شعار الموقع

التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين 8

00:00
00:00
تحميل
19

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى أشرف الأنبياء والمرسلين نَبِيّنَا محمدٍ وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(المتن)

قَالَ العلامة ابْنُ سعدي رحمه الله تعالى:

ثُمَّ ذكر الأحكام والحكمة فَقَالَ: فصل

والحكمة العليا على نوعين أيـ
 

 

ـضًا حصلا بقواطع البرهان
 

إحداهما في خلقه سبحانه
 

 

نوعان أَيْضًا ليس يفترقان
 

أحكام هذا الخلق إذ إيجاده
 

 

في غاية الإحكام والإتقان
 

وصدوره من أجل غايات له
 

 

وله عليها حمد كل لسان
 

والحكمة الأخرى فحكمة شرعه
 

 

أَيْضًا وفيها ذانك الوصفان
 

غاياتها اللائي حمدن وكونها
 

 

في غاية الإحكام والإتقان
 

 

 (الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام عَلَى رسول الله وَعَلَى آله وصحبه ومن ولاه؛ أَمَّا بَعْد: ...

سبق الكلام في درس أمس عَنْ اسم الله الحكيم, وسبق أن أسماء الله مشتقة كُلّ اسم مشتمل عَلَى صفة من الصفات وليست جامدة, فالعليم مشتمل عَلَى صفة العلم, الرحيم مشتمل عَلَى صفة الرحمة, القدير مشتمل عَلَى صفة القدرة, السميع مشتمل عَلَى صفة السمع وهكذا.

ومن ذَلِكَ الحكيم مشتمل عَلَى صفة الحكم والحكمة, والحكم كما سبق بالأمس نوعان:

  1. حكم قدري كوني.
  2. وحكمٌ ديني شرعي.
  • والحكمة نوعان كما ذكرها في هَذَا الفصل:
  1. حكمةٌ في خلقه.
  2. وحكمةٌ في أمره.

الحكمة حكمة في خلقه يَعْنِي فيما خلقه في مخلوقاته, وحكمة في أمره يَعْنِي في شرعه, كُلّ ما شرعه, وكلٌ منهما تنقسم إِلَى قسمين, كلٌ منهما تتنوع إِلَى نوعين, فالحكمة في خلق الله سبحانه وتعالى تتنوع إِلَى نوعين:

النوع الأول: أَنَّهَا في غاية الإتقان, وغاية الكمال, كما قَالَ سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين/4].

وَقَالَ سبحانه وتعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}[الملك/3].

النوع الثاني: أن صدور هَذِهِ الحكمة من أجل غاية, غاية عظيمة وَهِيَ الاستدلال بها عَلَى أسماء الله وصفاته, هَذِهِ الحكمة هِيَ أَنَّهَا تدل عَلَى أسماء الله وصفاته, تدل عَلَى صفة الكمال وَعَلَى غاية الجمال والجلال, كما قَالَ سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق/12].

النوع الثالث: الحكمة في شرع الله, الحكمة في شرع الله ودينه تتنوع إِلَى نوعين:

الأول: أن الله شرع الشرائع لمصالح العباد, الأوامر والنواهي كلها لمصالح العباد, فما أمر الله بأمرٍ إِلَّا وَفِيهِ مصلحة خالصة أو مصلحة راجحة, وما نهى الله من نهي إِلَّا وَفِيهِ مفسدة خالصة أو مفسدة راجحة.

الثاني: أن الله تعالى شرع الشرائع ليبتلي العباد, ليتبين الصادق من الكاذب, والمؤمن من الكافر, والبر من الفاجر وليبتلي الله العباد بالجهاد في سبيله ويتخذ منهم شهداء إلى غير ذلك من المصالح, ولتتنور القلوب بمعرفته سبحانه وخشيته وتعظيمه, والألسنة بذكره سبحانه وتعالى والجوارح لخدمته.

سيبين في الشرح رحمه الله, ولهذا قَالَ المؤلف رحمه الله:

والحكمة العليا على نوعين أيـ
 

 

ـضًا حصلا بقواطع البرهان
 

 

 (إحداهما في خلقه سبحانه), الحكمة في خلق الله (نوعان أَيْضًا ليس يفترقان), ثُمَّ ذكر النوع الأول:

أحكام هذا الخلق إذ إيجاده
 

 

في غاية الإحكام والإتقان
 

 

هَذِهِ الحكمة الأولى: أن هَذَا الخلق الَّذِي خلقه في غاية الإحكام والإتقان, والثاني:

وصدوره من أجل غايات له
 

 

وله عليها حمد كل لسان
 

والحكمة الأخرى فحكمة شرعه
 

 

أَيْضًا وفيها ذانك الوصفان
 

غاياتها اللائي حمدن وكونها
 

 

في غاية الإحكام والإتقان
 

 

كونها في غاية الإحكام والإتقان وكونها لمصالح العباد, وكونها للابتلاء والاختبار.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: هَذَا النوع الثاني مِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ اسم الله الحكيم وَهُوَ أَنَّهُ له الحكمة التامة في خلقه وأمره, وحكمته علياء لا يشابهها شيء, فَلَيْسَ كمثله شيء في جميع نعوته الَّتِي من جملتها الحكمة, والحكمة في خلقه عَلَى نوعين:

أحدهما: أَنَّهُ أحكم جميع ما خلقه وأتقنه بأحسن خلق وأتم نظام.

لا يمكن أحدًا من الخلق أن يقترح أحسن منه ولا يرى فِيهِ عيبًا ولا عبثًا, فكُلّ ما خلقه فَهُوَ محكم متقن, لَمْ يخلق شيئًا عبثًا ولا خلق شيئًا معيبًا, قَالَ تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}[ص/27].

فهم الَّذِينَ يظنون بالله الظن السيئ, وَالَّذِي من جملته أَنَّهُ يخلق شيئًا لغير فائدة ولا مصلحة.

(الشرح)

هَذَا ظن الكفار, والظن السيئ من نواقض الإسلام, الظن السيئ بالله ورسوله من نواقض الإسلام, مثال ذَلِكَ: ظن المنافقين أن الله لا ينصر رسوله ودينه, وأن الله يدين الكفار عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إدانة مستمرة, وأن الإسلام ينتهي, هَذَا من الظن السيئ, ظن الكفر, {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص/27].

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[فصلت/23].

قَالَ تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}[الفتح/12].

هَذَا الظن السيئ, يظنون أن الله خلق شيئًا من غير فائدة ولا مصلحة, ويعترضون عَلَى الله, يَقُولُونَ: لماذا خلق الله الكلاب والخنازير والجعلان والخنافس وما أشبه ذَلِكَ؛ من جهلهم وضلالهم, جهلوا حكمة الله فطعنوا في خلقه.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وَقَالَ تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}[الحجر/85].

(الشرح)

وما بينهما, فَكُلُّ ما في الأرض وما بينهما من الدواب والحشرات كلها خلقت بِالْحَقِّ, كلها لحكم وأسرار.

(المتن)

وَقَالَ تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ}[السجدة/7].

وَقَالَ تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين/4].

وَقَالَ تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران/190].

ونحوها من الآيات الَّتِي يحث الله بها العباد إِلَى النظر والتفكر في المخلوقات؛ لاشتمالها عَلَى الحكم البالغة والنعم السابغة, وَأَنَّهَا سالمة من عبث وعيب.

قَالَ تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك/3-4].

(الشرح)

الشاهد قوله: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك/3]؛ ليس في خلق الله تفاوت, بَلْ خلق الله منتظم مستقيم, تام, حسن, معتدل, ليس فِيهِ تفاوت.

(المتن)

لَمْ يرى خللاً ولا نقصًا, بَلْ يرى جميع العالم عَلَى أتم نظام وأكمل خلق وأحسنه, فهذا نوع من أنواع الحكمة في الخلق.

(الشرح)

يَعْنِي لَمْ يرى الناظر, فالناظر لا يرى خللاً ولا نقصًا في خلق الله, ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.

(المتن)

بَلْ يرى جميع العالم عَلَى أتم نظام وأكمل خلقٍ وأحسنه, فهذا نوع من أنواع الحكمة في الخلق.

(الشرح)

هَذَا النوع الأول من أنواع الحكمة في الخلق؛ أن خلق الله في أحسن تقويم وأتم نظام وأكمل الخلق وأحسنه, هَذَا النوع الأول من الحكمة في خلق الله.

(المتن)

وَهُوَ أَنَّهَا كلها محكمة متقنة.

(الشرح)

هَذَا النوع الأول من أنواع الحكمة في الخلق هُوَ أَنَّهَا محكمة متقنة.

(المتن)

تشاهد حكمتها بالأبصار والبصائر, ويخفى أكثرها, فيستدل بما علم منها عَلَى ما لَمْ يعلم.

النوع الثاني: أَنَّهَا مخلوقة لغاية.

(الشرح)

النوع الثاني من الحكمة في الخلق, النوع الثاني من الحكمة في خلق الله, خلق الله فِيهِ نوعان من الحكمة, هَذَا النوع الثاني أَنَّهَا مخلوقة.

(المتن)

النوع الثاني: أَنَّهَا مخلوقة لغاية, ومقصودٌ بها مقصودٌ عظيم, فخلقها الله تعالى ليستدل بها العباد عَلَى ما لله من صفات الكمال وما له من جميل الفعال, وَهَذَا غايات يُحمد عليها؛ ليتضمنها ظهور آثار أسمائه وصفاته ومعرفة العباد لها.

(الشرح)

ومن الأدلة في ذَلِكَ قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}؛ ثُمَّ ذكر الحكمة فَقَالَ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق/12].

 {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }؛ ليعلم العباد أن الله عَلَى كُلّ شيء قدير وأن الله قَدْ أحاط بكل شيء علمًا, يعرفه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.

(المتن)

وَأَيْضًا خلق الله السموات والأرض وما بينهما بِالْحَقِّ, فَهِيَ مخلوقة بِالْحَقِّ وللحق, ومن ذَلِكَ أَنَّهُ ليجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته, وخلق الله المكلفين.

(الشرح)

قَالَ تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم/31]؛ هَذِهِ من الحكمة ذكره.

(المتن)

وخلق لله المكلفين ليعرفوه ويعبدوه ويطيعوه؛ لأجل أن يجازيهم بأعمالهم, قَالَ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات/56].

وَقَالَ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق/12].

ففي هاتين الآيتين الإخبار من أن الغاية لخلق السموات والأرض والجن والإنس وإنزال الشرائع عَلَى الأنبياء؛ لأجل أن يعرفوا الله بأسمائه وصفاته ويعبدوه بمقتضى ذَلِكَ.

(الشرح)

في هاتين الآيتين, يَعْنِي قول الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات/56].

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}[الطلاق/12].

ذكر الحكمة, الحكمة هِيَ من أجل أن يعرفوا الله بأسمائه وصفاته ويعبدوه بمقتضى ذَلِكَ, بمقتضى أسمائه وصفاته, مقتضى أَنَّهُ الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته مقتضى ذَلِكَ أن يُعبد وأن العبادة لا تكون إِلَّا لله, العبادة لا تكون إِلَّا للكامل, الكامل في أسمائه وصفاته, العبادة لا تكون إِلَّا للمنعم, فَهُوَ سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته, وَهُوَ المنعم المتفضل عَلَى عباده وَهُوَ المستحق للعبادة.

(المتن)

وَقَالَ تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة/36].

أيْ معطلاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب, فَإِن هَذَا ظنٌ فاسد؛ لِأَنَّهُ يتضمن العبث في أفعاله تعالى وَهُوَ منزه عَنْ ذَلِكَ.

(الشرح)

نعم {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة/36]؛ لو كَانَ الإنسان مخلوق سدى صار هَذَا عبث, خلقه عبث والله تعالى منزه عَنْ العبث, خلق الله العباد لماذا خلقهم؟ لو كَانَ خلقوا لغير العبادة لكان خلقهم عبث والله منزه عَنْ العبث؛ وَإِنَّمَا خلقوا لأمر عظيم, خلقوا لعبادته وليعرفوه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى, وليشكروه وليثنوا عَلَيْهِ ويعظموه سبحانه وتعالى.

(المتن)

ثُمَّ قرر ذَلِكَ بدليل عقلي فَقَالَ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة/37-40].

 فالذي نقل الإنسان بهذه الأطوار المتنوعة.

(الشرح)

من نطفة إِلَى علقة إِلَى مضغة إِلَى لحم وكسى العظام لحم, هَذِهِ أطوار.

(المتن)

حَتَّى أوصله إِلَى ما وصل إليه لا يليق بِهِ أن يهمله ويعطله عَنْ أمره ونهيه وثوابه وعقابه, ونظير هَذَا قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ}[المؤمنون/116].

أيْ تنزه عَنْ هَذَا الحسبان الباطل المنافي لملكه وحمده وكماله, ولهذا قَالَ: {الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون/116].

فَإِن الملك الْحَقّ لَابُدَّ أن يأمر وينهى ويثيب ويعاقب, ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته, وَقَالَ تعالى منزهًا نفسه عَنْ ظن من ظن أَنَّهُ يترك خلقه سدى؛ لا يرسل إليهم رسولًا ولا ينزل عَلَيْهِمْ كتابًا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام/91].

إِلَى غير ذَلِكَ من النصوص الدالة عَلَى هَذَا الأصل الكبير, وَهُوَ أن أفعاله تعالى كلها محكمةٌ متقنة, لا عيب فِيهَا ولا خلل, وَأَنَّهُ فعل ما فعل لغايات محمودة ومقاصد سديدة, ثُمَّ ذكر الحكمة الأخرى في شرعه وَأَنَّهَا عَلَى نوعين أَيْضًا.

(الشرح)

يَعْنِي الحكمة فيما شرع من الشرائع, ما الحكمة في إيجاد الخلق؟ ذكر حكمتين أولًا: أَنَّهَا في غاية الإحكام والإتقان. والثاني: أَنَّهَا طريق لمعرفة الله بأسمائه وصفاته ومقتضى ذَلِكَ عبادته سبحانه وتعالى.

 والنوع الثاني: الحكمة في شرعه ودينه, وفيما شرعه, أولًا: أن شرعه في أحسن نظام وأحسن ترتيب, وثانيًا: أن هَذِهِ الشرائع لمصالح العباد, ودفع المفاسد عنهم, وَأَنَّهُ سبحانه شرع الشرائع لابتلاء العباد واختبارهم ليتبين المطيع من العاصي ولتتنور القلوب بمعرفته والألسن بذكره والجوارح بخدمته سبحانه, هَذِهِ الحكمة في الشرع والدين.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ثُمَّ ذكر الحكمة الأخرى في شرعه وَأَنَّهَا عَلَى نوعين أَيْضًا:

أحدهما: أَنَّهَا في غاية الإحكام والإتقان, ويكفي في هَذَا الموضع معرفة القاعدة العامة, وَهِيَ أن الأوامر والنواهي تبعٌ للمصالح والمنافع فعلاً وتركًا, فَكُلُّ أمرٍ مشتمل عَلَى المصلحة الخالصة أو المصلحة الراجحة؛ فَإِنَّهُ مأمور بِهِ, وَكُلّ أمر مشتمل عَلَى مفسدة خالصة أو راجحة فَإِنَّهُ منهيٌ عنه, ويدل عَلَى هَذَا قوله تعالى في وصف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[الأعراف/157].

فالمعروف الَّذِي يأمر بِهِ هُوَ ما عرف حسنه شرعًا وعقلاً, وذلك ما ترجحت مصلحته, وفائدته في القلب والبدن والدنيا والآخرة, والمنكر الَّذِي ينهى عنه هُوَ ما عرف قبحه شرعًا وعقلاً, وذلك ما ترجحت مضرته في الدنيا والآخرة والقلب والبدن.

والطيبات الَّتِي أحلها كُلّ مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وصفه الطيب, والمنفعة الَّتِي يضطر أو يحتاج إليها, والخبيثات الَّتِي حرمها ضد ذَلِكَ.

وَقَالَ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة/2].

فالبر والتقوى الَّذِي أمر الله بفعله والتعاون عَلَيْهِ كُلّ عمل صالح وخلق فاضل وفعل رشيد وقول سديد.

(الشرح)

هَذَا البر والتقوى يشمل الأقوال والأفعال, فالبر والتقوى الَّذِي أمر الله بفعله.

(المتن)

فالبر والتقوى الَّذِي أمر الله بفعله والتعاون عَلَيْهِ كُلّ عمل صالح وخلق فاضل وفعل رشيد وقول سديد, من الإخلاص لله تعالى وَالصِّدْق وحسن الخلق وصلة الأرحام, وبر الوالدين والإحسان إِلَى عموم الخلق والعدل بينهم وسلامة الصدر والنصح للخلق والتأدب بالآداب الحسنة والرفق واللين والسماحة وغير ذَلِكَ مِمَّا حث الشرع عَلَيْهِ.

وضد ذَلِكَ النهي عَنْ الكبر والتجبر عَلَى الخلق والكذب والرياء وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام, وظلم الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم, وسوء الخلق وغير ذَلِكَ من مساوئ الأخلاق.

ومن أحكام الْأَمْرِ والنهي أن شريعة نَبِيّنَا محمد صلى الله عليه وسلم صالحة لكل زمان ومكان, فَكُلُّ وقت ومحل يحتاج إليها فِيهِ ؛ بَلْ لا تصلح.

(الشرح)

يَعْنِي كُلّ وقت وَكُلّ مكان, كُلّ زمان ومكان يحتاج إِلَى الشريعة فِيهِ, ما في زمان إِلَّا وَهُوَ بحاجة الشريعة, وما في مكان إِلَّا وَهُوَ بحاجة إِلَى الشريعة, أيْ مكان محتاج إِلَى الشريعة, أيْ مكان تحله من الدنيا يحتاج إِلَى الشريعة, وأي زمن يمر عليك محتاج إِلَى العمل بالشريعة, الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.

(المتن)

فَكُلُّ وقتٍ ومحلٍ يحتاج إليها فِيهِ, بَلْ لا تصلح الدنيا والآخرة إِلَّا بالعمل بها, ولهذا كانت من أعظم الأدلة عَلَى كمال من أنزلها وعلمه وحكمته وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم, ولهذا كَانَ خاتم الأنبياء, فلا نبي بعده, قَالَ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة/3].

(الشرح)

هَذَا النوع الأول من الحكمة في شرع الله, أن الله شرعها لمصالح العبادة وَأَنَّهَا صالحة لكل زمان ومكان.

(المتن)

النوع الثاني من حكمة الْأَمْرِ: أن الله أمر ونهى وشرع الشرائع ليبتلي عباده, المطيع منهم والعاصي, والصادق والكاذب, وليقوم سوق الجهاد, والعبادات الَّتِي يحبها ويرضاها, ولتتنور القلوب بمعرفته والألسنة بذكره, والأعضاء بطاعته, وليثيب المطيعين من فضله وكرمه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر عَلَى قلب بشر.

وليتم عَلَيْهِمْ فضله وإحسانه, إِلَى غير ذَلِكَ من الغايات والحكم الَّتِي شرع الله الشرائع لأجلها.

(الشرح)

هَذِهِ الحكمة الثانية أن الله شرع لابتلاء العباد, يبتلي ويختبر, {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك/2].

وليأخذ كُلّ عضو من أعضاء الإنسان حظه من العبادة, القلب الخشية والتعظيم والإجلال والنية والإخلاص, وَالصِّدْق والرغبة والرهبة, ويتنور القلب بمحبة الله وذكره والأنس بِهِ, والألسنة تلهج بذكره وتسبيحه وتقديسه وتلاوة كتابه, والأعضاء لخدمته سبحانه وتعالى بالعبادات المتنوعة.

(المتن)

قَالَ المصنف رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد:

فتأمل أسرار كلام رب العالمين.

(الشرح)

المراد كتاب لابن القيم رحمه الله, المصنف هُوَ صاحب " الكافية الشافية " في النونية, وَهُوَ صاحب كتاب " بدائع الفوائد " هُوَ ابْنُ القيم.

(المتن)

فتأمل أسرار كلام رب العالمين وما تضمنته آيات الكتاب المجيد من الحكمة البالغة الشاهدة بأنه كلام رب العالمين والشاهدة لرسوله بأنه الصادق المصدوق وهذا كله من مقتضى حكمته وحمده تعالى وهو معنى كونه خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق ولم يخلق ذلك باطلا بل خلقه خلقا صادرا عن الحق آيلا إلى الحق مشتملاً على الحق فالحق سابق لخلقها مقارن له غاية له.

(الشرح)

يَعْنِي الْحَقّ مستمر, الْحَقّ سابق لخلق المخلوقات, وَالْحَقّ مقارنٌ لخلق المخلوقات, وَالْحَقّ غايةٌ لخلق المخلوقات فالحق مستمر, خلق الله الخلق بِالْحَقِّ وَالْحَقّ مستمر, والغاية منها الْحَقّ أَيْضًا.

(المتن)

 قال رحمه الله: ولهذا أتى بالباء الدالة على هذا المعنى.

(الشرح)

خلق السموات والأرض بِالْحَقِّ, وَلَمْ يقال: للحق, أتى بالباء وَلَمْ يأت باللام, {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية/22].

بين الله الحكمة من خلق السموات قَالَ:{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية/22]؛ إذًا خلق السموات والأرض خلقتا بِالْحَقِّ ولمجازاة كُلّ نفس بما عملت.

(المتن)

 ولهذا أتى بالباء الدالة على هذا المعنى دون اللام المفيدة لمعنى الغاية وحدها فالباء مفيدة معنى اشتمال خلقها على الحق السابق والمقارن والغاية.

(الشرح)

يشير إِلَى قوله تعالى: :{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية/22]؛ فالباء تفيد اشتمالها عَلَى الْحَقّ السابق والمقارن والغاية, يَعْنِي الْحَقّ سابق لخلق السموات والأرض, وَالْحَقّ مقارن لخلق السموات والأرض, وَالْحَقّ غاية من خلق السموات والأرض.

(المتن)

فالحق السابق صدور ذلك عن علمه وحكمته, فمصدر خلقه تعالى وأمره عن كمال علمه وحكمته.

(الشرح)

هَذَا الْحَقّ السابق لخلق السموات والأرض, يَعْنِي قبل خلق السموات والأرض الله تعالى, صدر خلق السموات والأرض عَنْ كمال علمه وحكمته, وَهَذَا حَقّ, فالحق إذًا سابق لخلق السموات والأرض.

(المتن)

قال رحمه الله: وبكمال هاتين الصفتين يكون المفعول الصادر عن الموصوف بهما.

(الشرح)

وبكمال هاتين الصفتين يَعْنِي العلم والحكمة.

(المتن)

 حكمه كله ومصلحة وحقًا ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}[النمل/6].

(الشرح)

نعم كمال هاتين الصفتين يَعْنِي العلم والحكمة يكون المفعول الصادر عَنْ الموصوف بهما, حكمةً كلية ومصلحةً وحق.

(المتن)

فأخبر عن مصدر المتلقي عن علم المتكلم وحكمته وما كان كذلك كان صدقًا وعدلًا وهدًى ورشادًا.

(الشرح)

المتلقي هُوَ الرسول عَلَيْهِ الصلاة والسلام, المتلقي عَنْ الله, عَنْ علم المتكلم وحكمته وَهُوَ الله, إذًا المتلقي هُوَ الرسول, وعلم المتكلم وحكمته هُوَ الله سبحانه وتعالى, {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى}؛ يَعْنِي يا محمد {الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}[النمل/6]؛ وَهُوَ الله سبحانه وتعالى.

(المتن)

 قال رحمه الله تعالى: وكذلك قالت الملائكة لامرأة إبراهيم حين قالت: أألد وأنا عجوز عقيم {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}[الذاريات/30].

وهذا راجع إلى قوله وخلقه وهو خلق الولد لهما على الكبر, وأما مقارنة الحق لهذه المخلوقات فهو ما اشتملت عليه من الحكم والمصالح والمنافع, والآيات الدالة للعباد على إلاههم ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله, وأن لقاءه حق لا ريب فِيهِ, ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة بِذَلِكَ, بل شهادتها أتم من شهادة الخبر المجرد؛ لأنها شهادة حال لا تقبل كذبًا, فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقًا حق تأمله إلا وجده شاهدا دالا على فاطره وبارئه وعلى وحدانيته, وعلى كمال صفاته وأسمائه, وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق لا ريب فِيهِ.

وهذه طريقة القرآن في إرشاد الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالها على إثبات الصانع.

(الشرح)

الصانع هُوَ الله وَهَذَا من باب الخبر ليس الصانع من أسماء الله؛ لَكِن هَذَا من باب الخبر, قَالَ تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل/88].

 فهذا من باب الخبر والقاعدة عِنْد أهل العلم أن باب الخبر أوسع من باب التسمي, فالأسماء والصفات توقيفية, لا يسمى الله إِلَّا بما سمى بِهِ نفسه أو وصفه بِهِ رسوله, يَعْنِي يثبت اسم لله إِلَّا إِذَا أطلق عَلَى الله, إطلاق مثل هُوَ السميع البصير, إن الله شاكر عليم.

أَمَّا إِذَا لَمْ يطلق أخبر من باب الخبر فهذا لا يسمى اسم, مثل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل/88]؛ فَلَمَّا نقول: الصانع هَذَا من باب الخبر لا من باب الاسم, يخبر عَنْ الله أَنَّهُ صانع, كما يخبر عَنْ الله أَنَّهُ ذات, ويخبر عَنْ الله بأنه شخص, «لا شخص أغير من الله», كما في الحديث.

ويخبر عَنْ الله بأنه موجود, ما يقال من أسماء الله الموجود, ولا يقال من أسمائه الشخص, أو الذات, أو الصانع, هَذَا كله من باب الخبر, والقاعدة عِنْد أهل العلم: أن باب الخبر أوسع من باب التسمي.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وهذه طريقة القرآن في إرشاد الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالها على إثبات الصانع, وعلى التوحيد والمعاد والنبوات, فمرة يخبر أنه لم يخلق خلقه باطلا ًولا عبثًا ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما أخبرت.

(الشرح)

(فمرة يخبر أنه لم يخلق خلقه باطلا ً), يشير إِلَى قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}[ص/27].

ومرةً يخبر أَنَّهُ خلقهم بِالْحَقِّ, قَالَ تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}[الزمر/5].

(المتن)

ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما أخبرت به رسله؛ حَتَّى يبين لهم أن الرسل إنما جاؤوهم بما يشاهدون أدلة صدقة, وبما لو تأملوه لرأوه مركوزًا في فطرهم مستقرًا في عقولهم, وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به عنه رسله من أسمائه وصفاته وتوحيده؛ ولقائه ووجود ملائكته, وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان, إِنَّمَا يفتحه الله على من سبقت له من الله سابقة السعادة وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار.

(الشرح)

أشرف علم يناله في الدنيا ما هُوَ؟ الاستدلال بأصناف المخلوقات عَلَى إثبات الخالق وَعَلَى التوحيد وَعَلَى المعاد وَعَلَى النبوات, هَذَا أشرف علم, وأن ما يشاهدونه من مخلوقات شاهد بما أخبرت بِهِ عنه رسله من أسمائه وصفاته, وتوحيده, ولقائه ووجود ملائكته, الاستدلال بمخلوقات عَلَى أسماء الله وصفاته, وَعَلَى صدق ما أخبرت بِهِ رسله من أسمائه وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته, هَذَا أشرف علم, أشرف علم أن تستدل بمخلوقات الله عَلَى ما أخبرت بِهِ الرسل من أسماء الله وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وقد بينت في موضع آخر أن كل حركة تشاهد عَلَى اختلاف أنواعها فهي دالة على التوحيد والنبوات والمعاد, وطريق سهلة واضحة برهانية, وكذلك ذكرت في رسالة إلى بعض الأصحاب بدليل واضح أن الروح مركوزٌ في أصل فطرتها وخلقها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله, وأن الإنسان لو استقصى التفتيش لوجد ذلك مركوزًا في نفس روحه وذاته وفطرته.

(الشرح)

الله أكبر! المؤلف كتب رسالة في هَذَا لبعض الأصحاب يبين أن الروح, روح الإنسان مركوز في أصل فطرتها وخلقها الشهادتان, شهادة ألا إله إِلَّا الله وأن محمد رسول الله, هَذَا مركوز في أصل فطرتها وخلقها, الروح مركوز في أصل فطرتها الشهادتان وأن الإنسان لو استقصى التفتيش لوجد ذَلِكَ مركوزًا في نفس روحه وذاته وفطرته.

(المتن)

 فلو تأمل العاقل الروح وحركتها فقط لاستخرج منها الإيمان بالله تعالى وصفاته والشهادة بأنه لا إله إلا هُوَ, والإيمان برسله وملائكته ولقائه, وإنما يصدق بهذا من أشرقت شمس الهداية على أفق قلبه, وانجابت عنه سحائب غيه وانكشف عن قلبه حجاب {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف/22].

(الشرح)

هَذَا قول الكفار الَّذِي يتبعون آبائهم وأجدادهم في الباطل, يلغون عقولهم ويصمون آذانهم ويغمضون أعينهم, ولا يرون الْحَقّ, هم مقلدون تقليدًا باطلاً, هَذَا الَّذِي عَلَى قلبه الحجاب واتباع الآباء في الباطل, هَذَا ما كشف الحجاب عنه ما رأى النور, هَذَا الَّذِي يبصر أشرقت شمس الهداية عَلَى قلبه, وَأَمَّا الَّذِي عَلَى قلبه حجاب اتباع الآباء والأجداد في الباطل والتقليد في الباطل؛ فهذا ما انجابت عنه سحائب الظلمات.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: فهنالك يبدو له سر طال عنه اكتتامه ويلوح له صباح هو ليله وظلامه فقف الآن عند كل كلمة من قوله تعالى.

(الشرح)

قف الآن عَلَى كُلّ كلمة واستدل بها, من قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الجاثية/3]؛ السموات والأرض فِيهَا آيات.

{وَفِي خَلْقِكُمْ}؛ آيات {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ}؛ أَيْضًا آيات, واختلاف الليل والنهار فِيهِ آيات, {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ فِيهِ آيات {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}؛ فِيهِ آيات, وَفِيهَا آية البر {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}[البقرة/177]؛ أَيْضًا فِيهَا خصال التقوى.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: فقف الآن على كل كلمة من قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3 - 5].

ثم تأمل وجه كونها آية وعلى ماذا جعلت آية أعلى مطلوب واحد أم مطالب متعددة؟ وكذلك سائر ما في القرآن الكريم من هذا النمط كآخر آل عمران, وقوله في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِه} إلى آخرها وقوله في سورة النمل: {قل الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}[البقرة/132]. إلى آخر الآيات وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن الكريم وكقوله في سورة الذاريات {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ[الذاريات/20-21]. {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف/105].

(الشرح)

وكأين أيْ من التكثير يَعْنِي الكثير من الآيات في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون, قوله: (وعلى ماذا جعلت آية أعلى مطلوب واحد أم مطالب متعددة؟), جعلت آية عَلَى وحدانية الله واستحقاقه للعبادة, المطلوب واحد وَهُوَ عبادة الله وإخلاص الدين له.

(المتن)

فهذا كله من الحق الذي خلقت به السموات والأرض وما بينهما وهو حق مقارن لوجود هذه المخلوقات, مسطور في صحائفها يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب كما قيل:

تأمل سطور الكائنات فإنها
 

 

من الملك الأعلى إليك رسائل
 

وقد خط فيها لو تأملت خطها
 

 

ألا كل شيء ما خلا الله باطل
 

 

وأما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد.

(الشرح)

(تأمل سطور الكائنات فإنها), المخلوقات تأمل ما فِيهَا من الحكم (فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل), فالكائنات رسائل من الملك الأعلى وَهُوَ الله, رسالة إليك لتستدل بها عَلَى قدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة, ولتعرفه بأسمائه وصفاته.

يَقُولُ: (تأمل سطور الكائنات), وَهِيَ المخلوقات كأن فِيهَا سطور, تأملها وتجد ذلك مركوز في قلبك وفي روحك, تأمل سطور الكائنات (فإنها من الملك الأعلى)؛ وهو الله (إليك رسائل), رسالة, السموات والأرض رسالة إليك؛ لتعرف الله بأسمائه وصفاته, ولتعلم أن الله عَلَى كُلّ شيء قدير, ولتعظمه سبحانه, ولتعلم أَنَّهُ المستحق للعبادة, فَهِيَ رسائل تأمل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل.

وقد خط فيها لو تأملت خطها
 

 

ألا كل شيء ما خلا الله باطل
 

 

لو تأملت الخط لو تأملته بقلبك لوجدت ألا كُلّ شيء ما خلا الله باطل.

(المتن)

وأما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد, وغاية تراد بهم فالتي تراد منهم أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله تعالى, وأن يعبدوه لا يشركون به شيئًا فيكون هو وحده إلههم ومعبودهم ومطاعهم ومحبوبهم؛ قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}[الطلاق/12].

(الشرح)

الْحَقّ الَّذِي يراد من العباد أن يعرفوا الله بأسمائه وصفاته وأن يعبدوه ولا يشركوا بِهِ شيئًا, أن يكون وحده إلههم ومعبودهم ومطاعهم ومحبوبهم.

(المتن)

فأخبر أنه خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته وإحاطة علمه وذلك يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات/56]. فهذه الغاية هي المرادة من العباد.

(الشرح)

الغاية المرادة من العباد وَهِيَ عبادته وحده وإخلاص الدين له, أخبر أَنَّهُ خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته وإحاطة علمه وذلك يستلزم معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده, والغاية من خلق الجن والإنس هِيَ المرادة في هَذِهِ الآية, {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات/56].

(المتن)

وهي أن يعرفوا ربهم ويعبدوه وحده.

(الشرح)

يعرفوه بأسمائه وصفاته وَهَذَا يكون فِيهِ توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات, توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هذان النوعان وسيلة إِلَى التوحيد الأعظم وهو عبادته سبحانه وتعالى, فتوحيد الربوبية والأسماء والصفات وسيلة إِلَى توحيد العبادة والألوهية.

(المتن)

فأما الغاية المرادة بهم فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم/31].

(الشرح)

الجزاء بالعدل هَذَا للكفار والجزاء بالفضل للمؤمنين.

(المتن)

قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه/15].

وقال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}[النحل/39].

وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[يونس/3].

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس/4].

فتأمل الآن كيف اشتمل خلق السموات والأرض وما بينهما على الحق أولًا و آخرًا ووسطًا, وأنها خلقت بالحق وللحق وشاهدة بالحق وقد أنكر تعالى على من زعم خلاف ذلك فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون/115].

(الشرح)

المؤلف يَقُولُ: تأمل ما اشتملت عَلَيْهِ السموات والأرض وما بينهما من الحكم والأسرار, وَأَنَّهَا خلقت بِالْحَقِّ وخلقت للحق وشاهدة بِالْحَقِّ, خلقت بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهَا صادرة عَنْ علم الله وحكمته, وللحق لِأَنَّهُ يستدل بها عَلَى أسمائه وصفاته وَعَلَى معرفته, وشاهدةٌ بِالْحَقِّ, وجودها شاهد بِالْحَقِّ, وَكُلّ شيء له آية تدل عَلَى أَنَّهُ واحد.

(المتن)

وقد أنكر تعالى على من زعم خلاف ذلك فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون/115].

ثُمَّ نزه نفسه عن هذا الحسبان المضاد لحكمته وعلمه وحمده فَقَالَ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون/116].

وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من إبطال هذا الحسبان الذي ظنه أعداؤه إذ هو مناف لكمال ملكه ولكونه الْحَقّ, إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي.

(الشرح)

(وتأمل ما في هذين الاسمين), أيْ الاسمين؟ هما الملك الْحَقّ, (من إبطال هَذَا الحسبان), ما هُوَ الحسبان؟ الَّذِي حسبه المشركون{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون/115].

اللي ظنه أعدائه؛ لِأَنَّهُ منافي لكمال ملكه, ولكونه الْحَقّ, لا يمكن أن يخلق خلقًا عبثًا, الملك الْحَقّ هُوَ الَّذِي يأمر وينهى ويتصرف في ملكه بقوله وأمره, وَهَذَا هو الفرق بين الملك والمالك.

(المتن)

وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من إبطال هذا الحسبان الذي ظنه أعداؤه إذ هو مناف لكمال ملكه ولكونه الْحَقّ, إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي, فيتصرف في خلقه بقوله وأمره وهذا هو الفرق بين الملك والمالك.

(الشرح)

الملك والمالك فرق بينهما, وقراءة مالك يوم الدين, قراءتان: ملك يوم الدين, ومالك يوم الدين, قراءتان في أول الفاتحة, الملك الَّذِي يملك أنت تملك الدابة وتملك كذا وتلك عقار, أَمَّا المالك فَهُوَ المتصرف, أو بالعكس, المالك الَّذِي يملك الشيء, أنت مالك لأي شيء؟ مالك لسياراتك مالك لدارك, مالك أنت, لَكِن ليست ملك, أَمَّا الملك هُوَ الَّذِي يتصرف يأمر وينهى, يصدر أوامر ومراسيم ملكية مثلاً, أو رئاسية هَذَا يقال له ملك.

أَمَّا المالك يملك أشياء, أشياء تخصه, تملك البيت تملك الدار تملك الدابة, تملك مزرعة مالك, أَمَّا الملك غير الملك هُوَ الَّذِي يتصرف يأمر وينهى, ولهذا قَالَ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون/116].

(المتن)

وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من إبطال هذا الحسبان.

(الشرح)

ما هُوَ الحسبان؟{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}[المؤمنون/115]؛ هَذَيْنِ الاسمين يبطلان هَذَا الحسبان الفاسد, {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}؛ لا يمكن أن يخلق الله الخلق عبثًا, هَذَا بحث الحكيم من أحسن البحوث, بحث في أسرار أسماء الله وصفاته, فهذا هُوَ الفقه الأكبر, الفقه الأكبر هُوَ الفقه في أسماء الله وصفاته في حكمة الأشياء, والفقه الأصغر هُوَ الفقه في أحكام العبادات والمعاملات, الطهارة والصلاة والصيام هَذَا الفقه الأصغر, وَأَمَّا الفقه الأكبر هُوَ الفقه في العقيدة في أسماء الله وصفاته, ولهذا لما كتب الإمام أبو حنيفة رحمه الله بحثًا ورسالة في أصول الدين سماها " الفقه الأكبر ".

(المتن)

 وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من إبطال هذا الحسبان؛ الَّذِي ظنه أعداؤه إذ هو مناف لكمال ملكه ولكونه الْحَقّ, إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي, فيتصرف في ملكه بقوله وأمره وهذا هو الفرق بين الملك والمالك.

إذ المالك هو المتصرف بفعله والملك هو المتصرف بفعله وأمره والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره.

(الشرح)

المالك يتصرف بفعله فقط يفعل ويتصرف, والملك يتصرف بأمره وفعله, يأمر غيره وينتهي, والرب مالك وملك, هُوَ يتصرف في فعله وأمره.

(المتن)

 فمن ظن أنه خلق خلقه عبثا لم يأمرهم ولم ينههم فقد طعن في ملكه ولم يقدره حق قدره كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام/91].

ومن جحد شرع الله وأمره ونهيه وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة فقد طعن في ملك الله ولم يقدره حق قدره.

(الشرح)

(فمن جحد شرع الله وأمره ونهيه), معناه جعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة, لا يؤمرون ولا ينهون ولا يكلفون, هَذَا طعن في ملك الله, ولذلك الكفار والمنافقون هكذا يطعنون في حكمة الله ولا يلتزمون بالشرع.

(المتن)

وكذلك قوله الحق يقتضي كمال ذاته وصفاته وأسمائه ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها, فكما أن ذاته الحق فقوله الحق ووعده الحق وأمره الحق وأفعاله كلها حَقّ.

(الشرح)

ذاته سبحانه هُوَ الْحَقّ, وقوله الْحَقّ, ووصفه الْحَقّ, فالله تعالى ذاته الْحَقّ, وقوله الْحَقّ, وصفاته الْحَقّ, وأفعاله كلها حَقّ, وشرائعه كلها حَقّ.

(المتن)

 وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه ولليوم الآخر حق فمن أنكر شيئًا من ذَلِكَ؛ فما وصف الله بأنه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار, فكونه حقًا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه, فكيف يُظَن بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثًا أو يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة/36].

قال الشافعي رحمه الله تعالى: "مهملاً لا يؤمر ولا ينهى".

(الشرح)

(مهملاً لا يؤمر ولا ينهى), تفسير لقوله: (سدى), الشافعي رحمه الله يفسر قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة/36].

يَعْنِي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى؟ هَذَا حسبان باطل, {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص/27].

يظن الإنسان أَنَّهُ مهمل لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف ولا يثاب ولا يعاقب في الآخرة, هَذَا حسبان باطل {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص/27].

(المتن)

قال الشافعي رحمه الله: "مهملاً لا يؤمر ولا ينهى" وقال غيره: "لا يجزي بالخير والشر ولا يثاب ولا يعاقب" والقولان متلازمان, فالشافعي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب وهو الأمر والنهي, والآخر ذكر غاية الأمر والنهي وهو الثواب والعقاب.

(الشرح)

يَعْنِي فسرت الآية بتفسيرين: فسرت بالسبب وفسرت بالغاية, الشافعي فسرها بالسبب{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة/36].

يَعْنِي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى هَذَا السبب, وغيره قَالَ: " لا يجازى بالخير ولا بالشر " هَذَا غاية, السبب يؤمر الإنسان وينهى, ثُمَّ الغاية من الْأَمْرِ والنهي الثواب والعقاب.

(المتن)

وهو الأمر والنهي, والآخر ذكر غاية الأمر والنهي وهو الثواب والعقاب, ثم تأمل قوله تعالى بعد ذلك: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى}[القيامة/38].

فمن لم يتركه وهو نطفة سدى بل قلب النطفة وصرَّفها حتى صارت أكمل مما هي وهي العلقة, ثم قلب العلقة حتى صارت أكمل مما هي حتى خلقها فسوى خلقها؛ فدبرها بتصريفه وحكمته في أطوار.

(الشرح)

قَالَ: نطفة ثُمَّ علقة يَعْنِي قطعة دم, الأول نطفة قطرة ماء مني, ثُمَّ تتحول بَعْدَ أربعين يومًا إِلَى علقة تكون دم, فالأول كانت قطرة ماء مني أبيض ثُمَّ تحولت إِلَى قطعة دم, ثُمَّ تتحول إِلَى مضغة بقدر ما يمضغ في الفم.

(المتن)

فدبرها بتصريفه وحكمته في أطوار كمالاتها حتى انتهى كمالها بشرًا سويا فكيف يتركه سدى لا يسوقه إلى غاية كماله الذي خلق له.

فإذا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدئها إلى منتهاها دلته عَلَى المعاد والنبوات كما دلته على إثبات الصانع وتوحيده وصفات كماله.

(الشرح)

الله أكبر أحوال النطفة فقط وحدها (إِذَا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدئها إلى منتهاها دلته عَلَى المعاد), يَعْنِي البعث والنبوات (والنبوات كما تدله على إثبات الصانع), الصانع خبر عَنْ الله (وتوحيده وصفات كماله).

إِذا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدأها إِلَى منتهاها يَدُلّ عَلَى البعث والنبوات, كما يَدُلّ عَلَى إثبات وجود الله وتوحيده وصفات كماله.

(المتن)

 فكما تدل أحوال النطفة من مبدئها إلى غايتها على كمال قدرة فاطر الإنسان وبارئه, فكذلك تدل على كمال حكمته وعلمه وملكه وأنه الملك الحق المتعالي عن أن يخلقها عبثًا أو يتركها سدى بعد كمال خلقها.

(الشرح)

شوف الآن النطفة فقط تأمل نطفة من أولها إِلَى منتهاها تدلك عَلَى البعث وَعَلَى المعاد وَعَلَى وجود الخالق, وَعَلَى توحيده وصفات كماله.

(المتن)

 قال رحمه الله تعالى: وتأمل كيف لما زعم أعداؤه الكافرون أنه لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله وأنه لا يبعثهم للثواب والعقاب, كيف كان هذا الزعم منهم قولًا بأن خلق السموات والأرض باطل فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص/27].

(الشرح)

يَعْنِي لما زعم الكفار أن الله لَمْ يأمرهم وَلَمْ ينهاهم وَأَنَّهُ لا يبعثهم للثواب والعقاب كَانَ هَذَا زعمًا منهم بأن خلق السموات باطل وَأَنَّهُ عبث تعالى الله.

(المتن)

فلما ظن أعداؤه أنه لم يرسل إليهم رسولًا, ولم يجعل لهم أجلاً للقائه كان ذلك ظنًا منهم أنه خلق خلقه باطلاً, ولهذا أثنى على عباده المتفكرين في مخلوقاته بأنهم أوصلهم فكرهم فيها إلى شهادتهم بأنه تعالى لم يخلقها باطلاً, وأنهم لما علموا ذلك وشهدوا به علموا أن خلقها يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه.

(الشرح)

هؤلاء المؤمنون وَهُوَ عكس ظن أعدائه, أثنى الله عَلَى عباده المتفكرين, حيث أن تفكرهم في مخلوقات الله أوصلهم إِلَى شهادتهم لله تعالى أَنَّهُ لَمْ يخلقها باطلاً, وَأَنَّهُمْ لما علموا ذَلِكَ وشهدوا علموا أن خلقها يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه فذكروا في دعائهم.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: فذكروا في دعائهم هذين الأمرين فقالوا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[آل عمران/191-192].

فلما علموا أن خلق السموات والأرض يستلزم الثواب والعقاب تعوذوا بالله من عقابه ثم ذكروا الإيمان الذي أوقعهم عليه فكرهم في خلق السموات والأرض فقالوا {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}[آل عمران/193].

(الشرح)

الْمُؤْمِنِينَ لما علموا أن خلق السموات والأرض يستلزم الثواب والعقاب تعوذوا بالله من عقابه, ثُمَّ ذكروا أن الإيمان الَّذِي أوقعهم عَلَيْهِ فكرهم في خلق السموات والأرض, فقالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران/193].

(المتن)

فكانت ثمرة فكرهم في خلق السموات والأرض الإقرار به تعالى وبوحدانيته وبدينه وبرسله وبثوابه وعقابه, فتوسلوا إليه بإيمانهم الذي هو من أعظم فضله عَلَيْهِمْ؛ إلى مغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم, وإدخالهم مع الأبرار إلى جنته التي وعدوها, وذلك تمام نعمته عَلَيْهِمْ, فتوسلوا بإنعامه عليهم أولا إلى إنعامه عليهم آخرًا.

(الشرح)

أنعم عَلَيْهِمْ بالإيمان الأول, والفكر الَّذِي أوصلهم إِلَى معرفة أَنَّهُ خلق السموات والأرض بِالْحَقِّ, ثُمَّ توسلوا إليه بإيمانهم آخرًا أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم ويدخلهم مَعَ الأبرار في جنته.

(المتن)

 وتلك وسيلة بطاعته إلى كرامته.

(الشرح)

التوسل بطاعته سبحانه وتعالى إِلَى كرامته ومغفرة الذنوب وتكفير السيئات.

(المتن)

 وهي إحدى الوسائل إليه وهي الوسيلة التي أمرهم بها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[المائدة/35].

وأخبر عن خاصة عباده أنهم يبتغون الوسيلة إليه إذ يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}[الإسراء/57].

على أن في هاتين الآيتين أسرارًا بديعة ذكرتها في كتاب " التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية " .

(الشرح)

أين الآيتين؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[المائدة/35].

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}[الإسراء/57].

في هاتين الآيتين أسرار بديعة ذكرها في كتاب " التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية " .

(المتن)

فأثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السموات والأرض أنه لم يخلقهما عبثا باطلاً.

(الشرح)

هَذَا الفكر الصحيح, التفكر الصحيح في خلق السموات والأرض أثمر لهم أن خلقهما بِالْحَقِّ, وَأَنَّهُ لَمْ يخلقهما عبثًا وباطلاً, {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران/191].

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران/190-191].

فكرهم أوصلهم إِلَى هَذَا, فكرهم أثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السموات والأرض أَنَّهُ لَمْ يخلقهما عبثًا باطلاً, فأثمر لهم الإيمان بالله ورسوله ودينه وشرعه.

(المتن)

 فأثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السموات والأرض أنه لم يخلقهما عبثا باطلاً, وأثمر لهم الإيمان بالله ورسوله ودينه وشرعه وثوابه وعقابه والتوسل إليه بطاعته والإيمان به وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرة من بحر لا ساحل له فلا تستطله.

(الشرح)

لا تقول طويل هَذَا, قطرة من بحر, البعض يَقُولُونَ: أحسسنا بالسآمة والممل يَقُولُونَ: الشيخ طول رحمه الله, يَقُولُ: لا, هَذِهِ قطرة من بحر, لا تستطل هَذَا لا تقول طويل, وَهَذَا الَّذِي ذكرناه في هَذَا الفصل.

(المتن)

 قال رحمه الله تعالى: وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرة من بحر لا ساحل له فلا تستطله؛ فَإِنَّهُ كنز من كنوز العلم لا يلائم كل نفس ولا يقبله كل محروم, والله يختص برحمته من يشاء. انتهى كلامه رحمه الله .

(الشرح)

هَذَا كلام ابْنُ القيم يَقُولُ: (وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرة من بحر لا ساحل له), قطرة من بحر والبحر هَذَا ما له نهاية, هَذِهِ قطرة, والبحر الَّذِي أخذت منه القطرة لا نهاية له, لا تقول: هَذَا طويل؛ فَإِنَّهُ كنز من كنوز العلم, لَكِن هَذَا الكنز لا يلاءم كُلّ نفس, ما كُلّ نفس تقبله, المحروم ما يقبله والله يختص برحمته من يشاء.

يَقُولُ الشيخ: انتهى كلامه رحمه الله وَهُوَ كما ذكر في غاية النفاسة, كلام نفيس رحمه الله نقله من كتاب " بدائع الفوائد " .

(المتن)

انتهى كلامه رحمه الله وَهُوَ كما ذكره في غاية النفاسة ويوضح هَذَا المبحث توضيحًا تامًا, وإذا شئت أن تعرف تفاصيل الحكمة في الشرع؛ فاعتبر المسائل مسألة؛ مسألة, فإنك تجدها في غاية الإحكام والإتقان.

(الشرح)

أيْ مسألة الآن تنظر إليها في الشرع تجدها في غاية الإحكام والإتقان, تشريع الصلاة في غاية الإحكام والإتقان, كُلّ عضو من أعضاء البدن يأخذ حظه من العبادة, تشريع الصيام, تشريع الزَّكَاة, تشريع بر الوالدين, تشريع صلة الأرحام, شرعية الجهاد, شرعية الْأَمْرِ بالمعروف والنهي عَنْ المنكر, شرعية الإحسان إِلَى النَّاس وكف الأذى عنهم, كلها في غاية الحسن والكمال والإتقان, تأمل مسألة؛ مسألة, كُلّ مسألة من مسائل الشرع تجدها في غاية الإحكام والإتقان.

(المتن)

وإذا شئت أن تعرف تفاصيل الحكمة في الشرع؛ فاعتبر المسائل مسألة؛ مسألة, فإنك تجدها في غاية الإحكام والإتقان, وفي أعلى درجات الحكمة والمصلحة, ولهذا كَانَ الفقهاء والمتكلمون عَلَى الأحكام الشرعية يعللونها بالمصالح والحكم والمناسبات, فلو كَانَ الْأَمْرِ والنهي والتحليل والتحريم غير تابع للحكمة لَمْ يكن فائدة في تعليل الأحكام والاحتجاج بها عليها.

(الشرح)

ولهذا يَقُولُ العلماء: الأحكام معللة, لَكِن أحيانًا تظهر الحكم وأحيانًا لا تظهر, وأحيانًا يَقُولُونَ: هَذَا حكم تعبدي إِذَا ما ظهرت الحكمة, في حكم وأسرار لَكِن قصورنا هُوَ الَّذِي جعلنا لا نعرف, فيقال: هَذِهِ مسألة تعبدية, لِأَنَّهُ لَمْ تظهر الحكمة.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ومن أراد التوسع في بيان حكمة الله في شرعه وقدره إجمالًا وتفصيلاً وتأصيلاً, فعليه بكتاب " مفتاح دار السعادة " للمصنف رحمه الله فَإِنَّهُ بسط الكلام فِيهِ بسطًا شافيًا وفيما نبهنا عَلَيْهِ من ذَلِكَ كفاية والله أعلم.

(الشرح)

نعم كتاب " مفتاح دار السعادة " كتاب عظيم ذكر في أسرار في خلق السموات والأرض, حَتَّى أَنَّهُ استعرض الدواب كلها, النحل والنمل وذكر صفاتها وأفعالها وتفاصيل الأسرار في خلقها, هُوَ كتاب موسع بالحكم والأسرار.

نقف عَلَى الفصل هَذَا, هَذَا المبحث مبحث عظيم, لنا يومان الآن في التفاصيل والتقاسيم مبحث الحكمة والحكم, كُلّ هَذَا البحث داخل في اسم الله الحكيم, وَهُوَ الحكيم سبحانه وتعالى وفق الله الجميع لطاعته وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيّنَا محمد.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد