شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 48

00:00
00:00
تحميل
12

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ }

[الأمر بقتال مَن يُقاتل وبقتله حيث وجد]

قال الحافظ ابن كثير: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال: هذه منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وفي هذا نظر؛ لأن قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همّتْهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]؛ ولهذا قال في هذه الآية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصًا.

[النهي عن الاعتداء كالمثلة والغلول]

وقوله: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المَثُلة، والغُلُول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيان، وغيرهم. ولهذا جاء في «صحيح مسلم»، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلّوا، ولا تَغْدروا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا أصحاب الصوامع». رواه الإمام أحمد.

وفي «الصحيحين» عن ابن عمر قال: وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا.

[الشرك أشد من القتل]

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون  عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل؛ ولهذا قال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال أبو مالك: أي: ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. وقال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع ابن أنس في قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يقول: الشرك أشد من القتل.

[حرمة القتال في الحرم وجواز دفع الصائل]

وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كما جاء في الصحيحين: «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجره، ولا يُخْتَلى خَلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم».

يعني بذلك - صلوات الله وسلامه عليه - قتالَه أهلها يومَ فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة، وقد آمنهم بقوله: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

وقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال  كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]،، وقال: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].

وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: فإن تَركُوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظَمُه ذَنْب أنْ يغفره لمن تاب منْه إليه.

[الأمر بالقتال حتى لا تكون فتنة]

ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك. قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسُّدي، وزيد بن أسلم.

{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} أي: يكونَ دينُ الله هو الظاهر [العالي] على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سُئِل النبي  صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».

وفي الصحيحين: «أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله».

وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} يقول تعالى: فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك، وقتال المؤمنين، فكُفُّوا عنهم، فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد: لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل. أو يكون تقديره؛ فإن انتهوا فقد تَخَلَّصُوا من الظلم، وهو الشرك. فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة، كقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].

ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.

وروى البخاري تحت قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية: عن نافع، عن ابن عمر، قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد ضيعوا  وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

وزاد عثمان بن صالح أن رجلًا أتى ابن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال: يا ابن أخي، بُني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت.

قال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلًا وكان الرجل يفتن في دينه: إما قتلوه أو عذبوه  حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال: فما قولك في علي وعثمان؟

قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن يعفوا  عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون.

(التفسير)

هذه الآيات الكريمات فيها: الأمر بقتال المشركين إذا قاتلوا، وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- شرع الجهاد بالتدرج، فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون قلة في مكة، وكان الكفار هم الأكثر، وكان المؤمنون مستضعفين لم يؤمروا بالجهاد، وإنما أمروا بالصفح والإعراض والصبر والتحمل {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] .

فتنزل الآيات فيها الأمر بالصبر والأمر بالصفح والإعراض عنهم؛ لأن المسلمين كانوا قلة وكانوا ضعفاء مستضعفين، والكفار هم الأكثر.

فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وكانت المدينة دار الإسلام الأولى، وقوِيَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وآزره المهاجرون والأنصار، حينئذٍ شرع الله الجهاد بالتدريج.

فنزل أولًا قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39] فنزل الإذن بالجهاد.

ثم نزلت هذه الآية الكريمة {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] كانوا مأمورين بقتال مَن قاتل، وأما مَن لم يقاتِل فلا يقاتَل وهذه هي المرحلة الثانية.

المرحلة الأولى: الإذن في الجهاد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39] أذن الله لهم؛ لأنهم مظلومون، ثم المرحلة الثانية: أمر الله بقتال مَن قاتل، والكف عمن لم يقاتل كما في هذه الآيات {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191].

ثم بعد ذلك شرع الله القتال ابتداءً لما نزلت آية التوبة {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}[التوبة:36] فشرع الله الجهاد والقتال في سبيله دفاعًا وابتداءً.

وفي هذه الآيات الكريمات المرحلة الثانية: أمر الله بقتال مَن قاتل والكف عمن لم يقاتل، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني الجهاد في سبيله، لإعلاء كلمة الله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وأما مَن لم يقاتل فلا، فإنه يُكف عنه.

{وَلا تَعْتَدُوا} نهى الله عن الاعتداء، والاعتداء بأن يقاتَل مَن لم يقاتِل، والاعتداء بالتمثيل بأن يمثل بالقتيل بقطع أذنه أو أنفه، أو قتل الشيوخ الكبار الذين لا رأي لهم، أو قتل الصبيان، أو قتل النساء، أو قتل الرهبان في الصوامع كل هذا من الاعتداء، ولهذا قال -سبحانه وتعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .

ثم قال -سبحانه وتعالى-: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}[البقرة:191] هذا فيه قتال مَن قاتل {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وهذا هو القصاص إذا قاتلوكم فاقتلوهم، وكما أخرجوكم فأخرجوهم؛ قصاصًا، ففيه قتال مَن قاتل وإخراج مَن أخرج .

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} الفتنة هي الشرك وصد المسلمين عن الدين، وهذا أشد من القتل، القتل فيه إزهاق للنفوس وهو من الجرائم العظيمة، لكن أعظم منه الشرك وما هم متلبسون به، يعني: للذي أنتم متلبسون به أيها المشركون من الفتنة أعظم من القتل.

{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} ففيه النهي عن القتال في الحرم إلا دفاعًا؛ لأن الحرم لا يجوز القتال فيه، ولا يجوز تنفير صيده، ولا قطع شجره الأخضر، ولا أخذ اللقطة إلا لمنشد، لكن يقاتل مَن قاتل قصاصًا دفاعًا عن النفس، لأنهم هم الذين ابتدءوا هم الذين انتهكوا حرمة الحرم فيقاتلون.

ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} اقتلوهم قصاصًا {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:192] إن انتهوا عن الشرك وتابوا وأقلعوا فالله تعالى يغفر لهم ما مضى؛ لأن التوبة تجب ما قبلها وحينئذٍ كُفوا عن قتالهم {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] الأمر بالقتال حتى ينتهي الشرك، والفتنة هي الشرك وصد الناس عن دين الله.

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} يعني يكون دين الإسلام ظاهرًا على الأديان كلها {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} يعني إن انتهوا عن الشرك وكفوا عن القتال فحينئذٍ لا يجوز قتالهم؛ لأن قتالهم حينئذ عدوان، وهم قد انتهوا من العدوان، قد تركوا العدوان قد تركوا الظلم؛ والشرك أظلم الظلم، ولا عدوان إلا على الظالم، وهم قد تركوا الظلم فلا يجوز الاعتداء عليهم {فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}.

ففي هذه الآيات الكريمات أمر من الله تعالى بقتال الكفار إذا قاتلوا، وأمر لهم بقتال مَن قاتل في الحرم والكف عمن لم يقاتل.

وفيه دليل عن أن من حكمة الجهاد في سبيل الله إزالة الشرك حتى يكون الدين لله، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}.

وفيه أن المشركين إذا انتهوا عن القتال وتابوا فلا يجوز قتالهم.

وفيه أن التوبة تجب ما قبلها لقوله: {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وأن مَن تاب، تاب الله عليه من الشرك وغيره، ولهذا قال سبحانه في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] هذه الآية للتائبين؛ لأن الله عمم وأطلق {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لمَن تاب .

وقوله -سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فيه دليل على أن الغاية من القتال إزالة الشرك، إذا زال الشرك والصد عن سبيل الله حينئذٍ لا قتال، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} .

وفيه: أن المشركين إن انتهوا عن الشرك فإنهم قد تركوا الظلم وحينئذٍ لا يجوز قتالهم ومَن قتلهم بعد ذلك فإن هذا من العدوان ومن الظلم.

ففي هذه الآيات الكريمات: كما سبق الأمر بقتال مَن قاتل والكف عمن لم يقاتل؛ لأن الأمر بالقتال لإزالة الشرك.

وفيه: أن مَن تاب من الشرك تاب الله عليه، وأنه يجب الكف عنه.

وفيه: أن مَن تاب من الشرك فإنه ترك الظلم وحينئذٍ لا يجوز قتاله فإن قتاله حينئذٍ ظلم وعدوان.

تنبيه:  فتحت مكة عَنوة وهذا هو الصواب، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخلها فاتحًا لما نقضت قريش الصلح، فدخلها فاتحًا، ودخلها عَنوة، وجعل يؤمِّنهم كما في الحديث عن أبي هريرة: وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا، وَأَتْبَاعًا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ»، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: «حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا»، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ  يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»([1]).

تنبيه : ويجب على كل أحد أن يدافع عن نفسه، إذا هجم المشركون على بلد يجب على أهل البلد كلهم الرجال والنساء والأطفال أن يدافعوا عن بلدهم وأهلهم دفاعًا عن النفس، ويجب على مَن حولهم من المسلمين أن يعينوهم حتى يزول المشركون.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}

[حرمة القتال في الأشهر الحرم إلا إذا بدأ العدو بالقتال فيها]

قال عكرمة، عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، وقتادة، ومِقْسَم، والربيع بن أنس، وعطاء وغيرهم: لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة ست من الهجرة، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان معه من المسلمين، وأقَصَّه الله منهم، فنزلت في ذلك هذه الآية: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}.

وروى الإمام أحمد: عن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويَغْزُو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ.

هذا إسناد صحيح؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو مُخَيِّم بالحديبية - أن عثمان قتل - وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين - بايع أصحابه، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين، فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان.

وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف، عَدَل إليها، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه .

فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ، ثم كر راجعًا إلى مكة واعتمر من الجعرانة، حيث قسم غنائم حُنين. وكانت عُمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمان، صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أمْر بالعدل حتى في المشركين: كما قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.

(التفسير)

هذه الآية الكريمة فيها: مشروعية العدل مع المشركين لهذا قال -سبحانه وتعالى-: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194] فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في سنة ستٍّ من الهجرة في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم، لأن الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم (ثلاثٌ متوالية) وواحد فرد وهو: رجب، بين جمادى وشعبان، فلما صدوه ومنعوه صالحهم.

وكان من بنود الصلح أن يعود هذا العام ويأتي من العام القادم، فرجع من العام القادم واعتمر فكان هذا قصاصًا ، حيث صُد عن العمرة في شهر حرام فقاضاهم عنها في الشهر الحرام نفسه {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} هذه حرمة وهذه حرمة قصاص عدل، شهر ذي القعدة الذي صدوا عنه في سنة ستٍّ من الهجرة عوضهم الله بشهر ذي القعدة في سنة سبع من الهجرة، فكان الشهر بالشهر والحرمات قصاص الحرمة بالحرمة، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

ففيه: العدل مع الأعداء وأن العدل في كل شيء حتى مع العدو، ولهذا قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ولا يُزاد، فمَن اعتدى يقتص منه، ويعتدى عليه بمثل عدوانه ولا يُزاد عليه.

اختلف العلماء في القتال في الشهر الحرام هل هو باقٍ أم منسوخ؟ على قولين:

جمهور العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ.

وقال آخرون: بل هو باق . فيجوز القتال في تلك الأشهر.

قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي مع المتقين بنصره وتأييده.

في هذه الآية الكريمة: أن المنع من القتال في الأشهر الحرم، وهذا كان أولًا عند الجمهور، ثم نسخ.

وفيه: أن الله تعالى اقتصَّ لنبيه شهرًا بشهر، شهر حرام بشهر حرام، ولهذا قال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}.

وفيه مشروعية العدل مع العدو، وأن العدو يرد عدوانه، ولا يعتدى عليه، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمرٌ بتقواه وطاعته {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} مع المتقين يعني بنصره وتأييده، وهذه معية خاصة.

وفيه: إثبات المعية لله -عز وجل- .

والمعية نوعان:

معية عامة: تشمل المؤمن والكافر، وهذه تأتي في سياق المحاسبة والمجازاة كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد:4] يعني معكم بعلمه واطلاعه وإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته وسوف يُجازيكم، وكما في قوله -عز وجل-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7] هذه معية عامة.

افتتحها الله الآية بالعلم واختتمها بالعلم، وهذا دليل على معية علمه وإحاطته وليس هذا تأويلًا، والمعية في اللغة العربية لمطلق المصاحبة، ولا تطلق للاختلاط ولا الامتزاج ولا المحاذاة عن يمين أو شمال.. وقد غلط أهل البدع فأخذوا من المعية أن الله تعالى مختلط بمخلوقاته -نعوذ بالله- وهذا من جهلهم وضلالهم؛ لأن المعية إنما هي مطلق المصاحبة، تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا، والقمر بعيد فوق رأسك، ما زلنا نسير والنجم معنا، ويقال: فلان زوجته معه، وهو في المشرق وهي في المغرب يعني في عصمته، فالمعية تقتضي المصاحبة يعني مطلق المصاحبة، ولا تقتضي الاختلاط والامتزاج، فالله تعالى مع خلقه بعلمه وإحاطته واطلاعه ومع المؤمن بنصره وتأييده وهو فوق العرش -سبحانه وتعالى-، فالمعية معيتان: معية عامة {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] يعني بعلمه واطلاعه وإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته، وهو مع المؤمنين بنصره وتأييده وتوفيقه وتسديده.

والمعية الخاصة: خاصة بالمؤمنين، وتأتي في سياق المدح والثناء واقتضاء النصر والحفظ والتأييد والكلاءة كما في هذه الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وقوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقوله لنبيه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] هذه معية خاصة معية نصر وتأييد وتوفيق وتسديد وحفظ وكلاءة وتأتي في سياق المدح والثناء.

أما المعية العامة: فهي عامة للمؤمن والكافر لقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:108] هذه معية عامة، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] هذه معية خاصة.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

[الأمر بالإنفاق في سبيل الله]

روى البخاري عن حذيفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة.

وروي عن ابن أبي حاتم مثله. قال: وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيَّان، نحو ذلك.

وقال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَهِدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيَا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونَصْرِه، حتى فشا الإسلام وكثر أهلُه، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما. فنزل  فينا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.

رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب، به.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا  بالقسطنطينية - وعلى أهل مصر عقبة بن عامر؛ وعلى أهل الشام رجل يريد فَضَالة بن عُبَيد - فخرج من المدينة صَف عظيم من الروم، فصففنا لهم فحَمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم: ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، وإنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها. فأنزل الله هذه الآية.

وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب: إن حملتُ على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا قال الله لرسوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} [النساء: 84]، وإنما هذا في النفقة. رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، به. وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

ورواه الثوري، وقيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن البراء - فذكره. وقال بعد قوله: {لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} ولكن التهلكة أن يُذْنِبَ الرجلُ الذنبَ، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب.

وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ليس  ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تُمْسكَ بيدك عن النفقة في سبيل الله. ولا تلق بيدك إلى التهلكة.

ومضمون الآية: الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القُرُبات ووجوه الطاعات، وخاصّة  صرفَ الأموال في قتال الأعداء وبذلهَا فيما يَقْوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده. ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

(التفسير)

هذه الآية الكريمة فيها الأمر بالنفقة في سبيل الله {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:195] والإلقاء بالتهلكة كما دلت هذه النصوص هو الإقامة في الأموال وإصلاح الأموال وتنميتها وترك الخروج في سبيل الله، هذا هو التهلكة؛ لأن الإنسان حينئذٍ يركن إلى الدنيا ويعرض عن الآخرة وعن الجهاد في سبيل الله، وهذا هلاك له، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أنفقوا من أموالكم في سبيل الله في الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بإمساك الأموال وتنميتها وعدم إنفاقها في الجهاد في سبيل الله.

وسبب النزول يتضح به الآية؛ وذلك أن المسلمين لما كانوا في فتح القسطنطينية خرج صف من الروم عظيم فجاء رجل من المسلمين وحمل عليهم يعني دخل في صف الروم بجواده (فرسه) حتى اخترق الصف ثم رجع إلى المسلمين، ولم يصبه شيء، لما عزم عليهم أعرضوا عنه وخافوا وهو لا يبالي، كما في الحديث عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ، قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَتُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا، فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاَحِهَا، وَتَرْكَنَا الغَزْوَ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ، شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ.([2]).

في هذه الآية الكريمة: الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وقد يكون الإنفاق في سبيل الله واجبًا، وقد يكون مستحبًا، فإذا دعت الحاجة إلى النفقة فإنه يكون واجبًا.

وفيه: الأمر بالإحسان، والإحسان هو أعلى مراتب الدين، فإن مراتب الدين إسلامٌ ثم إيمانٌ ثم إحسانٌ، والإحسان أن تعبد الله على المراقبة أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218] هذا الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان للخلق إحسان إليهم ببذل المال وبحسن الخلق وبسط الوجه كل هذا من الإحسان {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

في هذه الآية: الأمر بالإنفاق وقد يكون واجبًا أو مستحبا.

وفيه: النهي عن الإلقاء بالتهلكة وهو تنمية الأموال وإصلاحها وعدم الإنفاق في سبيل الله.

وفيه: الأمر بالإحسان.

وفيه: إثبات المحبة لله -عز وجل- كما يليق بالله وعظمته {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} خلافًا لمن أنكر ذلك من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم.

 

([1]) صحيح مسلم (1780).

([2]) رواه الترمذي (2972) والطبري (3/322).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد