** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
[المشرك مقلد]
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين {اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ} على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} أي: وجدنا{ عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي: من عبادة الأصنام والأنداد، قال الله تعالى منكرا عليهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} أي: الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم { لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} أي: ليس لهم فهم ولا هداية.
وروى ابن إسحاق، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأنزل الله هذه الآية.
[المشرك كالحيوان]
ثم ضرب لهم تعالى مثلًا كما قال تعالى: { لِلَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوءِ} [النحل:60] فقال: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} أي: فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل، كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.
هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأبي العالية، ومجاهد, وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة, وعطاء الخراساني والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أي: صم عن سماع الحق، بكم لا يتفوهون به، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} أي: لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه.
(التفسير)
في هاتين الآيتين الكريمتين: بيان حال المشركين، وأن المشركين إنما يتبعون آباءهم وأجدادهم في الباطل، ودليل على أن اتباع الآباء والأجداد في الباطل هذه طريقة المشركين، والواجب على المسلم أن يتبع الحق، وأن يتبع الدليل، ولا يتبع الآباء والأجداد في الباطل، فينظر، لأن الله أعطاه العقل، ويسعى إلى الحق، ويطلب الحق ويتعرف على الحق، قال الله تعالى: {وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا} [الإسراء:15] فقد بعث الرسول، فينظر فإذا كان الآباء والأجداد على الحق، نعم يتبعهم، وإذا كانوا على الباطل، لا يتبعهم، فمن اتبع آباءه وأجداده على الباطل فقد شابه المشركين، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يعني ما وجدنا عليه آباءنا.
وفي الآية الأخرى قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:22] أي على دين، وعلى ملة.
وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:23] والأمة تطلق على معان منها: الملة والدين، ومنها الجماعة ومنها الزمان، وهو هنا المراد الدين.
وفي الآية الأخرى قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
وفي الآية الأخرى في سورة المائدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104] هنا وجدنا، وهناك ألفينا والمعنى واحد.
وفي هذه الآية: دليل على أن اتباع الآباء والأجداد في الباطل، هي حجة المشركين، وهي حجة الشرك، وهي الحجة القرشية، وهي حجة فرعون، فرعون قال لموسى: {قالَ فَما بالُ القُرونِ الأولى} [طه:51] والمشركون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فمن اتبع آباءه وأجداده في الباطل، فقد شابه المشركين، شابه الكفرة، فهذه هي حجة الكفرة وهي حجة باطلة، اتباع الآباء والأجداد في الباطل، ولهذا قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ}.
وفيه: دليل على أنه يجب على المسلم، أن يتبع الدليل، وأن يتبع الحق، سواء مع آبائهم أو مع غيرهم، وليس له أن يغمض عينيه، ولا يكون معذورًا بعد بلوغ الرسالة، وبعد إرسال النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد بلوغ القرآن، فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، ولا عذر له في اتباع آبائه وأجداده في الباطل.
قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19] فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، قال تعالى: {وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا} [الإسراء:15] فقد بعث الرسول.
وفي الآية الثانية: بيان حال المشركين، وأنهم بلغتهم الدعوة والحجة، ولكنهم لم يفهموها وليس ذلك بعذر لهم.
وفيه: دليل على أنه إنما تقوم الحجة على الإنسان في وصول الحجة وبلوغها، ولا يشترط فهمها، فإذا بلغه القرآن وعلم أن هذا كلام الله، وأن الله أمره بالتوحيد ونهاه عن الشرك، فلا عذر له، ولا يشترط فهمه لذلك، ولهذا قال الله تعالى وقد بين حال المشركين أنهم لم يفهموا ولم يفقهوا، ومع ذلك فقد قامت عليهم الحجة، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} فمثلهم مثل الراعي الذي ينعق للغنم، فتسمع النعيق ولا تدري، تسمع الصوت فقط، ومع ذلك قامت عليهم الحجة، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} يسمع الدعاء والنداء، لكن لا يفقه ولا يفهم، ولهذا قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فهم صم عن سماع الحق، وبكم عن التكلم بالحق، وعمي عن رؤية الحق، ورؤية الهدى، وإن كانوا يسمعون كلام الناس، ويرون ويبصرون ولهم أعين، ولهم ألسن يتكلمون بها في أمور دنياهم، وعندهم حذق ولهم عقول في أمور دنياهم، لكنها عقول معيشية، لا تنفعهم ولم تهدهم إلى ما خلقوا له، فهذه عقول معيشية، لهم عقول ويسعون ليل نهار في أمور معاشهم، وفي أمور دنياهم.
وهذا يشبه حال الكفار الآن، من اليهود والنصارى ، لهم عقول ولكن لم ينتفعوا بها، ولهم عول ولكنهم لم يؤتوا ذكاءً، بل أوتوا عقولًا ولم يؤتوا فهومًا، ولم يؤتوا ذكاءً، كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] هؤلاء من الدول الغربية، هل هم مجانين، هم ليسوا مجانين في أمور الدنيا، فهم عندهم عقول هدتهم إلى المخترعات، ووصلت إلى حد وشأن بعيد، لكنهم لم يتجاوزوا أمور الدنيا، ما أرشدتهم عقولهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وما أرشدتهم عقولهم إلى اتباع الحق، وإلى الإيمان بالله وبرسوله، إنما عقولهم لا تتجاوز أمور الدنيا، يعلمون الكثير من الحياة الدنيا، ولهذا قال سبحانه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} وهنا {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} فهم لا يعقلون ما ينفعهم في أمور الآخرة، وإن كان يعقلون أمور دنياهم، لأن الدنيا لا تساوي شيئًا عند الله، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء.
فالواجب على المسلم أن يبحث عن الدليل، وأن يعمل بالحق وأن يطلب الحق، وألا يقلد دينه الرجال، سواء كانوا آباءه أو أجداده، فالتقليد محرم، ويجب عليهم الإيمان بالله وبرسوله وتوحيد الله، ولكن العامة يقلدون في الأمور التي تخفى عليهم، ويسألون أهل الذكر، قال تعالى: {فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ} [النحل:43] .
وعليهم أن يؤمنوا بالله وبرسوله، وأن يطلبوا الحق وأن يسألوا عن الحق، وأن يبحثوا عن الحق، وألا يلغوا عقولهم ولا يقلدوا في أصول الدين وفي الإيمان بالله ورسوله، وفي الشهادة للله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، لكن يقلدون في الفروع وفي المسائل الفقهية، وفي الأمور التي تشكل عليهم، ويجب أن يسألوا فيها أهل الذكر، إذا لم يكن عندهم أهلية النظر في الأمور الفقهية، فإنهم يسألون من يثقون به في دينه وعلمه، كما قال الله تعالى: {فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ} .
ولكن ليس لهم أن يقلدوا آباءهم وأجدادهم في الباطل، وأن يتبعوا الكفرة ويلغوا عقولهم، ويتبعوا ما هم عليه من الباطل، فإن الإيمان بالله وبرسوله، والشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه بالرسالة واضح، لكل أحد وليس في هذا تقليد.
وفي الآية الثانية فيه دليل على أن المطلوب هو قيام الحجة، لا فهمها، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وأنه لا يشترط فهم الحجة، وإنما يشترط قيام الحجة، فإذا قامت الحجة على الشخص وعلمها، وأنها حجة في هذا الأمر فقد قامت عليه الحجة، ولا يشترط أن يفهمها، لأن الله أخبر أن الكفار مثلهم، كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم، فلا تسمع منه إلا الدعاء والنداء فقط، ومع ذلك فقد قامت عليهم الحجة، فدل على أنهم وإن لم يفهموا فقد قامت عليه الحجة، لأنها بلغتهم والعبرة ببلوغ الحجة لا بفهمها.
وإبليس فهم خطاب الله، إبليس يعلم فليس عنده جهل، وما قبل أمر الله، بل قابله بالإباء والاستكبار، ولم يعتذر بأنه لا يعلم أمر الله ورسوله، بل هو يعلم أمر الله ورسوله، ولكنه قابله بالإباء والاستكبار، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فإبليس ما هو بجاهل، ما عنده جهل، وفرعون ليس بجاهل، وليس كفرهم بأنهم لم يعلموا الحق، بل علموا الحق، لكنهم استكبروا عن الحق، وأبوا، فالكفر يكون بالإباء والاستكبار، فالكفر أنواع، يكون بالإباء والاستكبار، ويكون الكفر بالنفاق، ويكون أيضًا بالسخرية والاستهزاء، ويكون بالظن السيء، ويكون بالعمل والفعل، وهو فعل الشرك، يكون بالقول الباطل، ويكون بالاعتقاد، ويكون بالشك، هذه أنواع الكفر، نسأل الله العافية، فكفر إبليس كان بالإباء والاستكبار، فما عنده شك ولا عنده جهل.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
[الأمر بأكل الطيبات، وبيان المحرمات]
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين، بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك، إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك». ورواه مسلم والترمذي.
ولما امتن تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة، أو متردية أو نطيحة، أو قد عدا عليها السبع.
وقد خصص الجمهور من ذلك، ميتة البحر لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] على ما سيأتي، ولحديث العنبر في الصحيح، وفي المسند والموطأ والسنن قوله، عليه الصلاة والسلام، في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وروى الشافعي وأحمد، وابن ماجه والدارقطني، من حديث ابن عمر مرفوعًا :«أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال» وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة.
مسألة: ولبن الميتة وبيضها، المتصل بها نجس، عند الشافعي وغيره؛ لأنه جزء منها وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف، والمشهور عندهم أنها نجسة، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في تفسيره هاهنا: يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع، وقد روى ابن ماجه عن سلمان، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن السمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه».
وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير، سواء ذكي أم مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه، إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأي، وكذلك، حرم عليهم ما أهل به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى، من الأنصاب والأنداد والأزلام، ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له.
وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها، أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم؛ فيهدون منه للمسلمين، فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ، وكلوا من أشجارهم.
[إباحة الحرام للمضطر]
ثم أباح تعالى، تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} أي: في غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: في أكل ذلك {إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، قاطعًا للسبيل، أو مفارقًا للأئمة، أو خارجا في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغيًا أو عاديًا، أو في معصية الله فلا رخصة له، وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال سعيد في رواية عنه ومقاتل بن حيان: غير باغ: يعني غير مستحله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قال: {غَيْرَ بَاغٍ }في الميتة {وَلَا عَادٍ} في أكله، وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ، ولا عاد في أكله: أن يتعدى حلالًا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة.
مسألة: ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير، بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف.
ثم أورد ابن ماجه عن ابن شربحي الغبري، قال: أصابتنا عامًا مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطًا، فأخذت سنبلًا ففركته وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخبرته، فقال للرجل:" ما أطعمته إذ كان جائعًا أو ساغبًا، ولا علمته إذ كان جاهلًا فأمره فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق، إسناده صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة: من ذلك حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الثمر المعلق، فقال: «من أصاب منه من ذي حاجة، بفيه غير متخذ خبنة فلا شيء عليه» الحديث.
وقال مقاتل بن حيان في قوله: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيما أكل من اضطرار، وبلغنا والله أعلم، أنه لا يزاد على ثلاث لقم.
وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام، رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار.
وعن مسروق قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب، ثم مات دخل النار، وهذا يقتضي أن أكل الميتة، للمضطر عزيمة لا رخصة.
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمات: خطاب من الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أمر بالأكل من الطيبات، وأمر بشكر الله تعالى، وقد قال ابن مسعود: إذا سمعتم الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنه إما خير تؤمرون به، أو شر تنهون عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فيه الأمر بالأكل من الطيبات، ودلت هذه الآية على تحريم الخبائث، لأن الله أمر بالأكل من الطيبات، والأمر بالأكل من الطيبات دليل على تحريم الأكل من الخبائث.
وفي هذه الآية: دليل على أن الله تعالى أحل الطيبات من المآكل والمشارب وغيرها، وحرم الخبائث من المآكل والمشارب والمطعوم والمشروب وغيرها.
وفيه: الأمر بشكر الله عز وجل ولهذا قال: {وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} والشكر لله يكون بالقلب، وبالاعتراف بنعمه سبحانه وتعالى، وأعظم نعمة التي أنعم الله بها علينا وعلى المسلم أنه خلقه ومنَّ عليه بالإسلام، فنعمة الإسلام هي أعظم نعمة، وعلى المسلم أن يعترف لله بهذه النعمة، ويشكر الله عليها، ويعظمه ويجله، ويخشاه ويتحدث بهذه النعمة بلسانه، ويصرفها ويستعملها في طاعة الله عز وجل، وهذا هو الشكر فالشكر يكون بالقلب، وتعظيم الله وإجلاله وخشيته، وباللسان بنسبة النعمة إلى الله، وبالجوارح أن يستعملها في طاعة الله، كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة |
يدي ولساني والضمير المحجبا |
{وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وفيه أن العابد لله شاكر، فمن عبدالله ووحده فهو الشاكر، ومن أشرك بالله فهو الكفور، وفي الآية الثانية بين الله سبحانه وتعالى المحرمات {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ} ذكر هنا أربعة أشياء، ولم يتكلم الحافظ ابن كثير هنا عن الدم.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ} ذكر الله تعالى المحرمات وهي أربعة أنواع، الميتة وهي ما يموت حتف أنفه، من غير ذكاة شرعية، سواء كان مات حتف أنفه، أو كان من الخنق، أو الموقوذة؛ وهي المضروبة، أو المتردية وهي الساقطة من جبل، أو من شيء عالٍ، أو النطيحة وهي التي تنطحها أختها، وأكيلة السبع، فهي حرام على أي وجه كان.
فالميتة والدم حرام لأنه محرم لنجاسته، فلا يجوز أكله ولا يجوز شربه، وقد كانوا في الجاهلية إذا احتاج الإنسان إلى طعام، أخذ الدم، كان يضرب البعير بالسكين حتى يأخذ شيئًا من الدم، فإذا أخذ مقدارًا من الدم، أخذه وكوى مكان السكين، ثم يشرب الدم مباشرة، أو يخزنه فيكون كالكبد، فيأكلها، فهذا الدم محرم، شرب الدم محرم، وكذا لحم الخنزير.
وفيه: دليل على تحريم الخنزير، والمراد بجميع أجزائه، لحمه وشحمه، سواء ذكي أو لم يذك، وكذلك جميع المستخبثات، كالكلاب والأسود والنمور، وجميع أنواع السباع كلها محرمة، وكلها نجسة ولا تحلها الذكاة، كما دلت على ذلك السنة، قد حرم النبي صلى الله عليه وسلم، كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، كما جاء في السنة([1]).
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ} يعني كل ما ذكر عليه اسم غير الله، كما يفعل النصارى عندما يقولون: باسم المسيح، أو باسم كذا، فكل ما ذكر عليه اسم غير الله تعالى، فهو محرم لأنه { أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ} ثم قال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فمن اضطر إلى شيء من المحرمات، فالله تعالى أباح له ذلك، فمن اضطر إلى أكل الميتة، فتكون أكل الميتة واجبة في حقه وليست رخصة، فلو لم يأكل منها حتى مات لكان قاتلًا لنفسه، يجب عليه أن يأكل حتى يحفظ حياته، وهذه يجوز بخلاف يشبع أو لا يشبع، هناك خلاف بين العلماء في ذلك، من العلماء من قال: يأكل حتى يشبع ومنهم من قال: يأكل ما يسد رمقه، وهل يجوز له أن يتزود، فإنه يخشى إذا ذهب إلى مكان آخر، لا يجد شيئًا، قيل: يتزود وقيل: لا يتزود، والأقرب له أن يتزود إذا خشي ألا يجد شيئًا، والأقرب أنه لا يشبع، فالأقرب أنه يأكل ما يقيم أوده، لأن الشبع ليس مرغوبًا فيه حتى من الحلال ، كما في الحديث: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شر من بطنه"([2]).
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} اشترط الله ألا يكون باغيًا، لا يكون باغيًا ولا معتديًا، لا يتجاوز الحد بأن يأكل الميتة وهو محتاج إليها، ولا يكون متجاوزًا في الحد في سفره، بأن يكون عاصيًا، أو قاطع طريق، أو خارجًا على إمام المسلمين، أو غير ذلك من البغي، فالله سبحانه وتعالى رفع الجناح، عمن اضطر إلى أكل المحرم، إذا لم يجد غيره، بشرط ألا يكون باغيًا ولا معتديًا، فمن اضطر إلى ذلك فالله سبحانه وتعالى يغفر له، ومن رحمته أنه أباح له أكل الميتة، عند الضرورة وعند الاضطرار.
وفيه إثبات اسم الغفور الرحيم، وفيه إثبات المغفرة والرحمة، وأنه من صفات الله عز وجل ومن رحمته وإحسانه، لعباده أن أباح لهم تناول المحرمات عند الضرورة.
([1]) عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ». رواه البخاري (5530).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ». رواه مسلم (1934).
([2]) مسند أحمد (4/132) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه.