** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون * فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون}
[قصر الطلقات على الثلاث، وبيان الرجعية والبائنة]
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
قال أبو داود، رحمه الله، في سننه: «باب في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث»: ثم روي عن ابن عباس: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } الآية: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية، ورواه النسائي.
وروى ابن أبي حاتم: عن عروة، أن رجلًا قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا ولا آويك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فأنزل الله عز وجل: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ }.
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره.
وقوله: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنًا إليها، لا تظلمها من حقها شيئًا ولا تضار بها.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك أي في الثالثة، فإما أن يُمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا.
[النهي عن استرجاع المهر]
وقوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ} أي: لا يحل لكم أن تُضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء:19] فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها . فقد قال تعالى: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } [النساء:4]
[الإذن بالخلع واسترجاع المهر فيه]
وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } الآية.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه، فقد روى ابن جرير:
عن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة»([1]).
وهكذا رواه الترمذي وقال حسن([2]).
وقد ذكر ابن جرير، رحمه الله، أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شَمَّاس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول.
وروى الإمام مالك في موطئه ([3]): عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغَلَس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذه؟» قالت: أنا حبيبة بنت سهل. فقال: «ما شأنك؟» فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس -لزوجها -فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر». فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ منها». فأخذ منها وجلست في بيت أهلها .
وهكذا رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي([4]).
وروى البخاري([5]) عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول الله، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة». وكذا رواه النسائي ([6]).
[عدة المختلعة]
روى الترمذي عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة([7]).
[اعتداء حدود الله ظلم]
وقوله: { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون } أي: هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده، فلا تتجاوزوها. كما ثبت في الحديث الصحيح: «إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنها»([8]).
[الطلقات الثلاث في مجلس واحد حرام]
وقد استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام، ويدل له بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان، ثم قال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!» حتى قام رجل فقال يا رسول الله، ألا أقتله؟ ([9]).
[لا رجعة بعد الطلاق الثالث]
وقوله تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي: أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }، أيٍ: حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح، فلو وطئها واطئ في غير نكاح، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول؛ لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول.
روى مسلم ([10]) في صحيحه عن عائشة أن رسول الله ﷺ سُئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيُطلقها، فتتزوج رجلًا فيُطلقها قبل أن يدخل بها، أتحل لزوجها الأول؟ قال: «لا، حتى يذوق عسيلتها» ورواه البخاري أيضًا([11]) .
وروى الإمام أحمد ([12]) عن عائشة قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي -وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر، ألا تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».
وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي ([13]) ثلاثتهم عن معمر به. وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم: أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات.
المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن العسيلة الجماع»([14]).
[اللعنة على المحلل والمحلل له]
فصل:والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبًا في المرأة قاصدًا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.
روى الإمام أحمد ([15]): عن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة، والمحلل والمحلل له، وآكل الربا وموكله.
ورواه الترمذي، والنسائي([16]). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين، ويُروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس.
وروى الحاكم في مستدركه([17]): عن نافع، أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه، ليحلها لأخيه: هل تحل للأول؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وهذه الصيغة مشعرة بالرفع. وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجاني، وحرب الكرماني، وأبو بكر الأثرم، من حديث الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن قبيصة بن جابر، عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
[متى تحل المطلقة لزوجها الأول؟]
وقوله: {فَإِن طَلَّقَهَا} أي: الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا } أي: المرأة والزوج الأول { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } أي: يتعاشرا بالمعروف وقال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة { وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } أي: شرائعه وأحكامه { يُبَيِّنُهَا } أي: يوضحها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُون }.
(التفسير)
هاتان الآيتان الكريمتان في أحكام الطلاق، الطلاق الرجعي، والطلاق البائن، والخلع، يقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] دلت هذه الآية الكريمة على أن الرجل له أن يطلق امرأته الطلقة الأولى، والطلقة الثانية ثم بعد ذلك هو مخيّر إما أن يمسكها وهو في هاتين الحالتين (المرتين) إما أن يمسك بالمعروف أو يسرح بإحسان، إما أن يمسكها، أو يسرحها حتى تنتهي عدتها، وإما أن يراجعها بالمعروف، وأما الطلقة الثالثة فإنها تبين منه، هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الحال في أول الإسلام وفي الجاهلية، كانوا في الجاهلية، وفي أول الإسلام ليس هناك حد للطلقات، كان الرجل يطلق إلى مائة، وليس هناك حدٌ محدود، وكانوا في الجاهلية يُضاروهنّ فكان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت عدتها أن تنتهي راجعها ثم يُطلقها فإذا قربت عدتها أن تنتهي راجعها وهكذا ليُضارها.
واستمر الحال في أول الإسلام ثم بعد ذلك قصر الله تعالى المطلقين على مرتين في هذه الآية الكريمة، يقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} المرة الأولى، والمرة الثانية {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} إما أن يمسكها بمعروف، فيُراجعها ويمسكها بالمعروف أو يسرحها بإحسان، فإذا راجعها المرة الأولى ثم طلقها ثم راجعها المرة الثانية ثم طلقها ثم راجعها المرة الثالثة فإنه لم يبق له شيء، إذا طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
وإذا طلقها في المرة الأولى، والمرة الثانية وتركها حتى تنقضي عدتها فله أن يخطبها ويكون خاطبًا من الخطّاب، وإذا تزوجها بعد انتهاء العِدة يكون بمهرٍ وعقدٍ جديد وبرضاها ورضا وليها، فإذا زوجها فإنه لم يبق له من الطلقات إلا ما بقي، فإن كان طلقها مرة يبقى له طلقتان، وإن كان طلقها مرتين يبقى له طلقة واحدة، وإذا طلقها الطلقة الثالثة لا تحل له إلا بعد زوج، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] هذه المرة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} إذا طلقها الطلقة الثالثة فلا تحل له، ويسمى طلاقًا بائنًا {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} إذا نكحها زوج آخر نكاح رغبةٍ، لا نكاح سفاح، ولا تحليل وجامعها ثم طلقها فإنه يجوز لها أن تتزوج زوجها الأول، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} يعني غلب على الظن أنهما سيُقيمان حدود الله، فيتعاشران بالمعروف، ويعملان بشرع الله ثم قال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} يعني شرائعه وأوامره ونواهيه فلا تتجاوزوها، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] هذا وعيدٌ شديد لمَن تجاوز حدود الله، تجاوز الأوامر فلم يمتثلها، تجاوز النواهي فاستباحها.
والظلم ثلاثة أنواع: ظلم الشرك: وهذا أعظمها.
والظلم بالمعاصي التي بينه وبين الناس.
والثالث: ظلم ما بينه وبين نفسه، هذا ظلم من النوع الثاني وهو ظلم العبد فيما بينه وبين الناس.
وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229] هذا الخلع، جعله الله تعالى بعد الطلقة الثانية وقبل الطلقة الثالثة، قال: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وهذا النهي للتحريم يعني يحرم على الرجل أن يُضار المرأة حتى تفتدي منه، فتدفع له شيئًا من المال الذي دفعه لها صداقًا إلا إذا كان الفراق بسبب منها، إن كانت مؤذية أو كانت مثلًا لا تقوم بالواجب وكانت لا تحفظ نفسها، فإذا وجِدت الأسباب فلا بأس، وكذلك أيضًا إذا كان الفراق من قِبلها، بأن كانت لا تطيقه بغضًا، لا تستطيع أن تعاشره، ولا تستطيع أن تقوم بما أوجب الله عليها نحو زوجها فلا بأس أن تفتدي كما فعلت امرأة ثابت بن قيس؛ فثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه من المشهود لهم بالجنة كان دميم الخِلقة، فكانت زوجته لا تطيقه، وكان قصير القامة وكانت زوجته لا تطيقه بغضًا وهي حبيبة بنت سهل، وقيل: كانت جميلة، وقد جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله إني لا أطيقه بغضًا، وثابت بن قيس لا عيب عليه في خلق ولا دين، وإني أكره الكفر بعد الإسلام. الكفر يعني عدم القيام بحق الزوجة، ليس المراد الكفر بالله، فجحد حق الزوجة يسمى كفرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة".
واختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أو طلاق؟ فمن العلماء مَن قال إنه فسخ، ومن العلماء مَن قال إنه طلاق، ومَن قال إنه فسخ تكون عدتها حيضة، ومن قال طلاق قال: تعتد كما تعتد المطلقات، وعلى القول بأنه فسخ فإنه لا ينقص عن الطلاق وإلى هذا ذهب جمع من العلماء إلى أن الخلع فسخٌ لا ينقص عن الطلاق، بدليل أن الله تعالى جعل الخلع بعد الطلقتين ثم ذكر الطلقة الثالثة، قالوا: فلو كان الخلع طلاقًا لكان المذكور أربع طلقات، قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} هذا ثالث، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} هذه الرابعة، قالوا: فدل هذا على أن الخلع ليس طلاقًا وإنما هو فسخ، ولهذا ذكر طلقتين قبله، وطلقة ثالثة بعده، ومن العلماء مَن قال: أنه طلاقٌ على عوض.
وفي هذه الآيات الكريمات: أن الزوج الذي يتزوجها بعد الطلقة الثالثة لابد أن يكون يريد العشرة، ولا يريد التحليل لزوجها السابق فإن كان يريد تحليلها لزوجها السابق فلا تحل له، وهذا كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلِّل، والمحلَّل له"([18]) المحلِّل الزوج الذي يُحللها لزوجها، والمحلَّل الزوج الذي يحلها.
وإذا كان هناك تواطؤ بين الزوج الثاني والزوج الأول فكلٌ منهما ملعون، وكذلك إذا كان هناك تواطؤ بينه وبين ولي المرأة أو بينه وبين المرأة كل ذلك حرام عليه.
ولا تحل لزوجها الآخر بالتحليل، وكذلك لو تزوجها ولم يدخل بها فإنها لا تحل لزوجها الأول إذ لابد أن يجامعها الزوج الثاني ثم يطلقها باختياره لا مجبرًا، ولا مكرهًا، ولا عن تواطؤ مع الزوج السابق أو مع الزوجة أو مع الولي بالتحليل، فإن كان عن قصد التحليل فلا تحل لزوجها الأول.
وكذلك إذا تزوجها ولم يدخل بها لا تحل للزوج الأول، وكذلك لو وطئت بشبهة لا تحل للزوج الأول، فلابد أن تنكح زوجًا آخر نكاح رغبة ويدخل بها ولا يكون قصده التحليل ثم يطلقها الزوج الثاني أو يموت عنها فبعد ذلك تحل للزوج السابق (الزوج الأول).
وفي هذه الآيات الكريمات: أن الله تعالى قصر الناس على طلقتين، وأنه لا يجوز أن يطلق أكثر من ثلاث طلقات.
وفيه: دليل على جواز الافتداء، افتداء المرأة في حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون المرأة لا تقوم بحقه، وتكون مقصرة في حقه ففي هذه الحالة له أن يفتدي منها إذا لم تنفع فيها النصيحة.
والحالة الثانية: أن يكون الفراق من قِبلها؛ لأنها لا تريده فلا بأس، وأما إذا كانت قائمة بحقه، وهو يُضارها حتى تفتدي فهذا محرم عليه، ولا يجوز له أن يأخذ شيئًا.
وفيه: دليل على جواز الخلع إذا وجِد سببه.
وفيه: دليل على أن الطلاق مشروع مرتان، والطلقة الثالثة لا تحل له إلا بعد زوج.
وفيه: دليل على اشتراط عودها إلى زوجها السابق أن تتزوج زواجًا شرعيًا، بقصد الرغبة فيها والاستمرار لا بقصد التحليل، ولابد أن يُجامعها ثم يموت عنها أو يطلقها وحينئذٍ تحل لزوجها الأول.
وفيه: أن الحدود تطلق على الواجبات، وتطلق على المحرمات كما في هذه الآية {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}، وتطلق على المحرمات كما في حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا , وَحَّدَ لَكُمْ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا , وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا, وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَكَلَّفُوهَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكُمْ فَاقْبَلُوهَا»([19]).
وتطلق الحدود أيضًا على الحدود التي تُقام، مثل العقوبات، والتعاذير، فتطلق الحدود على الواجبات، وتطلق الحدود على المحرمات، وتطلق الحدود على العقوبات، والتعاذير التي تكون على مَن ارتكب معصيةً أو كبيرة.
وفيه: أن مَن تجاوز حدود الله فهو ظالم.
وفيه: أن الظلم يكون شركًا ويكون فيما دونه، والظلم ثلاثة أنواع: ظلم الشرك، وظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله، وظلم العبد فيما بينه وبين الناس.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم }.
[الأمر بحسن المعاملة مع المطلقة]
هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقًا
(التفسير)
كذلك في هذه الآية الطلاق مرتان ففيه دليل لمَن قال: لا يجوز الطلاق بالثلاث، بكلمة واحدة، وهذا الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة محرم.
وإذا طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة فجمهور العلماء على أنه تقع الثلاث، وهو مذهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
وأخذ الأئمة الأربعة بقول عمر رضي الله عنه؛ لأن عمر رضي الله عنه لما تتابع الناس في الطلاق الثلاث أمضاه عليهم عقوبة لهم من باب التعزير.
والقول الثاني: أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يكون واحدة، وهذا هو الصواب وهو الذي كان على عهد النبي ﷺ كما في حديث ابن عباس عند مسلم: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ثم تتابع الناس -وفي لفظ تتايع الناس- فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم».
لما كثر الطلاق في زمن عمر أمضاه عليهم، نفذ الثلاث عقوبة، من باب العقوبة والتعزير.
وكان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، فأخذ الأئمة بقول عمر، وأمضوا الثلاث عليهم.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن طلاق الثلاث واحدة، لا يقع إلا واحدة حتى ولو كررها، لا يقع إلى واحدة.
يقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]، لا تكون طلقتان حتى يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها.
وأما الجمهور فإنهم يرون أن الطلاق الثلاث طلقة واحدة([20]).
والقول الثاني أنه تقع واحدة إذا طلقها بالثلاث، أما إذا كرر ثلاثا فقال: طالق، طالق، طالق، فهذا إن أراد التأكيد أو إفهامها، تكون طلقة واحدة، بدون«واو».
أما إن أراد الثلاث تكون ثلاث، هذا هو الذي عليه الفتوى، وهو الذي يفتي به شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
وأما إذا قال: طالق فطالق فطالق، فإنها تقع ثلاث لأنها بالفاء، أو قال: طالق ثم طالق ثم طالق، تقع ثلاث، أو قال: مطلقة ثم مطلقة ثم مطلقة تقع ثلاث، هذا هو الذي عليه الفتوى.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول كل هذه الصور لا تقع إلا واحدة، آخذًا ذلك من قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}[البقرة:229]
فإن شيخ الإسلام يرى أنه لا يقع الطلاق الثلاث إلا واحدة حتى ولو كررها: طالق، طالق، طالق، لا تكون إلا واحدة حتى يراجعها، هذا اختيار شيخ الإسلام.
أما الذي عليه الفتوى الآن والذي كان يفتي به الشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين، أنه إذا كان بالفاء، فقال: طالق فطالق فطالق، أو قال: طالق ثم طالق ثم طالق، هذه تكون ثلاث، وأما بدون الواو والفاء بأن قال: طالق، طالق، طالق، فهذا إن أراد ثلاث فهي ثلاث، وإن أراد التأكيد أو الإفهام، وقال: أنا ما أقصد إلا واحدة لكن أريد أن أؤكد الكلمة الأولى بدون واو أو فاء، فتكون طلقة واحدة.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يرى أن الجميع تكون طلقة واحدة ولا بد من المراجعة، والمحاكم الآن على أنها ثلاث، والمفتي على أنها واحدة إذا كان بكلمة واحدة.
([1]) رواه أحمد في المسند (5/277).
([2]) رواه الترمذي (1187).
([3]) موطأ مالك (1610).
([4]) مسند أحمد (6/433) وأبو داود (2227) والنسائي (5627).
([5]) صحيح البخاري (5273).
([6]) السنن الكبرى (5628).
([7]) رواه الترمذي (1185).
([8]) رواه الدارقطني في السنن (5/537) والطبراني في الأوسط (7461) وفي المعجم الصغير (1111) .
([9]) السنن الكبرى (5564).
([10]) صحيح مسلم (1433).
([11]) صحيح البخاري (5261).
([12]) مسند أحمد (6/34).
([13]) صحيح البخاري (2639) وصحيح مسلم (1433) والسنن الكبرى (5572).
([14]) مسند أحمد (24331) ومسند أبي يعلى (4813).
([15]) مسند أحمد (1/448).
([16]) سنن الترمذي (1120) والنسائي (6/149).
([17]) المستدرك (2/217).
([18]) رواه أبو داود (2076) والترمذي (1119).
([19]) رواه الدارقطني في السنن (5/537) والطبراني في الأوسط (7461) وفي المعجم الصغير (1111) .
([20]) هكذا قال الشيخ حفظه الله، ولعله يقصد:« وأما الجمهور فإنهم يرون أن الطلاق الثلاث يقع ثلاث ».