** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
[بيان أحوال المنافقين]
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شَرِيق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خُبَيب وأصحابه الذين قتلوا بالرّجيع وعابُوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خُبَيب وأصحابه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}.
وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم. وهذا قول قتادة، ومجاهد، والرّبيع بن أنس، وغير واحد، وهو الصحيح.
وروى ابن جرير: عن القرظي، عن نَوْف -وهو البكالي، وكان ممن يقرأ الكتب- قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قَوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرّ من الصّبرِ، يلبسون للناس مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى: فعليّ يجترئون! وبي يغتَرون! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران. قال القرظي: فتدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الآية([1]).
وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح.
وأما قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} ومعناه: أنه يُظْهرُ للناس الإسلام ويبارزُ الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، كقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} الآية [النساء: 108] هذا معنى ما رواه ابن إسحاق، عن ابن عباس.
وقيل: معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حَلَف وأشهد الله لهم: أن الذي في قلبه موافق للسانه. وهذا المعنى صحيح، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير، وعزاه إلى ابن عباس، وحكاه عن مجاهد، والله أعلم.
وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الألد في اللغة: الأعوج، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] أي: عُوجًا. وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب، ويَزْوَرّ عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
وروى البخاري: عن عائشة رضي الله عنها تَرْفَعُه قال: «إن أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصم».
وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي: هو أعوج المقال، سيّئ الفعَال، فذلك قوله، وهذا فعله: كلامه كَذِب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة.
والسعي هاهنا هو: القَصْد. كما قال إخبارًا عن فرعون: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 22-26]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أي: اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهيّ عنه بالسنة النبوية: «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن، وأتوها وعليكم السكينةُ والوقار».
فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو: مَحل نماء الزروع والثمار. والنسل، هو: نتاج الحيوانات الذين لا قوَام للناس إلا بهما.
وقال مجاهد: إذا سُعى في الأرض فسادًا، منع الله القَطْرَ، فهلك الحرث والنسل. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي: لا يحب من هذه صفَته، ولا من يصدر منه ذلك.
[من صفات المنافق رد النصيحة]
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} أي: إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق -امتنع وأبى، وأخذته الحميَّة والغضب بالإثم، أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج: 72]، ولهذا قال في هذه الآية: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي: هي كافيته عقوبة في ذلك.
[من صفات المؤمن المخلص إيثار مرضاة الله]
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذَكَر صفات المؤمنين الحميدة، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ}.
قال ابن عباس، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النّهدي، وعكرمة، وجماعة: نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر، فَعَل. فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة. فقالوا له: رَبح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «ربِح البيع صهيب، ربح البيع صهيب».
ومعنى الآية عام يدخل فيه كل مُجَاهد في سبيل الله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين، أنكر عليه بعضُ الناس، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمات: بيان من الله سبحانه وتعالى لصفات المنافقين حتى يحذرها المؤمن ويتجنبها ويبتعد عنها، وبيان صفات المؤمنين حتى يفعلها ويجاهد نفسه على الاتصاف بها، فقال سبحانه في وصف المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
وصفه الله تعالى بسوء المقال وسوء الفعال، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني: قوله حسن، ويتكلم بكلام حسن في الظاهر ولكنه يخالف ما في باطنه من المعتقد الخبيث والقصد السيء.
ومن نفاقه أنه يُشهد الله على ما في قلبه، يعني: يتكلم بكلام يظهر للناس الإيمان، ويقول: إنه كذا، وأن الله يعلم ما في قلبه، وأنه صادق ويشهد الله على ما في قلبه، والواقع أنه كما قال الله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وهو الألد الخصم، يعني المعوج، لكنه يظهر للناس أنه مؤمن وأن قلبه موافق للسانه، وأنه مؤمن بقلبه ولسانه، وأن اللسان ينطق بما ينطوي عليه القلب، وفي الحديث: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» وهو الألد المعوج في أقواله وأفعاله وتصرفاته.
وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} هذا من سوء الأفعال أنه إذا {تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ}، يعني: قصد {لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} فهو قصده الإفساد في الأرض بالمعاصي ونشر الفساد والرذيلة ونشر المعتقدات السيئة ونشر الأخلاق الرديئة فهو يقصد الإفساد في الأرض بسعيه، وإذا انتشرت المعاصي وفسدت العقائد والأخلاق هلك الحرث والنسل.
والحرث هو محل الثمار والزروع، والنسل هو النتاج، وإذا هلك الحرث والنسل هلك العباد.
فهذا المنافق وُصف بالقصد السيء والفعل السيء، وهذا الفعل السيء.
ومن أوصافه بالقول السيء أنه إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم واشمئز وشمخ بأنفه، ولم يقبل هذه الكلمة وتأخذه العزة بالإثم فلا يقبل الحق، قال الله فيه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
فوصفه بسوء المقال وسوء الفعال وسوء المعتقد، فهو يظهر الإيمان ويبطن الكفر ويعجب الناس حسن مقاله، ويشهد الناس على ما في قلبه، وأنه صادق وأن ما في قلبه موافق لما في لسانه، والواقع أنه ألد الخصام.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وإذا تولى في الأرض شيئًا، قصد الفساد، وإذا أفسد في الأرض هلك الحرث والنسل، وإذا هلك الحرث هلكت الأنعام والحروث والزروع والناس؛ لأن الحرث هو محل الزروع والثمار، والنسل هو النتاج، فإذا هلك محل الزروع والثمار والنتاج هلك الجميع.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} لم يقبل {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} فهو سيء المقال فلا يقبل الأمر بالتقوى ولا يقبل النصيحة، وهو سيء الأفعال لأنه يسعى في الأرض بالفساد، وهو سيء المعتقد لأن معتقده خبيث ويظهر للناس أن معتقده طيب ويشهد الله على ما في قلبه وهو الألد الخصام.
وأما المؤمن فيصفه الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} يشري يعني: يبيع، يبيع نفسه لله، فالشراء يطلق على البيع، شرى يعني: باع، يشري نفسه يعني: يبيع نفسه لله، يبيعها ابتغاء مرضاته وبالإيمان به وبرسوله وبالجهاد في سبيله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111].
فالله تعالى قص علينا صفات المنافقين لنحذرها، لنحذر سوء المعتقد، فيجب على الإنسان أن يكون عقيدته موافقة لما يتكلم به، لا أن يتكلم بكلام حسن وقلبه منطوٍ على الكفر والضلال وعلى الأخلاق السيئة.
وكذلك أيضا فيه التحذير من اللدد في الخصومة، «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» والتحذير من قصد الفساد.
وفيه دليل على أن الفساد في الأرض سبب للمصائب والعقوبات والنكبات وهلاك الحرث والنسل سببه المعاصي.
وفيه التحذير من عدم قبول النصيحة، ويجب على الإنسان إذا قيل له أن يتقي الله أن يقبل وأن يقول جزاك الله خيرًا، ويسأل الله أن يرزقه التقوى، لا أن تأخذه العزة بالإثم ويشمئز ولا يقبل الحق.
ولهذا يقول الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} قال الله متوعدا: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} يكفيه جهنم، {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} «بئس» للذم، بئس المهاد مهادهم، وبئس القرار قرارهم.
وأما المؤمنون وصفهم الله أنهم يبيعون أنفسهم لله ابتغاء مرضات الله وإخلاصا له، {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
وفيه الحث على الإخلاص لقوله: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} وأن العمل لا يقبل إلا بالإخلاص.
وفيه إثبات اسمين من أسماء الله وهما: «الرءوف» و«الرحيم»، وهما من الأسماء المشتركة، إذا وُصف الله بهما فله الكمال، وإذا وصف الإنسان بهما فله ما يليق به.
وقد وصف الله بهما نبيه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ووصف نفسه فقال: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، فالله رءوف رحيم، والرسول رءوف رحيم، وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم، مثل سائر الأسماء المشتركة مثل الرءوف والرحيم والعلي والسميع والبصير، هذه مشتركة.
وهناك أسماء خاصة مثل: الله، الرحمن، رب العالمين، خالق الخلق، النافع الضار، الخافض والرافع والباسط، المعطي والمانع، هذه من الأسماء المزدوجة، لا يتصف بها إلا الله عز وجل.
ولا يقال: النافع فقط أو من أسمائه: الضار، بل تلك أسماء مزدوجة ولا بد أن تأتي بالاسمين معًا، النافع الضار، الخافض الباسط، المعطي المانع.
فلا تقول من أسماء الله المانع، ومن أسمائه الخافض؛ لأنها مزدوجة فلا بد أن تأتي بالاسمين معًا.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
[وجوب الأخذ بالإسلام كاملًا]
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله: أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.
قال العوفي، عن ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، والضحاك، وعكرمة، وقتادة، والسُّدّي، وابن زيد، في قوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} يعني: الإسلام([2]).
وقوله: {كَافَّةً} قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيَّان، وقتادة والضحاك: جميعًا، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر خاصةً من آمن من أهل الكتاب.
كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا السِّلْمِ فِي كَافَّةً} - كذا قرأها بالنصب - يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: {ادْخُلُوا السِّلْمِ فِي كَافَّةً} يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تَدَعَوا منها شيئًا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها.
وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: اعملوا الطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فـ {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، و {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]؛ ولهذا قال: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحُجَجُ، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} في انتقامه، لا يفوته هارب، ولا يَغلبه غالب. {حَكِيمٌ} في أحكامه ونقضه وإبرامه؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.
(التفسير)
في هذه الآيتين الكريمتين: ينادي الله المؤمنين باسم الإيمان؛ لأنه أدعى إلى القبول، يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} يا أيها الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسله عمومًا وبمحمد خصوصًا، امتثلوا هذا الأمر.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله -عز وجل- يقول: يا أيها الذين آمنوا، فأرعها سمعك، فإنما هو خير تُـؤْمَرُ به، أو شر تُنْهَى عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} السلم: الإسلام، ادخلوا في الإسلام، {كَافَّةً}، جميع الشرائع، لا تدعوا شيئًا منه كحال أهل الكتاب الذين يأخذون بعض شرائع الإسلام ويتمسكون بما هم عليه مما كان في كتبهم قبل أن تنسخ.
{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني طرقه ومسالكه، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ} زلتم بكم القدم وخالفتم، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فاحذروا عقوبة الله، ولهذا قال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قوي لا يغالب، حكيم في أقواله وشرعه وأفعاله.
في هذه الآية نداء الله للمؤمنين وعناية الله للمؤمنين، وتوجيه الخطاب إليهم ولطفه بهم سبحانه وتعالى، حيث أمرهم وأرشدهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم ونجاتهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} فيجب على الإنسان أن يعمل بجميع شرائع الإسلام ولا يترك بعضه، فيعمل بما يوافق هواه، ويترك ما لا يناسبه، هذه طريقة أهل الكتاب، قال الله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:85].
فيه: وجوب الأخذ بشرائع الإسلام، وفيه النهي عن اتباع طرق الشيطان ومسالكه، وهي خطواته.
وفيه: أن الشيطان عدو للإنسان ظاهر العداوة؛ ولهذا قال: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
وفي الآية: التحذير من المعاصي، والدخول في خطوات الشيطان، {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} من انحرف وترك الحق عن بصيرة، بعد البينات وبعد وضوح الأمر فالله له بالمرصاد، ولهذا قال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} قوي لا يغالب ولا يمانع، قوي على قهركم {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وفيه: إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز والحكيم، نعم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
[الحث على عدم التأخير في الإيمان]
يقول تعالى مُهَدّدًا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} يعني: يوم القيامة، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كُلّ عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ولهذا قال: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 21 -23]، وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ} الآية [الأنعام: 158].
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيء فيما يشاء - وهي في بعض القراءات: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وهي كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25].
(التفسير)
هذه الآية فيها: إثبات البعث والمعاد والحساب.
وفيها: أن الله يأتي لفصل القضاء بين العباد،
وفيها: إثبات الإتيان لله والمجيء وهي من الصفات الفعلية على ما يليق بجلال الله وعظمته.
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} يأتي كما يشاء سبحانه، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} قال تعالى في آية أخرى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22] في يوم القيامة يجيء الله ويأتي الله لفصل القضاء.
وفيه: إثبات الجزاء والبعث والحساب، وأن من أنكر البعث والجزاء والحساب فهو كافر.
وفيه: أنه يقضى الأمر إذا حوسب الناس وانقسم الناس إلى شقي وسعيد ونزل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قضي الأمر.
وفيه: أن الأمور جميعا ترجع إلى الله تعالى، هو الذي يصرفها كما يشاء سبحانه وتعالى وفق حكمته وحكمه سبحانه وتعالى.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
[عقاب تبديل نعمة الله والسخرية من المؤمنين]
يقول تعالى مُخْبرًا عن بني إسرائيل: كم شاهدوا مع موسى {مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ} أي: حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به، كَيَدهِ وعصاه وفَلْقه البحر وضَرْبه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المَنّ والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يَدَيه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبَدلوا نعمة الله كفرًا أي: استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها، والإعراض عنها. {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} كما قال إخبارًا عن كفار قريش: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29].
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رَضُوا بها واطمأنّوا إليها، وجمعوا الأموال ومنعوها عَنْ مصارفها التي أمروا بها مما يُرضي الله عنهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومَنْشَرهم، ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى علّيين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين؛ ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: يرزق من يشاء من خَلْقه، ويعطيه عطاء كثيرًا جزيلًا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث: «ابن آدم، أَنْفقْ أُنْفقْ عليك»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالًا». وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39].
وفي الصحيح أن مَلَكين ينزلان من السماء صَبيحة كل يوم، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا. ويقول الآخر: اللهم أعط مُمْسكًا تلفًا.
وفي الصحيح: يقول ابن آدم: مالي، مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لَبسْتَ فأبليتَ، وما تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».
وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يَجمَعُ من لا عقل له».
(التفسير)
هذه الآيات الكريمات: فيها بيان الآيات التي أنزلها الله على بني إسرائيل وأعطاهم من الدلائل على صدق نبوة أنبيائهم.
فالله سبحانه أعطى موسى عليه السلام آيات؛ تسع آيات بينات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ}[الإسراء:101] وفي الآية هنا قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ} في هذه الآية أمر الله نبيه أن يسأل، وهناك قال: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ} [الإسراء:101].
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ} يعني: دالة على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة ونبوة موسى عليه الصلاة والسلام، فالله أعطاه من الآيات؛ العصا واليد والبحر والدم والطوفان والجراد والقمل والضفادع؛ ولهذا قال: {كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ} فـ: «كم» للتكثير.
ظلل الله عليهم الغمام، لما كانوا في التيه في صحراء سيناء بين مصر وفلسطين، والشمس حارة.
مع أن الله عاقبهم بالتيه لما نكلوا عن الجهاد وامتنعوا عن دخول بيت المقدس عاقبهم الله بالتيه في الصحراء، يبقون فيها ولا يهتدون، ومع ذلك من الله عليهم بنعم، منها أن الله ظلل عليهم الغمام وهو السحاب من الشمس.
وأنزل الله عليهم المن، وهو شيء ينزل على الجبال يشبه العسل، والسلوى طائر يأكلونه، هذا من إنعام الله عليهم وهم في الصحراء.
فاليد، يدخل يده في جيبه ثم يخرجها تتلألأ من غير سوء، وكذلك العصا آية، إذا ألقاها صارت حية، وإذا أخذها صارت عصا، ولهذا قال الله: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}[طه:21].
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} سلهم يا محمد {كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ} ولكنهم لم تنفع فيهم الآيات والحجج وأصروا على عنادهم، وبدلوا نعمة الله التي أورثهم إياها، فمنَّ عليهم بالنبوة فبدلوا نعمة الله كفرا، ولهذا قال: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فيه من الفوائد أن بني إسرائيل آتاهم الله الآيات وهي الحجج والبراهين وتسمى عند المتأخرين: معجزات التي تدل على صدق نبوة موسى، أعطاهم الله الكثير من الآيات.
وفيه: الوعيد الشديد على من بدل نعمة الله كفرا، ولم يقبل الحق ولم يقبل هدى الله، وبدل ذلك بالتكذيب والكفر، فالله تعالى له بالمرصاد وهو شديد العقاب، ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
ثم بين سبحانه وتعالى أنه زين للكافرين الدنيا، زينها في عيونهم وجعلها حلوة، يأكلونها، فركنوا إلى الدنيا فلا يرجون لقاء الله ولا يؤمنون بالبعث ولا الحساب، بل ركنوا إلى الدنيا واطمأنوا إليها، ومع ذلك سخروا من المؤمنين فلمزوهم وعابوهم بالإيمان.
وهؤلاء الذين سخروا منهم وإن كانوا ضعفاء لكنهم سيكونون فوقهم يوم القيامة في الدرجات العالية، وهؤلاء الساخرين في الدركات إلا من تاب، ولهذا قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} يسفهون أحلامهم في إيمانهم بالله ورسوله، قال الله: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فالمؤمنون المتقون فوق الساخرين، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
قال تعالى في سورة يونس: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[ يونس:7 ، 8] هذه صفات أهل النار والعياذ بالله صفات الكفار، أنهم لا يرجون لقاء الله فلا يؤمنون بالبعث ولا بالجزاء والحساب.
فمن لم يرجو لقاء الله فإنه ليس بمؤمن لأنه لا يؤمنون بالبعث، ويرى أن الحياة الدنيا هي النهاية، وأنه إذا مات لا يبعث ولا يلقى الله.
أما المؤمن فإنه يرجو لقاء، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ركنوا إليها وآثروها على الآخرة، {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
فمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وآثرها على الآخرة الإيثار الكلي الكامل هذا هو الكافر، كما قال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:16 ، 17].
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} زين الله للكافرين الدنيا والركون إليها والاطمئنان إليها وإيثارها عن الآخرة والسخرية من المؤمنين.
{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: فوقهم في الجنات العاليات في جوار الرب سبحانه، والكفرة في السفل، والمؤمنون فوقهم يوم القيامة والجنة في الأعلى فوق السموات، والنار في اسفل سافلين وتبرز يوم القيامة، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى}[النازعات:36].
فالله سبحانه زين للذين كفروا الحياة الدنيا فآثروها واطمأنوا بها وآثروها على الآخرة، وسخروا من المؤمنين، والمؤمنون المتقون هم فوق هؤلاء.
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيه فضل الله سبحانه فهو يرزق من يشاء بغير حساب، فهذا فضله وإحسانه، وإذا عاقب العصاة فهذا عدله، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
فيه: التحذير من الدنيا والاطمئنان إليها وإيثارها على الآخرة، وأن هذا وصف الكافرين، الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها وإيثارها على الآخرة والسخرية من المؤمنين من أوصاف الكفار، {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ} غمزوهم وعابوهم و{قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29-32].
وفيه: أن المؤمنين فوق الكفرة يوم القيامة، فوقهم حسا ومعنى، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وفيه: التحذير من السخرية من المؤمنين وأنه من أوصاف الكفار.
وفيه: أن العاقبة الحميدة للمتقين: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
وفيه: أن الله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب؛ لأنه سبحانه بيده الخير ولا شيء يمتنع عليه.
وقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} يعني: الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها، وإلا فالدنيا يأكل منها البر والفاجر، فالمؤمن ولو كان عنده أموال كثيرة ولو كان عنده ملك تكون الدنيا في يده لا في قلبه، فقلبه معلق بالله.
مثل سليمان عليه السلام أعطاه الله الملك وأعطاه الله الأموال، فالجن ماذا كانوا يعملون له، {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}[سبأ:13] الجفنة الواحدة كالحوض، ضخمة، ومع ذلك لم تغره الدنيا ولم تؤثر عليه لأنها في يده لا في قلبه؛ ولهذا لما ألهته الخيل عن الصلاة حتى كادت الشمس أن تغيب قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33].
وكذلك المؤمنين والأخيار من الصحابة وغيرهم فالدنيا ليست في قلوبهم ولكنها في أيديهم.
أبو بكر رضي الله عنه كان يكسب كل يوم مكسب لأهله يوميًّا، ولما تولى الخلافة أراد أن يدخل السوق، فقالوا له: يا خليفة رسول الله أنت الآن مشغول بالخلافة، قال: لا أترك أولادي يضيعون، ففرضوا له كل يوم درهمين.
وعندما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الصدقة أتى أبو بكر بماله كله، فقال له: «ماذا أبقيت لأهلك»، قال: أبقيت لهم الله ورسوله.
قال العلماء: هذا لمن كان عنده مكسب يومي، إذا كان عنده مكسب يومي وعنده صبر فلا بأس أن ينفق ماله كله، وإلا فلا ينفق ماله كله ويبقى عالة على الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب بن مالك أن يتصدق بماله قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».
وفيه: الوعد للمؤمنين بأن الله يرفعهم وأن الله يعلي درجاتهم وأنهم فوق الكفرة ولهذا قال: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
وفيه: أن الله تعالى بيده الرزق، ويرزق من يشاء بغير حساب فلا أحد يحاسبه سبحانه، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
*****
([1]) قال الشارح -حفظه الله-: هذا من أخبار بني إسرائيل.
([2]) فتح الباري: 1/ 111 (2) فتح الباري: 8/ 36 (3) مسلم: 1/ 420 (4) الطبري: 4/ 248