بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال ابن خزيمة –رحمه الله تعالى-:
بَابُ إِبَاحَةِ قَصْرِ الْمُسَافِرِ الصَّلاَةَ فِي الْمُدُنِ إِذَا قَدِمَهَا، مَا لَمْ يَنْوِ مَقَامًا يُوجِبُ إِتْمَامَ الصَّلاَةِ.
قال: أخبرنا أبو طاهرٍ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ قال: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ (ح)، وحَدَّثَنَا بُنْدَارٌ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالاَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قال: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى يَقُولُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- كَيْفَ أُصَلِّي بِمَكَّةَ إِذَا لَمْ أُصَلِّ فِي جَمَاعَةٍ؟ فَقَالَ: رَكْعَتَيْنِ، سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَقَالَ بُنْدَارٌ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ.
وقَالَ: أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الْخَبَرُ عِنْدِي دَالٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَلَّى خلف المقيم فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلاَةِ لِرِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- الَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قال: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُسَافِرِ يُصَلِّي خَلْفَ الْمُقِيمِ، قَالَ: يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ.
وَلَسْنَا نَحْتَجُّ بِرِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، إِلاَّ أَنَّ خَبَرَ قَتَادَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ دَالٌ عَلَى خِلاَفِ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ طَاوُوسٍ فِي الْمُسَافِرِ يُصَلِّي خَلْفَ الْمُقِيمِ، قَالَ: إِنْ شَاءَ سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ.
هذا هو الصواب أن المسافر إذا صلى خلف المقيم يلزمه الإتمام، يصلي أربعة، الرباعية يصليها أربع، أما إذا صلى وحده أو مع المسافرين فإنه يقصر ولو كان في البلد، ولكن المسافر إذا كان في البلد فسمع النداء يجب عليه أن يجيب النداء، خصوصًا إذا كان وحده، وليس له أن يصلي وحده منفردًا، بل عليه أن يجيب ولو كان في البلد.
وإذا فاتته الصلاة وصلى وحده ولو كان في البلد يقصر الصلاة، وهذه الترجمة هنا، قال: باب إقصار المسافر الصلاة في البنيان وفي البيوت.
يقول: بَابُ إِبَاحَةِ قَصْرِ الْمُسَافِرِ الصَّلاَةَ فِي الْمُدُنِ إِذَا قَدِمَهَا.
نعم، إذا قدمها وهو مسافر فله أن يقصر إذا كانوا جماعة، أما إذا كان وحده فإنه يصلي مع الناس ويتم تبعًا للإمام.
قَالَ: حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ طَاوُوسٍ.
قال: أخبرنا أبو طاهرٍ قال: حدثنا أبو بكرٍ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ –رضي الله عنهما- كَانَ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَجْمَعَهُ إِمَامٌ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ، فَإِنْ جَمَعَهُ الإِمَامُ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ.
نعم، هكذا المسافر، يصلي ولو في البلد، يصلي الرباعية ركعتين، إلا إذا صلى خلف الإمام (خلف المقيم) فإنه يُتم، يكون تابعًا لإمامه، يلزمه الإتمام.
قال: بَابُ إِبَاحَةِ قَصْرِ الْمُسَافِرِ الصلاة إِذَا أَقَامَ بِالْبَلْدَةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ غَيْرِ إِزْمَاعٍ عَلَى إِقَامَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالْبَلْدَةِ، عَلَى الْحَاجَةِ.
قال: أخبرنا أبو طاهرٍ قال: حدثنا أبو بكرٍ قال: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ضُرَيْسٍ قَالاَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قال: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- قَالَ: سَافَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَفَرًا، فَأَقَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِذَا أَقَمْنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا.
قَالَ ابْنُ ضُرَيْسٍ: عَنْ عَاصِمٍ.
وهذا اختيار ابن عباس، أن مدة السفر عشرين ليلة، وأنه إذا أقام أقل من عشرين ليلة يقصر الصلاة، فإن أقام عشرين ليلة أتمّ، أخذًا من فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- لما أقام بتبوك.
ومن العلماء من قال: عشرة أيام، أخذًا من فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع.
ومنهم من قال: أربعة أيام، ومنهم من قال: ثلاثة أيام.
والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أنه إذا نوى الإقامة في مكان أكثر من أربعة أيام فإنه يتم، أما إذا كان يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة فإنه لا يزال يقصر الصلاة، فإن عزم على إقامة أكثر من أربعة أيام فإنه يُتم.
أما إذا لم ينوِ إقامة، فإنه لا يزال يقصر ولو أقام مدةً طويلة، مادام ليس عنده نية الإقامة، وإنما يريد السفر، وقد أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر، منعته الثلوج، يقصر الصلاة، كل يوم يريد أن يذهب فلا يقدر.
وأما فعل النبي –صلى الله عليه وسلم-، فإنه أقام في حجة الوداع عشرة أيام، وأقام في مكة في غزوة الفتح تسعة عشر يومًا، لكن لم ينوِ الإقامة هنا، وفي تبوك كذلك، لم ينوِ الإقامة، ما نوى إقامة، إنما الذي نوى الإقامة في حجة الوداع، لما قدم في اليوم الرابع من ذي الحجة ونزل في الأبطح إلى اليوم الثامن، هذه الأربعة عازم على الإقامة فيها.
فأخذ الجمهور من هذا أن الأصل أن المسافر إنما هو الذي يرحل ويضع، واستُثني أربعة أيام لفعل النبي –صلى الله عليه وسلم-.
طالب: الترجمة قال: خمس عشرة، وفي أثر ابن عباس تسع عشر.
باب ماذا؟ الترجمة.
طالب: بَابُ إِبَاحَةِ قَصْرِ الْمُسَافِرِ الصلاة إِذَا أَقَامَ بِالْبَلْدَةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ غَيْرِ إِزْمَاعٍ عَلَى إِقَامَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالْبَلْدَةِ عَلَى الْحَاجَةِ.
نعم، (مِنْ غَيْرِ إِزْمَاعٍ) يعني من غير نية إقامة، والصواب أن المدة طالت أو قصرت، مادام ما نوى إقامة حتى ولو زاد عليها، حديث ابن عباس يخالف ما في الترجمة، الترجمة يقول: من غير إزماع، ابن عباس حددها بتسعة عشر يومًا، قال: إذا أقمنا تسعة عشر يومًا نقصر الصلاة، وإن أقمنا أكثر من ذلك نتم، ولم يتعرض للإزماع، ابن عباس.
قال: بَابُ ذِكْرِ خَبَرٍ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ الْحِجَازِيِّينَ فِي إِزْمَاعِ الْمُسَافِرِ مَقَامَ أَرْبَعٍ أَنَّ لَهُ قَصْرَ الصَّلاَةِ.
قال: أخبرنا أبو طاهرٍ قال: حدثنا أبو بكرٍ قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى (ح)، وحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ (ح)، وَحَدَّثَنَاهُ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالاَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ (ح)، وَحَدَّثَنَاهُ الصَّنْعَانِيُّ قال: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ –رضي الله عنه- عَنْ قَصْرِ الصَّلاَةِ، فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا، فَسَأَلْتُهُ هَلْ أَقَامَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَقَامَ بِهَا عَشْرًا.
أقام بها عشرًا في حجة الوداع؛ لأنه قدم في اليوم الرابع من ذي الحجة، وغادر في اليوم الرابع عشر، عشرة أيام هذه.
قال: هَذَا حَدِيثُ الدَّوْرَقِيِّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: كَانَ يُصَلِّي بِنَا رَكْعَتَيْنِ.
وهذا هو السنة، المسافر إذا خرج من بلده يصلي ركعتين حتى يعود إلى بلده، إلا إذا نوى الإقامة في مكان أكثر من أربعة أيام يُتم، وإلا إذا صلى خلف المقيم فإنه يُتم.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يَقُولاَ: سَأَلْتُ أَنَسًا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَسْتُ أَحْفَظُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أَزْمَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْفَارِهِ عَلَى إِقَامَةِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ غَيْرَ هَذِهِ السَّفْرَةِ الَّتِي قَدِمَ فِيهَا مَكَّةَ لِحَجَّةِ الْوَدَاعِ ؛ فَإِنَّهُ قَدِمَهَا مُزْمِعًا عَلَى الْحَجِّ، فَقَدِمَ مَكَّةَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
كما قال أبو بكر المؤلف –رحمه الله-، النبي –صلى الله عليه وسلم- في أسفاره ما نوى الإقامة في سفر، في أسفاره كلها ما نوى الإقامة، في غزوة الفتح أقام تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة؛ لأنه ما قصد الإقامة، وإنما أقام لتثبيت التوحيد، وإزالة الشرك، وتعليم الناس.
وكذلك في حجة الوداع ما نوى الإقامة، وكذلك في غزوة تبوك، إنما الذي نوى الإقامة في حجة الوداع، قدم في اليوم الرابع من ذي الحجة ونزل في الأبطح إلى اليوم الثامن أربعة أيام، هذه عازم على الإقامة لأنه يريد الحج، ولهذا استثناه الجمهور، قالوا: هذه المدة إذا نوى أكثر منها، فهو أمضى هذه الأربعة أيام، تُستثنى.
كَذَلِكَ حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَدِمَهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ.
كان يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم توجه إلى منى يوم الخميس، وفي يوم الجمعة هو يوم عرفة.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَدِمَهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ خَلاَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ سَائِرًا فِيهِ مِنَ الْبَدْءِ الرَّابِعِ، إِلَى أَنْ قَدِمَهَا وَبَعْضُ يَوْمِ الْخَامِسِ مُزْمِعًا عَلَى هَذِهِ الإِقَامَةِ عِنْدَ قُدُومِهِ مَكَّةَ، فَأَقَامَ بَاقِي يوم الرَّابِعِ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ وَالثَّامِنَ إِلَى مُضِيِّ بَعْضِ النَّهَارِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ.
يعني في أول الرابع كان ماشيًا، مسافرًا، دخل مكة يعني في أول اليوم الرابع، جزء من اليوم وهو سائر، وكذلك لما طلعت الشمس في اليوم الخامس الذي هو يوم التروية، يوم الخميس.
إِلَى مُضِيِّ بَعْضِ النَّهَارِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى.
كَذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ؟ قَالَ: بِمِنًى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ: فَأَقَامَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَقِيَّةَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، وَلَيْلَةَ عَرَفَةَ، ثُمَّ غَدَاةَ عَرَفَةَ، فَسَارَ إِلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَاتٍ، فجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْقِفِ، فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ دَفَعَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَبَاتَ بهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَسَارَ وَرَجَعَ إِلَى مِنًى، فَأَقَامَ بَقِيَّةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبَعْضَ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى.
فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ من يوم الثالث مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلاَثَ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ.
(بِالْمُحَصَّبِ): الوادي الذي فيه حصباء.
فَهَذِهِ تَمَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَمِيعُ مَا أَقَامَ بِمَكَّةَ وَمِنًى فِي الْمَرَّتَيْنِ وَبِعَرَفَاتٍ، فَجَعَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كُلَّ هَذَا إِقَامَةً بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ مِنًى وَلاَ عَرَفَاتٌ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ هُمَا خَارِجَانِ مِنْ مَكَّةَ، وَعَرَفَاتٌ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ أَيْضًا، فَكَيْفَ يَكُونُ مَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ مِنْ مَكَّةَ؟
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ ذَكَرَ مَكَّةَ وَتَحْرِيمَهَا: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يُنْفَرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا».
فَلَوْ كَانَتْ عَرَفَاتٌ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَحِلَّ أَنْ يُصَادَ بِعَرَفَاتٍ صَيْدٌ، وَلاَ يُعْضَدُ بِهَا شَجَرٌ وَلاَ يُخْتَلَى بِهَا خَلاَءٌ، وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الصَّلاَةِ عَلَى أَنَّ عَرَفَاتٍ خَارِجَةٌ مِنَ الْحَرَمِ مَا بَانَ وَثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنَّ مَا كَانَ اسْمُ مَكَّةَ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ، فَعَرَفَاتٌ خَارِجَةٌ مِنْ مَكَّةَ لأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الْحَرَمِ وَمِنًى بَائنٌ مِنْ بِنَاءِ مَكَّةَ وَعُمْرَانِهَا، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ مَكَّةَ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ فَمِنًي دَاخِلٌ فِي الْحَرَمِ، وَأَحْسَبُ خَبَرَ عَائِشَةَ دَالًّا...
الشيخ: أين خبر عائشة؟
طالب: [00:17:01].
الشيخ: سيأتي بعده؟
القارئ: نعم.
قال: وَأَحْسَبُ خَبَرَ عَائِشَةَ دَالاً عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ وَرَاءِ الْبِنَاءِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لَيْسَ مِنْ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ خَبَرُ ابْنُ عُمَرَ.
أَمَّا خَبَرُ عَائِشَةَ، فَإِنَّ أَبَا مُوسَى، وَعَبْدَ الْجَبَّارِ، قَالاَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلاَهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا.
هذا خبر عائشة.
هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى.
قال: أخبرنا أبو طاهرٍ قال: حدثنا أبو بكرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ.
قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ أَبِي يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَبِي أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاء.
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ بُنْدَارًا حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ قال: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي عِنْدَ الْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا دَالٌ عَلَى أَنَّ الثَّنِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَكَّةَ وَالثَّنِيَّةُ مِنَ الْحَرَمِ، وَوَرَاءَهَا أَيْضًا مِنَ الْحَرَمِ، وَكَدَا مِنَ الْحَرَمِ، وَمَا وَرَاءَهَا أَيْضًا مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْعَلاَمَاتِ الَّتِي أُعْلِمَتُ بَيْنَ الْحَرَمِ وَبَيْنَ الْحِلِّ.
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ؟ فَلَوْ كَانَتِ الثَّنِيَّةُ مِنْ مَكَّةَ وَكَدَا مِنْ مَكَّةَ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ وَمِنْ كَدَا.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِأَنَّ جَمِيعَ الْحَرَمِ مِنْ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ»، فَجَمِيعُ الْحَرَمِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَكَّةَ، إِلاَّ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ مَكَّةَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ.
يَقُولُ الْقَائِلُ: خَرَجَ فُلاَنٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى، وَرَجَعَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، وَإِذَا تَدَبَّرْتَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَنَاسِكِ وَجَدْتَ مَا يُشْبِهُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ كَثِيرًا فِي الأَخْبَارِ، فَأَمَّا عَرَفَةُ وَمَا وَرَاءَ الْحَرَمِ فَلاَ شَكَّ وَلاَ مِرْيَةَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَّةَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَفَرَ مِنْ مِنًى يَوْمَ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
أَنَّ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الأَعْلَى حَدَّثَنَا، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قال: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ دِعَامَةَ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثُمَّ خَرَجَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَدِينَةِ.
قال: أخبرنا أبو طاهرٍ قال: حدثنا أبو بكرٍ قَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، يَعْنِي الْحَنَفِيَّ قال: حَدَّثَنَا أَفْلَحُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- فَذَكَرَتْ بَعْضَ صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَتْ: فَأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابَهُ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَمَرَّ بِالْبَيْتِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، فَطَافَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكِبَ، ثُمَّ انْصَرَفَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ نَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ يَجْعَلُ مَا وَرَاءَ الْبِنَاءِ الْمُتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْمُدُنِ مِنَ الْمُدُنِ، وَإِنْ كَانَ مَا وَرَاءَ الْبِنَاءِ مِنْ حَدِّ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَمِنْ أَرَاضِيهَا الْمَنْسُوبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ، لاَ نَعْلَمُهُمُ اخْتَلَفُوا أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَدِينَةٍ يُرِيدُ سَفَرًا، فَخَرَجَ مِنَ الْبُنْيَانِ الْمُتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَنَّ لَهُ قَصْرَ الصَّلاَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الأَرْضُونَ الَّتِي وَرَاءَ الْبِنَاءِ مِنْ حَدِّ تِلْكَ الْمَدِينَةِ.
وَكَذَلِكَ لاَ أَعْلَمُهُمُ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ يُرِيدُ بَلْدَةً فَدَخَلَ بَعْضَ أَرَاضِي بَلْدَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ خَارِجًا مِنْ حَدِّ الْبِنَاءِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، أَنَّ لَهُ قَصْرَ الصَّلاَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْ مَوْضِعَ الْبِنَاءِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهُ بِبَعْض.
وَلاَ أَعْلَمَهُمُ اخْتَلَفُوا أَنَّ مَنَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ مَنْ قَدْ أَقَامَ بِهَا قَاصِدًا سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلاَةَ، فَفَارَقَ مَنَازِلَ مَكَّةَ، وَجَعَلَ جَمِيعَ بِنَائهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدُ فِي الْحَرَمِ أَنَّ لَهَ قَصْرَ الصَّلاَةِ، فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ فِي حَجَّتِهِ، فَخَرَجَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَدْ فَارَقَ جَمِيعَ بِنَاءِ مَكَّةَ، وَسَارَ إِلَى مِنًى، وَلَيْسَ مِنًى مِنَ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ مَدِينَةُ مَكَّةَ.
فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ إِذَا خَرَجَ الْمَرْءُ مِنْ مَدِينَةٍ -لَوْ أَرَادَ سَفَرًا- بِخُرُوجِهِ مِنْهَا جَازَ لَهُ قَصْرُ الصَّلاَةِ أَنْ يُقَالَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بِنَائِهَا: هُوَ فِي الْبَلْدَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْبَلْدَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُ الصَّلاَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا.
فَالصَّحِيحُ عَلَى مَعْنَى الْفِقْهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُقِمْ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ كَوَامِلَ، يَوْمَ الْخَامِسِ وَالسَّادِسِ وَالسَّابِعِ، وَبَعْضَ يَوْمِ الرَّابِعِ، دُونَ لَيْلِهِ، وَلَيْلَةِ الثَّامِنِة وَبَعْضِ يَوْمِ الثَّامِنِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِزْمَاعٌ عَلَى مُقَامِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ إِذَا تَدَبَّرْتَهُ بِخِلاَفِ قَوْلِ الْحِجَازِيِّينَ فِيمَنْ أَزْمَعَ مُقَامَ أَرْبَعٍ، أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلاَةَ؛ لأَنَّ مُخَالِفِيهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ أَزْمَعَ مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي مَدِينَةٍ، وَأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ خَارِجًا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَرَاضِيهَا، الَّتِي هِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى قَدْرِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى فِي مَرَّتَيْنِ لاَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ مَا بَيْنَ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ كَانَ لَهُ قَصْرُ الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَهُمْ إِزْمَاعًا عَلَى مُقَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ عَلَى مَا زَعَمُوا أَنَّ مَنْ أَزْمَعَ مُقَامَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلاَةِ، انتهى.
ثم قال: بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ.
بركة، أقول: هذا تفقه من المؤلف –رحمه الله-، فقه عظيم هذا، يناقش القائلين أنه أقام بمكة عشرة أيام، يقول: ما أقام عشرة أيام بمكة، أولًا: ليست أربعة أيام كاملة؛ لأن جزء من اليوم الرابع هذا خارج مكة، وجزء من اليوم الخامس رحيل لمنى، وأيضًا منى ليست من مكة؛ لأنها خارج البنيان.
وعرفة كذلك في اليوم التاسع، عرفة بالاتفاق، بالإجماع أنه ليس من مكة، لكن الكلام في منى والحرم، هل هو داخل مكة أو غير داخل مكة؟
والمؤلف حقق أنه ليس داخل مكة، وأن مكة خاص بالبنيان، ومنى ومزدلفة ليست من مكة؛ لأنه قال: دخل من الثنية إلى مكة، دلّ على أنها خارج، وهي داخل الحرم، فليس كل مكان داخل الحرم يكون من مكة.
ولهذا معروف الآن عند العلماء أن الإنسان إذا كان في بلد ثم فارق البنيان له أن يقصر الصلاة، ولو كان أراضي البلد باقية، الأراضي التي ما بنيت، ولو كان في الأراضي؛ لأنه فارق البنيان، وكذلك إذا قدم من سفر ثم دخل الأراضي، أراضي البلد ولم يصل إلى البنيان، هو لا يزال مسافر.
وهذه المسألة فيها خلاف في الحاج المتمتع الآن، هل يعتبر الآن إذا كان ساكن في الحرم خارج حدود مكة، هل هو من أهل الحرم الذين يسقط عنهم الدم أو لا يسقط؟
من العلماء من قال: مكة من كان داخل البنيان، سواء في الحرم، لو زادت البنيان عن حدود الحرم، فهذا حاضري المسجد الحرام وكذلك لو كان داخل حدود الحرم، أما من كان خارج حدود الحرم وخارج البنيان فهذا ليس من حاضري المسجد الحرام، فعليه الهدي.
وهذا هو الأقرب، من كان خارج مكة خارج الحرم، فهذا ليس من مكة، أما من كان داخل حدود الحرم، ولو كان خارج ....مكة، فهذا من حاضري المسجد الحرام؛ لأنه من الحرم.
وكذلك لو كان داخل مكة إذا تجاوز البنيان الحرم، فهو يعتبر من [00:31:12] مكة، فلا يجب عليه الهدي إذا كان ساكن في الحرم أو ساكن في مكة لا يجب عليه الهدي، أما إذا كان ساكن خارج الحرم، خارج مكة ولو كان قريب، فهذا يعتبر آفاقي، والمسألة فيها خلاف.
من العلماء من قال: الآفاقي وإن كان بينه وبين الحرم مسافة قصر، ومنهم من قال: من كان خارج المواقيت فهذا يعتبر خارج مكة، ومن كان داخل المواقيت يعتبر، ومنهم من قال: من كان خارج الحرم خارج مكة، وهذا هو الأقرب، أن من كان ساكن في نفس الحرم أو في بنيان مكة، هذا من حاضري المسجد الحرام.
وعلى هذا أهل الشرائع، أهل الشرائع إذا كان خارج الحرم، هذا ما يعتبر من حاضري المسجد الحرام، إلا إذا قيل إن البنيان اتصلت، اتصلت بالشرائع، فيكون من أهل مكة، فهذا تفقه من المؤلف -رحمه الله-، فقهٌ عظيم –رحمه الله-، ابن خزيمة.
وعلى هذا استظهر أن النبي ما أقام أربعة أيام في حجة الوداع، وإنما أقام ثلاثة أيام بكمالها، بلياليها، وبعض الرابع من ذي الحجة، وشيء من الخامس.
وكذلك استظهر أن البلد إنما هي اسمٌ للبنيان، وأما الأراضي التابعة لها، وإن كانت تابعة لها فلا تمنع من كون المسافر يترخص برخص السفر.
ويدل على هذا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع خطب الناس في الظهر، وعزم على الحج، وصلى الظهر أربعًا، ثم ارتحل العصر إلى ذي الحليفة، ذي الحليفة قريب من المدينة، الأصل في وسط المدينة، فقصر الصلاة؛ لأنه خارج البنيان.
بركة، وفق الله الجميع لطاعته.