شعار الموقع

التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين 10

00:00
00:00
تحميل
23

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى أشرف الأنبياء والمرسلين نَبِيُّنَا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين, اللَّهُمَّ اغفر لنا ولشيخنا والسامعين.

قَالَ العلامة: اِبْن سعدي رحمه الله تعالى في كتابه "التوضيح المبين".

(المتن)

وهو اللطيف بعبده ولعبده
 

 

واللطف في أوصافه نوعان
 

إدراك أسرار الأمور بخبرة
 

 

واللطف عند مواقع الإحسان
 

فيريك عزته ويبدي لطفه
 

 

والعبد في الغفلات عن ذا الشان
 

 

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أَمَّا بَعْدَ:

ففي هَذِهِ الأبيات ذكر المؤلف اسم الله سبحانه وتعالى "اللطيف" وأقسامه, فمن أسماء الله اللطيف, ويُعبد فيُقال: عبد اللطيف, فَقَالَ المؤلف رحمه الله: (وهو اللطيف بعبده ولعبده) يَعْنِي: هُوَ اللطيف بعبده في أموره المتعلقة بنفسه, وهو اللطيف لعبده يَعْنِي: يلطف بِهِ في الأمور الخارجة عنه, (وهو اللطيف بعبده ولعبده) يَعْنِي: هُوَ اللطيف بعبده في أموره الخاصة المتعلقة بنفسه, وهو اللطيف لعبده يَعْنِي: يلطف بِهِ في الأمور الخارجة عنه, يسوق إليه ما فِيه صلاحه ونفعه من حيث لا يشعر, فهو لطيفٌ بعبده ولعبده, بعبده: في أموره الخاصة المتعلقة بنفسه, ولعبده: في الأمور الخارجة عنه الَّتِي يسوقها إليه مِمَّا فِيه صلاحه ونفعه.

  • وذكر المؤلف رحمه الله أن لطف الله تعالى نوعان:

النوع الأول قَالَ: (إدراك أسرار الأمور بخبرة) يَعْنِي: أنه سبحانه وتعالى يُدرك أسرار الأمور وخفايا الصدور والمغيبات, مغيبات الأمور الَّتِي تخفى عَلَى النَّاس, ويُدرك الشيء اللطيف والدقيق والخفي, ما لطف ودق, وهذا يدل عَلَى إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بالمعلومات وأنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه.

النوع الثاني: لطفٌ خاص بعبده ووليه, ولهذا قَالَ: (واللطف عند مواقع الإحسان) اللطف الخاص من الله تعالى لعبده ووليه يُتم عليه إحسانه ويرقيه إِلَى المنازل العالية وييسره لليسرى ويجنبه العسرى, ويبتليه سبحانه وتعالى ثُمَّ تكون العاقبة الحميدة له, يكون الابتلاء أولًا والمحن أولًا ثُمَّ النعم آخرًا, يمتحنه بأنواع المحن الَّتِي تشق عليه وهي عين الصلاح كما ابتلى الأنبياء, الأنبياء اُبتلوا كما قَالَ هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النَّبِيِّ r قَالَ: "وَكَذَلِكَ  الرسل تُبتلى ثُمَّ تكون لها العاقبة" يَعْنِي: في أول أمرها.

ونبينا r اُبتلي بقومه وآذوه وطاردوه, وخرج من مكة مختفيا مطاردًا ثُمَّ كانت العاقبة الحميدة بأن فتح الله عليه مكة ودخل النَّاس في دين الله أفواجًا, امتحن الله يوسف عليه السلام بإخوته, كَانَ رقيقا اُبتلي بالرق ثُمَّ بالسجن, وابتلاء امرأة العزيز, ثُمَّ كانت العاقبة له, وقال بَعْدَ ذلك: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف/101].

ولهذا قَالَ: (فيريك عزته ويبدي لطفه) يُريك عزته: يَعْنِي الامتحان والاختبار, ثُمَّ يُبدي لطفه سبحانه وتعالى.

(المتن)

قَالَ رحمنا الله وإياه: يَعْنِي: أن اللطيف هُوَ اللطيف بعبده: في أموره المتعلقة بنفسه, وهو اللطيف لعبده: أيْ يلطف له في الأمور الخارجة عنه, فيسوق إليه ما بِهِ صلاحه من حيث لا يشعر, ولهذا كَانَ اللطف في أوصاف الله تعالى عَلَى قسمين:

أحدهما: خبرته تعالى وإدراكه لأسرار الأمور.

(الشرح)

يَعْنِي الأول هَذَا: لطف الله بعبده ولطفه لعبده, وتقسيم اللطف هَذَا في أوصاف الله, ينقسم إِلَى قسمين:

اللطف بالنسبة للعبد؛ فيكون لطفٌ بِهِ ولطفٌ له, اللطف يكون لطفٌ للعبد ولطفٌ بالعبد, لطفٌ بالعبد: في أموره الخاصة المتعلقة بنفسه, ولطفٌ للعبد: في الأمور الخارجة عنه ويسوق إليه ما فِيه مصالحه.

  • أَمَّا اللطف في أصاف الله فهو نوعان:

النوع الأول: الخبرة وإدراك أسرار الأمور.

النوع الثاني: لطف بوليه وعبده فيرقيه إِلَى المنازل العالية ويمتحنه ثُمَّ تكون العاقبة له, يمتحنه بما فِيه صلاحه.

(المتن)

قَالَ رحمه الله: ولهذا كَانَ اللطف في أوصاف الله تعالى عَلَى قسمين:

أحدهما: خبرته تعالى وإدراكه لأسرار الأمور, وخفايا الصدور, ومغيبات الأمور, وما لطف ودق من كُلّ شيء, وهذا النوع يرجع إِلَى إحاطة علمه بالمعلومات, إِلَّا أَنَّهُ العلم الخاص في الأمور الخفية, ويلزم منه علمه بجليات الأمور.

ومن ذلك لما ذكر تعالى تعلق علمه بما في باطن الأرض من خفايا البذور واستخراجها من باطن الأرض بما ينزل عليها من السَّمَاءِ, وخبرته بشدة حاجة عباده إِلَى ذلك, ذكر هَذَا الاسم الكريم فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[الحج/63].

 فهو الَّذِي يعلم السر وأخفى, ويعلم ما في السموات والأرض, ويُخرج الخبء في السموات والأرض.

(الشرح)

الخبء يَعْنِي: ما خفي.

الطالب: بسكون الباء؟.

الشيخ: بسكون الباء وفتح الهمزة بعدها, من قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[النمل/25].

(المتن)

ويُخرج الخبء في السموات والأرض: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام/59].

{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر/19].

النوع الثاني: لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يُتم عليه إحسانه, ويشمله بكرمه, ويرقيه إلى المنازل العالية فييسره لليسرى ويجنبه العسرى, ويمتحنه بأنواع المحن التي تشق عليه ويكرهها, وهي عين صلاحه.

(الشرح)

يعني: المحن, المحن عين صلاحه, هي محن ولكنها توصله إلى ما فيه صلاحه, يُبتلى بالسجن, يُبتلى بتسليط الأعداء, يُبتلى بالمطاردة, ثم تكون العاقبة, وهذه الابتلاءات هي عين صلاحه, تمحيص.

(المتن)

قال رحمه الله: وهي عين صلاحه, والطريق إلى سعادته, كما امتحن أنبياءه بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}[يوسف/110].

(الشرح)

استيئس الرسل من شدة البلاء الذي أصابهم؛ وظنوا أنهم قد كُذبوا من قِبل أنفسهم من شدة البلاء, الآية فيها قراءتان: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبوا}[يوسف/110]؛ بالتشديد, والمعني: أنهم قد كُذبوا من قِبل أتباعهم بسبب طول البلاء, إذًا طول البلاء استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا وكذبهم أتباعهم.

القراءة الثانية: بالتخفيف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا}[يوسف/110]؛ يعني: كُذبوا من قِبل أنفسهم, وهذه القراءة الثانية قراءة عائشة رضي الله عنها, لما سألها هشام ابن أختها: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا}[يوسف/110]: قالت: «معاذ الله أن تظن الرسل ذلك بربها» يعني: فهمت منها أنهم كُذبوا من قِبل الله, وهي قراءة ثابتة لكن لم تقف عليها, وهي رضي الله عنها أفقه امرأة, أفقه امرأة هي عائشة لكن يخفى عليها شيء, خفيت عليها هذه القراءة فأنكرتها فقالت: «معاذ الله أن تظن الرسل ذلك بربها» ولكن القراءة: قد كُذبوا, بالتشديد, وذلك أن البلاء طال بالأنبياء فاستيئسوا فظنوا أنهم قد كذبهم أتباعهم من شدة طول البلاء, وهي قراءتان معروفتان, وهي قراءة حفص: كُذبوا بالتخفيف.

{جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}[يوسف/110]؛ جاء النصر متى؟ بعد طول البلاء والشدة.

(المتن)

قال رحمه الله: وكما ذكر الله عن يوسف عليه السلام بَعْدَمَا حصلت له المحن بإخوته ثُمَّ بالرق, ثُمَّ بمراودة امرأة العزيز, ثُمَّ بالسجن الطويل, ثُمَّ جعل الله ذلك كله طريقًا إِلَى علوه وارتفاعه وملكه.

(الشرح)

ولهذا قَالَ النَّبِيِّ r: «لو لبثت في السجن كما لبث يوسف لأجبت الداعي» الداعي جاء إِلَى يوسف قَالَ: اخرج من السجن, قَالَ: لا ما أخرج حَتَّى تظهر براءتي, ارجع إِلَى ربك فاسأله سبب السجن, فنبينا r من باب التواضع قَالَ: «لو لبثت في السجن كما لبث يوسف لأجبت الداعي» قَالَ: اطلع خلاص اطلع, مدة طويلة, لَكِنْ هَذَا من باب التواضع من نَبِيُّنَا r, وفيه بيان منقبة يوسف, سجن طويل ومع ذلك أبى أن يخرج حَتَّى تظهر براءته.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: ثُمَّ جعل الله ذلك كله طريقًا إِلَى علوه وارتفاعه وملكه, وخضوع أبويه وإخوته له, ولهذا قَالَ في آخر قصته: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[يوسف/100].

(الشرح)

هَذَا هُوَ الشاهد: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}[يوسف/100]؛ لطفه بَعْدَ الشدة جاء.

(المتن)

وكثيرًا ما يمتحن أولياءه بما يكرهون ليُنيلهم ما يحبون, ولهذا قَالَ المصنف: فيُريك عزته, أيْ في امتحانك بما تكره, ويُبدي لطفه والعبد في الغفلات عن ذا الشان, فلو اطلع عَلَى الغيب لفرح بكثيرٍ من الأمور الَّتِي تجري عليه بخلاف ما يهوى, وكم لله من لطفٍ وكرمٍ لا تُدركه الأفهام, ولا تتصوره الأوهام, وكم استشرف العبد لمطلوبٍ من مطالب الدنيا.

(الشرح)

استشرف: يَعْنِي تطلع العبد لمطالب الدنيا والله تعالى يصرفها عنه, تطلع إِلَى إمارة, تطلع إِلَى ولاية, تطلع إِلَى المال والله يصرفه عنه رحمةً بِهِ, لئلا يفسد عليه دينه  الإنسان يتطلع وبعض النَّاس يحاول أن يكون في وظيفة, يكون مدير أو رئيس أو وزير ويحاول ويعجز, ويكون هَذَا فِيه صلاحه, الله تعالى صرفها عنه؛ لِأَنَّه لو تولى هَذِهِ الولاية أفسد عليه دينه؛ إِمَّا يأخذ رشوة أو لا يقوم بالواجب, أو يقدم بعض النَّاس عَلَى بعض, أو يتساهل بالحقوق فالله يصرفها عنه رحمةً بِهِ وهو لا يشعر وما يدري ويحزن, لماذا ما حصلت ليَ هَذِهِ الولاية؟

يحزن ويتألم وما يدري, (والعبد في الغفلات عن ذا الشان) ما يدري ما فِيه مصلحته, والله تعالى يسوقه لما فِيه مصلحته, يصرف عنه هَذَا المال؛ لِأَنَّه لو أعطاه لما قام بحقه, يصرف عنه هَذِهِ الولاية؛ لِأَنَّه لا يقوم بحقها؛ هَذَا من لطف الله تعالى بعبده.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: وكم استشرف العبد لمطلوبٍ من مطاليب الدنيا من إمارةٍ أو ولايةٍ أو سببٍ من الأسباب الدنيوية فيصرفه الله عنه رحمةً بِهِ؛ لئلا يُفسد عليه دينه فيظل العبد حزينًا من جهله وعدم معرفته بربه, وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ ما رزقتني مِمَّا أحب فاجعله قوةً لي فيما تحب وما ذويت عني مِمَّا أحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب, اللَّهُمَّ الطف بنا في قضاءك».

(الشرح)

وهذا الشاهد: الدعاء باللطف.

(المتن)

«وبارك لنا في قدرك حَتَّى لا نحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت».

(الشرح)

هَذَا رواه الترمذي عن عبد الله بْنِ يزيد الخطمي وقال: حديث حسن غريب.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: فصلٌ.

وهو الرفيق يحب أهل الرفق بل
 

 

يعطيهم بالرفق فوق أمان
 

 

(الشرح)

وهذا البيت فِيه اسم من أسماء الله وهو اسم الرفيق, الرفيق كما في الحديث: «إن الله رفيقٌ يحب الرفق في الْأَمْرِ كله» فالرفيق من أسماء الله ويُعبد يُقال: عبد الرفيق, والرفيق هُوَ الرفيق في أفعاله سبحانه وتعالى, فهو سبحانه وتعالى يتدرج في أفعاله في خلق السموات والأرض وفي غيرها, وهو خلقها في ستة أيام وهو قادر عَلَى خلقها في لحظة بكلمة "كن" وَلَكِن من رفقه سبحانه وتعليمه لعباده أَنَّهُ يتدرج, خلقها في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها الجمعة.

ولهذا قَالَ المؤلف:

وهو الرفيق يحب أهل الرفق بل
 

 

يعطيهم بالرفق فوق أمان
 

 

في الحديث: «إن الله يعطي عَلَى الرفق ما لا يعطي عَلَى العنف».

(المتن)

وهو الرفيق يحب أهل الرفق بل
 

 

يعطيهم بالرفق فوق أمان
 

 

وهذا قَد أخذه المؤلف رحمه الله من قول النَّبِيِّ r لعائشة رضي الله عنها بَعْدَمَا سمعت اليهودي الَّذِي قَالَ للنبي r: السام عليك يا محمد, فأجابه النَّبِيِّ r بقوله: «وعليكم» ففطنت عائشة رضي الله عنها لليهودي, فقالت: «وعليكم السام واللعنة, فَقَالَ النَّبِيِّ r: مهلًا يا عائشة إن الله رفيقٌ يحب أهل الرفق» الحديث.

وقال: «إن الله يعطي عَلَى الرفق ما لا يعطي عَلَى العنف».

(الشرح)

عائشة رضي الله عنها اشتد عليها الْأَمْرِ, السام: الموت, اليهود قبحهم الله إذا جاءوا للنبي r قالوا: السام عليك, يدغمون اللام, يُظهرون أَنَّهُمْ يَقُولُونَ السلام وهم يحذفون اللام يَقُولُونَ: السام عليك, يَعْنِي: الموت, من شدة بغضهم للنبي r, ففطنت عائشة من وراء الحجاب وقالت: «وعليكم السام واللعنة» فالنبي r قَالَ لها: مهلًا يا عائشة إن الله يعطي عَلَى الرفق ما لا يعطي عَلَى العنف».

وفي اللفظ الآخر: «قالت: يا رسول الله ألم تعلم ما قالوا, قالوا: السام عليك, قَالَ: ألم تعلمي ما قلت, قلت: وعليكم, فإنها تُقبل منا ولا تُقبل منهم» رددت عَلَيْهِمْ تحيتهم من دون عنف, إن كانت حسنة ترجع إليهم وإن كانت سيئة ترجع إليهم, تُقبل منا ولا تُقبل منهم وانتهى الْأَمْرِ من دون عنف.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: فالله تعالى رفيقٌ في أفعاله, خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ مَعَ قدرته عَلَى خلقها في لحظة واحدة.

(الشرح)

قادر عَلَى خلقها بكلمة "كن": {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس/82].

(المتن)

وَكَذَلِكَ  الآدميون والحيوانات وأنواع الأشجار والنبات يخلقها تعالى بالتدريج شَيْئًا فشيئًا حَتَّى تتم وتكبر, وهذا من رفقه وحكمته الَّتِي فِيهَا من الفوائد والمنافع ما لا يدخل تَحْتَ الحصر.

وإذا كَانَ رفيقًا فهو يحب أهل الرفق ويعطيهم من فضله وإحسانه ما لا يعطي غيرهم, ولهذا: «ما كَانَ الرفق في شيءٍ إِلَّا زانه وما كَانَ العنف في شيءٍ إِلَّا شانه» فالمتأني الَّذِي يتأنى, الَّذِي يأتي الأمور برفقٍ وسكينة ووقار إتباعًا لسَنن الله في الكون تتيسر له الأمور, خصوصًا الذي يأمر النَّاس وينهاهم في مصالح دينهم ودنياهم فَإِنَّهُ محتاجٌ بَلْ مضطرٌ إِلَى الرفق واللين, قَالَ تعالى لنبيه r: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران/159].

وَكَذَلِكَ من آذاه النَّاس بالأقوال البشعة فصان لسانه عن مشاتمتهم, ودفع عن نفسه برفقٍ ولين, اندفع عنه من آذاه بسبب ذلك ما لا يندفع عمن قابلهم وصنع كصنيعهم.

(الشرح)

يَعْنِي: من آذاه النَّاس بأقوال بشعة فصان لسانه عن مشاتمتهم, ودفع عن نفسه برفقٍ ولين, اندفع عنه أذاهم, (بسبب ذلك ما لا يندفع عمن قابلهم وصنع كصنيعهم) يَعْنِي: إذا شتمهم ما يندفع الأذى عنه, لَكِنْ إذا دفعه برفق ولين اندفع عنه الأذى.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: مَعَ راحته وطمأنينة قلبه واكتسابه للرزانة والحلم, وتنزهه عن سفسفة الأقوال, ولهذا لما كَانَ اليهود يريدون بخطابهم للنبي r بقولهم: السام عليك, يريدون الموت, من كمال حلمه r لَمْ يشتمهم, بَلْ قَالَ: «وعليكم» أيْ ما قلتم, ولهذا قَالَ لعائشة: «ألم تسمعي ما قلت لهم؟» فبين عليه الصلاة والسلام أن المقابلة قَد تحصل من دون كلامٍ مستبشع ولا قولٍ غليظ.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالمًا بما يأمر بِهِ, عالمًا بما ينهى عنه, عدلًا فيما يأمر به, عدلًا فيما ينهى عنه, رفيقًا فيما يأمر بِهِ, رفيقًا فيما ينهى عنه, فالرفق يُدرك بِهِ خيرٌ كثير, ويُثيب الله عليه ثوابًا جزيلًا, والعنف بخلاف ذلك.

قَالَ رحمه الله تعالى:

وهو القريب وقربه المختص
 

 

بالداعي وعابده على الإيمان
 

 

(الشرح)

هَذَا البيت ذكر فِيه اسم الله القريب, (وهو القريب) من أسماء الله القريب, قَالَ تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة/186].

وهو القريب وقربه المختص
 

 

بالداعي وعابده على الإيمان
 

 
  • ذكر أن من أسماء الله القريب, وأن قربه يكون نوعان:
  1. قربٌ من الداعي بالإجابة.
  2. وقربٌ من العابد بالإثابة.

هكذا أقر اِبْن القيم رحمه الله وشيخ الإسلام وجماعة قرروا أن القرب لا يكون إِلَّا خاصًا ولا يكون عامًا, بخلاف المعية فإنها تكون عامة وتكون خاصة, معية الله لعباده صفة من صفاته تكون عامة لجميع الخلق, فالله تعالى مَعَ جميع الخلق بإحاطته, بإحاطة علمه, ونفوذ قدرته ومشيئته, قَالَ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[الحديد/4].

والخاصة: وهي معية الله للمؤمنين والرسل والأنبياء: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه/46].

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل/128].

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة/153].

هَذِهِ معية خاصة: مَعَ الصابرين, مَعَ الْمُؤْمِنِين, مَعَ المتقين.

والعامة: لجميع النَّاس.

العامة: تَأْتِيَ في سياق المحاسبة والمجازاة, تقتضي إحاطة علم الله بجميع خلقه, ونفوذ قدرته ومشيئته.

الخاصة: تقتضي المدح والثناء, تَأْتِيَ في سياق المدح والثناء, وتقتضي النصر والتأييد والكلأة والحفظ.

فهل القرب كذلك ينقسم إِلَى قسمين يكون قربًا عامًا ويكون خاصًا؟ فِيه خلاف بين العلماء, شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة من المحققين قالوا: القرب لا يكون إِلَّا خاصًا ولا يكون عامًا.

  • وهو نوعان:

النوع الأول: قربٌ من العابدين, وقربٌ من الداعين بالإجابة, ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة/186]؛ قريبٌ من السائلين ليس قريبًا من كُلّ أحد, {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} من مَن؟ من السائلين بالإجابة.

ومثله حديث أبي موسى الأشعري, قَالَ: «كنا مَعَ النَّبِيِّ r في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير: الله أكبر الله أكبر, فَقَالَ النَّبِيِّ r: أربعوا عَلَى أنفسكم» يَعْنِي: أرفقوا عَلَى أنفسكم, «فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبًا إن الَّذِي تدعونه سميعٌ قريب أقرب إِلَى أحدكم من عنق راحلته».

فَقَالَ: «إن الَّذِي تدعونه قريب» قريبٌ من الداعين ليس قريب من كُلّ أحد.

النوع الثاني: قربٌ من العابدين بالإثابة, قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف/56].

 وقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}[العلق/19]؛ هَذَا قرب الساجد العابد.

هكذا أقر شيخ الإسلام اِبْن تيمية قَالَ: إن القرب لا يكون إِلَّا خاصًا وهو نوعان:

النوع الأول: قربٌ من الساعين الداعين بالإجابة.

النوع الثاني: وقربٌ من العابدين بالإثابة.

  • القول الثاني لأهل العلم: أن القرب يكون نوعان:
  1. قربٌ خاص.
  2. وقربٌ عام.

فالقرب الخاص: كما مُثل.

والقرب العام: كما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق/16].

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق/16]؛ ونحن أقرب إليه بعلمنا, وهو فوق العرش سبحانه وتعالى وليس مختلط بالمخلوقات, وبعضهم قَالَ: نحن أقرب إليه بالرؤية, نحن أقرب إليه بالقدرة, والسمع, وبعضهم بالرؤية, مثل قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة/85].

شيخ الإسلام ابن القيم يقول: هذه الآية ليست في قرب الرب وإنما في قرب الملائكة, وآية القرب عامة لا يأتي إلا خاص: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} بالملائكة, {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق/16]؛ بدليل: أنه قيده بالظرف, بوقت تلقي المتلقيين: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}[ق/17].

نحن أقرب إليه؛ يَعْنِي: الملائكة أقرب للعبد من حبل الوريد بدليل أَنَّهُ قيدها فَقَالَ: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}[ق/17]؛ يَعْنِي وقت تلقي المتلقيان, ولو كَانَ قرب الله لَمْ يقيد بوقت دون وقت: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}[ق/16-17]؛ يَعْنِي: وقت تلقي المتلقيان وهم الملكان, فدل عَلَى أن هَذَا قرب الملائكة.

ومثله قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة/85]؛ قَالَ: الملائكة أقرب إِلَى الإنسان عِنْد حضور الأجل من الحاضرين وَلَكِن لا تبصرون الملائكة, ونحن أقرب إليه بملائكتنا عِنْد المحتضر, وَلَكِن لا تبصرون الملائكة.

إذًا شيخ الإسلام رحمه الله يَقُولُ: أن القرب لا يكون إِلَّا خاصًا ولا يكون عامًا, بخلاف المعية تكون عامة وخاصة, بعض العلماء يَقُولُ: القرب يكون عام وخاص مثل المعية, ويمثلون بالقرب العام بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق/16].

الثانية: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة/85].

الشيخ عبد الرحمن السعدي صرف كلام المؤلف رحمه الله, صرف البيت إِلَى القول الآخر وأن القرب يكون عام وخاص, البيت الآن:

وهو القريب وقربه المختص
 

 

بالداعي وعابده على الإيمان
 

 

فقط, إذًا قَالَ: قربه خاصٌ بالداعي والعابد, الشارح عبد الرحمن السعدي صرف كلام المؤلف وجعله قَالَ: القرب نوعان: قربٌ عام, وقربٌ خاص, صرفه للقول الآخر.

 (وهو القريب وقربه المختص بالداعي) هَذَا واحد, (وعابده) الثاني.

قرره شيخ الإسلام في الفتاوى وقرره ابن القيم رحمه الله في مختصر الصواعق وفي غيره ولكن الشارح صرفه صرف كلام المؤلف إلى القول الثاني وقال القرب ينقسم  إلى عام وخاص ولكن البيت ما يفيد هذا البيت يفيد أنه قرب خاص

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

وهو القريب وقربه المختص
 

 

بالداعي وعابده على الإيمان
 

 
  • يعني: أن القريب من أسماءه تعالى قسمان:
  1. قربٌ عام.
  2. وقربٌ خاص.

(الشرح)

هذا ما قاله المؤلف, ما قال قربٌ عام وقرب خاص, هذا اختيار الشيخ عبد الرحمن وصرف البيت إلى القول الثاني.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: فالقرب العام: إحاطة علمه بجميع الأشياء, وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}[المجادلة/7].

(الشرح)

هذا القرب العام, جعله مثل المعية, ما مثل له المؤلف, مثاله: آيتان:

الآية الأولى: قوله تعالى في سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق/16]؛ يعني: أقرب إليه بالعلم, والقدرة.

الآية الثانية: قوله تعالى في سورة الواقعة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة/85].

{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}[الواقعة/83]؛ يَعْنِي محتضر ميت,

{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة/85]؛ نحن أقرب للميت منكم وَلَكِن لا تبصرون.

شيخ الإسلام يَقُولُ: المعنى: أن الملائكة أقرب إِلَى المحتضر منكم وَلَكِن لا تبصرون الملائكة.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: النوع الثاني: قربه المختص بالداعين, والعابدين, والمحبين.

(الشرح)

  • وهذا القرب الخاص وهو نوعان:
  1. قربٌ من الداعين بالإجابة.
  2. وقربٌ من العابدين بالإثابة.

(المتن)

قَالَ: وهو قربٌ يقتضي المحبة والنصرة, والتأييد والإجابة والقبول والإثابة, ومن ذلك قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}[العلق/19].

(الشرح)

هَذَا قربٌ من العابدين, الساجد عابد, قربٌ من العابدين بالثواب, فالساجد قريبٌ من الله بالإثابة.

(المتن)

وقال النَّبِيِّ r: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» فهذا قربه من عابديه, وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة/186]؛ فهذا قربه من داعيه بالإجابة والتوفيق.

وللمصنف هاهنا كلامٌ حسنٌ ذكره في بدائع الفوائد, فلنذكره لشدة الحاجة إليه وعدم إجزاء غيره عنه, قَالَ في أثناء كلامه عَلَى قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف/55], إِلَى قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف/56].

(الشرح)

وهذا في الجزء الثالث صفحة 7.

(المتن)

وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدًا؛ أَنَّهُ دالٌ عَلَى قرب صاحبه من الله, وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأل مسألةً أقرب شيءٍ إليه, فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد, ولهذا أثنى سبحانه عَلَى عبده زكريا في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}[مريم/3].

فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه وأنه أقرب إليه من كُلّ قريب وتصور ذلك أخفى دعاءه مهما أمكنه, ولم يتأتى له رفع الصوت بِهِ بَلْ يراه غير مستحسن, كما أن من خاطب جليسًا له يسمعه أخفى كلامه.

(الشرح)

يَعْنِي يسمع الخفي من كلامه, إذا خاطب جليس يسمع الخفي ثُمَّ جليسك يسمع الصوت الخفي بَعْدَ ذلك ترفع صوتك, هَلْ هَذَا مستحسن! يسمع الصوت الخفي تقوم ترفع صوتك, ماذا يكون؟ مستحسن ولا مستهجن؟ مستهجن.

(المتن)

قَالَ: فَإِنَّهُ لو بالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى, وقد أشار إليه النَّبِيِّ r إِلَى هَذَا المعنى بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فَقَالَ: «أربعوا عَلَى أنفسكم».

(الشرح)

يَعْنِي: أرفقوا عَلَى أنفسكم من رفع الصوت, وأخفضوا أصواتكم.

(المتن)

«فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا وإنكم تدعون سميعًا قربًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».

وقد قَالَ تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة/186]؛ وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا: «يا رسول الله ربُنا قريبٌ فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟» فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة/186].

وهذا يدل عَلَى إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الَّذِي هُوَ رفع الصوت, فَإِنَّهُم سألوه فأُجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إِلَى النداء, وَإِنَّمَا يسأله مسألة القريب المناجي لا مسألة البعيد المنادي.

وهذا القرب من الداعي هُوَ قربٌ خاص ليس قربًا عامًا من كُلّ أحد, فهو قريبٌ من داعيه وقريبٌ من عابده وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, وهو أخص من قرب الإنابة, وقرب الإجابة الَّذِي لَمْ يُثبت أكثر المتكلمين سواه, بَلْ هُوَ قربٌ خاصٌ من الداعي والعابد.

(الشرح)

يَعْنِي: أكثر المتكلمين ما أثبتوا إِلَّا هَذَا, أثبتوا قرب الإنابة وقرب الإجابة.

(المتن)

بَلْ هُوَ قربٌ خاص من الداعي والعابد, كما قَالَ النَّبِيِّ r روايةً عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب من شبرًا تقربت منه زراعًا ومن تقرب مني زراعًا تقربت منه باعًا» فهذا قربه من عابده.

وأما قربه من داعيه وسائليه فكما قَالَ تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة/186].

وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}[الأعراف/55]؛ فِيه الإشارة والإعلام بهذا القرب.

وأما قربه تبارك وتعالى من محبه فنوعٌ آخر, ونبأٌ آخر, وشأنٌ آخر, وقد ذكرناه في كتاب "التحفة المكية" عَلَى أن العبارة تنبئ عنه, ولا يحصل في القلب حقيقة معناه, لَكِنْ بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب.

وإياك ثُمَّ إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية, أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتذل قدمٌ بَعْدَ ثبوتها, وقد ضعف تمييز خلائق في هَذَا المقام, وساء تعبيرهم, فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح.

(الشرح)

الشطحات يَعْنِي: الزلات والانحرافات.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: وقد ضعف تمييز خلائق في هَذَا المقام, وساء تعبيرهم, فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح فقابلهم من غلظ حجابه فأنكر محبة العبد لربه جملةً وقربه منه, وأعاد ذلك إِلَى مجرد الثواب المخلوق فهو عنده المحبوب القريب ليس إِلَّا, وقد ذكرنا من طرقه الرد عَلَى هؤلاء وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مئة طريق, انتهى كلامه رحمه الله.

(الشرح)

الحاصل أن القرب يرى الشيخ أَنَّهُ لا يكون إِلَّا خاصًا, فهو نوعان وغيره ينقسم إِلَى: عام وخاص كالمعية.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى:

وهو المجيب يقول من يدعو أجبـه
 

 

أنا المجيب لكل من ناداني
 

وهو المجيب لدعوة المضطر إذ
 

 

يدعوه في سر وفي إعلان
 

 

(الشرح)

ذكر في هَذَا البيت اسم الله المجيب وهو من أسماء الله, ويُعبد يُقال: عبد المجيب.

وهو المجيب يقول من يدعو أجبـه
 

 

أنا المجيب لكل من ناداني
 

وهو المجيب لدعوة المضطر إذ
 

 

يدعوه في سر وفي إعلان
 

 

فهذا عامٌ لكل من دعاه وكل من سأله كما قَالَ تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر/60]؛ هَذَا عام.

وأما الإجابة الخاصة: فكما ورد في النصوص من أعظمها دعوة المضطر الَّذِي وقع في الشدة والكربة, فَإِن الله تعالى يُجيب دعوته لشدة افتقار العبد لربه, ومن ذلك الدعاء في السفر يتوسل إِلَى الله بأحب الوسائل المقربة إليه من أسماءه وصفاته وأفعاله, ودعوة المظلوم, ودعوة الوالد.

من أسباب إجابة الدعاء: إطالة السفر والتوسل إِلَى الله بأحب الوسائل الموصلة إليه, فإذًا الإجابة العامة عامةٌ لكل من دعاه, والإجابة الخاصة لها أسباب, منها: دعوة المضطر, دعوة الوالد على ولده, وإطالة السفر, كما في الحديث في قصة الرجل «الَّذِي يمد يديه إِلَى السَّمَاءِ أشعث أغبر يا رب يا رب».

(المتن)

  • قَالَ رحمه الله تعالى: جعل المؤلف للمجيب معنيين:
  1. معنًا عام.
  2. ومعنًا خاص.

فالعام: هُوَ إجابته تعالى لكل من دعاه دعاء عبادة ودعاء مسألة كما قَالَ تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر/60].

(الشرح)

يَعْنِي: اعبدوني أُثبكم, هَذَا دعاء عبادة, ودعاء المسألة: كأن يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغفر لي, اللَّهُمَّ ارحمني.

(المتن)

فدعاء المسألة أن يَقُولُ بلسانه: اللَّهُمَّ أعطني كذا, أو اللَّهُمَّ ادفع عني كذا, فهذا يقع من البر والفاجر, ويستجيب الله فِيه للبر والفاجر, فقد يدعو الكافر لحصول رزقٍ أو دفع عدو أو خروجٍ من مشقة فيستجيب الله له, ولا أعظم كفرًا من إبليس وقد سأل الله النَظرة فأنظره الله إِلَى يوم يُبعثون, ولهذا يُستدل بهذا النوع عَلَى كرم الباري وسعة جوده وحلمه.

ولا يدل مجرد الإجابة عَلَى حسن حال الداعي الَّذِي أُجيبت دعوته حَتَّى يأتي ما يدل عَلَى ذلك, فَإِن اقترن بِذَلِكَ ما يدل عَلَى تعيين الحق معه كسؤال الأنبياء ودعائهم لقومهم وعلى قومهم, دل ذلك عَلَى صدق من أجاب الله دعائه, ولهذا كَانَ النَّبِيِّ r كثيرًا ما يدعو بدعاءٍ يرى النَّاس عيانًا إجابته, فيجعلونه من دلائل النبوة وآيات صدقه r.

وَكَذَلِكَ ما يذكرونه عن كثيرٍ من أولياء الله من إجابة دعواتهم, فيجعلونه من كرامات الله لأوليائه.

(الشرح)

المقصود أن المجيب ذكر المؤلف له معنيان: معنًا عام, ومعنًا خاص.

المعنى العام: أَنَّهُ يُجيب كُلّ من دعاه وكل من ناداه, {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر/60], قَد يدعو الكافر إذا حصلت عنده ضرورة لِأَنَّه لا يتعلق بالربوبية كما أَنَّهُ يرزق الْمُؤْمِن والكافر كذا يُجيب دعاء الْمُؤْمِن والكافر: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}[النمل/62]؛ فقد يجيب دعاء الكافر للضرورة الَّتِي حلت بِهِ, والذي يجيب دعاء المضطر وهذا يدل عَلَى فضله, فهذا يقع من البر والفاجر: ولهذا يَقُولُ:

وهو المجيب يقول من يدعو أجبـه
 

 

أنا المجيب لكل من ناداني
 

 

كُلّ من نادى الله أجاب الله دعاءه, ولهذا يَقُولُ المؤلف: (ولا يدل مجرد الإجابة عَلَى حسن حال الداعي الَّذِي أُجيبت دعوته حَتَّى يأتي ما يدل عَلَى ذلك).

  المعنى الخاص: ولها أمثال: منها دعوة المضطر الَّذِي وقع في الشدة والكربة, ومنها دعوة المسافر, ومنها دعوة الوالد عَلَى ولده, كُلّ هَذِهِ من الإجابة الخاصة.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: وأما الإجابة الخاصة فلها أسبابٌ عديدة ومن أعظمها: دعوة المضطر الَّذِي وقع في شدة وكربة عظيمة, فَإِن الله تعالى يُجيب دعوته, وذلك لشدة افتقار العبد لربه في هَذِهِ الحال, وانقطاعٍ يُقلقه من المخلوقين, ولسعة رحمة الله الَّتِي يشمل بها الخلق بحسب حاجاتهم إليها, فكيف بمن اضطر إليها! ولهذا قَالَ المصنف:

وهو المجيب لدعوة المضطر إذ
 

 

يدعوه في سر وفي إعلان
 

 

ومن أسباب إجابة الدعاء: إطالة السفر, والتوسل إِلَى الله بأحب الوسائل المقربة إليه من أسماءه وصفاته ونعمه, ودعوة المظلوم, ودعوة الوالد لولده أو عليه, وفي الأوقات والأحوال الشريفة كما وردت بِذَلِكَ كلِه النصوص والأخبار الَّتِي لا يسعها هَذَا الموضع, قَالَ تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر/60].

وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة/186].

وقال تعالى: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود/61].

وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[النمل/62].

قَالَ:

وهو الجواد فجوده عم
 

 

الوجود جميعه بالفضل والإحسان


 

وهو الجواد فلا يخيب
 

 

سائلًا ولو أنه من أمة الكفران


 

 

(الشرح)

ذكر في هَذَيْنِ البيتين اسم الله "الجواد" ويُعبد يُقال: عبد الجواد, وذكر المؤلف رحمه الله أن جود الله نوعان: عامٌ, وخاص.

فجوده العام: لجميع المخلوقات, قَد عم سبحانه وتعالى جميع المخلوقات وشملها بفضله وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة؛ كُلّ المخلوقات من الآدميين وغيرهم.

جوده الخاص: خاصٌ بالسائلين, والسائلين نوعان: سائلٌ بلسان المقال, أو سائلٌ بلسان الحال.

كيف سائل بلسان المقال؟ كأن يدعو ربه في الليل ربِ ارحمني, اللَّهُمَّ إني أسألك الْجَنَّة وأعوذ بك من النَّارِ, هَذَا سائل بلسان المقال.

السائل بلسان الحال؟ المصلي, المصلي لسانه يَقُولُ: ربِ اغفر لي وتقبل مني, بلسان الحال, حاله كذا ما صلى إِلَّا استجابة لله وطلبًا لثوابه وخوفًا من عقابه, وَكَذَلِكَ  الصائم سائلٌ بلسان الحال, والحاج سائلٌ بلسان الحال, كُلّ متعبد فهو سائلٌ بلسان الحال, وهو داخلٌ في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر/60]؛ يَعْنِي: اعبدوني أُثبكم, يطلبون الثواب بلسان الحال.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: يَعْنِي: أن جوده تعالى عامٌ لجميع المخلوقات قَد عمها وشملها, وملأها من فضله وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة, وخاصٌ للسائلين بلسان المقال أو بلسان الحال من برٍ وفاجر ومسلمٍ وكافر, فمن سأل الله أعطاه سؤله وناله ما طلب, قَالَ تعالى وهو الرحيم: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور/28].

وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل/53].

وقال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم/34].

وفي الحديث القدسي الَّذِي رواه مسلمٌ عن أبي ذر t عن النَّبِيِّ r فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كُلّ إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك مِمَّا عندي إِلَّا كما ينقص المخيط إذا غُمس في البحر».

وفي رواية لغير مسلم: «ذلك بأني جوادٌ ماجدٌ واجد عطائي كلام وعذابي كلام إِنَّمَا أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون».

وقال r في الحديث الصحيح: «إن خزائن الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فَإِنَّهُ لَمْ يغض ما في يمينه».

(الشرح)

يَعْنِي: لَمْ ينقص ما في يمينه.

(المتن)

«وبيده الأخرى القسط يخفض بها ويرفع».

ومن جوده وكرمه ما أعده الله لأوليائه في دار كرامته مِمَّا لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر عَلَى قلب بشر, ومن جوده وكرمه أَنَّهُ المغيث لكل مخلوقاته, فلهذا قَالَ:

وهو المغيث لكل مخلوقاته
 

 

وكذا يجيب إغاثة اللهفان
 

 

(الشرح)

هَذَا البيت ذكر فِيه اسم الله "المغيث", يُقال: يا مغيث, ويا عبد المغيث.

وهو المغيث لكل مخلوقاته
 

 

وكذا يجيب إغاثة اللهفان
 

 

المغيث: هُوَ الَّذِي يجيب من وقع في كربة وشدة, من وقع في كربة وشدة الَّذِي يُغيثه يُقال: هَذَا مغيث, والسائل الَّذِي يسأل في وقت الشدة يُقال: هَذَا سؤال استغاثة, والسائل في وقت الرخاء يُقال: هَذَا دعاء, {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر/60]؛ هَذَا في غير وقت الشدة.

وفي وقت الشدة: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}[النمل/62]؛ مغيث, فالسائل يسمى مستغيث في وقت الشدة, والمجيب يُقال له: مغيث, وفي غير وقت الشدة يسمى سائل والمجيب يُقال: مجيب, ولهذا قَالَ:

وهو المغيث لكل مخلوقاته
 

 

وكذا يجيب إغاثة اللهفان
 

 

هُوَ المغيث لجميع المخلوقات, المغيث لجميع المخلوقات كأنه نوعان:

نوعٌ عام: وهو إغاثة جميع المخلوقات.

الثاني خاص: وهو اللهفان والمضطر, ومن وقع في ضرورة.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: فالمغيث يتعلق بالشدائد والمشقات, فهو المغيث لجميع المخلوقات عندما تتعسر أمورها, وتقع في الشدائد والكربات من إطعام جائعهم, وكسوة عاريهم, وتخليص مكروبهم, وكشف الضر عنهم, وإنزال الغيث عَلَيْهِمْ في وقت الضرورة إليه.

(الشرح)

هَذَا إغاثة لجميع المخلوقات, (لجميع المخلوقات عندما تتعسر أمورها, وتقع في الشدائد والكربات من إطعام جائعهم, وكسوة عاريهم, وتخليص مكروبهم, وكشف الضر عنهم, وإنزال الغيث عَلَيْهِمْ في وقت الضرورة إليه).

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: (وكذا يجيب إغاثة اللهفان) أيْ دعاء من دعاه في حالة اللهف وشدة الاضطرار, فمن استغاثه أغاثه, قَالَ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}[الشورى/28].

قَالَ النَّبِيِّ r: «إن الله ينظر إليكم آذلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب».

وقال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل/53].

(الشرح)

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} من بَعْدَ ما آيسوا, {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}[الشورى/28].

وقال النَّبِيِّ r: «إن الله ينظر إليكم آذلين قنطين» يَعْنِي: يائسين, «فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب» وفيه إثبات الضحك لله سبحانه وتعالى, عَلَى ما يليق بجلاله وعظمته.

(المتن)

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ}[يونس/22-23]؛ الآية.

وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}[الأنعام/63-64].

وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[النمل/62].

وقال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق/7].

وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح/5-6].

وقال النَّبِيِّ r في حديث اِبْن عباس t الَّذِي رواه الترمذي وغيره: «واعلم أن النصر مَعَ الصبر وأن الفرج مَعَ الكرب وأن مَعَ العسر يسرًا».

(الشرح)

وهذا واقع, «النصر مَعَ الصبر» إذا صبر المجاهدون وصابروا واستقاموا عَلَى طاعة الله فَإِن النصر حليفهم, فالنصر مَعَ الصبر «والفرج مَعَ الكرب» في الكرب والشدة إذا اشتدت بالإنسان الحال فَإِن الله يفرج كربته, «وإن مَعَ العسر يسرًا» وفي الحديث الآخر: «لن يغلب عسرٌ يسرين».

(المتن)

وقال تعالى عن ذي النون عليه السلام: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء/87-88].

أيْ إذا وقعوا في الشدائد نجاهم الله ودفعها عنهم بإيمانهم, ولهذا ينجيهم من كربات الموت وشدة القبر وأهوال يوم القيامة حين تعجز قدرهم.

(الشرح)

يَعْنِي: حين تعجز قدرتهم, الخلائق مجموعون واقفون بين يدي الله, فينجيهم الله من كربات وشدائد وأهوال يوم القيامة حين تعجز قدرهم؛ جمع قدرة, يَعْنِي: حين تعجز مقدرتهم, لا قدرة لهم.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: ولا يلقى ملجأٌ يلجئون إليه إِلَّا الله تبارك وتعالى, وكم أنجى في الدنيا من الكرب والشدائد كثيرًا من أنبيائه وأوليائه, وأغاثهم بلطفه, ودفع عنهم بعزته ورحمته ويسرهم لليسرى.

(الشرح)

وكم للتكثير هنا, يَعْنِي: كم أنجى في الدنيا من الكرب والشدائد؟ كم أنجى كثيرًا من الأولياء؟ كم أنجى الأنبياء وأغاثهم بلطفه, ودفع عنهم بعزته ورحمته ويسرهم لليسرى؛ هَذَا فضله وإحسانه وجوده.

(المتن)

قَالَ رحمه الله تعالى: فصلٌ.

وهو الودود يحبهم ويحبه
 

 

أحبابه والفضل للمنان
 

وهذا الذي جعل المحبة في
 

 

قلوبهم وجازاهم بحب ثان


 

هذا هو الإحسان حقًا
 

 

لا معاوضة ولا لتوقع الشكران


 

لكن يحب شكرهم وشكورهم
 

 

لا لاحتياج منه للشكران
 

 

(الشرح)

يحب الشكر ويحب الشاكر, يحب الشكر الصادر من الْمُؤْمِن ويحب الشكور الْمُؤْمِن.

(المتن)

لكن يحب شكرهم وشكورهم
 

 

لا لاحتياج منه للشكران
 

 

(الشرح)

هَذَا الفصل ذكر فِيه اسم الله "الودود", قَالَ تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}[البروج/14-15]؛ فمن أسمائه الودود, يُعبد يُقال: عبد الودود.

هُوَ الودود يحب عباده ويحبه عباده, هُوَ يحب عباده وعباده يحبونه, هُوَ سبحانه الَّذِي جعل المحبة في قلوبهم, هُوَ الَّذِي تفضل عَلَيْهِمْ وجعلهم محبون إِلَى الله, ثُمَّ جازاهم بحب ثاني, مَن الَّذِي جعلهم يحبون الله؟ الله سبحانه وتعالى مَنَّ عَلَيْهِمْ فجعل في قلوبهم محبة الله, فَلَمَّا جعل في قلوبهم محبة الله جازاهم عَلَى هَذِهِ المحبة بحبٍ ثاني, وهذا هُوَ الإحسان, هَذَا إحسانٌ من الله وليس معاوضة.

بخلاف المخلوق الَّذِي يعاوضك, تعطيه كذا ويعاوضك كذا, لا, الرب سبحانه وتعالى محسن متفضل ما في معاوضة, مَنَّ عَلَيْهِمْ فجعل في قلوبهم المحبة, فَلَمَّا أحبوه جازاهم بحبٍ ثاني, فهذا هُوَ الإحسان, ليس إحسان معاوضة ولا إحسان توقع الشكران, الآدمي قَد يُحسن إليك معاوضةً أو يتوقع أنك تشكره, والرب سبحانه وتعالى لا يحتاج إِلَى مثل ذلك, لا معاوضة ولا يتوقع أن تشكره, إن شكرت فلنفسك: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل/40].

(لَكِنْ يحب شكرهم وشكورهم) يحب الله تعالى شكر العبد, هَذَا عمله, العبد الشاكر الَّذِي يقوم بخدمة الله, ويؤدي ما فرض الله عليه يحب الله شكره, ويحب العبد الشكور نفسه, (لا لاحتياج منه للشكران) لا لحاجته سبحانه وتعالى, هُوَ ما يحتاج إِلَى الشكور ولا إِلَى شكره, بَلْ هَذَا فضله وجوده سبحانه وتعالى.

ففي هَذِهِ الأبيات تفسير لاسم الله تعالى "الودود" والودود اُختلف فِيه, عَلَى وزن فعول, قِيلَ: فعول بمعنى فعل, أو فعول بمعنى مفعول, فعولٌ بمعنى فاعل يَعْنِي ودودٌ بمعنى واد لعباده, وفعول بمعنى مفعول ودود بمعنى مودود, يوده عباده ويحبه عباده, فهل الودود بمعنى الواد أو الودود بمعنى المودود؟ يشمل الأمرين, فهو الودود بمعنى واد يود عباده, والمودود يَعْنِي: يوده عباده ويحبونه.

فهو المودود لأوليائه سبحانه وتعالى, وهو الواد لعباد, ومحبة الله لا تعادلها محبة لا في أصلها ولا في المتعلقات ولا في الكيفية, وينبغي أن تكون محبة الله في قلب العبد سابقة لكل محبة, ولهذا قَالَ تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة/54].

ومحبة الله أصل الإيمان, لابد أن توجد محبة الله في القلب, من لَمْ يحب الله فهو كافر, متى تفقد المحبة إذا فعل الكفر أما العاصي عنده أصل المحبة وكمال المحبة تقديم محبة الله ومحبة رسوله عَلَى كُلّ شيء, عَلَى الآباء, وعَلَى الأبناء, وعَلَى الإخوان, وعَلَى الأزواج, وعَلَى العشيرة, وعَلَى المساكن, إِلَى غير ذلك.

فكمال الإيمان أن تقدم محبة الله عَلَى محبة كُلّ شيء, عَلَى محبة آباءك, وأمهاتك, وأبناءك, وإخوانك, والعشيرة, والأقارب, والأموال, والتجارات, والمساكن؛ هَذَا كمال المحبة الواجبة, فَإِن قدمت محبة شيء من هَذِهِ الأصناف عَلَى محبة الله فهذا يدل عَلَى ضعف الإيمان ونقص الإيمان, وتكون مرتكب للكبيرة, ومتوعد, ولهذا توعد الله من قدم شَيْئًا من الأصناف الثمانية عَلَى محبة الله ورسوله, قَالَ تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} هَذَا وعيد, تربصوا وانتظروا ما يحل بكم من عقوبة الله, {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة/24]؛ حكم عَلَيْهِمْ بالفسق.

إذًا من قدم محبة شيء من الأصناف الثمانية عَلَى محبة الله فهو متوعد بالوعيد الشديد وهو فاسق مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب, {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة/24].

كيف يقدم محبة الله عَلَى محبة العبد؟ أمره أبوه بالمعصية, أمره بأن يشتري له الدخان من البقالة فَإِن أطاعه يكون قدم محبة الأب عَلَى محبة الله وإن عصاه قدم محبة الله, تعامل بالربا وأخذ فوائد ربوية؛ هَذَا قدم محبة المال عَلَى محبة الله ويكون ضعيف وناقص الإيمان, قدم محبة المساكن أَيْضًا, لَكِنْ لا يكون كافرًا إِلَّا إذا فعل الكفر, ولهذا توعد الله من قدم أحدًا من الأصناف الثمانية بالعقوبة وحكم عليه بالفسق.

إذًا كمال محبة الله أن تقدمه عَلَى محبة النفس والأموال حَتَّى عَلَى محبة نفسك؛  هَذَا كمال المحبة, كمال المحبة الواجب: أن تقدم محبة الله عَلَى محبة كُلّ أحد وعلى نفسك, فَإِن قدمت شَيْئًا من ذلك, فهذا نوع من الفسق وعلى صاحبه الوعيد الشديد.

ومحبة الله هِيَ روح الأعمال, جميع العبوديات ناشئة من محبة الله, ومحبة العبد لربه فضلٌ من الله وإحسان, وهو الَّذِي يوفقه, ليس يحب العبد بقوته ومحبة الله هِيَ روح الأعمال, جميع العبوديات ناشئة عن محبة الله: الصلاة, الصيام,  الزَّكَاة, الحج, بر الوالدين ناشئة عن محبة الله, ومحبة العبد لربه فضلٌ من الله تعالى وإحسان يصلح بها حال العبد, فهو الَّذِي أحب عبده فجعل المحبة في قلبه, ثُمَّ لما أحبه العبد جازاه بحبٍ آخر, وهذا هُوَ الإحسان, من الَّذِي جعل المحبة في قلب العبد؟ هُوَ الله, ثُمَّ يجازيه عَلَى ذلك بحب آخر, وهذا هُوَ الإحسان الحقيقي الَّذِي لا يُقصد بِهِ المعاوضة, وَإِنَّمَا ذلك محبة من تعالى للشاكرين, ومحبةً للشكر.

الطالب: ألا يستقيم أن يكون البيت : لَكِنْ يحب شَكورهم وشُكورهم, الأول: مفعول بمعنى فاعل, والثاني: مصدر أيْ شاكرهم وشكرهم؟.

الشيخ: من الفاعل لَكِنْ يحب؟ الله, إذًا جاء الفاعل ما بقي إِلَّا النصب, لَكِنْ يحب الله شكرهم وشكورهم, شكرهم: صلاتهم, صيامهم, وشكورهم: العبد الشاكر لله, الضمير يعود إِلَى الله.

الطالب: لَكِنْ يحب شُكورهم وشَكورهم؟.

الشيخ: ما في مانع وكلمة: لَكِنْ يحب شكرهم, هَذَا مفرد يعم, لَكِنْ ينكسر البيت فقط, إذا قلت: لَكِنْ يحب شَكورهم وشُكورهم ينكسر البيت, البيت ما يستقيم, لَكِنْ يحب شكرهم هَذَا جنس مراد بِهِ الجمع.

لكن يحب شكرهم وشكورهم
 

 

لا لاحتياج منه للشكران
 

 

يحب الشكر, والشكر جنس المراد بِهِ يشمل جميع أفعال الشاكرين, وإذا قلت: لَكِنْ يحب شَكورهم وشُكورهم, انكسر البيت وما استقام.

إذا نقف على فصل اسم الله الودود.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد