شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 44

00:00
00:00
تحميل
11

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ  * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

[الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، ثم نسخها في حق الورثة]

يقول الحافظ بن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبًا على أصح القولين، قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلها حتمًا، من غير وصية ولا تحمل منة الموصي؛ لأنها فريضة من الله، فهي فلا تحمل منة الموصي، نعم.

 ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب وهو يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث». 

وروى الإمام أحمد: عن محمد بن سيرين، قال: جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى على هذه الآية: {إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فقال: نسخت هذه الآية، وكذا رواه سعيد بن منصور، ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرطهما.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} نسختها هذه الآية: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء:7].

ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر وأبي موسى، وسعيد بن المسيب  والحسن  ومجاهد وعطاء، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وطاوس، وإبراهيم النخعي، وشريح، والضحاك، والزهري: أن هذه الآية منسوخة، نسختها آية الميراث.

[الوصية لقريب لا يرث] 

بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يوصي لهم من الثلث، استئناسًا بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»، قال ابن عمر ما مرت علي ليلة([1])، منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. قال: والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم، كثيرة جدًا.

[الوصية بالمعروف]

والمراد بالمعروف: أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته، من غير إسراف ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعدًا رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن لي مالًا ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: «لا» قال: فبالشطر؟ قال: «لا» قال: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». 

وفي «صحيح البخاري»: أن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو أن الناس، غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال :«الثلث، والثلث كثير». 

وقوله: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} يقول تعالى: فمن بدل الوصية وحرفها، فغير حكمها وزاد فيها أو نقص، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قال ابن عباس وغير واحد: وقد وقع أجر الميت على الله، وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك {إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: قد اطلع على ما أوصى به الميت، وهو عليم بذلك، وبما بدله الموصى إليهم.

وقوله تعالى: { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} قال ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجنف: الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زاد وارثًا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو متعمدًا آثمًا في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية، ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميت، إلى ما هو أقرب الأشياء إليه، وأشبه الأمور به جمعًا بين مقصود الموصي، والطريق الشرعي وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فبينه على النهي لذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم.

[فضل العدل في الوصية]

روى عبد الرزاق، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة»، قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229].

(التفسير)

قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} في هذه الآية الكريمة أوجب الله سبحانه وتعالى، الوصية للوالدين والأقربين، في قوله: {كُتِبَ} أي فرض ووجب، وهذا يدل على أن الوصية للوالدين والأقربين كانت واجبة، وهذا قبل أن تنزل الفرائض، قبل أن تنزل آيات الفرائض، فلما فرضت الفرائض صارت الناس إلى الفرائض، صار كل يأخذ من الآية التي فرضها الله، وصارت الوصية لغير الوارث، فهذه الآية منسوخة عند جماهير أهل العلم، منسوخة بآيات الفرائض.

وقوله: {كُتِبَ} أي فرض ووجب، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} يعني إن ترك مالًا، قال بعض العلماء: المراد بالخير هو المال الجزيل، أما إذا كان مالًا قليلًا فيتركه للورثة، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وهذا كان في أول الإسلام قبل أن تفرض الفرائض، فكانت الوصية للوالدين والأقربين، وكان الميراث للأولاد، فلما فرض الله الفرائض نسخ هذا الوجوب، وبقيت الوصية للأقارب غير الوارثين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"([2])، فهذه الآية منسوخة عند جماهير أهل العلم، بآيات الفرائض، والقول بالمعروف يعني بالشيء الذي لا يضر الورثة، ولا يؤثر عليهم، فالمعروف بما هو متعارف عليه، مما ينفع الموصي ولا يضر الورثة.

وقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني حقًا واجبًا على المتقين، ثم نسخ ذلك بآيات الفرائض.

وقوله: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هذه الآية فيها الوعيد الشديد، لمن بدل الوصية وغيرها، فمن بدلها وغيرها أو زاد فيها، أو نقص فيها أو كتمها، وألغاها بالكلية، فعليه الإثم، والموصي له الأجر مع الله، له الأجر وله نيته، والإثم على المبدل، ولهذا قال تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ختم الآية فيها الوعيد للمبدلين، وأن الله يسمع أقوالهم ويعلم أفعالهم ونياتهم، وسوف يجازيهم، بالوعيد الشديد.

وفيه: إثبات اسمين من أسماء الله السميع والعليم، إثبات صفة السمع والعلم لله عز وجل، {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذه الآية فيها رفع الجناح عمن تصرف في الوصية، التي فيها جنف، وفيها خطأ ومخالفة للشرع، فمن عدلها حتى توافق الشرع، فإن هذا أصلح، ولا إثم عليه، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} يعني ميلا أو خطأ، سواء كان الخطأ غير متعمد وهو الجنف، أو خطأ متعمد وهو الإثم، ومثال ذلك: أن يوصي مثلًا لوارث، هذا لا يجوز، أو مثلًا يقر لوارث بشيء، حتى ينفعه، أو مثل ما ذكر المؤلف، أن يوصي لابنته حتى ينفع ابنته، أو يقر بأن له دين على واحد من الورثة، لأجل أن ينفعه، وهذا كله من الإثم.

وقوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإذا وجد الموصى إليه في الوصية جنفًا وإثمًا ومخالفة للشرع، فله أن يغيرها، حتى توافق الشرع، وهو في هذا مأجور، لأنه مصلح، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وقال هنا: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والله سبحانه وتعالى يغفر للإنسان، ويعفو عنه إذا كان لم يتعمد الإثم، وإنما قصد الإصلاح.

وفيه: إثبات اسمين من أسماء الله وهو الغفور والرحيم، وصفتان من صفات الله وهي صفتا المغفرة والرحمة، لأن كل اسم مشتمل على صفة.

وفي هذه الآيات الكريمات من الأحكام أن الوصية كانت واجبة، للوالدين وللأقربين، قبل أن تفرض الفرائض، فلما نزلت آية المواريث نسخت الوصية، وبقي الميراث.

وفي هذه الآيات: دليل على استحباب هذه الوصية للأقارب غير الوارثين، فإذا توفي شخص وله أبناء، أو أب له أن يوصي لإخوته، أو لأعمامه، ولابن أعمامه، أو لأخواله أو لابن أخواله، ولخالاته ولعماته، كل هؤلاء من الأقارب، من الغير الوارثين، لأن الميراث يكون لآبائه ولأبنائه، وزوجته إن كان له زوجة، وأما الإخوة فلا يرثون مع الأب ولا الأبناء، فله أن يوصي لهم.

وفيه: دليل على أنه لا بأس بالوصية للأقارب من غير الوارثين.

وفيه: الوصية للأجنبي غير القريب.

وفيه من الفوائد: أن الوصية تكون بالمعروف، لا تضر بالورثة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم، لسعد بن أبي وقاص لما مرض، في مرضه، أغشى منه على الموت في حجة الوداع، جاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أغشى عليه من شدة المرض، وصب عليه الماء، فتوضأ وصب عليه فأفاق، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، فأتصدق بثلثي مالي، قال له: «لا»، قال: فالشطر، يعني النصف، قال: «لا»، فبالثلث، قال: «فالثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»([3]) يعني كونك تترك المال لورثتك، حتى يستغنوا بهذا المال، خير من أن توصي لغيرهم، وتتركهم فقراء، يتكففون الناس،  يعني يسألون الناس بكفهم، فالمال يكون لأقاربك، خير من الأبعدين، فدل على أن الوصية تكون بالمعروف، بشيء لا يجحف بالورثة.

وفيه: دليل على الوعيد على من بدل الوصية، وأن الله توعده، وأنه آثم، وأن الله سميع وعليم، سميع وعليم بأقوال المبدلين، وعليم بأحوالهم وسوف يجازيهم على ذلك.

وفي الآية الثانية من الفوائد: أن تعديل الوصية الجائرة إلى ما يوافق الشرع مطلوب وليس فيه إثم، لأن فيه إصلاحًا، فينبغي للموصى إليه أن يعدل الوصية الجائرة، التي فيها جنف وإثم، إلى ما يوافق الشرع، وهو مأجور.

وقال ابن عباس: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير" وابن عباس وكثير من السلف يرون الغض من الثلث إلى الربع، والثلث جائز، ولكن إن كان له مال ليس بكثير يقال له: أن يغض من الثلث إلى الربع، وأوصى بعض السلف بالربع، وأوصى بعض الناس بالخمس، وبالسدس، روي هذا عن الصديق وجماعة.

وإنما أوصى بعضهم بالخمس، والسدس وفيه الربع أيضًا، وإذا وصل للثلث فهو حق له، نعم، وهناك في الوصية ينظر في أحوال إذا كان هناك أولاد صغار، في أحوالهم وفي تربيتهم والنظر في شئونهم، وتربية أموالهم، هذا في الوصية، والوصية بهذا، والوصية بالمال لبعض الأقارب غير الوارثين، أو لبعض الأبعدين.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {١٨٣} أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}

[الأمر بالصوم]

يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن الطعام والشراب، والوقاع بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس، وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} الآية [المائدة:48] ولهذا قال هاهنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» ثم بين مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم وأنه في أيام معدودات، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات.

وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام، فلما نزل فرض رمضان،كان من شاء صام ومن شاء أفطر، وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود، مثله. 

وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}كما قال معاذ رضي الله عنه: كان في ابتداء الأمر: من شاء صام ومن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينًا، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.

وروي أيضًا من حديث عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، قال: هي منسوخة.
وقال السدي، عن مرة، عن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أي: يتجشمونه، قال عبد الله: فكان من شاء صام ومن شاء أفطر، وأطعم مسكينًا، {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} قال: يقول: أطعم مسكينا آخر، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} فكانوا كذلك حتى نسختها: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].

[فدية الصيام للعجزة ولكبيري السن]

وقال البخاري أيضًا: عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا. 

وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
فحاصل الأمر أن النسخ ثابت، في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام؛ فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها، يتمكن فيها من القضاء، بل يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف، على قراءة من قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يتجشمونه، كما قاله ابن مسعود وغيره، وهو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير، إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس، بعد أن كبر عامًا أو عامين كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا، وأفطر. 

وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن أيوب بن أبي تميمة قال: ضعف أنس بن مالك عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكينًا، فأطعمهم. 

ومما يلتحق بهذا المعنى: الحامل والمرضع، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، يفديان فقط ولا قضاء عليهما.

 (التفسير)

في هذه الآيات الكريمات: وهي أول آيات الصيام، أحكام عظيمة، وهي وجوب صوم شهر رمضان، وهو ركن من أركان الإسلام التي لا يقوم الإسلام، ولا يستند إلا بها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} ثم قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ثم قال: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

ففي هذه الآيات الكريمات: وجوب صوم شهر رمضان، وأن الله أوجبه على الأمة الإسلامية، وثبت في الصحيحين([4]) من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، جعل صيام شهر رمضان الركن الرابع من أركان الإسلام، التي لا يقوم ولا يستقيم إلا بها، قال عليه الصلاة والسلام: " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام" فجعل صيام رمضان هو الركن الرابع، من أركان الإسلام.

قال الله تعالى في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} يعني كتب وفرض ووجب، {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذا فيه تسلية لهذه الأمة وتنشيط لها، يعني أن الصيام ليس خاصًّا بكم، ولكن الله أوجبه على الأمم السابقة، فعليكم أن تجتهدوا في إتقان العمل وتبرزوا فيه، حتى تفوقوا الأمم السابقة.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} والصيام في اللغة يعني الإمساك، ومنهم من قال: خيل صائمة، والصيام في اللغة يعني فقط الإمساك، لقول الله تعالى عن مريم: {فَقولي إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمـنِ صَومًا} [مريم:26] أي سكوتًا.

وشرعًا هو الإمساك عن المفطرات، عن الأكل والشرب والجماع بنية من طلوع الفجر الثاني، إلى غروب الشمس، بنية خالصة لله عز وجل.

هذا هو الصيام، الإمساك عن المفطرات بنية من المكلف، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.

والصيام حكمه هو فريضة من فرائض الإسلام، بل هو الركن الرابع من أركان الإسلام، كتبه الله وفرضه على الأمة الإسلامية، على المسلم البالغ العاقل، القادر المقيم، غير المسافر، والصحيح غير المريض، وغير الحائض والنفساء، فهذا الذي تتوافر فيه الشروط، يجب عليه أن يصوم، فإن أفطر يومًا من رمضان من غير عذر، فعليه الوعيد الشديد.

وقد جاء في الحديث:«من أفطر يومًا من رمضان، من غير رخصة ولا مرض، لم يقبل منه صوم الدهر وإن صامه كله»([5]) وإن كان الحديث فيه كلام، وإنما عليه الوعيد الشديد، فمن أفطر من غير عذر، فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.

وقال بعض العلماء: يكفر بذلك، وإن لم يجحد وجوبه، وقال آخرون من أهل العلم: لا يكفر إلا إذا جحد وجوبه، أما إذا أفطر تكاسلًا وتهاونًا، فقد ارتكب جريمة، وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وبعض أهل العلم قال: من ترك ركنًا من أركان الإسلام، تركه متساهلًا، ترك الزكاة، أو الصوم أو الحج تهاونًا وهو مؤمن ومصدق بوجوبه، قال بعض العلماء: فإنه يكفر إذا ترك واحدًا منها، من أركان الأربعة أو الخمس، وقال آخرون: لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة.

وفي هذه الآية الكريمة: بيان الحكمة من الصيام، وأن الحكمة من الصيام، سبب عظيم للتقوى، والتقوى هي جماع الخير، ولهذا قال سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ولعل هنا ليست للترجي لأن الله لا يرجو أحدًا ولا يخاف من أحد، بل لعل هنا للتعليل، والمعنى هنا لكي تتقوا.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} لكي تتقوا، أو لأجل أن تتقوا، فهي للتعليل ولبيان الحكمة، لا للترجي لأن الله لا يرجو أحدًا ولا يخاف من أحد، لكي تتقوا، فإذًا من أعظم حكم الصيام وأسراره، أنه يكون عونًا للعبد على تقوى الله تعالى، وتقوى الله هو جماع الخير، فالتقوى هي وصية الله تعالى للأولين وللآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّـهَ} [النساء:131] فالصيام هو من أعظم العون على تقوى الله.

وأصل التقوى هي مخافة الله، التقوى هي مخافة الله، وهي أن توحد الله، فأصلها هي توحيد الله، ثم أداء الواجبات وترك المحرمات.

وفيه أن الصيام أوجبه الله تعالى في أيام معدودات، وهي أيام شهر رمضان، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، لم يوجب الله تعالى على عباده أن يصوموا الدهر كله، أو أن يصوموا ثلث الدهر، أو ربع الدهر، وإنما أوجب عليهم صيام شهر واحد من أصل اثني عشر شهرًا، وهم بذلك يربحون على الله أعظم الربح، فهو سبب للتقوى وسبب لتصفية النفوس، وتخليص النفوس من الأخلاق الرذيلة المعنوية، والأخلاط الرديئة في الجسد، وهو يصح الجسد وينقيه من الأخلاط الرديئة، وتتوقف أجهزة الجسم عن الطعام والشراب، مدة النهار فهذا فيه تنقية للأخلاط الرديئة، وفيه صحة للبدن، "صوموا تصحوا".

وفيه أيضًا: تنقية البدن من الأخلاق الرذيلة والسيئة، فإن الصيام يعود المسلم على الصبر وعلى التحمل، وكلما أراد خلقه أن يسوء، أو يتكلم مع أحد بما لا يليق، تذكر بأنه صائم، فمنعه الصوم مما لا يليق.

وقال سبحانه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} هذه الآية منسوخة عند جماهير الصحابة وجماهير أهل العلم، وأنها في أول الإسلام، أو ما فرض صوم رمضان أول ما فرض، فرض صوم يوم عاشوراء، في السنة الأولى من الهجرة، صام النبي صلى الله عليه وسلم، يوم عاشوراء، ثم أمر مناديًا ينادي أن اليوم يوم عاشوراء، فمن كان صائمًا فليتم صومه، ومن لم يصم، فليصم بقية يومه([6])، فإن اليوم هو يوم عاشوراء، ثم في السنة الثانية من الهجرة فرض الله صوم شهر رمضان، فنسخ وجوب صوم يوم عاشوراء.

ولما أوجب الله صوم شهر رمضان كانوا في أول الإسلام مخيرين بين أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكين، فالإنسان مخير بين أن يصوم أو يفطر ذلك اليوم، ويطعم مسكينًا عن كل يوم أفطره، والصوم أفضل لكنه مخير، والله تعالى أخبر أن الصوم أفضل، ولكن يجوز له يفطر، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فالذي يطيق الصيام هو مخير، {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فمن تطوع بإطعام مسكين آخر، فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم من أن تفطروا وأن تطعموا، فالصوم أفضل.

ولكن نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هذا أمر بالوجوب، فالآية الأولى خيرت، والآية الثانية أوجبت.

فالآية الأولى قالت: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} على المطيق له أن يفدي، {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} ثم قال: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

وذهب ابن عباس وابن مسعود وبعض العلماء إلى أن الآية ليست منسوخة، وإنما هي باقية في حق ما لم يستطع الصيام، باقية في حق الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، ومثله المريض الذي لا يبرأ جرحه، فهؤلاء يفطرون ويطعمون مكان كل يوم مسكينًا.

ومعنى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} يعني يتجشمونه، يتجشمون صيامه، ولا يستطيعون الصيام، فإن هؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكين، ولهذا قال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

وفي هذه الآية: أوجب الله فيها الصوم حتمًا على المسلم الصحيح، القادر المقيم، غير الحائض والنفساء.

وفي هذه الآية: أن المريض والمسافر لهما أن يفطرَا ويقضيَا.

والمريض له أحوال ثلاثة:

الحالة الأولى: أن يعلم المريض أن الصوم يزيده مرضًا إلى مرضه، فهذا لا يجوز له الصيام، بل يحرم عليه الصيام.

الحالة الثانية: أن يكون الصوم لا يزيده مرضًا، لكنه يشق عليه ويتجشم، ففي هذه الحالة الصيام مكروه في حقه.

الحالة الثالثة: أن يكون المرض خفيفًا، لا يشق عليه المرض، مثل وجع الظهر الخفيف، ووجع العين، فهذا يجب عليه أن يصوم.

والمسافر كذلك له أحوال، لابد أن يكون مسافرًا سفرًا تقصر فيه الصلاة، فإذا كان الصوم يشق عليه، لشدة الحر، فإنه يكره له في هذه الحالة أن يصوم، وفي الصحيح([7]) رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر رجلًا قد ظلل عليه، فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا رجل صائم، قال: «ليس من البر الصيام في السفر».

وثبت في الحديث أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مسافرين وكان منهم الصائم ومنهم المفطر، فنزلوا منزلًا وكان الوقت حارًا، فسقط الصوام من شدة الحر، وقام المفطرون فسقوا الركاب، وبنوا الأخبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر»([8]) لأنهم خدموا إخوانهم، وسقوا الإبل، والصوام سقطوا، فدل على أنه مكروه في هذه الحالة في حقه الصيام، إذا كان يشق عليه، أما إذا كان لا يشق عليه، فإنه مخير بين الصيام وبين الإفطار.

واختلف العلماء أيهما أفضل؟ فقيل الفطر أفضل، لأن فيه أخذًا برخصة الله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم برخصة الله التي رخصها لكم، فاقبلوها»([9]) .

وقيل: الصيام أفضل، لأنه أسرع في براءة الذمة، وأنشط للإنسان إذا كان يصوم مع الناس، من أن يكون دينًا عليه، كما قال بعض الصحابة وهو حمزة بن عمرو الأسلمي: قال يا رسول الله إني رجل كثير السفر، أفأصوم أو أفطر؟ فقال له رسول الله: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر»([10]) .

وقال آخرون من أهل العلم: إنهما على حد سواء.

وقالت طائفة من أهل العلم: أنه لا يجوز الصوم في السفر مطلقًا، ولو صام لم يجزئه، وهذا قول ضعيف.

واختلف العلماء أيضًا في السفر الذي يفطر فيه، فأجمع العلماء على أنه يفطر في كل سفر إلا سفر المعصية، فإن العاصي لا يعان، فليس له أن يفطر، فالذي يسافر لشراء الخمور أو الحشيش، أو الدخان لا يعان، فلا يترخص عند جمهور العلماء، وإنما الذي ترخص في سفر الطاعة كالحج والعمرة، والجهاد وهذا هو السفر المباح.

وقال آخرون من أهل العلم: لا يترخص إلا إذا سافر سفر طاعة، كالجهاد والحج والعمرة فقط، إنما سفر غير المباح فلا يترخص له.

والصواب له أن يترخص مطلقًا، أما سفر المعصية ففيه خلاف من العلماء، منهم من قال: يترخص له، ولعل الترخيص له سبب في توبته وهدايته، فله أن يترخص وعليه إثم المعصية.

*****

 

([1]) قال الشارح حفظه الله: المعروف في «الصحيح» أنها ليست ليلة واحدة بل ليلتان، في حديث ابن عمر، وكذلك في الأثر قال: ما مرت علي ليلتان، منذ سمعت رسول الله يقول ذلك إلا وعندي وصيتي.

([2]) رواه ابن ماجه (2713) وأبو داود (2870) و(3656) والترمذي (2120) وغيرهم.

([3]) صحيح البخاري (1295).

([4])  صحيح البخاري برقم (8) وصحيح مسلم برقم (16).

([5]) أخرجه أحمد في "المسند" (2/368، 442، 470) والدارمي (1765).

([6]) صحيح البخاري (2007).

([7]) صحيح مسلم (1115) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

([8]) صحيح البخاري (2890) وصحيح مسلم (1119).

([9])  صحيح مسلم (1115).

([10]) صحيح البخاري (1943) وصحيح مسلم (1121).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد