** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}.
[من ينفق عليه]
قال مُقَاتل بن حَيّان: هذه الآية في نفقة التطوّع.
وقال السدي: نَسَختها الزكاة. وفيه نظر. ومعنى الآية: يسألونك كيف ينفقون؟ قاله ابن عباس ومجاهد، فبين لهم تعالى ذلك، فقال: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أي: اصرفُوها في هذه الوجوه. كما جاء في الحديث: «أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك». وتلا ميمون بن مِهْرَان هذه الآية، ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلًا ولا مزمارًا، ولا تصاوير الخشب، ولا كُسوة الحيطان.
ثم قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي: مهما صَدَرَ منكم من فعل معروف، فإن الله يعلَمُه، وسيجزيكم على ذلك أوفرَ الجزاء؛ فإنه لا يظلم أحدًا مثقالَ ذَرّة.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} هذه الآية في نفقة التطوع كما قال مجاهد وغيره، وليست في النفقة الواجبة، والنفقة الواجبة هي الزكاة، والنفقة على من التزم نفقته من الأقارب كالزوجة والأبناء والوالدين، وكذلك الأرقاء والبهائم وغيرهم، هذه نفقة واجبة.
أما هذه الآية ففي نفقة التطوع التي لم يوجبها الله عز وجل على عباده.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} وهذه الآية سؤال من الصحابة رضي الله عنهم للنبي ﷺ فأجاب الله عنه، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} كيف ينفقون؟، {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} وكلمة: خير هنا نكرة تفيد العموم، بمعنى: قل: ما أنفقتم من مال، ذهب كان أو فضة، أو ما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية أو لباس أو طعام أو شراب، أو غير ذلك من أنواع النفقات كلها داخل في كلمة: خير.
قوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} {فَلِلْوَالِدَيْنِ} الأب والأم، بدأ بهما لأنهما أقرب قرابة في النسب، وهما أقرب ما يكون للإنسان، والرحم يكون بهما وبالقرب منهما، وهذه النفقة من التطوع على الوالدين هي غير النفقة الواجبة، التي لا بد منها التي لا تقوم حاجتهم إلا بها، كالكسوة والإطعام والسكنى والمركب.
فيجب على الولد أن ينفق على أبيه، يطعمه ويكسوه ويسكنه ويوفر له المركب، هذا لا بد منه.
وأيضًا فالأب عليه أن يقوم بنفقة الولد إذا كان عاجزًا، ليس له كسب والأب يستطيع، فيجب على الأب أن ينفق عليه، وكذلك على الابن أن ينفق على والده إن كان لا يستطيع.
وهنا في هذه الآية الندب للابن أن ينفق على أبيه ما زاد عن الواجب وما زاد عن حاجته، من طعام وكسوة ومركب وهدية، إلى غير ذلك.
{فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الأقربون يشمل الإخوة والأخوات وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات والأعمام وأبناءهم والأخوال وأبناءهم، كل هذا يدخل في الأقربين، والنفقة عليهم مستحبة، ومن المعروف، ومن طرق الخير.
{وَالْيَتَامَى} هذا هو المصرف الثالث، واليتيم هو من فقد أباه دون البلوغ، فإذا بلغ لا يسمى يتيمًا، وارتفع عنه الاسم.
والنفقة على الأيتام يندب إليها، وهي من النفقات المستحبة، التي فيها فضل عظيم؛ لأن الغالب أن اليتامى يكونون من المحتاجين، وقد لا يكون اليتيم محتاج إذا كان له مال تركه له مورثه فهو يقوم بحاجته، أو له مال يضارب له به وليُّه، فهذا لا يُعْطَى من الزكاة؛ لأنه غير محتاج، ولو كان يتيمًا، فليس كل يتيم يعطى من الزكاة فإذا كان له مال يسد حاجته لمدة عام ويكفيه فلا يعطى من الزكاة، وإنما يعطى من صدقة التطوع.
وهذه الآية في التطوع وليس في الزكاة، فيعطى الأيتام من صدقة التطوع ما يزيد عن حاجتهم.
وقوله: {وَالْمَسَاكِينِ} جمع مسكين، والمسكين هو الذي أسكنته الحاجة، يسمى مسكينًا؛ لأنه أسكنته الحاجة، فيُعْطَى من الزكاة ما يكفيه لمدة سنة من كسوة ونفقة وسكنى، وما زاد عن حاجته فهذا يكون مستحبًا، كما في هذه الآية، ويعطى زيادة عن حاجته من نفقة التطوع المستحبة.
وقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو المسافر الذي انقطعت به نفقته فلا يستطيع أن يصل إلى بلده، والسبيل هو الطريق، وسمي: ابن السبيل لملازمته له.
وإعطاؤه ما يوصله إلى بلده من الزكاة هذا واجب، وما زاد عن حاجته فمستحب.
فميمون بن مهران وغيره قالوا: إن هذه الآية في النفقات المستحبة التي يؤجر صاحبها عليها؛ النفقة على الوالدين، والنفقة على اليتامى والنفقة على المساكين، وابن السبيل.
وتلا ميمون بن مِهْرَان هذه الآية، ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلًا ولا مزمارًا، ولا تصاوير الخشب، ولا كُسوة الحيطان.
والطبل الذي يضرب به للطرب، وكذلك المزمار يطرب به، فهذا، النفقة فيه نفقة محرمة.
فالطبل والمزمار محرم، لكن يجوز ضرب الدف للنساء في وقت العرس.
ما ذكر فيها طبلًا ولا مزمارًا، ولا تصاوير الخشب، ولا كُسوة الحيطان، هكذا قال ميمون بن مهران، قال: إن النفقة في هذه الأشياء محرمة أو مكروهة.
فالنفقة على الطبل والمزمار والتصوير، وكسوة الحيطان من المحرمات.
فالنفقة على الصور ذوات الأرواح محرمة، وتصويرها لا يجوز، وقد لعن الله المصورين؛ لأن تصوير ذوات الأرواح من كبائر الذنوب
وفي الحديث: «كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم»، وفي الحديث: «من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ»، وفي الحديث: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله».
فهذه كلها أحاديث صحيحة تدل على تحريم تصوير ذوات الأرواح، وكذلك الإنفاق على المصورين والرضا بذلك.
ولا يستثنى من هذا إلا ما تدعوا الضرورة إليه، كالصورة التي في الأوراق النقدية، والصورة التي في بطاقة تحديد الهوية، والصورة التي في جواز السفر، وصور المجرمين لأخذهم والقبض عليهم، والصور في الشهادات العلمية، فهذه الأمور مستثناة، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعام:119] وما عدا ذلك فلا يجوز التصوير ولا يجوز اقتناء صور ذوات الأرواح، كالآدميين والحيوانات والطيور والحيتان والحشرات، كل ما له روح فلا يجوز تصويره، أما ما لا روح له فلا بأس، كالأشجار والجبال والبيوت والطائرات والسيارات والقطارات ما دام ليس فيها آدميين فلا بأس، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فصور الشجر وما لا روح فيه.
وكذلك كسوة الحيطان، وبعض السلف لما دخل على أصحابه فوجدهم قد كسوا حوائط بيتهم فأنكر عليهم وقال: كسوتم حيطانكم وشبهتموها بالكعبة.
الآن صارت كسوة الحيطان داخلة في هذا، وفيها تجاوز فتجد الديكورات طبقات، تكلفات، وينفق عليها أموال طائلة، أين السلف من هذه الأحوال وهم قد أنكروا كسوة الحيطان؟
لما دخل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى بيت ابن عبد الله بن عمر في عرسه رأى أنهم قد كسوا الجدران، فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر، فاستحيا عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقال: غلبتنا النساء يا أبا أيوب! فقال: من خشيت أن يغلبه النساء، فلم أخش أن يغلبنك، ثم قال: لا أطعم لكم طعاماً ولا أدخل لكم بيتاً ثم خرج.
فهذا أبو أيوب يعرض عن عرس ولد عبد الله بن عمر لأنه رأى فيه منكراً قال: كيف هذا؟ كسوتم الحيطان، فرد عليه قال: غلبتنا النساء.
ومن حديث سلمان رضي الله عنه موقوفًا أنه أنكر ستر البيت وقال: أمحموم بيتكم، أو تحولت الكعبة عندكم، وفي حديث عائشة الذي أخرجه مسلم: «إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين».
فإن قيل: وما حكم الستائر التي توضع على النوافذ هذه الأيام؟
فالجواب: الستائر التي على النوافذ قد يقال إن لها حاجة وضرورة، لكن كسوة الحائط والديكورات التي تكلف مبالغ باهظة، أكثر من البنيان، فالله المستعان.
فائدة: ما الفرق بين المسكين والفقير؟
الجواب: المسكين إذا أطلق دخل فيه الفقير، والفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، وإذا أفرد الفقير كان له معنى مختلفًا عن المسكين، مثل آية مصارف الصدقة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}[التوبة:60].
فقالوا: الفقير هو الذي لا يجد نصف كفايته لمدة سنة، والمسكين هو الذي يجد نصف الكفاية فأكثر، إلا أنه لا يجد الكفاية، فيكون أحسن حالًا من الفقير.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} كلمة: خير هي نكرة في سياق النفي فتعم أي خير سواء كان مالًا أو متاعًا أو مركبًا أو مأكلًا أو مشربًا؛ لأن القاعدة الأصولية أن النكرة في سياق النفي تعم، فكلمة: خير تعم أي خير وإن كان قليلًا، طالما كان قد أريد به وجه الله وموافقًا للسنة، فإن الله به عليم، وسوف يجازي عليه أفضل الجزاء.
ويلزم من علم الله الوعد بالمجازاة، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة:7 ، 8]؟
فإن قيل: هل يجوز تصوير الصور بالهاتف الجوال؟
فالجواب: لا يجوز ذلك، ما دام الإنسان يقصد الصورة ويصورها باختياره دخل في اللعن، في الجوال وغير الجوال، ويصدق عليه القول أنه مصور، وفي الحديث قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيتَه.
نكرة في سياق النهي، أي صورة إلا طمستها، كل هذا محرم سواء في جوال أو غير الجوال، ولا يستثنى إلا ما دعت إليه الضرورة.
فإن قيل: وما حكم الرسم باليد؟
فالجواب: التصوير باليد أشد، وهذا ليس فيه خلاف، إذا أزلتَ الرأس زال المحظور؛ لأن الصورة في الوجه وإذا أزلت الرأس لا تسمى صورة، والصورة تطلق على الرأس، والوجه يسمى صورة، فإذا أزلت الرأس زال المحظور.
مثلا صور صورة خيل، ثم اقطع الرأس فلا تسمى صورة.
حتى إذا رسمنا خطًا على العينين! لا تخرج من الحرمة، يجب طمس الوجه بالكامل.
وإذا كان تمثالًا مجسمًا. فإن المجسم لا بد أن يُطمس الرأس كذلك بالكامل، فبعضهم يزيل العينين أو يجعل الوجه بلا معالم، وهذا خطأ، فلا بد من إزالة الرأس.
وكذلك توجد صورة تندرج تحت التحريم، وهي أن بعض الناس للتعليم، يعلم -مثلا- الصلاة فيأتي بصورة رجل ساجد، ويقول طمسنا العينين، لكن الرأس واضح، فلا يصح ويجب إزالة الرأس بالكامل.
وكذلك توجد صورة تندرج تحت التحريم: في المدارس تكون الصورة موجودة ويطالبون التلاميذ بالتلوين. فلا يجوز، هذا محرم، وتلوين الرأس معناه الموافقة والإقرار بمحرم.
فإن اعترض معترض وقال: الآن تباع عرائس للأطفال مجسمة كأنها حقيقية؟
فالرد عليه: بعض العلماء يرى أن صور الأطفال مستثناة، ويستدلون بحديث عائشة وأن لها لعبًا، وأن النبي ﷺ أقر بذلك، لكن الأمر يختلف الآن، فقد كانت عظام عليها خِرَق، فلم يكن فيها فتنة، لكن الصور الآن فيها فتنة.فالحكم يختلف.
ويستثنى من ذلك: إذا كان الشيء الذي عليه صور ذات روح ممتهن، فهنا فهل يجوز استخدامه؛ فالعلماء رحمهم الله يرون أن الممتهن لا بأس باستخدامه، واستدلوا بحديث عائشة أنها هتكت الستر وأنها جعلته وسادة أو وسادتين، وقال ابن حجر في الفتح: وقد استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظل لها وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد، وقال النووي: وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وهو قول الثوري ومالك والشافعي. انتهى.
وقد رجح ابن حجر دخول الملائكة للبيوت التي فيها مثل هذه الصور في موضع آخر من الفتح حيث قال: إن الصور التي تمنع الملائكة من دخول المكان الذي تكون فيه هي التي تكون على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غير هيئتها بقطعها من نصفها أو بقطع رأسها فلا امتناع.
فالممتهن عند جمع من أهل العلم ما دام يوطأ ويداس عليه مباح ولا يمنع دخول الملائكة.
لكن غير الممتهن الذي يلبس ويعلق، فهذا لا يجوز، لكن الذي يداس عليه، ويتكئ عليه، وينام عليه، هذا ممتهن ومستثنى عند جمع من أهل العلم.
مسألة: وهل يجوز شراء شيء عليه صور ذات روح ثم نستعمله ممتهنا؟
الجواب: إن كان موجودًا فتستعمله ممتهنًا، وإن لم يكن موجودًا فلا تأتي به من الأساس.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
[إيجاب الجهاد]
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين: أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة الإسلام.
(التفسير)
هذا صحيح؛ لأن المسلمين إذا لم يغزوا، غزاهم الكفار، من لم يغز غُزِيَ، إما أن تغزو وإما أن تُغْزَى، وعندما تركنا الجهاد تسلط علينا الأعداء وغُزينا؛ ولهذا قال بعض العلماء، الغزو واجب على الأمة مرة في العام، فإن قام به البعض سقط عن الباقي، وإلا أثموا جميعًا، فالجهاد مثل الحج واجب على الأمة في كل عام، وإذا لم تغز الأعداء غزاك الأعداء.
وقتال الأعداء فيه دفاع عن حوزة الإسلام، والآن الكفار يضغطون على المسلمين ويأمرونهم ويتسلطون عليهم، لماذا؟ لأننا تركنا الغزو فغُزِينَا.
فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وكانت المدينة دار الإسلام الأولى وقوِيَ النبي ﷺ وشد أزره المهاجرين والأنصار، حينئذٍ شرع الله الجهاد بالتدريج فنزل أولًا قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فنزل الإذن بالجهاد ثم نزلت هذه الآية الكريمة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] كانوا مأمورين بقتال مَن قاتل وأما مَن لم يقاتِل فلا يقاتَل، هذه المرحلة الثانية، المرحلة الأولى: الإذن في الجهاد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39] أذن الله لهم؛ لأنهم مظلومون، ثم المرحلة الثانية: أمر الله بقتال مَن قاتل والكف عن مَن لم يقاتل كما في هذه الآيات {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] ثم بعد ذلك شرع الله القتال ابتداءً لما نزلت آية التوبة {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] فشرع الله الجهاد والقتال في سبيله دفاعًا وابتداءً.
وفي هذه الآيات الكريمات المرحلة الثانية: أمر الله بقتال مَن قاتل والكف عمَن لم يقاتل؛ ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني الجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وأما مَن لم يقاتل فلا، فإنه يُكف عنه.
بعض المسلمين يقولون: إن الجهاد واجب للدفاع فقط وهذا خطأ، فهو للدفاع وغير الدفاع، فإذا كان هناك القدرة على القتال وتبليغ الدعوة فوجب علينا قتال الكافرين إن أبوا الدخول في الإسلام، وأبو دفع الجزية فوجب قتالهم سواء بدءونا أم لم يبدءونا، فلا بد من الدعوة إلى الله وأن ندعوهم إلى الإسلام، فمن استجاب لنا سالمناه، ومن أبى إلا القتال قاتلناه.
فبعض المعاصرين وضعفاء البصيرة ومن في قلبه مرض يقول: القتال في حالة الدفاع فقط، وبعض الدول الإسلامية تسمى جيشها بوزارة الدفاع، مع أن اليهود تسميها وزارة الحرب.
فنحن ندافع فقط وهم يتهجمون علينا، فانعكست المسألة.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقال الزهري: الجهادُ واجب على كلّ أحد، غزا أو قعد؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد.
قلت: ولهذا ثَبَت في الصحيح «من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية» ([1]) وقال عليه السلام يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، إذا استنفرتم فانفروا» ([2]).
وقوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أي: شديد عليكم ومشقة. وهو كذلك، فإنه إما أن يُقْتَلَ أو يجرحَ مع مشقة السفر ومجالدَة الأعداء([3]).
ثم قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: لأنّ القتالَ يعقبه النصر والظفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وأولادهم، وذرَاريهم.
{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} وهذا عام في الأمور كلّها، قد يُحِبّ المرءُ شيئًا، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة. ومن ذلك القُعُود عن القتال، قد يَعْقُبُه استيلاء العدو على البلاد والحكم.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبَرُ بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم؛ فاستجيبوا له، وانقادوا لأمره، لعلكم ترشدون.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة فيها وجوب القتال والجهاد وبيان الحكمة من شرعيته، وتسليم الأمر لله عز وجل؛ لأنه سبحانه علام الغيوب وهو عليم بمصالح العباد وأرحم من العباد من الأم بولدها، ويعلم ما فيه صلاحهم ولذلك شرع لهم ما فيه سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة ومن ذلك شرعية الجهاد وإن كان ذلك شاقًا على النفوس، فقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وهذا دليل على وجوب القتال وفرضيته.
{وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} يعني: مكروه للنفوس؛ لأنه شاق عليها؛ لأن المقاتل إما أن يجرح مع ما يلزم ذلك من نفقة الأموال والسفر ومفارقة الأهل والمال، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قد يكره الإنسان وتكره نفسه مفارقة الأهل والأولاد وقتال الأعداء، ولكن العاقبة تكون حميدة، فهو خير للمسلمين؛ لأن عاقبته انتصار المسلمين على أعدائهم ودخول كثير من الكفار إلى الإسلام، وكذلك أيضًا سبيهم لأراضيهم وأموالهم واتساع رقعة الإسلام فهو خير للمسلمين، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} فكثير ما يحب الإنسان شيئًا ويكون فيه ضرره، مثلا: القعود عن الجهاد فيه من التمتع بالدنيا والنساء والأولاد، لكن قد تكون العاقبة سيئة.
فإذا تخلف الناس على الجهاد تسلط الأعداء عليهم واستولوا عليهم، وساموهم سوء العذاب، واحتلوا بلادهم، هذه عاقبة سيئة، {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} فالإنسان يحب الراحة لكن قد تكون العاقبة شرًّا، وقد يكره الإنسان الجهاد والعاقبة خير، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ولهذا شرع لهم الجهاد وأوجبه عليهم لعلمه سبحانه بما يترتب على الجهاد من المصالح الدينية والدنيوية، وأما الإنسان فعلمه قاصر ولا يعلم إلا ما علمه الله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[سرية نخلة وحكم القتال في الشهر الحرام]
روى ابن أبي حاتم: عن جُنْدَب بن عبد الله، أن رسول الله ﷺ بَعَثَ رَهْطًا، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجَرّاح([4]) فلما ذهب ينطلق، بَكَى صَبَابة([5]) إلى رسول الله ﷺ، فَجَلَس، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: لا تُكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك. فلما قرأ الكتابَ استرجع، وقال: سمعًا وطاعة لله ولرسوله. فخبَّرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، وبقي بقيَّتُهم، فلقوا ابن الحَضْرَمي فقتلوه، ولم يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمَادى([6]). فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الآية.
وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني رحمه الله في كتاب السيرة له، أنَّه قال: وبعث -يعني رسول الله ﷺ -عبد الله بن جَحش بن رئاب الأسدي في رجب، مَقْفَله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يَسْتكره من أصحابه أحدًا. وكان أصحاب عبد الله بن جحش خمس من المهاجرين. ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعُكَّاشة بن محْصن بن حُرْثان، أحد بني أسد ابن خزيمة، حليف لهم. ومن بني نَوفل بن عبد مناف: عتبة بن غَزْوَان بن جابر، حليف لهم. ومن بني زُهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لهم من عَنز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم. وخالد بن البُكَير أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم. ومن بني الحارث بن فِهْر: سُهَيل بن بيضاء.
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، ترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم»([7]). فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعًا وطاعة. ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ﷺ أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشًا، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم. فمن كان منكم يريد الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله ﷺ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد.
فسلك على الحجاز، حتى إذا كان بِمَعْدن، فوق الفُرْع، يقال له: بُحْران أضلّ سعد بن أبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما، كانا يَعْتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من تجارة قريش، فيها: عمرو بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كَيسان، مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنُوا وقالوا: عُمَّار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخلن الحرم، فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقْتُلنَّهم في الشهر الحرام. فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قَدروا عليه منهم، وأخْذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمانَ بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله ﷺ المدينة.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله ﷺ مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يَفْرض الله الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله ﷺ خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام». فوقَّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فلما قال ذلك رسول الله ﷺ أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهرَ الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان([8]).
وقالت: يهودُ تَفَاءلُ بذلك على رسول الله ﷺ: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله: عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب([9]). فجعل الله عليهم ذلك لا لهم([10]).
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله ﷺ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}([11]) أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه([12]) فذلك أكبر عند الله من القتل: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين([13]).
قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق قبض رسول الله ﷺ العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله ﷺ: لا نُفْديكموهما حتى يقدم صاحبانا -يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غَزْوان -فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله ﷺ منهم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلامه، وأقام عند رسول الله ﷺ حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا. وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرًا.
قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طَمعُوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطَى فيها أجر المجاهدين المهاجرين؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء.
(التفسير)
في هاتين الآيتين الكريمتين بيان حال المسلمين وبيان سبب النزول، وأن هذه الآية نزلت لما بعث النبي ﷺ هذه السرية وقتلوا من الكفار، وأسروا الأسيرين، وكان ذلك في الشهر الحرام وعيَّـرهم المشركون بذلك، فتولى الله تعالى الإجابة، فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} القتال في الشهر الحرام محرم لكن هناك ما هو أعظم من ذلك، فقال سبحانه: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} صد الكفار المسلمين عن سبيل الله أعظم من القتال في الأشهر الحرم، والكفر بالله أعظم، والصد عن المسجد الحرام كذلك أعظم، وإخراج أهله منه أعظم، وأعظم من ذلك كله الفتنة عن الدين، يفتنونهم عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
ثم قال سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} فيه بيان وصف الكفار أنهم لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.
قال سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فيه دليل على أن المرتد مخلد في النار، وأنه لا يمكن أن يخرج من النار أبد الآباد، وأنه لا تنفع فيه شفاعة الشافعين.
وفيه من الفوائد أيضًا، استنبط العلماء منها أنه لا يحبط عمل المرتد حتى يموت على الكفر، لكن لو ارتد ثم رجع إلى الإسلام فإن أعماله تبقى له.
في هاتين الآيتين الكريمتين من الفوائد والأحكام منها تحريم القتال في الشهر الحرام؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} فهو من الكبائر، لكن اختلف العلماء هل الحكم باقٍ أم منسوخ، فالجمهور على أنه منسوخ، وأن القتال في الشهر الحرام كان محرما ثم نُسخ.
ولذلك كان المسلمون يقاتلون في الأشهر الحرم وفي غيرها، فهو منسوخ عند أكثر العلماء، ومن العلماء من قال إنه لم ينسخ وأنه باق، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}[التوبة:36].
وفي هذه الآية الكريمة بيان ما عليه الكفار من العظائم والجرائم، وهي الكفر والصد عن سبيل الله، وإخراج المسلمين من المسجد الحرام وإخراجهم من بلادهم وفتنتهم عن دينهم أعظم.
وفيه دليل على أن فتنة المسلمين عن دينهم أعظم من القتال في الشهر الحرام، وأعظم مما مضى كله.
وفيه بيان وصف الكفار وأنهم لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، وهذا الوصف الدائم للكفار، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}.
وفيه دليل على أن من مات على الكفر فإن أعماله حابطة، وهو مخلد في النار ولا يمكن أن يخرج منها أبد الآباد ولا تنفع فيه شفاعة، ولا يستطيع أن يفدي نفسه ولو بملء الأرض ذهبا.
وفيه أيضًا من الفوائد أن المسلم إذا ارتد ثم تاب الله عليه ورجع إلى الإسلام فإنه لا تحبط أعماله بل يحرزها، بدليل قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فاشترط الله تعالى لحبوط الأعمال الموت على الكفر، قال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} فدل على أن من ارتد ثم تاب ورجع إلى الإسلام ومات على الإسلام، فإنه يحرز أعماله، ولا تحبط أعماله، ولو تخللها ردة.
وفي الآية الثانية دليل على الرجاء، وأن المسلم يرجو رحمة الله، وفيه دليل على أن الرجاء يكون بعد فعل الأسباب؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يرجون رحمة الله بهذه الأعمال.
فمن عمل صالحًا حسن رجاءه وحسن ظنه بالله، وإذا ساء العمل ساءت الظنون، وساء الرجاء، وإذا حسن العمل حسنت الظنون، فدل على أن الرجاء إنما يكون بعد العمل الصالح {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} فالرجاء يكون بعد الإيمان، وبعد العمل الصالح والجهاد في سبيل الله، أما الرجاء بدون عمل فهو غرور وتمنى، فهو ليس من الرجاء إنما هو غرور وتمنى.
فالرجاء نوعان، رجاء صادق ورجاء كاذب، فالرجاء الصادق يكون بعد العمل، يعمل الإنسان ويجد، ويجتهد في العمل الصالح، ثم يرجو رحمة الله.
والرجاء الكاذب هو الذي يتمنى بدون عمل، ويتمنى أن يحصل له مثلما يحصل للمؤمنين، مع عدم أخذه بالأسباب، هذا هو المتمني، سواء في أمور الدنيا أو أمور الآخرة.
الشخص الذي يزرع، يبذر الأرض ويحرثها ويسقيها ويغرس الأشجار ويزيل عنها الموانع، ثم بعد ذلك يرجو الله أن تثمر هذه الأرض وهذه الأشجار، بعد فعل الأسباب.
والشخص الآخر عنده أرض لكنه لا يفعل شيئًا، لا يحرث ولا يبذر ولا يغرس، ويرجو أن يحصل له غَلٌّ من هذه الأرض مثل من يأخذ بالأسباب، هذا هو الغرور والتمني.
فذلك الذي يفعل الأعمال الصالحة يؤدي ما أوجب الله عليه وينتهي عما حرم الله عليه، ويجاهد نفسه، هذا رجاؤه صحيح.
والشخص الذي يرجو رحمة الله وهو نائم ولا يعمل ويرجو أن يحصل له مثلما يحصل للمؤمنين المتقين الذين يعملون الصالحات، هذا يسمى متمنيًا، وهذا من الغرور والتمني.
هذا فيه دليل على أن الرجاء الصالح هو المصحوب بالعمل، والرجاء الكاذب هو الخالي من العمل، وهو الغرور والتمني.
وفيه إثبات اسمين من أسماء الله، وهما «الغفور» و«الرحيم»، وصفتان وهما صفة المغفرة وصفة الرحمة؛ لأن أسماء الله مشتقة، نعم.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
[التدرج في تحريم الخمر]
روى الإمام أحمد: عن أبي ميسرة، عن عمر رضي الله عنه أنَّه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فدُعي عمر فقرئتْ عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فكان منادي رسول الله ﷺ إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ. فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؟ قال عمر: انتهينا، انتهينا. هكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالح وصحّحه الترمذي. وسيأتي هذا الحديث أيضًا مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضًا -عند قوله في سورة المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] الآيات.
فقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطابرضي الله عنه: إنه كل ما خامر العقل. كما سيأتي بيانُه في سورة المائدة، وكذا الميسر، وهو القمار.
وقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراجَ الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذّة الشدّة المطربة التي فيها. وكذا بيعها والانتفاع بثمنها. وما كان يُقَمِّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله. ولكن هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}؛ ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما قرئت عليه: اللهم بَين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله، وبه الثقة.
قال ابن عمر، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والرّبيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن هذه أوّل آية نزلت في الخمر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، ثم نزلت الآية التي في المائدة، فحرمت الخمر.
[الأمر بإنفاق ما فضل من المال]
وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} قُرئ بالنصب وبالرفع وكلاهما حسن متَّجَه قريب.
وقال الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} قال: ما يفضل عن أهلك.
كذا روي عن ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالم، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، وغير واحد.
وروى ابنُ جرير: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: «أنفقه على نفسك». قال: عندي آخر؟ قال: «أنفقه على أهلك». قال: عندي آخر؟ قال: «أنفقه على ولدك». قال: عندي آخر؟ قال: «فأنت أبصَرُ».
وقد رواه مسلم في صحيحه. وأخرج مسلم أيضًا عن جابر: أن رسول الله ﷺ قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فَضَل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا».
وفي الحديث أيضًا: «ابن آدم، إنك إن تبذُل الفضلَ خيرٌ لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كَفَافٍ» (10).
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي: كما فصَّل لكم هذه الأحكام وبينَها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها (11).
(التفسير)
هذه الآية الكريمة هي أول آية نزلت في تحريم الخمر، والله سبحانه وتعالى تدرج في تحريم الخمر؛ لأن العرب كانوا يشربون الخمر في الجاهلية وكانت نفوسهم متعلقة بها، وكانوا يدمنون شربها، فالله سبحانه تدرج في التحريم، فلو حرم عليهم من أول وهلة لما استطاعوا لكن الله تدرج بهم في التحريم.
فأولًا نزلت هذه الآية، وأخبر فيها أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولكن الإثم أكبر، فصار بعض العقلاء يترك الخمر والميسر؛ لأن الإثم أكبر، وبعض الناس لا يزال يشرب الخمر، ولم يحرم تحريمًا باتًا.
ثم بعد ذلك حرم الله تعالى شرب الخمر وإتيان الصلاة وهم سكارى، فأنزل سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فصاروا يشربونها في الوقتين الطويلين، بعد الفجر وبعد العشاء، أما الأوقات القريبة، بعد الظهر، وبعد العصر وبعد المغرب وهي أوقات قصيرة، قد يأتي الوقت وهو سكران لم يزُل عنه أثر الخمر، فصاروا يشربون في الوقتين الطويلين.
ثم أنزل الله تعالى تحريمها تحريمًا باتًا في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] وهذا من حكمة الله تعالى في التشريع، فالله تعالى حكيم، ومن حكمته في تشريعه أنه حرم الخمر بالتدريج حتى تتوطن نفوس الناس، وحتى تقبل.
ولما أنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} قال عمر: اللهم بَين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، ثم نزلت آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91]قال عمر: انتهينا، انتهينا.
فهذه الآية حرمت الخمر تحريمًا باتًا إلى يوم القيامة، وهذا من حكمة التشريع.
وفي هذه الآية – وهي أول آية نزلت في تحريم الخمر- أن الخمر فيها منافع للناس، كما ذكر المؤلف رحمه الله، أن المنافع قد تكون دنيوية، ومنها الشدة المطربة لمن يشرب الخمر، يكون عنده شدة، يكون عنده نشوة، يكون عنده شحذ لذهنه، وهضم لبعض الطعام، وكذلك الميسر فيه الكسب الذي يأتيه، وهو المال.
لكن قال بعض العلماء: إن الله لما حرمها سلب منها المنافع، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}.
ثم قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} يعني الفضل، الزائد عن حاجتك هو الذي تنفقه في المصارف الخيرية، «يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف»، والكفاف هو الذي يحتاجه الإنسان للنفقة على أهله وأولاده وما يحتاجه وما ينوبه، هذا لا يلام الإنسان على إبقائه، وما زاد على ذلك فإنفاقه أفضل، وإمساكه فيه ضرر عليه وفوات للمصالح الأخروية؛ لهذا يقول سبحانه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} كما بين الله الآيات السابقة في أحكام الخمر والميسر، يبين الآيات ويفصلها في جميع الأحكام، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، وتعلمون أن الدنيا مولية وأنها منتهية، والآخرة مقبلة، وأن الإنسان سيرحل إلى الآخرة، وسيقف بين يدي الله للحساب، ولن ينفعه إلا العمل الصالح.
مسألة: هل آية النحل داخلة في التدرج؟
الجواب: بعض العلماء قال: إن آية النحل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}[النحل:67] هي أول آية في التدرج، لكنها في الامتنان، والمشهور أن التدرج كان على ثلاث مراحل.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[إصلاح أموال اليتامى ]
وقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} الآية:
روى ابن جرير: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الأنعام:152] و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في مستدركه. وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.
وروى وَكِيع بن الجراح: عن عائشة رضي الله عنها قالت: إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
فقوله: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي: على حدَة {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم، فلا بأس عليكم؛ لأنهم إخوانكم في الدين؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي: يعلم مَنْ قَصْدُه ونيته الإفسادَ أو الإصلاح.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم ولكنه وَسَّع عليكم، وخفَّف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، كما قال: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر، أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء، إن شاء الله، وبه الثقة.
(التفسير)
وفي هذه الآية أحكام اليتامى لما نزل قول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:34] والآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] شق ذلك على من كان عنده يتيم، فخاف أن يأكل مع اليتيم، وجعل يعطي اليتيم طعامًا مستقلًا دون أولاده، فكان اليتيم يأكل طعامه ويبقى، ثم يحبسه للوجبة الثانية، فإما أن يأكله وإما أن يفسد.
فشق ذلك عليهم، فنزلت الرخصة أنه لا بأس أن تخلط طعام اليتيم مع طعام الأولاد إذا كانت نيته الإصلاح.
فما دام أنه يقصد الإصلاح ولا يقصد الإفساد فلا حرج أن يخلط طعامه بطعام اليتيم؛ ولهذا قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ثم قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ما دام إن قصدك الإصلاح فلا يضرك أن تخلط طعام أولادك بطعامه حتى تجمع بين أمرين، عدم إفساد الطعام وحفظ مال اليتيم، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} أي شق عليكم وأحرجكم؛ لكنه سبحانه وسع على عباده فأباح لمن كان عنده يتيم أن يخلط طعامه مع طعام أولاده حتى لا يفسد الطعام.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فيه إثبات اسمين من أسماء الله تعالى وهما «العزيز» و«الحكيم»، وإثبات صفتين من صفات الله عز وجل وهما العزة والحكمة؛ فمن عزته سبحانه وتعالى وحكمته أنه شرع لمن عنده يتيم أن يخلط طعامه مع طعام أولاده ما دام قصده الإصلاح.
وفي هذه الآية الكريمة: دليل على جواز خلط طعام الأيتام بطعام أولاد الذي عنده أيتام؛ لئلا يفسد ما دام أن قصده الإصلاح.
وفيه: دليل على أن من كان قصده الإصلاح فإنه معفو عنه في حدود الشرع، ومن كان قصده الإفساد فلا يعفى عنه.
وفيه: دليل على أن الله سبحانه خفف على عباده ويسر ورفع عنهم الحرج، كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} يعني: لأحرجكم وشق عليكم؛ لكنه سبحانه يسر على عباده وسهل عليهم.
وفيه: إثبات العزة والحكمة لله عز وجل وإثبات اسمين من أسماء الله تعالى وهما «العزيز» و«الحكيم»، وهما من الأسماء المشتركة؛ لأن أسماء الله نوعان: مشتركة وخاصة، فيجوز أن يُعَبَّد بها فيقال: عبد العزيز، وعبد الحكيم؛ لأنهما من أسماء الله تعالى.
([1]) قال الشارح -حفظه الله-: وهذا رواه مسلم في صحيحه، فإما أن يغزو وإما أن يحدث نفسه بالغزو، يحدث نفسه أنه إذا دعا داعي الجهاد والنفير أنه يغزو، لا يكون عنده غفلة وإعراض وإلا كان عنده شعبة من النفاق العملي، فمن مات ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق، بل يجب أن يحدث نفسه، أنه في يوم ما إذا دعي للجهاد سَيُلَبـِّي ويكون عنده استعداد للتلبية.
([2]) قال الشارح -حفظه الله-: أي: بعد فتح مكة، قبل فتح مكة كانت الهجرة واجبة من مكة إلى المدينة، فلما فتحت مكة وصارت دار إسلام انتهت الهجرة وبقي الجهاد والنية، ولما أراد بعض الناس أن يهاجروا بعد فتح مكة فقال: «مضت الهجرة لأهلها ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»، أي: إذا دعا الإمام إلى الجهاد فانفروا وأجب الداعي.
([3]) قال الشارح -حفظه الله-: صحيح، ففيه الجراح والسفر وترك الأهل وترك الراحة واللذة، فهو كره ومشقة، فإما أن يقتل أو يجرح، مع ما يحصل من المشاق والأتعاب، لكن ينبغي الصبر والاحتساب.
([4]) قال الشارح -حفظه الله-: أي: جعله أميرا على السرية.
([5]) قال الشارح -حفظه الله-: والصبابة يعني: المحبة، والمحبة لها أنواع ومن أنواعها المودة والغرام والعشق، وسميت صبابة؛ لأن القلب ينصب إلى المحبوب كالماء الذي ينصب من المكان العالي إلى المكان السافل، ومن أنواعه الغرام وسمي غرامًا لأن المحبة تصل إلى سويداء القلب، ومن أنواعها: الخُلة وهي نهاية المحبة؛ لأن المحبة تخللت القلب ووصلت إلى سويدائه.
([6]) قال الشارح -حفظه الله-: يعني: اختلفوا هل هو آخر يوم من جمادى أو أول يوم من رجب، فإن كان من جمادى فلا بأس من القتال، وإن كان من رجب فهو من الأشهر الحرم التي لا يجوز القتال فيها، والأشهر الحرم هي: ذو القعدةِ، وذو الحجّةِ، والمحرّمِ، ثلاث متواليات ورجب.
فعاب المشركون على المسلمين أنهم قاتلوا في شهر رجب أي في شهر حرام، وصاروا يعيرون المسلمين بالقتال في الأشهر الحرم، وأنهم لا يعظمونها، فيرد عليهم القرآن أنه لو كان المسلمون قاتلوا في الأشهر الحرام فالمشركين فعلوا ما هو أعظم من ذلك، فعلوا الكفر بالله والصد عن سبيل الله والصد عن المسجد الحرام، وفتنة الناس عن الدين، هذا أعظم من القتال في الشهر الحرام، فتولى الله الإجابة.
([7]) قال الشارح -حفظه الله-: يعني: أرسلهم النبي يتجسسون على قريش، وهذا عمل صالح، التجسس على الكفار من المسلمين، يعني يأخذون أخبار الكفار.
([8]) قال الشارح -حفظه الله-: من المسلمين المستضعفين في مكة يردون على الكفار أن المسلمين لم يقاتلوا في الشهر الحرام بل في أول يوم من شعبان أو آخر يوم من جمادى على خلاف بين أهل العلم.
([9]) قال الشارح -حفظه الله-: اليهود تشاءموا وأخذوا ذلك من أسمائهم، الحضرمي: حضرت الحرب، وواقد: وقدت الحرب أي على محمد ﷺ.
([10]) قال الشارح -حفظه الله-: أي على اليهود.
([11]) قال الشارح -حفظه الله-: يعني: الله سبحانه هو الذي تولى الإجابة، لما عيروا المسلمين أنهم قاتلوا في الشهر الحرام قال الله لهم: إن القتال في الشهر الحرام لا يجوز، لكن أنتم أيها الكفار في مكة فعلتم ما هو أشد من القتال في الشهر الحرام، وهو أنكم صددتم المؤمنين عن سبيل الله، وكفرتم بالله ومنعتم المسلمين من المسجد الحرام وأخرجتم أهله منه، وفتنتم الناس عن دين الله، وهذا أعظم من القتال في الشهر الحرام، فالمسلمون فعلوا أمرا واحدا أما أنتم فصددتم المؤمنين عن سبيل الله، وكفرتم بالله، ومنعتم المسلمين من المسجد الحرام، وأخرجتم أهله منه، وفتنتم الناس عن دين الله.
([12]) قال الشارح -حفظه الله-: وهذا أشد، أعظم من القتل فتنة الإنسان عن دينه حتى يكفر، هذا أعظم من القتل.
([13]) قال الشارح -حفظه الله-: هذا وصف الكفار الدائم ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ ما في هدنة، اليهود والنصارى، التنازلات لا تكفيهم حتى يردوا المسلمين عن دينهم، وفي الآية الأخرى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا ﴾[النساء:89]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾[البقرة:120]، فهذا وصفهم، مهما تنازلت فيطلب التنازل حتى يخرج المسلم عن دينه، نسأل الله العافية.