شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 43

00:00
00:00
تحميل
12

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:178-179]

[الأمر بالقصاص وبيان ما فيه من المصلحة]

يقول تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} العدل في القصاص أيها المؤمنون حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة و النضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قَتَلَ النَّضَري القُرظيَّ لا يُقْتَلُ به، بل يفادى بمائة وَسْق من التمر، وإذا قتل القرظي النضريَّ قُتِلَ به، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين، المخالفين لأحكام الله فيهم، كفرًا وبغيًا، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ} . وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ} منها منسوخة، نسختها {النفس بالنفس} [المائدة:45].

وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، لما ثبت في البخاري عن -علي رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا يقتل مسلم بكافر»([1]) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.

مسألة: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد; قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع.

وحُكِيَ عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة.

وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت.

وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.

وقال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يعني: فمن تُرك له من أخيه شيء يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} يقول: فعلى الطالب اتباعٌ بالمعروف إذا قبل الدية {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني: من القاتل من غير ضرر ولا معك، يعني: المدافعة.

[لولي الدم إحدى ثلاث خصال]

وقوله: {ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمةً بكم، مما كان محتومًا على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما روى سعيد بن منصور عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال: كُتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.

وقال قتادة: {ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ} رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القِصاص، وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أُمِروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش. وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.

وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يقول تعالى: فمن قَتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.

وهكذا روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية.

[فائدة القصاص وحكمته]

وقوله : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج وصونها; لأنه إذا علم القاتل أنه يُقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يُقْتَل.

وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.

(التفسير)

 وهذه الآيات الكريمات في القتل والقصاص والديَّة، والله تعالى يُخاطب المؤمنين يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:178] أي يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدَر خيره وشره، يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسله عمومًا وبمحمد خصوصًا امتثلوا لهذا الأمر : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، كُتِب يعني فرض، أوجبه الله عليك، أوجب الله عليهم القصاص في القتلى، والقصاص: قَتْل القاتل بمثل ما قتَل به.

 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ} [البقرة:178] يعني الحُرّ يُقتل بالحُرّ، والعبد يُقتل بالعبد، والأنثى تُقتل بالأنثى، ومفهوم هذه الآية أن الحُرّ لا يقتل بالعبد، وأن الأنثى لا تقتل بالذكر، لكن هذا منسوخ، بما جاء في آية المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فالنَّفس تُقتل بالنَّفس، ويُقتل الحُرّ بالعبد، على خلافٍ بين أهل العلم، ومن العلماء قال لا يُقتل الحر بعبد لأنه لا يكافئه، وكذلك أيضًا جاءت السُّنَّة بأن المسلم لا يُقتل بالكافر، حديث «لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ»([2])، ويُقتل الذكر بالأنثى، إذا قَتل ذكر أنثى يُقتل به، فهذا الحكم الذي في هذه الآية، جاءت النصوص وبينته، بأن الذكر يُقتل بالأنثى، هذه الأحكام في هذه الآية.

قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة:178] يعني فُرض عليكم القصاص للقتلى، {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] في هذه الآية خَيَّر الله تعالى وليّ الدَّم -وليّ القتيل- بأن يقتص أو يعفو عن القصاص إلى الديَّة، أو يعفو مجانًا، خيره بين ثلاثة أشياء: إما أن يقتص وهو بأن يقتل القاتل، وإما أن يعفو عن القصاص إلى الديّة، وإما أن يعفو مجانًا، وهذا من رحمة الله تعالى لهذه الأمة وقد كان في أهل الكتاب في شريعة التوراة يجب القتل، يجب القصاص أو الأرش وهو الدية، وفي شريعة الإنجيل يجب العفو، ولهذا في شريعة الإنجيل الأمر بالتسامح، من ضربك على خدِّك الأيمن فأدِر له الأيسر، والقصاص واجب في بني إسرائيل، وهذه الأمة من رحمة الله تعالى بهم، خيَّرهم بين هذه الأمور الثلاثة، بين القصاص وهو قتل القاتل، هذا إذا كان عمدًا عدوانًا، وبين الديَّة، وبين العفو مجانًا، والجماعة يقتلون بالواحد، على الصحيح الذي دلت عليه النصوص وقال به جمهور العلماء([3])، كما قال عمر -رضي الله عنه- لما قتل سبعة بواحد، قال: «لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِه»([4])، خلافًا لأبي حنيفة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] فإذا عَفَا وليّ الدَّم من القصاص إلى الدِّية، فإن على القاتل أن يؤدي بإحسان، وعلى وليِّ الدم أن يتبع بالمعروف، يطالبه بالمعروف وهذا يؤدي بالإحسان، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فيه دليل على أن المقتول أخٌ للقاتل.

{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178] يعني الله سبحانه وتعالى خفف على هذه الأمة ورحمها، حيث خيرها بين القصاص والدِّية والعفو، فهو تخفيف ورحمة مما كان على بني إسرائيل من وجوب القصاص أو العفو.

{فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178] من اعتدى تجاوز الحد، بأن أخذ الديَّة ثم قتل، فله العذاب الأليم، ومن العذاب الأليم أنه يُقتل ولا يُعفى عنه، مع ما أعدَّ الله له من العذاب.

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ومن القصاص قَتْل القاتل بمِثل ما قَتَل به، إذا قتل القاتل بشيء فإنه يُقتل به، من القصاص قتْل القاتل بمثل ما قَتَل به، إذا قتله بالتَّغريق بالماء، يُغَرَّق.

وإذا قتل بأن ألقاه من شاهِق، يُلقى من شاهِق، وإذا قتله بالخنق فإنه يُخنق، يدل على ذلك أن يهوديًا رَضّ رأس جارية بين حجرين لأخذ أوضاح لها، فجيء إليها في الرَّمق الأخير، فقيل لها: من فعل هذا بك؟ فلان وفلان حتى ذكرت اليهودي بأنه من رض رأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُرض رأسه بين حجرين، يُفعل به مثل ما فعل([5]).

فالقصاص قتل القاتل بمثل قتله إلا إذا فعَل به شيء مُحرَّم، فلا، فلا يُفعل به الشيء المحرَّم، إنما يقتل بالسيف، فمن قتل بالغرق غُرق، ومن قتل بالتردِّي رُدِّي، ومن قتل بالسم كذلك يُعطى سمًّا يتحساه وهكذا، هذا هو القصاص، قتْل القاتِل بمثل ما قتَل به.

 {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179] بين الله تعالى الحكمة في شرع القِصاص؛ أنه حياة، وذلك أنه من همَّ بالقتل وعلم أنه سيُقتل لكفَّ عن القتل، فسلمت نفسه، وسلِمت نفس من يريد قتله، هذا هو القصاص، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179] يا أصحاب العقول، لعلكم تتقون الله فتنزجرون عن المحارم.

وهذه العبارة {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] هي أبلغ وأوجز من العبارة التي كانت متداولة في الجاهلية، يقولون (القتل أنفى للقتل)، أولاً {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] هذه أقل حروف، {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، القصاص: قتل القاتل بمثل ما قتل به، قتل القاتل بمثل ما قتل به: حياة، لكن (القتل أنفى للقتل)، قد يكون أنفى للقتل وقد لا يكون أنفى للقتل، فإذا كان القتل قصاصًا كان أنفى للقتل، وإن كان ظلمًا فلا يكون أنفى للقتل.

ثم إن (القتل أنفى للقتل) حروف كثيرة، وأما قوله تعالى {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] جعل الله في القرآن هذه الجملة أوجز وأبلغ وأصح وأسلم، بخلاف هذه العبارة فهي طويلة وليست سليمة ( القتل أنفى للقتل).

في هذه الآيات الكريمات: من الأحكام والفوائد وجوب القصاص على هذه الأمة.

وفيها: إثبات الكتابة لله عز وجل وأنها من صفاته الفعلية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178].

وفيها من الفوائد: أن أولياء القتيل يخيرون بين ثلاثة أشياء: إما القصاص، أو الدية، أو العفو مجانًا، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178].

وفيه: أن القاتل لا يكفر بالقتل، لأن الله سمَّاه أخًا له، إذا لم يستحلَّه، لأنها معصية وليست شِركًا، ولهذا قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178] فسمَّى المقتول أخًا للقاتل، وهذه أخوة الإيمان، كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:8]، ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].

وفيه: الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يُكَفِّرون بالمعاصي، هذا فعل جريمة القتل ومع ذلك لم يَكفُر، إلا إذا استحلَّه، فإذا رأى أن قتل أخيه حلال يكفر لأنه مكذِّب لله ولرسوله.

وفيه: أن وليّ القتيل إذا سمح عن القصاص بالديَّة، فإن عليه أن يطالب القاتل بإحسان، يطالبه بالدية بإحسان، أن يتبعه بإحسان، وعلى القاتل أن يؤديها، أن يدفع بالمعروف وأن يؤدي بإحسان، فوليّ الدّم عليه أن يتبع صاحبه بالمعروف، وعلى القاتل أن يؤدي الدية بإحسان.

وفيه: رحمة الله تعالى بهذه الأمة، تخفيفها، حيث خفف عليهم ما كان على بني إسرائيل من وجوب القصاص، أو العفو مجانًا، ولهذا قال: {ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178].

وفيه: أن من قتل بعد أخذ الديَّة فإن عليه أن يُقتل، يقول: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178].

وفيه: الحكمة من شرعية القتال، شرعية القصاص، وأن فيه حياة للناس، وفيه أن الذي يعقل هذه الأحكام هم أصحاب العقول السليمة.

وفيه: أن الأحكام معللة، والرد على من أنكر تعليل الأحكام، وحِكَمَها، من الأشاعرة، ومن الجبرية، من الأشاعرة ومن الجهمية، ولهذا قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] لكي تتقوا، لعل ليست للترجي، لأن الله تعالى لا يرجو أحدًا ولا يخاف أحدًا، والمراد التعليل، وهنا معناه ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لكي تتقوا، لكي تتقوا الله، لأجل أن تتقوا الله، فالقصاص حياة لكم، من أجل أن تتقوه سبحانه يا أصحاب العقول.

وفيه: أن أصحاب العقول هم الذين ينتفعون بعقولهم وهم الذين يعقلون الأوامر والنواهي، أما غير أصحاب العقول فلا يعقلون هذه الأحكام، ولا ينتفعون بها.

 

([1])  رواه البخاري (111) عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: " لاَ، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ".

([2])  تقدم تخريجه.

([3])  قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَوَجَبَتْ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَيُفَارِقُ الدِّيَةَ فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ وَالْقِصَاصُ لاَ يَتَبَعَّضُ؛ وَلأِنَّ الْقِصَاصَ لَوْ سَقَطَ بِالاِشْتِرَاكِ أَدَّى إِلَى التَّسَارُعِ بِالْقَتْل بِهِ، فَيُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ حِكْمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لاَ يُقْتَلُونَ بِهِ وَتَجِبُ عَلَيْهِمِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةَ، وَدَاوُد، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. "المغني" (7/671- 672).

وينظر: الزيلعي 6 / 114، 115، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 241، 242، وأسنى المطالب 4 / 17.

([4]) رواه مالك في "الموطأ" (3246) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَراً خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ. وَقَالَ عُمَرُ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعاً.

([5]) رواه البخاري في "الصحيح" (2413 و2746) ومسلم (1672) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ، أَفُلاَنٌ، أَفُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَاعْتَرَفَ، «فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ».

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد