شعار الموقع

التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين 4

00:00
00:00
تحميل
12

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين.

قال العلامة ابن السعدي رحمه الله تعالى في كتابه "التوضيح المبين":

(المتن)

وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ}[الإسراء/60].

وقال: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيط}[البروج/20].

ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين، اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم}[البقرة/255]، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير}[سبأ/23].

وقال: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيم}[البقرة/115].

وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس شيء في قبضة نفسه، فهذا قرب الإحاطة العامة.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بَعْدَ:

فهذا الكلام لا يزال للعلامة ابن القيم رحمه الله، نقله المؤلف من كتابه "المدارج"، هذا الكلام على هذين الاسمين: الظاهر والباطن، فالظاهر هو العالي الذي ليس فوقه شيء، والباطن هو الَّذِي لا يحجبه أحدًا من خلقه، وهو محيط بخلقه، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد سبحانه وتعالى، فهو الباطن بذاته، ليس دونه شيء، وهو الظاهر على كل شيء سبحانه وتعالى، وهو محيط بكل شيء، وكل شيء في قبضته، وليس شيء في قبضة نفسه، فهذا قرب الإحاطة والعلو.

هذان الاسمان العظيمان يتبين فيهما عظمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه فوق المخلوقات، ومع ذلك محيط بها، وهو أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، ليس مختلطًا بالمخلوقات، ولكنه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، وكل شيء في قبضته، وكل شيء تنفذ فيه قدرته ومشيئته، لا يمتنع شيء من ذلك، فهذا قرب الإحاطة والعلو، لا منافاة بينهما، فهو العالي سبحانه وتعالى على كل شيء، وهو الباطن الذي لا يحجبه أحدٌ من خلقه، بل هو محيط بكل شيء، سبحانه لا إله إلا هو، ولهذا قال سبحانه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة/255].

فهو العلي بذاته على جميع المخلوقات، وهو العظيم المحيط بجميع المخلوقات، وهي كلها في قبضته، وتحت تصرفه سبحانه وتعالى.

(المتن)

وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص بين عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة/186]، فهذا قربه من داعيه، وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين}[الأعراف/56].

فنكَّر الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة، إيذانًا بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إن الله برحمته قريب من المحسنين، وفي الصحيح عن النبي r قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل». فهذا قرب خاص، غير قرب الإحاطة وقرب البطون.

(الشرح)

قرب الإحاطة وقرب البطون دل عليه اسمه الباطن، وأما هذا القرب من الداعين وقرب من العابدين، قرب من الداعين بالإجابة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة/186]، لما يقل: إنه قريب من كل أحد؛ بل لم هو قريب من الداعين بإجابتهم، كما أنه قريب من العابدين بالإثابة، قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب}[العلق/19]، {وَاسْجُدْ} هذه العبادة، {وَاقْتَرِب} فمن سجد فهو قريب من الله، من يتعبد فهو قريب من الله، بالإثابة يثيبنا.

كما أن من دعا فهو قريب من الله بالإجابة، أما قرب الإحاطة وقرب البطون هذا شيء آخر، هذا عام بجميع الخلق، فهو تعالى محيط بجميع الخلق، وهم في قبضته وتصرفه جميعًا، العابدون وغير العابدين جميعًا، وهذا من ثمرة اسمي الظاهر والباطن، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، هذه عامة، والظهور والبطون ثمرة هذين الاسمين، الظهور والبطون عام لجميع الخلق، أما القرب الخاص فهذا خاص بالعابدين والسائلين.

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي r في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير، فقال: «أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمًا ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعني فأي حاجة بكم إلى رفع الأصوات، وهو لقربه يسمعها وإن خفضت، كما يسمعها إذا رفعت، فإنه سميع قريب، وهذا القرب هو من لوازم المحبة، فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر.

(الشرح)

  • فالقرب الوارد في القرآن هو نوعان:

القرب الأول: قرب من الداعين بالإجابة.

القرب الثاني: وقرب من العابدين بالإثابة.

فالأول مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة/186]، وكما في حديث أبي موسى في الصحيح الذي ذكره المؤلف، أنهم كانوا مع النبي r في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير، فقال: «أيها الناس، اربعوا على أنفسكم»؛ أي: ارفقوا على أنفسكم، لا ترفعوا أصواتكم، «فإنكم لا تدعون أصمًا ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، فهو أقرب من الداعين، ولم يقل: أقرب من كل أحد، هذا قرب خاص، هذا قرب من الداعين بالإجابة.

والقرب من العابدين بالإثابة مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين}[الأعراف/56]، ومثل قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب}[العلق/19].

أما القرب العام كما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}[ق/16]، وقوله تعالى في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون}[الواقعة/85]، فإن شيخ الإسلام والعلامة ابن القيم يريان أن هذا قرب الملائكة، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}؛ قالوا: نحن أقرب إليه بملائكتنا من حبل الوريد، ولهذا قيده بالظرف، قال: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}[ق/17].

فنحن أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان، ولو كان القرب عامًّا؛ لم يقيد بوقت تلقي الملكين، وكذلك قوله في المحتضر: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم}[الواقعة/83]؛ الروح يعني إذا بلغت الحلقوم {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ}[الواقعة/83-85].

يعني: بملائكتنا، هكذا قرر شيخ الإسلام والعلامة ابن القيم، وقالوا: إن القرب العام هذا إنما هو قرب بالملائكة، والقرب لا يأتي إلا خاصًّا، فلا يأتي عامًّا وخاصًّا، بخلاف المعية، فهي تكون عامة كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}[الحديد/4]، عامة للكافر والمؤمن جميعًا، وهو معهم بعلمه وإحاطته واطلاعه وهو فوق العرش، وتكون المعية خاصة مثل قوله: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}[البقرة/153]، {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}[النحل/128]، { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}[التوبة/40]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه/46].

 هذه معية خاصة للمؤمنين والأنبياء والرسل، معهم بنصره وتأييده وحفظه وكلاءته، وأما القرب فلا يكون إلا خاصًّا.

وذهب بعض العلماء إلى أن القرب يكون عامًّا وخاصًّا، كما تكون المعية، وقالوا: إن قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}[ق/16] الضمير يعود إلى الله؛ يعني: نحن أقرب إليه بالعلم، ومنهم من قال: بالعلم والقدرة، ومنهم من قال: بالعلم والقدرة والرؤية، وكذلك يقولون: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}[ق/16] يعني: بالعلم والاطلاع والإحاطة، فيرون أن القرب يكون عامًّا وخاصًّا، وأما ما قرره شيخ الإسلام وابن القيم فيرون أن القرب لا يكون إلا خاصًّا، وأما القرب العام فالمراد به قرب الملائكة.

(المتن)

قال رحمه الله: وقد تستولي محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها.

(الشرح)

(يفنى بها عن غيرها) يعني: يزيل ما عداه، حتى كأنه ليس بموجود، تستولي محبة المحبوب على قلب محبه بحيث أن محبة غيره تزول وتتلاشى كأنها غير موجودة، وهذا الفناء أصل الفناء عند الصوفية، وأصل الفناء هو أن تفنى ذاته في ذاته، فتكون ذاتًا واحدة، مثل الدقيق إذا وضعته في الماء، أفنيت الدقيق في الماء فأصبح ذاتًا واحدة، هذا الفناء، والفناء عند الصوفية هو المحبة التي تستولي على القلب بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، بحيث تفنى محبة المخلوق، فتبقى محبة الخالق.

  • والصوفية يقسمون الفناء إلى ثلاثة أقسام:
  1. فناء عن مراد السوى.
  2. وفناء عن شهود السوى.
  3. وفناء عن وجود السوى.

والمراد بالسوى: يعني ما سوى الله.

الفناء عن مراد السوى: هذا فناء المحبين، ومعنى الفناء عن مراد السوى هو أن يلغي الإنسان مراد غير الله لمراد الله، فيقدم مراد الله على مراد غيره، ويقدم محبة الله على محبة غيره، فلا يحب إلا الله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يخاف إلا الله، ولا يرجو إلا الله، هذا فناء المحبين، بمعنى أنه يلغي مراد نفسه وغيره لمراد الله، فإذا أمره الله بأمر، ونازعته نفسه أو غيره؛ يلغي مراد النفس ومراد الغير، ويقدم مراد الله، إذا أمره الله بالصلاة مثلًا: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}[البقرة/110]، ثم نازعته نفسه للنوم، أو اللعب، أو البيع والشراء؛ ترك مراد النفس لمراد الله وألغاه، هذا فناء المحبين، وهو أن يفنى بمراد الله عن مراد غيره، بمعنى أن يلغي مراد نفسه ومراد غيره، ويقدم مراد الله، هذا فناء المحبين.

هذا فناء المقربين، فناء الأتقياء، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كان هناك فناء صحيح فهذا فناء صحيح. إن كان هناك فناء صحيح فهو هذا، الفناء عن مراد السوى، بمعنى أنك تلغي مراد نفسك ومراد غيرك لمراد الله، وتقدم مراد الله على مراد غير الله، فتطيع أمر الله، وتلغي أمر غيره، تطيع أمر الله ورسوله، وتلغي أمر غيره، وتقدم محبة الله على محبة غيره.

ومن ثمرات هذا أنك لا تحب إلا لله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تعطي إلا لله، ولا تمنع إلا لله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، هذا فناء المقربين والأتقياء.

والثاني: الفناء عن شهود السوى، وهذا عند الصوفية الذين هم في درجة متوسطة، وهو أنه يفنى عن شهود ما سوى الله، فلا يشاهد إلا الله، يزعم أنه إذا شاهد غير الله؛ أنه يحصل له تشويش، يقول: أنا لا أشاهد إلا الله، لا أرى أمامي إلا الله، فلا يشاهد إلا الله، وأنه هو القادر، وأن كل شيء تحت قبضته ومشيئته، وأن كل شيء تجري فيه مشيئة الله وإرادته، ويقول: أنا ألغي غير الله من الشهود حتى لا يشوش علي، ولا أستطيع أن أنظر إلى آدميين وحيوانات وبحار وأنهار وأشجار وسماء، تشوش علي، أنا ألغيها من الشهود، لا ألغيها من الوجود، كأنها غير موجودة، لا أنظر إلا لله، أجمع همتي على الله، فلا أشاهد إلا الله، هذا الفناء عن شهود السوى، يقول: أنا لا ألغيها، لا أنكرها، هي موجودة، لكني ألغيها من الشهود، فلا أشاهد إلا الله، ليس هناك في الشهود إلا الله، هو المتصرف، وهو القادر، وهو الذي له الأمر، وله النهي، وله المشيئة، وله النفوذ، وله المحبة، فأنا ألغيها من الشهود.

هذا يسمونه: الفناء عن شهود السوى، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزُل، يفنى من لم يكن وهو المخلوق، ويبقى من لم يزُل وهو الله، يفنى من الشهود، لا من الوجود، ويسمون هذا الفناء: غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته عن شهود نفسه، غيبة، تكون عنده غيبة، غيبة أحدهم عن شهود ما سوى الله، بل حتى عن شهود نفسه، يغيب، بمعنى أنه لا ينظر إلى المخلوقات، ولا يشاهدها، يغيب عنها؛ حتى لا تشوش عليه عبوديته واتجاهه لله U، وقد تقوى هذه الغيبوبة، قد يقوى هذا الشهود، قد يقوى شهود المحب لمحبوبه حتى يظن أنه اتحد به وامتزج به، حتى يظن أنه هو نفسه، ويكون تابعًا له كالمغناطيس، بحيث إذا تحرك تحرك، وإذا وقف وقف، وقد غاب بعض المحبين بحبيبه، غاب به، وقوي شهوده به، حتى ظن أنه اتحد به، فسقط المحبوب في الماء، فسقط خلفه، مغناطيس، فنام.

قال: أنا سقطت، ما الذي جعلك تسقط؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني، هذه غيبوبة عن شهود السوى، هذه الغيبوبة المتوسطة الذي مشى عليها صاحب منازل السائرين للصوفي الحنبلي، أبو إسماعيل الهروي، بنى كتابه على هذا، على هذه الدرجات، شرحه ابن القيم في مدارج السالكين، سمى الكتاب (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين) للهروي، منازل السائرين إلى الله بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، شرحها ابن القيم في مدارج السالكين.

ويعتذر عنه أحيانًا، وأحيانًا لا يستطيع الاعتذار، وكان يسمى شيخ الإسلام، يقول: شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه، ثم يرد عليه، ويحمل الكلام على أحمل المحامل؛ لأنه له مواقف مشهورة في الرد على المعطلة في باب الأسماء والصفات، وله كلام جيد في كتاب "الفاروق" وله "ذم الكلام وأهله"، لكن لما جاء في باب السلوك وافق الجهمية من جهة التعطيل، عطل العبادة تعطيلًا موافقًا لتعطيل الأسماء والصفات، هذا يسمى: الفناء عن شهود السوى.

النوع الثالث: الفناء عن وجود السوى، وهذا فناء الملاحدة والزنادقة، بمعنى أنه ينكر ما سوى الله، فيقول: كل ما تراه هو الله، هذا فناء الملاحدة الاتحادية الذين هم من أكفر خلق الله، وكفرهم من أغلظ الكفر، وهو مبني على إنكار وجود الله، الفناء عن وجود السوى معناه أنه ينكر ما سوى الله، فيقول: ما هناك إلا الله، فيصل إلى القول بوحدة الوجود، هذا فناء الملاحدة والزنادقة.

والفناء الثاني وسيلة توصل إلى الفناء الثالث، نسأل الله السلامة والعافية، وأبو إسماعيل الهروي في كتابه (منازل السائرين) أتى بأبيات زعم أنها تتمشى مع النوع الثاني من أنواع التوحيد، وهي تتمشى مع النوع الثاني من أنواع التوحيد وهي تتمشى مع النوع الثالث، يقول:

ما وحد الواحد من واحد
 

 

إن كل من وحده جاحد
 

توحيد من ينطق عن نعته
 

 

عارية أبطلها الواحد
 

توحيده إياه توحيده
 

 

ونعت من ينعته لاحد
 

 

يقول: (ما واحد الواحد من واحد)؛ ما وحد الواحد أحد سواه، (إن كل من وحده جاحد)؛ كل من وحده جاحد لتوحيده، ثم يقول: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) ؛ كل من يوحد الله من المخلوقين فتوحيده عارية أبطلها الواحد، وحدة الله أبطلتها هذه العارية وردتها إلى الملك الحق وهو الله.

ثم قال: (توحيده إياه توحيده)؛ التوحيد الحقيقي توحيده نفسه بنفسه، حيث لا يوجد غيره، (ونعت من ينعته لاحد)؛ كل من ينعت الله بنعت أو يصفه بوصف فهو ملحد عند الاتحادية، لماذا؟ لأنهم يقولون: حينما ينعته يشاهد نفسه، ويشاهد ربه، وهذه تثنية، وهذا شرك عندهم، والتوحيد هو القول بوحدة الوجود، هذه الأبيات ابن القيم شرحها، وقال: إن المقصود أنه غلب عليه الحب، وغلب عليه الوجد، وأنه لا يريد إلا الحق، ولكن الاتحادية جروه، وأقسموا بالله جهد أيمانهم أنه معهم، وليس منهم، لكن هذا كما ترونه.

يقول: (ما وحد الواحد من واحد)؛ من زائدة للتأكيد، التقدير: ما وحد الواحد أحد سوى الله، معنى هذا إنكار للمخلوق، (إن كل من وحده جاحد)؛ كل من وحده جاحد لتوحيده؛ لأنه حينما يتكلم يرى نفسه ويرى غيره، فيكون جاحدًا لتوحيد الله، والتوحيد الحقيقي عند الملاحدة هو اعتقاد أن الوجود واحد، فلا يتكلم إلا الله، والله هو الذي يوحد نفسه بنفسه، (توحيده إياه توحيده)، توحيده الحقيقي هو توحيده لنفسه بنفسه، حيث لا يوجد إلا هو.

(ونعت من ينعته لاحد)؛ هكذا يقولون بوحدة الوجود، الاتحادية يقولون: معناه أنه هو الساري في جميع الموجودات، ولذلك هو من يوحد نفسه بنفسه، وابن القيم يقول: غلب عليه الوجد، وغلبت عليه المحبة، وهو لا يريد الاتحاد، وإنما يريد شدة الوجد، وغلب عليه، فلهذا مثل هذا الكلام يحمل على محمل يليق بمقام عبد الله بن محمد الهروي.

هذا معنى قول ابن القيم: (وقد تستولي محبة المحبوب على قلب محبه، بحيث يفنى بها عن غيرها)، عرفتم الفناء الآن، يفنى بها عن غيرها بمعنى أنه يلغيها ويلغي ما سواها، فكأنه ليس موجودًا في قلبه إلا الله.

(المتن)

قال رحمه الله: وقد تستولي محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده.

(الشرح)

لشدة الغلبة، كأنه يرى ربه ويشاهده، هو ما يرى أحدًا إلا الله في الدنيا، لكنه لشدة الغلبة كأنه يراه.

(المتن)

قال رحمه الله: فإن لم يكن عنده معرفة صحيحة بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وإلا طرق باب الحلول وإن لم يلجه.

(الشرح)

إن لم تكن عنده بصيرة؛ طرق باب الحلول، يعني: يقول بأن الله حل في المخلوقات، أعوذ بالله، وهو القول بوحدة الوجود، ولذلك فالذي ليس عنده بصيرة وصل إلى القول بالحلول.

(المتن)

قال: وسببه ضعف تمييزه.

(الشرح)

سبب كونه يلج باب الحلول ضعف البصيرة والتمييز، وقوة سلطان المحبة، هي تستولي عليه فلا يميز بين نفسه وبين ربه، حتى يزعم أن ربه حل فيه، نعوذ بالله.

(المتن)

قال: وسببه ضعف تمييزه، وقوة سلطان المحبة، واستيلاء المحبوب على قلبه، بحيث يغيب عن ملاحظة ما سواه، وفي مثل هذه الحال يقول: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله.

(الشرح)

وهذا مروي عن أبي يزيد البسطامي، غلب عليه الحب، فينفض الجبة ويقول: ما في الجبة إلا الله، يعني نفسه؛ بسبب غلبة الحب، ويقول عن نفسه: سبحاني. نعوذ بالله.

يقول الشيخ ابن القيم: إن قلنا أنه غلب عليه الوجد وأنه ضعف تمييزه، وفقد عقله؛ فهو معذور، وإلا فهذا كفر وردة. فإن كان معه تمييز فهذا كفر وردة، وإن كان ضعف التمييز بحيث أنه صار كالمجنون، استولت عليه المحبة ولا عنده التمييز، كان في غيبوبة؛ فهذا معذور لأنه لا عقل عنده، ولا تمييز عنده عنده, كيف ينفض الجبة ويقول: ما في الجبة إلا الله، ويقول عن نفسه: سبحاني. هذا أعظم الكفر، لكنه يكون معذورًا إذا كان غلب عليه المحبة بحيث زال عقله، ولا يميز بين الأشياء، فهو معذور لزوال عقله، نسأل الله السلامة والعافية.

والصوفية تزول عقولهم، يزعمون أن عندهم انجذاب، بَعْضُهُمْ زال عقله.

(المتن)

قال: وفي مثل هذه الحال يقول: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن يغفر له ويعذر؛ لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال.

(الشرح)

سكره يعني سكر المحبة، سكر المحبة غلب عليه، بحيث ظن أنه هو الله، أو أن الله امتزج به، واتحد به، زال عقله في هذه الحالة؛ بسبب سكرة الحب، سكرة الحب أذهبت عقله، وعدم تمييزه لعله يغفر له لفقد عقله، بحيث سكر، وغلب عليه سكر المحبة، فأزال عقله، فلم يميز بين نفسه وبين ربه، فهذا يغفر له في هذه الحالة، أما لو كان معه عقله؛ فهذا أغلظ الكفر وأعظم الكفر، نسأل الله العافية.

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد.

(الشرح)

الاسم المراد به اسم الباطن، اسم الله الباطن، التعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة.

(المتن)

قال رحمه الله: فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأن يكون الإله أقرب إليه من كل شيء، وأقرب إليه من نفسه، مع كونه ظاهرًا ليس فوقه شيء، ومن كثف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا المعنى فليضرب عنه صفحًا إلى ما هو أولى به، فقد قيل:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه
 

 

وجاوزه إلى ما تستطيع
 

 

(الشرح)

يعني يقول: إذا كثف ذهن الإنسان وغلظ، ولا فهم هذا فيتركه, ليس من أهل الاختصاص، هذا لا يعرفه إلا هذا الاختصاص، أهل الاختصاص الذين اختصهم الله بالمعرفة والمحبة، ففهموا هذا المعنى، ومن لم يفهم هذا المعنى؛ عنده حجب منعته، فليتجاوزه إلى غيره.

(المتن)

قال: ومن كثف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا المعنى فليضرب عنه صفحًا إلى ما هو أولى به، فقد قيل:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه
 

 

وجاوزه إلى ما تستطيع
 

 

فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة بقرب المحبوب من محبه غاية القرب، وإن كان بينهما غاية المسافة، ولا سيما إذا كانت المحبة من الطرفين، وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها، فإن المحب كثيرًا ما يستولي محبوبه على قلبه وذكره، ويفنى عن غيره، ويرق قلبه، وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إليه، وبينهما من البعد ما بينهما، وفي هذه الحال يكون في قلبه وجوده العلمي، وفي لسانه وجوده اللفظي، فيستولي هذا المشهود عليه ويغيب به.

(الشرح)

  • الفرق بين الوجود العلمي والوجود اللفظي: أنواع الوجودات أربعة:
  1. وجود علمي، وهو الوجود الذهني.
  2. وجود لفظي.
  3. وجود رسمي.
  4. وجود عيني.

هذه أنواع الوجودات.

والوجود العلمي أو الوجود الذهني: هو ما يتصوره الإنسان في ذهنه، أن تتصور مثلًا مدينة في الشرق أو في الغرب، ما رأيتها، ولكن سمعت بها، فتصورتها في ذهنك، وجودها في ذهنك هذا الوجود العلمي.

والوجود العيني أو الخارجي: حينما تذهب إليها وتشاهدها بعينك.

والوجود اللفظي: وجودها في لسانك حينما تتحدث، تقول: المدينة الفلانية.

والوجد الرسمي: حين تكتبها في ورقة، المدينة كذا وكذا.

زيد مثلًا، أخبرت بأن زيدًا من الناس صفته كذا، وطوله كذا، وأخلاقه كذا، هذا عرفت وجوده في ذهنك وعلمك، هذا وجود علمي، ثم شاهدته ولقيته، فهذا وجوده الخارجي أو العيني، مشاهدتك إياه هذا وجوده العيني أو الخارجي، ثم قلت: زيد بلسانك؛ هذا وجوده اللفظي في لسانك، ثم كتبته، كتبت: زيد رجل مبارك، هذا وجود رسمي، هذه أنواع الوجودات، وجود عيني، ووجود علمي أو ذهني، هذا في ذهنك، والوجود الخارجي حينما تشاهده، والوجود اللفظي في لسانك حينما تتلفظ، والوجود الرسمي في الكتابة حينما تكتب، هذه أنواع الوجودات، وجود علمي أو ذهني، ووجود عيني أو خارجي، ووجود لفظي، ووجود رسمي.

نشوف كلام الشيخ رحمه الله.

(المتن)

وفي هذه الحال يكون في قلبه وجوده العلمي.

(الشرح)

عرفنا وجوده العلمي، يكون في قلبه وجوده العلمي، يعني: يعلم ربه ويعلم أوصافه ويكون في قلبه وجوده العلمي، في ذهنه، وفي قلبه، يتصوره.

(المتن)

قال: وفي لسانه وجوده اللفظي.

(الشرح)

حينما يتلفظ ويتكلم، هذا وجوده اللفظي.

(المتن)

فيستولي هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أن في عينه وجوده الخارجي.

(الشرح)

هذا الوجود الخارجي، كم أنواع مرت معنا؟ ثلاثة: وجوده العلمي واللفظي والخارجي، بقي الرسمي في الكتابة حينما تكتب.

(المتن)

لغلبة حكم القلب والروح، كما قيل:

خيالك في عيني وذكرك في فمي
 

 

ومثواك في قلبي فأين تغيب
 

 

(الشرح)

(خيالك في عيني)؛ يعني يتصوره، (وذكرك في فمي) حينما يتكلم، (ومثواك في قلب)؛ هذا العلم (فأين تغيب).

(المتن)

هذا ويكون ذلك المحبوب بينه وبين عدوه وما بينهما من البعد، وإن قربت الأبدان وتلاصقت الديار، والمقصود أن المثال العلمي غير الحقيقة الخارجية.

(الشرح)

يعني: المثال العلمي هذا في الذهن، والحقيقة الخارجية في الخارج حينما تشاهده بالحواس الخمسة، هذا الوجود الخارجي أو العيني، وهو الذي يدرك بإحدى الحواس الخمسة، وأما الوجود العلمي فهو الذي يتصوره الإنسان ويعلمه في ذهنه.

(المتن)

قال: والمقصود أن المثال العلمي غير الحقيقة الخارجة، وإن كان مطابقًا لها، لكن المثال العلمي محله القلب، والحقيقة الخارجية محلها الخارج.

فمعرفة هذه الأسماء الأربعة وهي الأول والآخر والظاهر والباطن هي أركان العلم والمعرفة.

(الشرح)

أركان العلم والمعرفة, الأول الذي ليس قبله شيء، متقدم في الزمان، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء الفوقية، والباطن الذي لا يحجبه شيء، وهو محيط بخلقه.

(المتن)

قال: فمعرفة هذه الأسماء الأربعة وهي الأول والآخر والظاهر والباطن هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه.

واعلم أن لك أنت أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنَفَس.

(الشرح)

النفس الواحد له أول وآخر.

(المتن)

حتى الخطرة واللحظة والنفس، وأدنى من ذلك وأكثر، فأولية الله U سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه، وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون.

(الشرح)

قرب المحب من حبيبه هذا قربه بالمحبة، وأما ذاك فقربه من جميع الخلق، قرب بالإحاطة، القرب الذي دل عليه اسم الباطن هذا قرب الإحاطة، لأن الله محيط بالخلق كلهم، المخلوقات كلها، المؤمنين والكفار، والسماوات والأرضين، محيط بها، أما قرب المحبة شيء آخر، قربه من حبيبه، بمعنى أن الله تعالى يتولاه ويسدده ويوفقه.

(هذا لون وهذا لون)؛ قرب الإحاطة لون، وقرب المحبة لون آخر، شيآن.

(المتن)

فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فإحاطته أوليته وآخريته بالقَبْل والبَعْد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فإحاطة أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وإحاطة ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه، فَسَبَقَ كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل آخر شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهر باطنًا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.

فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.

هذا آخر كلام المصنف رحمه الله، وهو في غاية النفاسة في هذا الموضع، وكرر العبارة المتنوعة لأجل أن يفهم المعنى فهمًا صحيحًا تامًّا؛ لأن هذا الموضع من أهم المواضع وأعظمها حاجة.

(الشرح)

هذا نقل عن كلام ابن القيم في كتاب (الهجرتين)، وهو كما قال في غاية النفاسة.

انتهى الكلام عن الأسماء الأربعة: الأول والآخر والظاهر والباطن، بعد ذلك سينتقل إلى اسم آخر وهو العلي، سبق في الأبيات الأولى، لكن أعاده مرةً أخرى، في الأبيات الأولى قال:

كعلوه سبحانه فوق السماوات
 

 

العلى بل فوق كل مكان
 

فهو العلي بذاته سبحانه
 

 

إذ يستحيل خلاف ذا ببيان
 

 

ثم أعاد الكلام على العلي ليبين أنواعه الثلاثة.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

وهو العلي فكل أنواع
 

 

العلــــو ثابتة له بلا نكران
 

 

 

 (الشرح)

(وهو العلي)؛ العلي من أسمائه سبحانه وتعالى، ومن صفاته: العلو.

والعلو أنواعه ثلاثة، كل أنواع العلو ثابتة له بلا نكران، وأنواع العلو ثلاثة كما سبق: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر.

علو الذات: ذاته عالية عن جميع المخلوقات سبحانه وتعالى.

وعلو القهر والسلطان: قهر كل شيء.

وعلو القدر والشأن والعظمة، وهو سبحانه وتعالى أعظم من كل شيء.

وهذه الأنواع كلها ثابتة، في بيت آخر يقول ابن القيم:

والفوق أنواع ثلاثة كلها
 

 

لله ثابتة بلا نكران
 

 

وقد وافق أهل البدع على نوعين من العلو، وهما علو القدر وعلو القهر، وأنكروا علو الذات، وحملوا النصوص التي في إثبات العلو على علو القدر وعلو القهر، وأنكروا علو الذات، وهذا من جهلهم وضلالهم.

(المتن)

قال رحمه الله: يعني أن الله تعالى هو العلي الذي له جميع أنواع العلو ثابتة شرعًا وعقلًا، بلا إنكار ولا تعطيل لشيء منها، فله علو الذات.

(الشرح)

هذا النوع الأول من العلو، علو الذات، وهذا الذي أنكره أهل البدع؛ لأن الله تعالى فوق المخلوقات بذاته، فوق العرش، المخلوقات سقفها عرش الرحمن، تنتهي، آخر المخلوقات من جهة الفوقية هو العرش، والله فوق العرش بعد أن تنتهي، هذا علو الذات، سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال: فله علو الذات لأنه فوق المخلوقات، فوق العرش العظيم، قد باين العالم العلوي والسفلي، وله علو القدر.

(الشرح)

هذا النوع الثاني: علو القدر، هذا علو الصفات وعظمتها.

(المتن)

قال: وهو علو صفاته وعظمتها، بحيث كانت صفاته عالية عظيمة، لا يماثلها ولا يقاربها صفة شيء من المخلوقات، بل لا يقدر الخلق كلهم أن يحيطوا علمًا ببعض صفاته. قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه/110]، وله علو القهر.

(الشرح)

هذا النوع الثالث: علو القهر، علو القهر والسلطان والغلبة.

(المتن)

قال: فَعَلَا على جميع المخلوقات وقهرها، فكلها تحت قبضته، ونواصيها بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، ولو اجتمعوا على إيجاد فعل أو حركة لم يُرِدْها الله لم يقدروا على ذلك، وذلك لكمال اقتداراه وعظمته، وشدة افتقار المخلوقات إليه من كل وجه.

(الشرح)

سبحانه لا إله إلا هو.

(المتن)

قال:

وهو العظيم بكل معنى يوجب
 

 

التعظيم لا يحصيه من إنسان
 

 

(الشرح)

وهذا البيت فيه إثبات اسم الله العظيم، المؤلف رحمه الله يتكلم عن نوع من أنواع التوحيد، وهو الثبوت، إثبات الأسماء والصفات، سيسرد عددًا من الأسماء والصفات، ويبين معانيها، وأن كل اسم مشتمل على صفة، العظيم مشتمل على صفة العظمة، قال: (وهو العظيم بكل معنى يوجب التعظيم)؛ فله سبحانه وتعالى العظمة بكل معانيها.

(بكل معنى يوجب التعظيم لا يحصيه من إنسان)؛ لا يستطيع الإنسان أن يحصي معنى عظمة الله؛ لأن الله تعالى له العظمة بكل معانيها، ولا يستطيع الإنسان أن يدرك نهاية عظمة الله U، بل لا يعلم مدى عظمة الله سبحانه وتعالى إلا هو سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال رحمه الله: يريد أن الله تعالى عظيم، له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، بحيث لا يقدر إنسان ولا مخلوق أن يحصي الثناء على الله بعظمته.

ومعاني التعظيم نوعان:

أحدهما: أنه تعالى موصوف بكل صفة كمال، وله من ذ  لك الكمال الذي وصف به أكمله وأعظمه وأجله.

(الشرح)

  • ذكر هنا أن معاني التعظيم نوعان:

النوع الأول: أنه موصوف بصفات الكمال، وله الكمال الذي وصف به نفسه، فهو أكمل وأعظم وأجل الكمال.

والنوع الثاني: أنه لا يستحق أحد التعظيم من الخلق غيره تعالى، فلا يستحق أحد التعظيم اللائق به إلا هو سبحانه وتعالى، فوجب على الخلق أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم.

إذًا النوع الأول أن الله موصوف بكل صفات الكمال، وله من ذلك الكمال أكمله وأعظمه وأجله، والثاني أنه لا يستحق أحد التعظيم من الخلق غيره، التعظيم الذي يليق به.

(المتن)

قال: ومعاني التعظيم نوعان:

أحدهما: أنه تعالى موصوف بكل صفة كمال، وله من ذ  لك الكمال الذي وصف به أكمله وأعظمه وأجله، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء والعظمة، حتى أن من عظمته أن السماوات والأرض في كف الرحمن كالخردلة في يد المخلوق، كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.

(الشرح)

والخردلة الحبة الصغيرة، إذا أخذت حبة صغيرة من الحبوب ووضعتها في كفك؛ ماذا تساوي بالنسبة لك؟ لا تساوي شيئًا، أنت استوليت عليها، وأنت قبضتها، وأنت ألقيتها، لا تساوي شيئًا، فكذلك المخلوقات في حديث أبي ذر: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم». لا إله إلا الله! السماوات هل تستطيع أن تحيط بها؟ ينتهي طرفك والسماء ممتدة، كيف نهايتها من جميع الجهات؟ كيف تحيط بها؟ والسماوات والأرضين كلها والعرش، والسماوات السبع بالنسبة للكرسي كحلقة في فلاة، في صحراء، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في صحراء.

هذه المخلوقات كلها في كف الرحمن كخردلة كالحبة الصغيرة في يد الإنسان؛ لحديث أبي ذر: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم»، وفيه إثبات الكف لله U كما يليق بجلاله وعظمته، هذه عظمة الله سبحانه وتعالى، هذا العظيم، هل يستطيع أحد أن يحيط بعظمته؟ لا يستطيع أحد من خلقه.

وهذا التعظيم الذي لا يليق إلا به، ولا يستحق المخلوق شيئًا من ذلك.

(المتن)

قال رحمه الله: وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر/67].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر/41].

(الشرح)

إن نافية بمعنى ما، {إِنْ أَمْسَكَهُمَا}يعني: ما أمسكهما من أحد من بعده.

(المتن)

وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}[الشورى/4-5].

وقال النبي r فيما يرويه عن ربه U أنه قال: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذبته».

(الشرح)

وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وهذا حديث قدسي من كلام الله لفظًا ومعنًى، مثل القرآن، إلا أن كلام الله يتفاضل، والقرآن له أحكام تختلف عن الحديث القدسي، فالحديث القدسي من كلام الله لفظًا ومعنًى، والقرآن من كلام الله لفظًا ومعنًى، مثل حديث أبي ذر: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا».

ومثل حديث: «يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه»، فهذا من كلام الله؛ لأن الرسول r أضافه إلى الله، عن أبي هريرة، عن النبي r أنه قال: «قال الله تعالى»، إذًا أضافه إلى الله، وهذا من كلام الله لفظًا ومعنًى، والقرآن من كلام الله لفظًا ومعنًى، وأما الأحاديث الأخرى غير القدسي فهي من الله معنًى ومن الرسول لفظًا، مثل حديث: «إنما الأعمال بالنيات» هذا من كلام الرسول، لكن المعنى من الله، الدليل: قول الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم/3-4].

فالسنة وحي ثانٍ، قال عليه الصلاة والسلام: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، انتبهوا! وذلك لأن الأشاعرة يقولون: الكلام معنًى، واللفظ ليس من الكلام، ولهذا قالوا: إن القرآن ليس من كلام الله، هذا تكلم به جبريل أو محمد، لكن الله اضطر جبريل ففهم المعنى، فعبر بهذا القرآن، اضطره اضطرار جعلوا الرب أبكم لا يتكلم، لا يستطيع أن يتكلم، نعوذ بالله من هذا، لأنه لو تكلم.. لو كان الكلام من حرف وصوت؛ صار حادثًا في ذاته بزعمهم، ومعناه يكون حادثًا، وهذا هو المخلوق، ففرارًا من ذلك فقالوا: ما يتكلم، أبكم، نعوذ بالله! جعلوه أبكم.

كيف القرآن هذا كلام الله؟ قالوا: تسميته كلام الله مجازًا، هذا ليس كلام الله، كيف وصل هذا القرآن؟ قالوا: الله اضطره اضطرارًا، يقولون: أنه ما تكلم، ما سمع جبريل ولا كلمة، اضطره اضطرارًا، ففهم المعنى، فلما فهم المعنى عبر بهذا القرآن، واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين}[التكوير/19-20]؛ هذا قول جبريل، وقالت طائفة أخرى من الأشاعرة: لا، الذي عبر به محمد، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُون}[الحاقة/40-41].

وقالت طائفة ثالثة من الأشاعرة: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، وأتى به، ولم يسمع من الله كلمة واحدة، ولهذا يقولون: تسمية القرآن كلام الله مجاز؛ لأنه تأدى به كلام الله، وإلا فليس هناك كلام الله، كلام الله معنًا قائم بنفسه، ولهذا لا يحترمون القرآن, يعني: يرون القرآن ما فيه كلام الله، نعوذ بالله! أرأيتم؟! الأشاعرة هم أقرب الطوائف إلى أهل السنة، هذا مذهبهم.

فإذًا إذا رأيتم الأشاعرة يقولون: الحديث القدسي ليس من كلام الله، وإنما هو معنى؛ هذا باطل، تجدونه في (الإتقان) للسيوطي وفي غيره، على طريقة الأشاعرة، يقولون: الحديث القدسي لفظه من الرسول عليه الصلاة والسلام، بناءً على مذهب الأشاعرة، والصواب أن الحديث القدسي لفظه من الله، لفظه ومعناه من الله؛ لأن الرسول أضافه إلى الله.

قال: قال الله تعالى، أما الحديث غير القدسي فهو من الله معنًى، ومن الرسول r لفظًا، مثل حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، وسائر الأحاديث، «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الحديث مثلًا.

وقال النبي r فيما يرويه عن ربه U، فهو من كلام الله، «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذبته»، «الكبرياء ردائي»؛ نسبة الكبر لله، فهو المتكبر، ونسبة الرداء والعظمة والإزار، كلها من صفات الله، كما يليق بجلال الله وعظمته، لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته، «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري»؛ الإزار في اللغة هو الذي يلي الجسم، والرداء هو الذي يكون فوقه، فيكون الإزار أخص، وهذا كما يليق بجلال الله وعظمته، لا يماثل المخلوق، فأنت الإزار الذي يلي جسدك، وما فوقه يسمى الرداء، ففيه إثبات الصفات الأربعة: الكبرياء والرداء والعظمة والإزار، كلها صفات الله كما يليق بجلاله وعظمته.

(المتن)

قال رحمه الله: وقال النبي r: «جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن».

(الشرح)

هذا حديث أبي موسى الأشعري، هنا الشاهد قوله: «إلا رداء الكبرياء على وجهه» سبحانه وتعالى «في جنة عدن»، فيه إثبات الرداء، وإثبات الكبرياء، وإثبات الوجه لله U، وفيه إثبات العظمة «إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» سبحانه وتعالى، الله تعالى احتجب من خلقه، فالمؤمنون يكشف الله الحجاب فيرونه سبحانه وتعالى.

والمؤمنون يرون ربهم في موقف القيامة أربع مرات كما جاء في الأحاديث، يرونه أولًا، ثم يتجلى في غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فينكرون، ثم يتجلى في الصورة التي يعرفون، فيسجدون له، فإذا رفعوا رؤوسهم تجلى لهم في الصورة التي رأوها في أول مرة، أربع مرات، وفي الجنة يرون ربهم أيضًا على حسب أعمالهم، منهم من يرى الله بكرة وعشيًّا، نسأل الله أن يؤتينا من فضله، على حسب الأعمال، فالله تعالى احتجب عن خلقه، «وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه».

فإذا كشفه رأوه، ففيه إثبات الرداء، والكبرياء، والوجه، والرؤية، رؤية الله يوم القيامة، أربع صفات، كما أن الحديث الآخر فيه أربع صفات: الكبر والرداء والعظمة والإزار، وهنا الرداء والكبر والوجه والرؤية، رؤية وجه ربهم U.

(المتن)

قال رحمه الله: فلله تعالى الكبرياء والعظمة الوصفان اللذان لا يقادر قدرهما، ولا يبلغ كنههما.

(الشرح)

يعني لا يستطيع أن يقدر هذين الوصفين (ولا يبلغ كنههما) يعني حقيقتهما، الكبرياء والعظمة وصفان عظيمان، لا يستطيع أحد أن يكيفهما، ولا أن يحيط بهما، ولا أن يقدر قدرهما.

(المتن)

قال: النوع الثاني من معاني عظمته تعالى: أنه لا يستحق أحد التعظيم من الخلق غيره تعالى، فيستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته، والذل له والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ومن تعظيمه وإجلاله أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه، بل يخضع لحكمته، وينقاد لحكمه.

(الشرح)

  • العظيم سبحانه وتعالى كما ذكروا له معنيان:

المعنى الأول: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال الذي وصفه به أكمله وأعظمه وأجله.

والثاني من معاني العظمة: أنه لا يستحق أحد التعظيم من الخلق غيره، (فيستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم).

(المتن)

قال رحمه الله:

وهو الجليل فكل أوصاف
 

 

الجلال له محققة بلا بطلان
 

وهو الجميل على الحقيقة كيف لا
 

 

وجمال سائر هذه الأكوان
 

من بعض آثار الجميل فربها
 

 

أولى وأجدر عند ذي العرفان
 

فجماله بالذات والأوصاف
 

 

والـأفعال والأسماء بالبرهان
 

لا شيء يشبه ذاته وصفاته
 

 

سبحانه عن إفك ذي بهتان
 

 

(الشرح)

  • هذه الأبيات ذكر فيها وصفين لله U:

الوصف الأول: اسمان: اسم الجليل، واسم الجميل، فالجليل من أسماء الله، ويعبد فيقال: عبد الجليل، والجميل من أسماء الله، عبد الجميل، فالجليل معناه أن صفاته كلها صفات جلال وعظمة، فله جميع أوصاف الجلال والعظمة، وهي أوصاف العظمة والكبرياء، الجليل الذي له أوصاف العظمة والكبرياء، هذه ثابتة لله، أوصاف العظمة والكبرياء، هذا اسم الجليل، الجليل الذي له جميع أوصاف الجلال والعظمة، فالجليل من أسماء الله.

والقاعدة أن الأسماء والصفات توقيفية، ما ورد في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات فإنه يثبت لله، وما لم يرد فلا، فالجليل هذا من الأسماء الواردة.

والثاني: الجميل، والجميل.. يقول: هو الجمال الحقيقي لله، وكل جميل من المخلوقات يستمد جماله من الله، الله هو الذي أعطاه الجمال، ولذلك الذي أعطاه الجمال هل يمكن أن يأخذ منه الجمال؟ لا، هو أجمل من كل شيء سبحانه وتعالى.

وجماله أنواع: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فله جمال الذات، وله جمال الصفات، وله جمال الأفعال، وله جمال الأسماء، سبحانه وتعالى، ولا يشبه أحدًا من خلقه في جماله، لا يشبه جمال ذاته ذات من الذوات، ولا يشبه جمال صفاته صفات المخلوقين، ولا يشبه جمال أفعاله أفعال المخلوقين، ولا يشبه جمال أسمائه أسماء المخلوقين.

فهذه الأبيات اشتملت على هذين الاسمين، ولهذا قال:

وهو الجليل فكل أوصاف
 

 

الجلال له محققة بلا بطلان
 

وهو الجميل على الحقيقة كيف لا
 

 

وجمال سائر هذه الأكوان
 

من بعض آثار الجميل فربها
 

 

أولى وأجدر عند ذي العرفان
 

 

هو الجميل على الحقيقة، وجمال المخلوقات من بعض آثار جماله، فالله أولى بها، فالله أولى بالجمال.

إذا كانت المخلوقات التي فيها جمال إنما جمالها من الله؛ فهو أولى بالجمال سبحانه وتعالى، ولهذا قال:

فجماله بالذات والأوصاف
 

 

والـأفعال والأسماء بالبرهان
 

 

ولا شيء من المخلوقات يشبه ذاته ولا صفاته ولا أفعاله ولا أسماءه، سبحانه: تنزيهًا لله عن إفك ذي بهتان، عن افترائه، الإفك أسوأ الكذب والافتراء.

(المتن)

قال رحمه الله:

يعني أن الله تعالى هو الجليل الذي له جميع أوصاف الجلال، وهي أوصاف العظمة والكبرياء، ثابتة لله محققة، لا يفوته منها وصف جلال وكمال. وكذلك هو الجميل بالذات والأوصاف والأفعال والأسماء، فإن ذاته تعالى لها من الجمال ما لا يمكن مخلوقًا أن يعبر عن بعض جماله، حتى أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم الذي لا يوصف، واللذات التي لا يقادر قدرها، والأفراح والسرور، إذا رأوا ربهم وتمتعوا بجماله نسوا ما هم فيه من النعيم.

(الشرح)

(نسُوا) هذا إذا كان يائيًّا (نسي) و(رضي) نقول: نسُوا ورضُوا، أما إذا كان معتلًّا بالألف؛ فإنه يُفتح ما قبلها، خشي يخشى يخشَوا، غزا غزَوا، أما إذا كان يائيًّا يضم ما قبلها، رضي رضُوا، عليَ علوا، وهكذا، هنا نسُوا لأنه يائي، يضم ما قبلها، ما قبل الواو، نسُوا، لا يقال: نسَوا؛ نسُوا.

(المتن)

قال: وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودوا أن لو تدوم لهم هذه الحال، واكتسوا.

(الشرح)

اكتسَى مثل يخشى، يخشى يخشَون، اكتسى اكتسَوا.

(المتن)

واكتسَوا من جماله جمالًا إلى جمالهم، وكانت قلوبهم دائمًا في شوق ونزوع إلى رؤية ربهم، حتى أنهم يفرحون بيوم المزيد فرحًا تكاد تطير له القلوب.

(الشرح)

وهو يوم جمعة بالنسبة لأهل الدنيا، يوم المزيد، أهل الجنة إذا كشف الرب الحجاب عن وجهه ونظروا إليه؛ نسوا ما هم فيه من النعيم، الجنة نعيم عظيم، ومع ذلك يأتيهم نعيم أعظم وأعظم، ينسون ما هم فيه من النعيم، حتى يتوارى عنهم، وتبقى بركته سبحانه وتعالى، ويودون أن لو استمروا.

(المتن)

قال: وكذلك هو الجميل في أسمائه.

(الشرح)

هذا الذي سبق جمال الذات، وهذا جمال الأسماء، انتقل إلى جمال الأسماء، هذا النوع الثاني، النوع الأول جمال الذات، هذا الثاني جمال الأسماء.

(المتن)

قال: وكذلك هو الجميل في أسمائه؛ لأن أسماءه كلها حسنى، بل هي أحسن الأسماء على الإطلاق وأجملها. قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف/180].

وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم/65]. ولهذا لا يسمى باسم محتمل لمدح وغيره، بل لا يسمى إلا بالأسماء الدالة على غاية المدح والحمد.

(الشرح)

مثل المتكلم والمريد، هذا محتمل للمدح، المتكلم قد يكون يتكلم بمدح، وقد يتكلم بذم، والمريد كذلك، ولهذا ليس من أسماء الله المتكلم، وليس من أسمائه المريد؛ لأنه محتمل للمدح وللذم، أسماء الله كلها مدح، العظيم، الجميل، السميع، البصير، أما مثلًا المريد، المتكلم، الشائي يعني الذي يشاء؛ كل هذه ليست من أسماء الله، وإنما يخبر عن الله بأنه مريد وبأنه متكلم، ولا يقال: هذا من أسمائه لِأَنَّهَا لَمْ ترد.

(المتن)

قال: وكذلك هو الجميل في أوصافه.

(الشرح)

هذا النوع الثالث من الجمال، النوع الأول: جمال الذات، والثاني: جمال الأسماء، والثالث: جمال الصفات، والرابع: جمال الأفعال.

(المتن)

قال: وكذلك هو الجميل في أوصافه، فإن أوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات وأعمها وأكثرها تعلقًا، خصوصًا أوصاف الرحمة والبر والإحسان والجود والكرم. وكذلك أفعاله تعالى كلها جميلة.

(الشرح)

هذا النوع الرابع، مرت علينا كلها، جمال الذات، وجمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، هذا النوع الرابع.

(المتن)

قال: وكذلك أفعاله تعالى كلها جميلة، فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويشكر ويثنى عليه بها، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها الحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا ظلم، بل كلها هدى ورحمة وعدل ورشد. {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}[هود/56].

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ص/27].

ثم استدل المصنف رحمه الله بدليل عقلي على جمال الباري، فقال: كيف لا، أي كيف لا يكون جميلًا والحال أن جمال جميع الأكوان من بعض آثار الجميل.

(الشرح)

يعني: قال: وهو الجميل على الحقيقة، كيف لا؟!، كيف لا يكون جميلًا وجمال سائر هذه الأكوان يعني المخلوقات من بعض آثار الجميل، فربها أولى وأجمل عِنْد ذي العرفان، فهو أولى بالجمال سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال: فربها الذي أعطاها الجمال أحق وأجدر منها بالجمال، فكل جمال في الدنيا والآخرة باطني وظاهري، مما تبهر له العقول، وتحير له الأفئدة، خصوصًا ما يعطى أهل الجنة في الجنة من الجمال، لهم ولنسائهم اللاتي لو بدا كف واحدة منهن إلى الدنيا لطمس نوره نور الشمس، كما تطمس الشمس ضوء النجوم، أليس الذي كساهم ذلك الجمال ومَنَّ عليهم بذلك الكمال أحق منهم به؟

(الشرح)

بلى، فهذا دليل عقلي، يعني الدليل العقلي: الذي أعطى الجمال أولى بالجمال، من الذي أعطى الجمال؟ هو الله، فهو أولى بالجميل من المخلوقات، فهذا دليل عقلي، ما هو الدليل العقلي؟ أن معطي الجمال أولى بالجمال، هذا الدليل العقلي.

(المتن)

قال: فهذا دليل عقلي واضح مسلم المقدمات على هذه المسألة العظيمة. قال تعالى: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ}[النحل/60].

(الشرح)

أي الوصف الكامل، المثل الأعلى هو الوصف الكامل.

(المتن)

أي كل ما وجد في المخلوقات من كمال لا يستلزم نقصًا فإن معطيه أحق به من المُعطَى، بما لا نسبة بينه وبينهم إلا كنسبة ذواتهم إلى ذاته، وصفاتهم إلى صفاته، فالذي أعطاهم السمع والبصر والعلم والقدرة والجمال والكمال أحق منهم بذلك، وكيف يعبر أحد عن جماله وقد قال أعلم الخلق به: «لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».

(الشرح)

أعلم الخلق به هو الرسول عليه الصلاة والسلام.

(المتن)

وقال: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

(الشرح)

وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري، والأول رواه مسلم من حديث عائشة.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ولهذا قال المؤلف: "لا شيء يشبه ذاته وصفاته" سبحانه، أي تنزه وتقدس، عن إفك ذي بهتان، أي كذب المفترين الذين لم يقدروا الله حق قدره، ولا عظموه حق عظمته، حين عطلوا أوصافه التي نطقت بها الكتب، وصرحت بها الرسل، وحسبهم خسارًا ومقتًا أن حرموا من الوصول إلى معرفته والابتهاج بمحبته.

وجمع المؤلف بين الجليل والجميل؛ لأن تمام التعبد لله هو التعبد لله بهذين الاسمين الكريمين، فالتعبد بالجليل يقتضي تعظيمه وخوفه وهيبته وإجلاله، والتعبد باسمه الجميل يقتضي محبته والتأله له، وأن يبذل له خالص المحبة وصفو الوداد، بحيث تسبح القلوب في رياض معرفته وميادين جماله، وتبتهج بما يحصل لها من آثار جماله وكماله، فإن الله ذو الجلال والإكرام.

وهو المجيد صفاته أوصاف تعظيم
 

 

فشأن الوصف أعظم شان
 

 

(الشرح)

المجيد من أسماء الله، إنك حميد مجيد، فمن أسماء الله الحميد والمجيد، والمجيد معناه: عظيم الصفات، واسع الصفات، ولهذا قال المؤلف: شأن الوصف أعظم شان، عظيم الصفات، واسع الصفات، كل وصف من أوصافه عظيم.

ذكر في هذا البيت اسمًا مشتملًا على العظمة، صفة العظمة، أن الله له العظمة في صفاته، ويعبد، يقال: عبد المجيد، من أسماء الله.

(المتن)

قال: يعني أن معنى اسمه "المجيد" أنه عظيم الصفات واسعها، فكل وصف من أوصافه فشأنه عظيم، فهو العليم الكامل في علمه، الرحيم الذي وسعته رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الحليم الكامل في حلمه.

قال المصنف رحمه الله في "بدائع الفوائد".

(الشرح)

"بدائع الفوائد" كتاب لابن القيم كما هو معلوم.

(المتن)

فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا.

(الشرح)

لفظ المجيد يدل على هذا، من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، واسع الصفات المجيد.

(المتن)

قال: ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة، فمنه: استمجد المرخ والعفار.

(الشرح)

يعني في اللغة العربية يقال: استمجد المرخ والعفار، المرخ والعفار من أنواع الشجر، وهما أخضران تستخرج منهما النَّارِ.

(المتن)

فمنه: استمجد المرخ والعفار، وأمجد الناقة علفًا، ومنه رب العرش المجيد، صفة للعرش لسعته وعظمته وشرفه، وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصلاة من الله على رسوله r، كما علمنا r يعني قوله: «اللهم صل على محمد، وبارك على محمد، إنك حميد مجيد».

(الشرح)

وهذا الحديث متفق عليه، وهو من حديث كامل  بْنِ عجرة وأبي حميد الساعدي.

(المتن)

قال: لأنه في مقام طلب المزيد، والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ولا يحسن: إنك أنت السميع البصير.

(الشرح)

يعني: الإنسان يتوسل إلى الله باسم يناسب حاجته، فإذا كنت حاجتك المغفرة فإنك تقول: اغفر لي، إنك أنت الغفور الرحيم، ولا تقول: اغفر لي، إنك أنت السميع البصير، وإذا كنت تريد الرزق؛ تقول: ارزقني، إنك أنت الرزاق، والتوبة: اللهم تب علي، إنك أنت التواب الرحيم، وإذا أردت أن تستنصر على من ظلمك؛ تقول: انصرني، إنك أنت القهار، وهكذا، تتوسل باسم يناسب حاجتك، كذلك إنك حميد مجيد، اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، فأنت تسأل ربك أن يجعل لأبيك من الفضل مثل ما لإبراهيم، فهذا يناسب (إنك حميد مجيد)؛ يعني: واسع العطاء، واسع العظمة، واسع الصفات؛ لأنه في مقام طلب المزيد.

(المتن)

قال رحمه الله: كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ولا يحسن: إنك أنت السميع البصير. فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه، ومنه الحديث الذي في المسند والترمذي: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام».

(الشرح)

يعني: أكثروا منها، يعني: توسلوا إلى الله بها، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، يا قريب يا مجيب، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وهكذا، تكثر من يا ذا الجلال والإكرام، تتوسل إلى الله بالدعاء.

(المتن)

ومنه: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام».

(الشرح)

وهذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس، كما ذكر المحقق.

(المتن)

قال: فهذا سؤال له، وتوسل إليه بحمده، وأنه لا إله إلا هو المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة، وأعظمه موقعًا عند المسئول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة، وقد فتح لمن بصره الله، انتهى كلامه.

(الشرح)

يعني كلام ابن القيم في "بدائع الفوائد"، نقف على هذا، على قوله: وهو السميع.

الآن مر معنا كم اسمًا من الأسماء؟ العلي، العظيم، المجيد، الجميل، والجليل، والأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والحي، والاستواء، والحنان، بلغت هذه الأسماء اثنا عشر أو ثلاثة عشر، وسيأتي إن شاء الله أيضًا أسماء كثيرة.

هذا فيه فوائد عظيمة، تعداد الأسماء، وبيان معانيها، كل هذا نوع من أنواع التوحيد، وهو إثبات الأسماء والصفات لله U.

وفق الله الجميع لطاعته، وثبت الله الجميع، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد