والعصاة على العموم.
نحن نشهد للكفرة بالنار على العموم، ويشهد للمؤمنين بالجنة على العموم، أما المعين فلا يُشهد عليه، فلان ابن فلان من المؤمنين، لا تشهد له بالجنة، إلا من شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين وغيرهم، لكن تشهد على العموم، كل مؤمن في الجنة، وتشهد كل كافر في النار، لكن فلان ابن فلان تشهد أنه في النار إذا علمت أنه قامت عليه الحجة، وأنه مات على الشرك وأنه يعبد الأصنام والأوثان ومات على الشرك، وأنه دعي إلى الله وأصر، على هذا الكلام، هذا لا بأس أن تشهد عليه بالنار، أما إذا لم تعلم يكفي على العموم، ولكن أهل السنة يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، لا يشهدون لمعين من أهل القبلة من المصلين بالجنة ولا بالنار، لكن يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، من رأيناه يفعل الخير، نرجو له الجنة ولكن لا نجزم ولا نشهد له، ومن رأيناه يعمل المعاصي والمنكرات والفسق نخاف عليه من النار، ولكن لا نشهد له بالنار، لكن نشهد بالعموم، كل مؤمن في الجنة وكل كافر في النار.
*****
[1] قال الشارح حفظه الله: كان إساف ونائلة صنمان، وأصلهما رجل وامرأة، فجرا في الكعبة فمسخا حجرين فوضع أحدهما على الصفا والثاني على المروة.
([2]) صحيح مسلم (1218).
([3]) السنن الكبرى (3954).
([4]) مسند أحمد (6/421).
([5]) يعني في الحديث ضعف لكن له طرق يشد بعضها بعضًا .
([6]) رواه أحمد في المسند (2/263) وابن ماجه في "السنن" (264).
([7]) رواه البخاري في صحيحه برقم (6780) من حديث عمر رضي الله عنه.