شعار الموقع

سورة النور - 13

00:00
00:00
تحميل
8

وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ({وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ‌لَئِنْ ‌أَمَرْتَهُمْ ‌لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‌‌(٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ‌‌(٥٤)}.

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، الَّذِينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ أَمَرَتهُمْ بِالْخُرُوجِ [فِي الْغَزْوِ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا} أَيْ: لَا تَحْلِفُوا.

وَقَوْلُهُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} قِيلَ: مَعْنَاهُ طَاعَتُكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ، أَيْ: قَدْ عُلمت طَاعَتُكُمْ، إِنَّمَا هِيَ قَوْلٌ لَا فِعْلَ مَعَهُ، وَكُلَّمَا حَلَفْتُمْ كَذَبْتُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التَّوْبَةِ: ٩٦] ، وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: ٢]، فَهُمْ مِنْ سَجِيَّتِهِمُ الْكَذِبُ حَتَّى فِيمَا يَخْتَارُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الْحَشْرِ: ١١، ١٢].

وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أَيْ: لِيَكُنْ أَمْرُكُمْ طَاعَةً مَعْرُوفَةً، أَيْ: بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ حَلف وَلَا إِقْسَامٍ، كَمَا يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِغَيْرِ حَلِفٍ، فَكُونُوا أَنْتُمْ مِثْلَهُمْ.

{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ: هُوَ خَبِيرٌ بِكُمْ وَبِمَنْ يُطِيعُ مِمَّنْ يَعْصِي، فَالْحَلِفُ وَإِظْهَارُ الطَّاعَةِ -وَالْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ رَاجَ عَلَى الْمَخْلُوقِ- فَالْخَالِقُ، تَعَالَى، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، لَا يَرُوجُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّدْلِيسِ، بَلْ هُوَ خَبِيرٌ بِضَمَائِرِ عِبَادِهِ، وَإِنْ أَظْهَرُوا خِلَافَهَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أَيْ: اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسَنَةَ رَسُولِهِ).

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، هذه الآيات في المنافقين، سورة النور فيها آيات في المنافقين، وسبق في الآيات: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(50)﴾[النور:47/50]، هذه الآيات كلها في وصف المنافقين، ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[النور:48]، يقولون بألسنتهم: آمنا بالله ورسوله، ولكن في العمل يتولون ويعرضون، كما قال سبحانه في سورة المنافقين: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾[المنافقون:1].

ثم قال سبحانه: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)﴾[النور:48/49]، إذا دعوا إلى التحاكم إلى الله ورسوله، إن كان لهم الحق أذعنوا، وإن كان عليهم أعرضوا، هذا وصف المنافقين، فهم لا يرضون بحكم الله ورسوله إلا إذا كان موافقًا لهواهم، قال الله تعالى: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾[النور:50]، ولا شك أن هؤلاء المنافقين في قلوبهم مرض وشك وريب، ولهذا قال سبحانه: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[النور:50]، ثم قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[النور:51]، هؤلاء المؤمنون الصادقون ينقادون لحكم الله ورسوله، ويقولون: سمعنا وأطعنا، ثم قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾[النور:52]، هذا في فضل المطيع لله ورسوله المتقي، وأنهم أهل الفوز والثواب العظيم، ورضا الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ودخول جناته، والتمتع بدار كرامته.

ثم قال سبحانه في وصفهم: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾[النور:53]، أقسموا بالله جهد أيمانهم إن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾[النور:53]، ذكر المؤلف قولان في معنى طاعة معروفة، قيل: المعنى طاعتكم طاعة معروفة، وأنها طاعة باللسان، وأما الفعل والعمل فلا، لا تقسموا، طاعتكم معروفة أيها المنافقون، معروف أنكم لا تنقادون، وأن قلوبكم تخالف ما تتكلم به ألسنتكم، كما قال سبحانه في أول سورة البقرة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾[البقرة:8]، وقيل المعنى: ليكن طاعتكم بالمعروف، كحال المؤمنين الصادقين، ليكن طاعتكم طاعة بالمعروف، كحال المؤمنين الصادقين، ولا يحتاج إلى حلف ولا إلى إقسام، ثم قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[النور:53]، فالله خبير بأعمالكم، ونياتكم، وأعمالكم، وقلوبكم، فاحذروه، فإنه سبحانه لا تخفى عليه خافية، وهو عليم بذات الصدور.

وفي هذه الآيات الكريمات بيان حال المنافقين، وفيها أن الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون باطنًا وظاهرًا كما ذكر الله في أول سورة البقرة، وكفار ظاهرًا وباطنًا كما ذكر الله في أول سورة البقرة، وكفار ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون في الظاهر كفار في الباطن، وهم المنافقون، وهم أخطر الأصناف الثلاثة، ومن أوصافهم أن أقوالهم تخالف أفعالهم، فأقوالهم طيبة، وأفعالهم خبيثة، مخالفة لأقوالهم، من أوصافهم أنهم لا يرضون بحكم الله ورسوله، وأنه إذا كان لهم الحق أذعنوا، وإن كان عليهم أعرضوا ولم يقبلوا، ومن صفاتهم كثرة الحلف والإيمان والإقسام؛ ليأكدوا ما يريدونه، ولكن أعمالهم تخالف أقوالهم، والله سبحانه وتعالى أخبره بأنه خبير بأعمالهم، لا تخفى عليه خافية، فعليهم أن يحذروه.

(ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أَيْ: اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسَنَةَ رَسُولِهِ.

وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أَيْ: تَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَتَتْرُكُوا مَا جَاءَكُمْ بِهِ، {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أَيْ: إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أَيْ: مِنْ ذَلِكَ وَتَعْظِيمِهِ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشُّورَى: ٥٣].

وَقَوْلُهُ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} كَقَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرَّعْدِ: ٤٠]، وَقَوْلِهِ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الْغَاشِيَةِ: ٢١، ٢٢]).

﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾[النور:54]، أمر بطاعة الله ورسوله، قل أطيعوا الله والرسول؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والرسول إنما أرسل؛ ليطاع، كما قال سبحانه وتعالى في الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[النساء:64]، أطيعوا الله سبحانه وتعالى، وأطيعوا رسوله، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوا﴾[النور:54]، أعرضوا عن طاعة الله ورسوله، فالرسول عليه الصلاة والسلام عليه البلاغ، حمله الله البلاغ وقد بلغ، وأنتم أيها المخاطبون عليكم ما حملتم، وهو الامتثال لأمر الله وأمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾[النور:54]، من أعرض فإنما يضر نفسه، والرسول عليه الصلاة والسلام عليه البلاغ، وأنتم حملتم الاتباع والامتثال، فمن أعرض فإنما الرسول ما عليه إلا البلاغ.

﴿فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾[النور:54]، فيه بيان أن طاعة الله ورسوله هي سبب الهداية، وأن من أطاع الله ورسوله عن إخلاص وصدق فإن الله تعالى ييسر له الهداية، ويمن عليه بالهداية، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾[النور:54]، الرسول ليس عليه إلا البلاغ، والهداية بيد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هداية التوفيق والتسديد، وأما هداية الدلالة والإرشاد فإن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يملكها، ويملكها من بعده الدعاة والمصلحون والعلماء، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، وهي هداية الدلالة والإرشاد والبيان والإبلاغ والإيضاح، هذه يملكها الرسول ويملكها من بعده من العلماء والدعاة، أما هداية التوفيق والسداد وكونه يقبل الحق لا يملكها إلا الله، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[القصص:56].

(وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ -يُقَالُ لَهُ: شِعِيَاءُ -أَنْ قُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنِّي سَأُطْلِقُ لِسَانَكَ بِوَحْيٍ. فَقَامَ فَقَالَ: يَا سَمَاءُ اسْمَعِي، وَيَا أَرْضُ انْصِتِي، فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَقْضِيَ شَأْنًا وَيُدَبِّرَ أَمْرًا هُوَ مُنَفِّذُهُ، إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ الرِّيفَ إِلَى الْفَلَاةِ، وَالْآجَامَ فِي الْغِيطَانِ، وَالْأَنْهَارَ فِي الصَّحَارِي، وَالنِّعْمَةَ فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْمُلْكَ فِي الرُّعَاةِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ أُمِّيًّا مِنَ الْأُمِّيِّينَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخّاب فِي الْأَسْوَاقِ، لَوْ يَمُرُّ إِلَى جَنْبِ السِّرَاجِ لَمْ يُطْفِئْهُ مِنْ سَكِينَتِهِ، وَلَوْ يَمْشِي عَلَى الْقَصَبِ الْيَابِسِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ. أَبْعَثُهُ مُبَشِّرا ونذيرًا، لا يقول الخنَا، أَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وأسَدِّده لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبِرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَنْطِقَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وأعلِّم بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ، وأرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الخمَالة، وَأُعْرَفُ بِهِ بَعْدَ النُّكْرَة، وَأُكْثِّرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ العَيلَة، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ أُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَقُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَشَتَّتَةٍ، وَأَسْتَنْقِذُ بِهِ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ عَظِيمًا مِنَ الهَلَكة، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مُوَحِّدِينَ مُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، مُصَدِّقِينَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلي. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).

هذا من أخبار بني إسرائيل، لكن ساقه المؤلف رحمه الله لأن بعض هذه المعاني لها أدلة، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران:110]، وكذلك أيضًا بعض الجمل لها أدلة التي ذكرها.

الطالب: ليس بفظ ولا غليظ.

الشيخ: هذا ساقه المؤلف من أجل هذا، وإلا ما يعتمد عليه هذا؛ لأنه من أخبار بني إسرائيل، وليس له سند ولا خطام ولا زمام، لكن بعض الجمل التي دلت عليها النصوص الأخرى، هو نظر لما دلت عليه النصوص، العبرة بالنصوص، كثير من هذه الجملة التي جاءت في هذا الأثر دلت عليها النصوص من الكتاب والسنة، فلهذا ساق المؤلف هذا الأثر، وفيها هذه الآيات الكريمات التي تفيد طاعة الله ورسوله، وجوب طاعة الله ورسوله، وفيه أن الرسول عليه السلام والرسل عليهم البلاغ والبيان والإيضاح، وليست الهداية بأيديهم، وكذلك من بعدهم من الدعاة والمصلحون، ولهذا قال الله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾[النور:54]، ليس عليه إلا البلاغ والإيضاح، وكذلك من بعده من باب أولى من العلماء والدعاة، وفيه أن من أطاع الله ورسوله وفقه الله للهداية، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾[النور:54].

({وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)}.

هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ أُمَّتَهُ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ، أَيْ: أئمةَ النَّاسِ والولاةَ عَلَيْهِمْ، وَبِهِمْ تَصْلُحُ الْبِلَادُ، وَتَخْضَعُ لَهُمُ الْعِبَادُ، ولَيُبدلَنّ بَعْدَ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسِ أَمْنًا وَحُكْمًا فِيهِمْ، وَقَدْ فَعَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ. وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَخَيْبَرَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْيَمَنِ بِكَمَالِهَا. وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوس هَجَر، وَمِنْ بَعْضِ أَطْرَافِ الشَّامِ، وَهَادَاهُ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ وَصَاحِبُ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ -وَهُوَ الْمُقَوْقِسُ -وَمُلُوكُ عُمَانَ وَالنَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، الَّذِي تَملَّك بَعْدَ أصْحَمة، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُ.

ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَارَ اللَّهُ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ خَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ، فَلَمّ شَعَث مَا وَهَى عِنْدَ مَوْتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وأطَّدَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ وَمَهَّدَهَا، وَبَعَثَ الْجُيُوشَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ صُحْبَةَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفَتَحُوا طَرَفًا مِنْهَا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا. وَجَيْشًا آخَرَ صُحْبَةَ أَبِي عُبَيْدَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَثَالِثًا صُحْبَةَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ لِلْجَيْشِ الشَّامِيِّ فِي أَيَّامِهِ بُصرى وَدِمَشْقَ ومَخَاليفهما مِنْ بِلَادِ حَوران وَمَا وَالَاهَا، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ. ومَنّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِأَنْ أَلْهَمَ الصَّدِّيقَ أَنِ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ الْفَارُوقَ، فَقَامَ فِي الْأَمْرِ بَعْدَهُ قِيَامًا تَامًّا، لَمْ يَدُر الْفُلْكُ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ [عَلَيْهِمُ السَّلَامُ] عَلَى مِثْلِهِ، فِي قُوَّةِ سِيرَتِهِ وَكَمَالِ عَدْلِهِ. وَتَمَّ فِي أَيَّامِهِ فَتْحُ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ بِكَمَالِهَا، وَدِيَارِ مِصْرَ إِلَى آخِرِهَا، وَأَكْثَرِ إِقْلِيمِ فَارِسَ، وكَسَّر كِسْرَى وَأَهَانَهُ غَايَةَ الْهَوَانِ، وَتَقَهْقَرَ إِلَى أَقْصَى مَمْلَكَتِهِ، وقَصَّر قَيْصَرَ، وَانْتَزَعَ يَدَهُ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ فَانْحَازَ إِلَى قُسْطَنْطِينَةَ، وَأَنْفَقَ أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بِذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَتَمُّ سَلَامٍ وَأَزْكَى صَلَاةٍ.

ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ، امْتَدَّتِ الْمَمَالِيكُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى أَقْصَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَفُتِحَتْ بِلَادُ الْمَغْرِبِ إِلَى أَقْصَى مَا هُنَالِكَ: الْأَنْدَلُسُ، وَقُبْرُصُ، وَبِلَادُ الْقَيْرَوَانِ، وَبِلَادُ سَبْتَةَ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ الْمُحِيطَ، وَمِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ، وَقُتِلَ كِسْرَى، وَبَادَ مُلْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَفُتِحَتْ مَدَائِنُ الْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانُ، وَالْأَهْوَازُ، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّرْكِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَذَلَ اللَّهُ مَلِكَهُمُ الْأَعْظَمَ خَاقَانَ، وجُبي الْخَرَاجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى حَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَاسَتِهِ وَجَمْعِهِ الْأُمَّةَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوي لِيَ مِنْهَا» فَهَا نَحْنُ نَتَقَلَّبُ فِيمَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْإِيمَانَ بِهِ، وَبِرَسُولِهِ، وَالْقِيَامَ بِشُكْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيهِ عَنَّا.

قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا». ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَنِّي فَسَأَلْتُ أَبِي: مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَشِيَّةَ رَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، وَذَكَرَ مَعَهُ أَحَادِيثَ أُخَرَ).

بسم الله، والحمد لله، هذه الآية الكريمة فيها وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أن يمكنهم، وأن يستخلفهم في الأرض بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات واستجابتهم لله ولرسوله، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[النور:55]، وقد ذكر الحافظ رحمه الله أن الله تعالى مكَّن للمؤمنين واستخلفهم في الأرض؛ لأنهم آمنوا بالله وبرسوله، فالخلفاء الراشدون ومن بعدهم إلى اثني عشر خليفة، كلهم من قريش، وهذا بخلاف أئمة الشيعة، فإذن هذه الآية فيها وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين إذا استقاموا على طاعة الله، واستقاموا على دين الله وعملوا بشرع الله، وتحاكموا إلى شرع الله ودينه أن الله تعالى يمكنهم في الأرض إلى يوم القيامة ويستخلفهم، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.

فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين إن استقاموا على طاعة الله واستجابوا لله ولرسوله أن الله تعالى يمكنهم ويستخلفهم؛ لأنهم يعبدون الله ويخلصون له، لا يشركون به شيئًا، أما من كفر وإن عصى فإنه يكون فاسقًا، خارجًا عن طاعة الله، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:55]، والمراد بالفسوق هنا فسوق الكفر، والفسوق ينقسم إلى قسمين: فسوق الكفر، وفسوق المعصية، وهذه الآية الفسوق فيها المراد به فسوق الكفر، كما في آية الكهف،  ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾[الكهف:50]، يعني فسق فسوق كفر، وهذا الحديث ساقه المؤلف، يقول: هذا من تبشير الله تعالى للمؤمنين، وأن هذا الدين لا يزال قائم ما ولي اثنى عشر خليفة، ذكر من هؤلاء الخلفاء الراشدين الأربعة، ومعاوية، وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان، وأبناؤه الثلاثة، وبينهم عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء هم الذين عنوا في هذا الحديث، «لا يزال أمر أمتي ماضيًا ما ولي منهم اثنا عشر خليفة».

وهؤلاء بخلاف أئمة الشيعة، الشيعة الرافضة عندهم اثني عشر إمامًا غير هؤلاء، يقولون: علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، ثم بعد ذلك يتسلسلون من نسل الحسين، حتى يصل المهدي المنتظر الذي دخل السرداب وهو لا حقيقة له؛ لأن أباه مات عقيمًا ولم يولد له، فاختلقوا له ابن وأدخلوه السرداب، ودخل السرداب، ومضى عليه الآن أكثر من ألف سنة، ما يقرب من ألف ومئتي سنة وهم لم يخرج، وهذا يدل على أن دينهم مبني على الخرافة، وعلى التدليس، والتلبيس، فمهدي الشيعة خرافة لا أصل له، وأما مهدي أهل السنة المنتظر فهذا دلت عليه النصوص الكثيرة، منها ما دلت عليه نصوص كثيرة، حتى إن بعضهم قال: إنها بلغت حد التواتر، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، فالمقصود أن قوله: «ما يزال أمر أمتي ماضيًا ما ولي منهم اثنا عشر خليفة»، هم الذين مضوا من الخلفاء الراشدين، ومعاوية، وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان، وأبناؤه، وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء هم الذين عنوا في هذا الحديث، أعد الحديث، قوله: لا يزال...

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا»).

الشيخ: تكلم على تخريجه عندك؟

الطالب: نعم، قال: أخرجه مسلم بسنده ومتنه.

الشيخ: وهو صحيح.

(ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَنِّي فَسَأَلْتُ أَبِي: مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَشِيَّةَ رَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، وَذَكَرَ مَعَهُ أَحَادِيثَ أُخَرَ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً عَادِلًا وَلَيْسُوا هُمْ بِأَئِمَّةِ الشِّيعَةِ الِاثْنَيْ عَشْرَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، يَلُون فَيَعْدِلُونَ).

نعم، تولى منهم من أئمة الشيعة علي بن أبي طالب والحسن ستة أشهر، وتنازل فيها لمعاوية، والباقي ما حصل لهم شيء، والحسين غدر به أهل العراق وقتلوه، ثم من بعده ما حصل لهم ولاية.

(وَقَدْ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعِينَ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُمْ فِي الْأُمَّةِ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا، وَقَدْ وُجِد مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْوَلَاءِ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَهُمْ فَتْرَةٌ، ثُمَّ وُجِد مِنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَدْ يُوجَد مِنْهُمْ مَن بَقِيَ فِي وَقْتٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَمِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُطَابِقُ اسْمُهُ اسْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتَهُ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُمْهان، عَنْ سَفِينة -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سنة، ثم يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضا»).

المؤلف رحمه الله يرى أنه بقي منهم من بقي، لكن غيره قال: إنهم بغوا، وأنهم كما سبق، معاوية، وعبد الملك بن مروان وغيرهم، ولا يزال الإسلام عزيز، وقوي، والمسلمون لهم قوة، والجهاد لا يزال ماضي، أما مسألة المهدي فتأتي في آخر الأمر بعد ذلك، كما ذكر الشيخ الطحاوي وغيره أنهم مضوا اثنا عشر.

(وَقَالَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سرًّا وَهُمْ خَائِفُونَ، لَا يُؤْمَرُونَ بِالْقِتَالِ، حَتَّى أُمِرُوا بعدُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ).

في مكة ليس لهم قوة، وليس لهم دولة فلهذا أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصفح والإعراض عنهم، ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾[الزخرف:89]، والآيات كثيرة في الأمر بالصبر، ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾[ق:39]، ثم لما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام شرع بعد ذلك الجهاد.

(فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، فَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُون فِي السِّلَاحِ ويصبحون في السلاح، فَغَبروا بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ).

الطالب: في نسخة فصبروا.

الشيخ: غبروا يعني بقوا، الغابرين: الباقين.

(ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أبدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ عَنَّا [فِيهِ] السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تَغْبروا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَتْ فِيهِمْ حَدِيدَةٌ». وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَمِنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَبَضَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا كَذَلِكَ آمِنِينَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا، فَأَدْخَلَ [اللَّهُ] عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ فَاتَّخَذُوا الحَجَزَةَ وَالشُّرَطَ وغَيّروا، فَغُيَّر بِهِمْ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَقٌّ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.

وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَحْنُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الْأَنْفَالِ: ٢٦].

وَقَوْلُهُ: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: ١٢٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [الْقَصَصِ: ٥، ٦].

وَقَوْلُهُ: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ، حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ: «أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟» قَالَ: لَمْ أَعْرِفْهَا، وَلَكِنْ قَدْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ليُتمنّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الحِيرَة حتى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتَفْتَحُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ». قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وليُبذَلَنّ المالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»).

يعني كسرى ملك الدولة العظيمة تفتح.

(قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ).

يقول: وقع، قال عدي: وقع، هذه الظعينة، القافلة أو المرأة تأتي تسافر ولا تخاف.

(وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهَا).

وهو لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.

(وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بالسَّناء وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ»).

الشيخ: تكلم على الحديث؟

الطالب: أحال على المسند فقط.

الطالب: قال: أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه، وقال محققوه: إسناده قوي، وأخرجه الحاكم من طريق سفيان به، وصححه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، وما نقله ابن حجر عن مسند من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سفيان به.

الشيخ: عن عدي بن حاتم.

الطالب: عدي بن حاتم في البخاري شيخنا.

الشيخ: في البخاري ولم يذكر في مسلم، الثالثة، ما الثالثة؟

الطالب: ، وليُبذَلَنّ المالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ.

الشيخ: هذا يحصل في آخر الزمان، أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الإنسان يطوف بالصدقة ولا يجد من يقبلها، وكأن هذا والله أعلم بعد نزول عيسى بأيام.

الطالب: ذكر الشيخ أنه حصل أيام عمر بن عبد العزيز.

الشيخ: بعضهم قال: أيام عمر بن عبد العزيز، ولكن هل حصل هذا وأنه لا يقبله أحد، قال بعضهم: قيل: إن هذا يكون بعد نزول عيسى بن مريم، عند قرب الساعة، تحصل له بركتها، ويطوف الرجل بالصدقة لا يجد من يقبلها، يقول: لو جئتني بالأمس لقبلتها، أما الآن فلا حاجة لي فيها.

(وَقَوْلُهُ: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:

حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حَدَّثَهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةَ الرَّحْل، قَالَ: «يَا مُعَاذُ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وسَعْديك. قَالَ: ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. [ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ"]. قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ»؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «[فَإِنَّ] حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا». قَالَ: ثُمَّ سَارَ سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «فَهَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ»؟، قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ».

أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ).

نعم، وهذا حديث صحيح رواه الشيخان، وفيه بيان حق الله، وحق العباد، حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وأن يخلصوا له العبادة، إن الله تعالى خلقهم وأوجدهم من العدم، الله تعالى خلقهم لعبادته، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، فهو سبحانه وتعالى المستحق للعبادة لما له من الأسماء والصفات العظيمة، ولما له من النعم العظيمة التي أوجد العباد بها، وخلقهم من العدم، ورباهم بنعمه، خلقهم، ورزقهم، وأعطاهم، وتمت نعمته سبحانه على من هداه الله للإسلام، فهو حق إيجاب وإلزام، وأما حق العباد على الله فهو حق تكرم وإفضال من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، حق أوجبه على نفسه، لم يوجبه أحد، تكرم، وفضل منه سبحانه وتعالى، ففرق بين الحقين، فحق الله حق إيجاب وإلزام، وأما حق العباد فحق تفضل وإكرام، كما قال:

ما للعباد عليه حق واجب، كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله، وهو الكريم الواسع

ففرق بين الحقين، حق الله حق إيجاب وإلزام، وحق العباد حق تفضل وإكرام، أوجبه على نفسه سبحانه وتعالى بأن من وحد الله وأخلص له العبادة ألا يعذبه، إذا أخلص العبادة ولم يضعفها بالكبائر التي مات عليها من غير توبة.

(وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيْ: فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْبًا عَظِيمًا).

من كفر بعد ذلك، فهو فسوق كفر، وأما من كان فسوقه دون الكفر فيكون فسقه فسق معصية، فالفسق إن كان في الكفر فهو فسوق وكفر، وإن كان صاحبه خرج عن الطاعة، ولم يبلغ حد الكفر فيكون فسوقه فسوق معصية.

(فَالصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لَمَّا كَانُوا أَقْوَمَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَطْوَعَهُمْ لِلَّهِ -كَانَ نَصْرُهُمْ بِحَسَبِهِمْ، وَأَظْهَرُوا كَلِمَةَ اللَّهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَيَّدَهُمْ تَأْيِيدًا عَظِيمًا، وَتَحَكَّمُوا فِي سَائِرِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ).

يعني ملكوا البلاد والعباد، ملكهم الله المراد، ملكهم الله فقاموا، فحكموا بحكم الله ورسوله، حكموا بالعدل.

(وَلَمَّا قَصَّر النَّاسُ بَعْدَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوَامِرِ، نَقُصَ ظُهُورُهُمْ بِحَسَبِهِمْ، وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خالفهم إلى اليوم الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وهم ظاهرون». وكل هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا).

وهذه بشارة أن الحق باقي في هذه الأمة إلى قرب قيام الساعة، إلى بعد الدجال، وإلى بعد عيسى، ولهذا جاء في الحديث: «ليحجن إلى هذا البيت بعد نزول عيسى بن مريم»، فهذه بشارة بأن الحق باقي، بشارة لهذه الأمة، «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله، حتى تأتي الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا يبقى إلا الكفرة، فعليهم تقوم الساعة»، إذا خلا هذا الكون من التوحيد والإيمان فإن يخرب، وتقوم الساعة، ولا تقوم الساعة وفي الأرض مؤمن، خراب هذا الكون بخلوه من التوحيد والإيمان، إذا خلا من التوحيد والإيمان خرب هذا الكون وقامت القيامة، ولهذا تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا يبقى إلا الكفرة، وعليهم تقوم الساعة، «فلا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وعلى التوحيد، وعلى الإيمان»، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى، حتى تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا يبقى إلا الكفرة فعليهم تقوم الساعة.

({وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‌‌(٥٦) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)}.

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَهِيَ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ ضُعَفَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ، وَأَنْ يَكُونُوا فِي ذَلِكَ مُطِيعِينَ لِلرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَيْ: سَالِكِينَ وَرَاءَهُ فِيمَا بِهِ أَمْرَهُمْ، وَتَارِكِينَ مَا عَنْهُ زَجَرَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُمْ بِذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سَيَرْحَمُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التَّوْبَةِ: ٧١]).

هذه الآية فيها بيان أسباب الرحمة، وأنها إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[النور:56]، أي: لكي ترحمون، لعلكم ليست للترجي، وإنما للتعليل، والمعنى: لكي ترحمون، كما قال سبحانه في آية التوبة: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة:71]، بهذه الأعمال رحمهم الله، حصلت لهم الرحمة، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، وهنا في هذه الآية قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[النور:56]، أقيموها ظاهرًا وباطنًا، ظاهرًا بأداء الواجبات، والأركان، والشروط، وباطنًا بإخلاص العمل لله تعالى، والخشوع، والخضوع، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾[النور:56]، وآتوا الزكاة أي: أدوها إلى مستحقيها عن طيب نفس، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[النور:56]، أي: لكي ترحمون.

وفيه أن من أقام الصلاة، لم يقل: وصلوا، قال: وأقيموا، إقام الصلاة هو أن تأتي بها معطيها حقها من الواجبات، والشروط، والإخلاص، وآتوا الزكاة: إيتاؤها لمستحقيها عن طيب نفس، وإقام الصلاة فيه إحسان العبادة للخالق، وإيتاء الزكاة فيه إحسان للمخلوق، وطاعة الله ورسوله عامة، لعلكم ترحمون، فيه أن من أقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله فهو من أهل الرحمة، تحصل له الرحمة بهذه الأوصاف.

(وَقَوْلُهُ {لَا تَحْسَبَنَّ} أَيْ: [لَا تَظُنَّ] يَا مُحَمَّدُ {الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: خَالَفُوكَ وَكَذَّبُوكَ، {مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ} أَيْ: لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ، بَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَذَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَأْوَاهُمُ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ: بِئْسَ الْمَآلُ مآلُ الْكَافِرِينَ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).

وهذه الآية خطاب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغيره، خطاب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخطاب للأمة، ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ﴾[النور:57]، لا تظن يا رسول الله، ويا أيها المخاطب، لا تظن أن الذين كفروا يفوتون على الله ويعجزونه، بل هو قادر عليهم، هم في قبضته، وتحت تصرفه، هو سبحانه وتعالى خلقهم وأوجدهم من العدم، وهم في قبضته، وفي تصرفه، لا تحسبنهم يفوتون على الله، فيه وعيد شديد على الكفار، وعيد وتهديد، لا تحسبن الذين كفروا يعجزون الله ويفوتون عليه، هو تهديد لهم ووعيد للكفار، ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ﴾[النور:57]، بل الله قادر عليهم متصرف فيهم، وسيجازيهم ويحاسبهم ويعذبهم إذا ماتوا على  الكفر، ومأواهم النار إذا ماتوا على الكفر، ولبئس المصير، بئس المصير مصيرهم، وبئس القرار قرارهم، ففيه دلالة أن من مات على الكفر فمأواه النار، والعياذ بالله، وأنه لا يعجزه الله، ولا يفوته عليه، بل هو سبحانه قادر والعباد كلهم في قبضته وتحت تصرفه سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ولا يعجزه شيء، ولا يفوت عليه سبحانه وتعالى.

({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‌‌(٥٩) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)}.

هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمَا تقدَّم فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَهُوَ اسْتِئْذَانُ الْأَجَانِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ).

هذه الآية في استئذان الأقارب، والآية الأولى في استئذان الأجانب، والأجانب ضد الأقارب، يعني من كان قريبًا، ابن، وابن ابن، يستأذن على أبيه وأمه، هذا يقال له: قريب، وأما إذا كان من خارج البيت، أخ خارج البيت أو جار، هذا يسمى أجانب، أجانب يعني ضد الأقارب، الأقارب الذين هم في البيت يسمون أقارب، ومن كان خارج البيت يسمون أجانب، فالآية الأولى في أول سورة النور: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾[النور:27]، هذه في استئذان الأجانب، وهذه الآية في استئذان الأقارب، فالمراد بالأجانب يعني من لم يكن قريبًا، هكذا عبارة المؤلف، يعني الأجنبي خارج البيت، ومن كان داخل البيت يسمى قريب، فهذه الآية في استئذان الأقارب، والأولى في استئذان غير الأقارب، وهي قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾[النور:28].

هذه في استئذان من يأتي من خارج البيت، ليس من أهل البيت، أما أهل البيت من الأبناء والخدم والمماليك، هؤلاء من أهل البيت، هذه الآية في استئذانهم، من يكون في البيت يستأذن، الابن يستأذن على أبيه، لا يدخل فيه في الغرفة في الأوقات التي سيأتي كما سيبين الله تعالى في الآيات القادمة.

(هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمَا تقدَّم فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَهُوَ اسْتِئْذَانُ الْأَجَانِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يستأذنَهم خَدَمُهم مِمَّا ملكَت أَيْمَانُهُمْ وَأَطْفَالُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الْأَوَّلُ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ).

إذن هذه في استئذان الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، وكذلك المماليك الخدم، الخدم والمماليك، الخدم والمماليك وكذلك الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة.

(الْأَوَّلُ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُونَ نِيَامًا فِي فُرُشِهِمْ).

الغداة هي صلاة الفجر، تسمى صلاة الفجر، وتسمى صلاة الغداة.

(الْأَوَّلُ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُونَ نِيَامًا فِي فُرُشِهِمْ، {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} أَيْ: فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَضَعُ ثِيَابَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَعَ أَهْلِهِ، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ، فيُؤمَرُ الخدمُ وَالْأَطْفَالُ أَلَّا يهجمُوا عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِمَا يُخْشَى مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أَيْ: إِذَا دَخَلُوا فِي حَالٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي تَمْكِينِكُمْ إِيَّاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عَلَيْهِمْ إِنْ رَأَوْا شَيْئًا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْهُجُومِ، وَلِأَنَّهُمْ {طَوَّافُونَ} عَلَيْكُمْ، أَيْ: فِي الْخِدْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُغْتَفَرُ فِي الطَّوَّافِينَ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الهِرَّة: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بنجَس؛ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ -أَوْ -وَالطَّوَّافَاتِ»).

يعني للمشقة دورانها وطوافانها خففت، فلا يكون سؤرها نجسًا، وكذلك هؤلاء الأطفال والخدم من كثرة طوافهم ودخولهم على أهليهم اغتفر في غير هذه الأحوال الثلاثة، الأحوال الثلاثة من قبل صلاة الفجر؛ لأن الإنسان يكون نائمًا وقد يكون مع أهله، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت النوم، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة وقت القيلولة؛ لأن الإنسان يتخفف، فلا يدخل عليه من دون البلوغ من الأطفال، وكذلك الخدم إلا باستئذان، يستأذن، لا يهجم عليه؛ لأنه قد يكون على حالة غير مناسبة للرؤية، يكون مع أهله، يكون قد تخفف، ألقى بعض ثيابه، هذا إذا كان الغرفة أو المكان الذي يدخل عليه غير مغلق، أما إذا كان مغلق فلا يوجد إشكال، لا يستطيع الدخول، أما بعد ذلك فلا بأس، غير هذه الأحوال الثلاثة؛ لأن الحاجة تدعوا إلى دخولهم، ولهذا قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[النور:58]، بسبب الطواف والدوران والخدمة رفع الحرج عنهم، كما أنه رفع النجاسة عن سؤر الهرة وما أشبهها بسبب دورانها وطوافها، قال: «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات»، فيشق الاحتراز منها، فكذلك هؤلاء الأطفال دون البلوغ، وكذلك الخدم بسبب طوافهم ودورانهم وخدمتهم سمح لهم في غير هذه الأوقات الثلاثة.

الطالب: [01:05:07]

على حسب عادة الناس، بعد الظهر أو قبله، قد تكون قبل الظهر، وقد تكون قبل الظهر، كما كان الصحابة يقولون: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، هذا في يوم الجمعة؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبادر بها، قال: ما كنا نقيل ونتغدى إلا بعد الجمعة، هذا في يوم الجمعة، وقد تكون قبل الظهر، على كل حال وقت القيلولة التي اعتادها الناس، وقد يكون قبل الظهر أو بعد الظهر إذا أراد النوم وتخفف فلا يهجم عليه إلا باستئذان.

(وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةً وَلَمْ تُنْسَخْ بِشَيْءٍ، وَكَانَ عَمَلُ النَّاسِ بِهَا قَلِيلًا جَدًّا، أَنْكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:

حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْر، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَ النَّاسُ ثَلَاثَ آيَاتٍ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ]} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النِّسَاءِ: ٨]، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي الْحُجُرَاتِ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: ١٣]).

الشيخ: تكلم عليه على الحديث، حديث ابن عباس؟

الطالب: قال: أخرجه ابن أبي حاتم بسنده ومتنه، وسنده جيد، ويشهد له الأخبار التالية.

الشيخ: ابن عباس يقول: ترك الناس العمل به، هذا غالب الناس، فلا يستأذنون، وكذلك قوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾[النساء:8]، إذا حضر القسمة أي: التركة، أولوا القربى واليتامى والمساكين يرزق، يعطى بعض الشيء، ترك الناس يعني الأغلب، المقصود الأغلب، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات:13]، الناس يتفاخرون بالأحساب والكرم، وإنما الكرم بالتقوى، يقولون: إن أغلب الناس تركوا العمل لذلك، وليس أن الجميع تركوها، غالب الناس، هذا مراد ابن عباس.

الطالب: في إسناده ابن لهيعة.

نعم، هذا يكون ضعيف، لكن يقول: يشهد له الأثر الذي بعده، ولو صح فليس المراد عموم الناس، بل لا يزال يعمل به الصحابة والتابعون ومن بعدهم، وإنما مراده الأغلب لو صح.

(وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ -وَهُوَ ضَعِيفٌ -عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَلَبَ الشَّيْطَانُ النَّاسَ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ سُفْيَانَ وَابْنُ عَبْدَةَ -وَهَذَا حَدِيثُهُ -أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ -آيَةَ الْإِذْنِ -وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهِ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ. قُلْتُ: فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا. فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.                 

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمرو، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الثَّلَاثِ عَوْرَاتٍ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ ستِّير يُحِبُّ السَّتْرَ، كَانَ النَّاسُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَلَا حِجال فِي بُيُوتِهِمْ، فَرُبَّمَا فَاجَأَ الرجلَ خادمُه أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمُهُ فِي حجره، وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ الَّتِي سمَّى اللَّهُ. ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بَعْدُ بِالسُّتُورِ، فَبَسَطَ [اللَّهُ]عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ، فَاتَّخَذُوا السُّتُورَ وَاتَّخَذُوا الحِجَال، فَرَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ.

وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ القَعْنَبِيّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرو بِهِ).

الشيخ: يقول: إسناده صحيح عندك؟

الطالب: في سنن أبي داود، وحسنه الألباني.

الشيخ: «إن الله حيي ستير»، فيه أن من أسماء الله الستير، وهذا جاء في الحديث الآخر: «إن الله حيي ستير يحب الستر»، وليس الستار، الستار ليس من أسماء الله، وإنما من أسمائه الستير، «إن الله حيي ستير»، يقول: كان الناس عندهم في أول الأمر ما عندهم شيء، ما عندهم ستر، ثم أعطاهم الله تعالى فوجدت الستور، ووجدت الغرف والإغلاق، الغرف تغلق، فاستغنوا بذلك عن الاستئذان، الباب مغلق ما في حيلة، لكن لو كان مفتوح هذا هو الذي يحتاج إلى استئذان.

(وَقَالَ السُّدِّي: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يُحِبُّونَ أَنَّ يُوَاقعوا نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ لِيَغْتَسِلُوا ثُمَّ يَخْرُجُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرُوا الْمَمْلُوكَينِ وَالْغِلْمَانَ أَلَّا يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ.

وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: بَلَغَنَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مُرْشدة صَنَعَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذَنٍ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَقْبَحَ هَذَا! إِنَّهُ لَيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوجِهَا وَهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ غُلَامُهُمَا بِغَيْرِ إِذَنٍ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [ثَلاثَ مَرَّاتٍ]} الْآيَةَ).

هذا منقطع، قال: بلغنا، لكن يكون شاهد، ماذا قال عليه؟

الطالب: قال: أخرجه ابن أبي حاتم من طريق بكير بن معروف عن مقاتل، وسنده حسن، ولكنه معضل؛ لأن مقاتل بن حيان تابع تابعي.

الشيخ: هذا أشد من الانقطاع، المعضل ما سقط منه اثنان فأكثر، والمنقطع ما سقط منه واحد، ولكن تكون شاهد، والآية معضلة في هذا.

(وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ، قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: إِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ الَّذِينَ إِنَّمَا كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَى كُلِّ حَالٍ، يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجَانِبِهِمْ وَإِلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي يَكُونُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ.

قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: إِذَا كَانَ الْغُلَامُ رَبَاعِيًّا فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: كَمَا اسْتَأْذَنَ الْكِبَارُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ وَأَقَارِبِهِ).

الشيخ: يعني الآية في ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾[النور:59]، يعني صاروا مثل غيرهم، إذا بلغوا الحلم فإنهم يستأذنوا في الأحوال الثلاثة وفي غيرها، ويكونوا كغيرهم، ويستأذنون أيضًا في غير أهليهم، في الأجانب، في غير أهليهم، في الأجانب، في غير أهليهم، الآية الأولى في استئذان الخدم والأطفال الذين دون الحلم، وهذه الآية في استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم، إذا بلغوا الحلم صاروا مثل غيرهم، صاروا يستأذنون الأجانب، كما في الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾[النور:27]، صاروا مثل غيرهم، إذا أرادوا بيتًا غير بيوتهم لا بد أن يستأذنوا، وكذلك يستأذنون على أهليهم في الأحوال الثلاثة وفي غيرها، ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾[النور:59]، هذا أمر، والأمر للإيجاب.

(وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: كَمَا اسْتَأْذَنَ الْكِبَارُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ وَأَقَارِبِهِ).

يعني صاروا كالكبار، في هذه الآية الكريمة وجوب الاستئذان في هذين الآيتين الكريمتين وجوب استئذان الخدم والمماليك والأطفال دون البلوغ على أهليهم في الأحوال الثلاثة، من قبل صلاة الفجر، ووقت القيلولة، ومن بعد صلاة العشاء، مسموح لهم لمشقة الخدمة والطواف والدوران، والآية الثانية: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾[النور:59]، فيه بيان أن الأطفال إذا بلغوا الحلم صاروا كبارًا، وصار حكمهم حكم الكبار، وهم يستأذنون كما يستأذن الكبار، يستأذنون على الأقارب، ويستأذنون على الأجانب، يستأذنون على أهليهم وعلى غير أهليهم، فالآية الأولى في استئذان الخدم والأطفال دون البلوغ، والثانية في استئذانهم بعد البلوغ، وأن حكمهم كحكم الكبار، والله تعالى قال: ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[النور:59]، بين الله تعالى آياته؛ ليعمل بها العباد.

وشرع هذه الأحكام لما فيها من المصالح العظيمة التي سبب في فلاحهم ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو سبحانه عليم بأحوال عباده، حكيم، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، فيه إثبات العلم والحكمة، وإثبات اسم العليم والحكيم لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأنه من أسمائه العليم، ومن أسمائه الحكيم، يعبد بها، يقال: عبد العليم، وعبد الحكيم، وناسب ختم الآية بهذين الاسمين؛ لأن الله تعالى عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم، وما كان سببًا لسعادتهم، حكيم إذا ما شرع ذلك؛ لأنه سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، وهو حكيم يضع الأشياء في مواضعها، فشرع هذه الأحكام لما فيها من المصالح التي هي سبب في سعادتهم وفلاحهم واستقامة أحوالهم.

(وَقَوْلُهُ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، ومُقَاتل بْنُ حَيَّان، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هُنَّ اللَّوَاتِي انْقَطَعَ عَنْهُنَّ الْحَيْضُ وَيَئِسْنَ مِنَ الْوَلَدِ، {اللاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أَيْ: لَمْ يَبْقَ لَهُنَّ تَشوُّف إِلَى التَّزْوِيجِ، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهَا مِنَ الْحَرَجِ فِي التَّسَتُّرِ كَمَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الْآيَةَ [النُّورِ: ٣١] فَنَسَخَ، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} الْآيَةَ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ [فِي قَوْلِهِ]: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال: الجلباب، أو الرِّدَاءُ: وَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.

وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: تَضَعُ الْجِلْبَابَ، وَتَقُومُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ فِي الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر وَغَيْرُهُ، فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "إِنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ" وَهُوَ الْجِلْبَابُ مِنْ فَوْقِ الْخِمَارِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعْنَ عِنْدَ غَرِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا خِمَارٌ صَفيق.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يَقُولُ: لَا يَتَبَرَّجْنَ بِوَضْعِ الْجِلْبَابِ، أَنْ يُرَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الزِّينَةِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، [حَدَّثَنِي سَوَّار بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَتْنَا طَلْحَةُ بنت عاصم، عن أم الضياء، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: دخلت عليّ] فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَقُولِينَ فِي الْخِضَابِ، وَالنِّفَاضِ، وَالصِّبَاغِ، والقُرطين، وَالْخَلْخَالِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَثِيَابِ الرِّقَاقِ؟ فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، قِصَّتُكُنَّ كُلُّهُا وَاحِدَةٌ، أَحَلَّ اللَّهُ لَكُنَّ الزِّينَةَ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ. أَيْ: لَا يَحِلُّ لَكُنَّ أَنْ يَرَوْا مِنْكُنَّ مُحَرَّمًا.

وَقَالَ السَّدِّيُّ: كَانَ شَرِيكٌ لِي يُقَالُ لَهُ: "مُسْلِمٌ"، وَكَانَ مَوْلًى لِامْرَأَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَجَاءَ يَوْمًا إِلَى السُّوقِ وَأَثَرُ الْحِنَّاءِ فِي يَدِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ خَضَب رَأْسَ مَوْلَاتِهِ -وَهِيَ امْرَأَةُ حُذَيْفَةَ -فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَدْخَلَتُكَ عَلَيْهَا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَدْخَلَنِي عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ، فَقُلْتُ: إِنَّ مُسْلِمًا حَدَّثَنِي أَنَّهُ خَضَّبَ رَأْسَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا بُنَيَّ، إِنِّي مِنَ الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مَا سَمِعْتَ.

وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أَيْ: وَتَرْكُ وَضْعِهِنَّ لِثِيَابِهِنَّ -وَإِنْ كَانَ جَائِزًا -خَيْرٌ وَأَفْضَلُ لَهُنَّ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

هذه الآية ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾[النور:60]، فيها بيان حكم القواعد وهي العجائز، المرأة العجوزة التي انقطع الحيض، وأيضًا لا ترجو النكاح، تقدم بها السن حتى لا ترجوا النكاح، قد يكون انقطع الحيض ولكن ترجوا النكاح، لا بد من الأمرين: انقطع الحيض، ولا ترجوا النكاح، وقوله: ﴿اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾[النور:60]، أباح الله لها أن تتخفف بترك بعض الثياب، ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾[النور:60]، يعني مثل العباءة وما أشبهها، ولكنها لا تتبرج بالزينة، ولا تظهر شيئًا من زينتها، ومع ذلك كونها تستعفف هو خير لها وأفضل، كونها تبقى على ما كانت عليه سابقًا من العباءة وغيرها فهذا أفضل، وخير لها، ولكن يجوز أن تتخفف غير متبرجات بزينة، أما إن كانت تتبرج أو تظهر شيئًا من الزينة أو يخشى عليها الفتنة فلا، هذا مشروط بأمن الفتنة.

أما إذا كان يخشى عليه الفتنة فلا تضع شيئًا من ذلك، ولكن إذا كان لا يخشى الفتنة، وتتخفف من بعض الثياب، ولا تتبرج بالزينة فتكون من القواعد والعجائز التي انقطع حيضها، ولا ترغب في النكاح، ولا يخشى عليها من الفتنة، ولا تتبرج بالزينة، لا تتبرج بزينتها، وتخفف، تلقي بعض الثياب كالعباءة وما أشبه ذلك، ومع ذلك فكونها تبقى على حالها ولا تتخفف، والأفضل هو الخير، فإذن لا بد من ملاحظة أن تكون من القواعد، من العجائز التي انقطع حيضها ولا ترجوا النكاح، ليس لها رغبة في الرجال، انتهى، وألا تتبرج بالزينة، وتخفف بإلقاء بعض الثياب، ومع ذلك كونها تبقى على حالها فهو أفضل.

ختم الآية بقوله: والله سميع عليم، فيه إثبات اسم السميع واسم العليم، سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم، هو عليم سبحانه وتعالى لمن ترك الزينة، عليم بمن تركها، عليم بأحوال النساء، وإنما تركتها من باب التخفيف، وعليم بمن لا تريد الفتنة، وإنما قصدها التخفيف، التخفف، وأنها لا تتبرج بالزينة، أما إذا كانت تتبرج بالزينة فهي ممنوعة، وكذلك إذا كانت ترجوا النكاح فهي ممنوعة، وكذلك إذا كان يخشى عليها منها الفتنة فهي ممنوعة في هذه الأحوال، وإنما يكون في حال لا ترجوا النكاح، ولا تتبرج بالزينة، وليس هناك فتنة، والتخفف إنما هو ببعض الثياب كالعباءة وما أشبهها، ومع ذلك فكونها تستعفف فهو خير لها وأفضل، تبقى على حالها كغيرها، والله سميع عليم فهو سميع بأقوالكم، عليم بأحوالكم، عليم بمقاصدكم ونيتكم فاحذروه، فيه إثبات اسم السميع والعليم.

الطالب: أحسن الله إليكم، كشف الوجه من الزينة؟

الشيخ: إذا كان يخشى من الفتنة فلا تكشف الوجه، لا تكشف.

الطالب: هل على الزوج إجبارها؟ [01:31:05]

الشيخ: يجبرها في أي شيء؟

الطالب: إذا كانت كبيرة من السن وتريد أن تتخفف؟

الشيخ: بهذه الشروط، إذا كانت مستوفية للشروط، يعني لا ترجوا النكاح، وانقطع الحيض، ولا تتبرج بالزينة، ولا يخشى عليها الفتنة.

({لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‌‌(61)}.

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ -رَحِمَهُمُ اللَّهُ -فِي الْمَعْنَى الَّذِي رَفَعَ مِنْ أَجْلِهِ الْحَرَجَ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ هَاهُنَا، فَقَالَ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ.

وَجَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ هَاهُنَا كَالَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَتِلْكَ فِي الْجِهَادِ لَا مَحَالَةَ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ).

في سورة الفتح: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾[الفتح:17]، هذا في الجهاد بلا شك، في سورة الفتح، بعض العلماء قال: هذه الآية مثلها في الجهاد، ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾[النور:61]، يعني في الجهاد، المقصود هنا الجهاد.

(أَيْ: أَنَّهُمْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ؛ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التَّوْبَةِ:91، 92]).

يعني هؤلاء مرفوع عنهم الحرج لكونهم عاجزون، الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون، والذين لا يجدون ما يحملهم إلى الجهاد هؤلاء معذورون، كلهم معذورون، الضعفاء والمرضى والذي لا يجد نفقة، والذي لا يجد مركوبًا يحمله، كل هؤلاء معذورون، وكذلك هنا الأعمى والأعرج والمريض.

(وَقِيلَ: الْمُرَادُ [هَاهُنَا] أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الطَّعَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَرُبَّمَا سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَلَا مَعَ الْأَعْرَجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجُلُوسِ، فَيَفْتَاتُ عَلَيْهِ جليسُه، وَالْمَرِيضُ لَا يَسْتَوْفِي مِنَ الطَّعَامِ كَغَيْرِهِ، فَكَرِهُوا أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ لِئَلَّا يَظْلِمُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ومِقْسَم.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا قَبْلَ الْمَبْعَثِ يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ هَؤُلَاءِ تَقَذُّرًا وتَقَزُّزًا، وَلِئَلَّا يَتَفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَرِيضِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أَخِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُخْتِهِ، أَوْ بَيْتِ عَمَّتِهِ، أَوْ بَيْتِ خَالَتِهِ. فَكَانَ الزَّمنى يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ).

الزمنى يعني المرضى، وقال من؟

(وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَرِيضِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أَخِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُخْتِهِ، أَوْ بَيْتِ عَمَّتِهِ، أَوْ بَيْتِ خَالَتِهِ. فَكَانَ الزَّمنى يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ.

وَقَالَ السُّدّي: كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أَبِيهِ، أَوْ أَخِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فتُتْحفه الْمَرْأَةُ بِالشَّيْءِ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ لَيْسَ ثَمّ).

ليس ثم يعني ليس موجودًا.

(وَقَالَ السُّدّي: كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أَبِيهِ، أَوْ أَخِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فتُتْحفه الْمَرْأَةُ بِالشَّيْءِ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ لَيْسَ ثَمّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} ، إِنَّمَا ذَكَر هَذَا -وَهُوَ مَعْلُومٌ -ليعطفَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فِي اللفظ، وليساويه مَا بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ. وَتَضَمَّنَ هَذَا بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذَا مِنْ ذَهَبَ إِلَى أنَّ مَالَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ أَبِيهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».

وَقَوْلُهُ: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ}، إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}، هَذَا ظَاهِرٌ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُوجِبُ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ [الْإِمَامِ] أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بن حنبل، في المشهور عنهما.

وَأَمَا قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير، والسُّدِّي: هُوَ خَادِمُ الرَّجُلِ مِنْ عَبْدٍ وقَهْرَمان، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا اسْتَوْدَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِالْمَعْرُوفِ).

القهرمان خادم، الخادم والقهرمان العبد، تكلم على القهرمان، انظر في القاموس الفرق بين القهرمان والعبد؛ لأنه عطف القهرمان على العبد.

الطالب: قال هنا في الحاشية: القائم بأمور الرجل.

الشيخ: كأنه أعم من العبد، القائم بأمور الرجل، كأنه أوسع من العبد.

الطالب: هو من يقوم بأمر الرجل من تجارة وخدمة ونحو ذلك.

(وَأَمَا قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير، والسُّدِّي: هُوَ خَادِمُ الرَّجُلِ مِنْ عَبْدٍ وقَهْرَمان، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا اسْتَوْدَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرْغَبُونَ فِي النَّفِيرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَدْفَعُونَ مُفَاتِحَهُمْ إِلَى ضُمَنائهم، وَيَقُولُونَ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ. فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ؛ إِنَّهُمْ أَذِنُوا لَنَا عَنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أُمَنَاءُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}.

وَقَوْلُهُ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أَيْ: بُيُوتِ أَصْدِقَائِكُمْ وَأَصْحَابِكُمْ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا، إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَ صَدِيقِكَ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَأْكُلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النِّسَاءِ: 29] قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ. فَكَفَّ الناسُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}، وَكَانُوا أَيْضًا يَأْنَفُونَ وَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ، حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}).

وهذه الآية ليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج ولا على الأعرج حرج، قيل: في الجهاد، وقيل: في غير الجهاد، في الطعام، وأي القولين أرجح؟ قد يقال: الراجح الثاني، يعني كونها سياق الآيات هو الذي يدل عليها، ولأنها تفيد معنى جديد، ولذا قوله: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج تأكيد لما دلت عليه آية الفتح، ليس عليه حرج في الجهاد، لكن هنا إذا قلنا: إنها في غير الجهاد أفادت معنى جديد، وهو أنه رفع الحرج عن الأكل مع الأعمى والأعرج والمريض، وقوله: على أنفسكم، معلوم هذا، وإنما ذكره ليعطف عليه ما بعده، وليكون مساويًا له في الحكم، وكذلك الأبناء لم يذكروا؛ لأنه معلوم، الابن معروف قربه من أبيه، وأن للأب أن يأخذ من ماله بشروط، «أنت ومالك لأبيك»، فالله تعالى رفع الحرج في هذه الآيات والجناح، ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾[النور:61]، في الأكل معهم، وكذلك كما أن الإنسان معروف أنه ليس عليه حرج في نفسه، فكذلك أيضًا ما عُطف عليه، ﴿وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ﴾[النور:61]، كل هذا لا حرج في الأكل إذا علم، ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾[النور:61]، من العبد.

وكذلك أيضًا من كان متوليًا أمورهم، ومن كان مسؤولًا عنه فإنه كغيره مرفوع عنه الحرج، وكذلك الصديق إذا علم أنه لا يكره ذلك، وكذلك أيضًا رفع الله الحرج عن الأكل جميعًا أو متفرقين، لا بأس أن يأكلوا جميعًا أو متفرقين، كل واحد يأكل وحده أو يأكلوا جميعًا فالحرج مرفوع، ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا، كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده فرفع الله الحرج.

(وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مَخْزَاةً عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ).

فرفع الله الحرج، بعضهم لا يأكل وحده، يرى أن هذا من الخزي أو أن هذا ليس من الكرم أن يأكل وحده، فرفع الله الحرج، ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا، فالأمر واسع والحمد لله، وإذا كانوا جميعًا واجتمعوا، فإنها تحصل البركة في اجتماعهم، لا سيما إذا قل الطعام، فإنهم عليهم أن يجتمعوا وأن يخرجوا ما معهم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى على الأشعريين، قال: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم من الطعام ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فأنا منهم، وهم مني، أو كما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

(وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مَخْزَاةً عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِنْ كَانَ الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وَهُوَ جَائِعٌ).

يسوق الزود من الغنم وغيرها وهو جائع، يريد أن يجد شخصًا يأكل معه.

(وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مَخْزَاةً عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِنْ كَانَ الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}).

الحفل يعني ممتلأ الضروع من الغنم، ماذا قال عليه؟ تكلم على الذود والحفل؟

الطالب: من الإبل.

الشيخ: وقد يكون من غيره، قد يطلق على غيره، الحفل الممتلئة باللبن الضروع، ماذا قال عليه؟

الطالب: قال: أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.

(فَهَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ، وَمَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلَ وَأَبَرَكَ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ وَحْشيّ بْنِ حَرْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نأكلُ وَلَا نشبَع. قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَاركْ لَكُمْ فِيهِ».

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، بِهِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ عمرو بن دينار القهرماني، عن سالم، عن أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرّقُوا؛ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ»).

والجمع بين هذا وهذا أن الآية فيها رخصة، والحديث فيه بيان الأفضل والأكمل، والأفضل أن يجتمعوا، ولكن إذا تفرقوا فلا حرج، ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾[النور:61]، وإذا اجتمعوا فهو أفضل، تزيد البركة.

(وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَ سعيد بن جبير، والحسن البصري، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ: فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ: سمعتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إِذَا دخلتَ عَلَى أَهْلِكَ، فسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً. قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا يُوجِبُهُ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي زِيَادٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا دخلَ أَحَدُكُمْ بَيْتَهُ، فَلْيُسَلِّمْ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْج: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ إِذَا خَرَجْتُ ثُمَّ دَخَلْتُ أَنْ أسلِّم عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: لَا وَلَا آثِرُ وُجُوبَهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ هُوَ أحبُّ إِلَيَّ، وَمَا أَدَعُهُ إلا نابيًا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. وَإِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فسلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ).

في التخريج ماذا قال عليه؟ تكلم عليه؟

الطالب: فقال: ما رأيته إلا يوجبه، قال: أخرجه البخاري من طريق ابن جريج في الأدب المفرد، وصححه الألباني، سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة.

الشيخ: ما أراه إلا يوجبه.

الطالب: قال: ما رأيته إلا يوجبه، هذا قال: أخرجه البخاري من طريق ابن جريج في الأدب المفرد، وصححه الألباني، الثاني: أثر ابن جريج عن ابن طاووس، فليسلم، إذا دخل أحدكم بيته فليسلم، قال: أخرجه الطبري من طريق ابن جريج، لكن في سنده الحسين، وهو ابن داود وهو ضعيف، الأثر الذي بعده أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، الأثر الذي بعده: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله.

الشيخ: قوله: أواجب هو؟ هذا الذي فيه ضعيف؟

الطالب: نعم، لكنه أحب إلي، الكلام في عطاء، قال: واجب إذا خرجت؟ قال: لا أثره عن أحد، ولكن هو أحب إلي، وما أدعه إلى أن أسير، في الأثر الذي بعده هو السلام على رسول الله، إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله، وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال: أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح من طريق عبد الكريم الجزري عن مجاهد.

الشيخ: عبد الكريم الجزري ما فيه كلام؟

الطالب: لا، السند الذي بعده قريب من هذا قال: كما أخرجه ابن أبي شيبة بسنده صحيح من طريق الثوري.

الشيخ: الذي بعده ماذا؟

الطالب: نفسه تقريبًا، لم يقرأه الأخ بعد.

الشيخ: بقي أسانيد غيره؟ كمل.

(وَرَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَريّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: [إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ] فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وحُدّثنا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَوْيدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ خِصَالٍ، قَالَ: «يَا أَنَسُ، أَسْبِغِ الْوُضُوءَ يُزَد فِي عُمْرِكَ، وسَلّم عَلَى مَنْ لَقِيَكَ مِنْ أُمَّتِي تكْثُر حَسَنَاتُكَ، وَإِذَا دَخَلْتَ -يَعْنِي: بَيْتَكَ -فَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ، يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلَاةَ الضُّحى فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ قَبْلَكَ. يَا أَنَسُ، ارْحَمِ الصَّغِيرَ، ووقِّر الْكَبِيرَ، تَكُنْ مِنْ رُفَقَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»).

الشيخ: الأثر هذا تكلم عليه؟

الطالب: قال: سنده ضعيف جدًا؛ لأن عويد بن أبي عمران الجوني متروك، فروى عن أبيه أحاديث منكرة.

الطالب: قال: رواه ابن عدي في الكامل من طريق موسى عن عويد بن أبي عمران الجوني به، ونقل عن البخاري عويد بن أبي عمران عن أبيه منكر الحديث، ثم قال ابن عدي: وعويد بيِّن على حديثه ضعف.

(وَقَوْلُهُ: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} قَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُ التشهدَ إِلَّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}، فَالتَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَيُسَلِّمُ.

هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ).

هذا أحد الأحاديث الواردة في التشهد.

(وَالَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَالِفُ هَذَا، والله أعلم).

هذا صحيح، الذي في مسلم مقدم.

(وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فِي السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُتْقَنَةِ الْمُبْرَمَةِ، نَبَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ يُبَيّن لِعِبَادِهِ الْآيَاتِ بَيَانًا شَافِيًا، لِيَتَدَبَّرُوهَا وَيَتَعَقَّلُوهَا).

الطالب: [01:57:35]

الشيخ: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فيه كلام في ثبوت الحديث، وإذا خرج قال: اللهم صل على محمد، اللهم افتح لي أبواب فضلك، هذا معروف الحديث في دخول المسجد، والصلاة والسلام على رسول الله، الكلام فيه مفيد، فيه كلام، لكنه مشهور، وهذه الآية الكريمة فيها رخصة للأعمى والأعرج والمريض، ورخصة للإنسان أن يأكل من بيوت أقاربه، الآباء، والأبناء، والإخوان، والأخوال، والخالات، والصديق، وكذلك العبد والقهرمان، ثم الرخصة في الأكل مجتمعين أو متفرقين، وإن كان الأكل مجتمعين أفضل، وفيه الأمر بالسلام إذا دخل الإنسان بيته، ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾[النور:61]، يعني يسلم بعضكم على بعض، سلموا على أنفسكم يعني يسلم بعضكم على بعض، سمى غيره نفسًا له؛ لأن المؤمنين كالنفس الواحدة.

مثل قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾[النساء:29]، ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾[النور:61]، ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾[النساء:29]، يعني لا يقتل بعضكم بعضًا، سلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة، والأصل في الأوامر الوجوب، سلموا، لكن هذا من الآداب كما ذكرنا أنه للاستحباب، لكن ما الصارف له عن الوجوب؟ ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾[النور:61]، لا شك أن السلام مشروع ومستحب، إذا دخل الإنسان بيت أهله، لكن هل هو للوجوب، هذا هو الأصل في الأوامر، لكن ما الصارف لها هنا؟

الطالب: [01:59:43]

الشيخ: هذا هو الأصل، أن السلام مستحب، ورده واجب، يعني يدخل في العموم، وعند التأمل لا بد أن يكون هناك دليل يدل على الاستحباب، وإلا فأصل الأوامر الوجوب، هذا الأصل إلا بصارف، قد يقال: الصارف، هل الصحابة كلهم كانوا هكذا يسلمون كلهم؟ وهل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرهم بالسلام، وأوجب عليهم ذلك وألزمهم، ثم قال الله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[النور:61]، لما بين الأحكام والشرائع، هذه الأحكام العظيمة، قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[النور:61]، تعقلون، وتتدبرون، وتتأملون، ثم تعملون، لعلكم تعقلون فتعملون بها، وتمتثلونها.

الطالب: إذا لم يجد فيها أحدًا ذكر الله فتنحى الشيطان.

الشيخ: وكذلك إذا سمى على الطعام قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء.

الطالب: هو السلام...

الشيخ: إذا دخل بيته.

الطالب: فذكر الله.

الشيخ: لا شك أن السلام من الذكر، إذا دخل بيته سمى الله، التسمية ذكر، والسلام ذكر، كلاهما ذكر، والأقرب أنه للاستحباب.

الطالب: صيغة السلام.

الشيخ: السلام إذا لم تجد فيه أحد فيه نظر، لا يصح هذا الحديث، نعم.

الطالب: قال: أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح من طريق [02:02:21].

الشيخ: قال الله تعالى في أول السورة: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾[النور:29]، ولم يذكر فيها السلام، تحتاج إلى مراجعة الأدلة في هذا، وهو ذكر هذا في الأذكار، اعتمده، أنه يسلم على البيت إذا دخله.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)}.

وَهَذَا أَيْضًا أَدَبٌ أَرْشَدَ اللَّهُ عبادَه الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، فَكَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ، كَذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ -لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا فِي أَمْرٍ جَامِعٍ مَعَ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مِنْ صَلَاةِ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، أَوِ اجْتِمَاعٍ لِمَشُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ -أَمْرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَلَّا يَنْصَرِفُوا عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ وَمُشَاوَرَتِهِ. وَإِنَّ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ.

ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -إِذَا اسْتَأْذَنَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، إِنْ شَاءَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}).

هذه الآية في الاستئذان للانصراف، الآيات السابقة الاستئذان في الدخول، وهذه الآية في الاستئذان في الانصراف، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾[النور:62]، في أمر جامع؛ كصلاة العيد، أو جمعة، أو اجتماعهم في مشاورة، أو في جهاد، فلا ينصرف حتى يستأذن، في سورة الأحزاب ذكر الله تعالى أن المنافقين يستأذنون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارًا، فهذا الاستئذان للانصراف، كالذي سبق من آيات الاستئذان في الدخول، وهذا فيه دليل على أن هؤلاء المؤمنون كاملوا الإيمان يستأذنون في الانصراف، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾[النور:62]، ثم أمر الله نبيه، قال: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النور:62]، أمره أن يأذن لبعضهم إن شاء، وأن يستغفر لهم، والله غفور رحيم لمن استأذن أو استغفر له الرسول، وأنه لا حرج عليه، فيه إثبات اسم الغفور والرحيم، وهو من أسماء الله، وفيه أن الله تعالى غفور رحيم بعباده حيث رخَّص لهم في الاستئذان، ورخص لنبيه أن يأذن لمن شاء، وهذا من رحمته سبحانه وتعالى بعباده.

وقوله: إنما المؤمنون يعني: إنما المؤمنون الكمَّل، مثل قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾[الحجرات:15]، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[الأنفال:2]، كل هذه الآيات في المؤمنين كاملوا الإيمان، وهذه مثلها، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾[النور:62].

(وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل ومُسَدَّد، قَالَا حَدَّثَنَا بِشَرٌ -هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ -عَنْ عَجْلان عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فليسلِّم، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فليسلِّم، فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ».

وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ).

تكلم على الحديث؟ «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليستأذن، فإذا أراد الانصراف فليستأذن، فليست الأولى بأحق من الآخرة»، يستأذن عند المجيء، ويستأذن عند الانصراف، يسلم، هذا السلام، المؤلف جعل الاستئذان مثل السلام، فكما يستأذن عند الدخول يستأذن عند الخروج، وكذلك السلام، يسلم عند المجيء ويسلم عند الانصراف، تكلم عن الحديث؟

الطالب: قال: أخرجه أبو داود بسنده ومتنه [02:09:22].

الشيخ: يسلم عند الدخول، وعند المجيء، وعند الانصراف.

الطالب: أحسن الله إليك، [02:09:27]

الشيخ: هذا للرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك إذا كان في اجتماع، إذا كان في اجتماع خاص، لا بد من الاستئذان إذا كان في اجتماع مع بعض الإدارات، المدير يجمع الموظفين وغيره وأراد أحد أن ينصرف لا بد أن يستأذن، هذا معلوم.

الطالب: أحسن الله إليكم، وكذلك الطالب في درس العلم؟

الشيخ: وكذلك الطالب.

({لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}.

قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ ذَلِكَ، إِعْظَامًا لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير.

وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود.

وَقَالَ مُقَاتِلُ [بْنُ حَيَّان] فِي قَوْلِهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} يَقُولُ: لَا تُسَمّوه إِذَا دَعَوتموه: يَا مُحَمَّدُ، وَلَا تَقُولُوا: يَا بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ شَرّفوه فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ.

وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} قَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يشرِّفوه.

هَذَا قَوْلٌ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [الْبَقَرَةِ: 104] ، وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 2-5].

فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ [فِي مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَلَامِ مَعَهُ وَعِنْدَهُ كَمَا أُمِرُوا بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ].

وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أَيْ: لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُسْتَجَابٌ، فَاحْذَرُوا أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا. حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطِيَّةَ العَوفي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

ذكر فيها قولان: يعني ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾[النور:63]، يعني لا تنادوه باسمه كما ينادي بعضكم بعضًا، لا تقل: يا محمد، يا ابن عبد الله، يا ابن عبد المطلب، ولكن شرفوه وعظموه وبجلوه، قولوا: يا رسول الله! يا نبي الله! وقيل: المعنى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم، يعني المعنى لا تجعلوا دعاء الرسول على غيره كدعاء غيره، فإن الدعوة مستجابة، فاحذروا أن يدعوا عليكم، لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا.

(وَقَوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ -وَيَعْنِي بِالْحَدِيثِ الْخُطْبَةَ -فَيَلُوذُونَ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ -أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حَتَّى يَخْرُجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ لَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ).

قبل هذا، أي القولين أرجح؟ ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾[النور:63]، هل في الآية ما يشير إلى أحد المعنيين؟

الطالب: الآداب.

الشيخ: يعني قد يقال: إن الآية تشمل الأمرين، وتكون الآيات حمالة معاني، إذا كانت تحتملهما ولا مانع، والسياق للتعظيم والتبجيل، التعظيم والتبجيل كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾[الحجرات:4]، لكن قد يقال إذا حملت على هذا صارت مؤكدة للآيات، لمعاني الآيات، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾[الحجرات:4]، وإذا حملت على الدعاء صارت لها معنى جديد مؤسس، قد يقال: إنها تشمل الأمرين إذا لم يكن هناك مانع، وكما قيل: القرآن حمال معاني، وكل من الأمرين مراد، الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما يبجل ويعظم، وأيضًا ليس دعاءه على غيره كدعاء غيره، الله تعالى يستجيب لنبيه.

الطالب: [02:15:48]

الشيخ: هو السياق هذا، السياق يقتضي هذا، الآيات السابقة فيها ماذا؟

الطالب:

.

 

 

 

بَعْدَمَا يَأْخُذُ فِي الْخُطْبَةِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الخروجَ أشارَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْذَنُ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَخْطُبُ، بطلتْ جُمعته.

قَالَ السُّدِّي كَانُوا إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي جَمَاعَةٍ، لَاذَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى يَتَغَيَّبُوا عَنْهُ، فَلَا يَرَاهُمْ.

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} ، يَعْنِي: لِوَاذًا [عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَعَنْ كِتَابِهِ.

وَقَالَ سُفْيَانُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} قَالَ: مِنَ الصَّفِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} ] (5) قَالَ: خِلَافًا.

وَقَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أَيْ: عَنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سبيله هو (6)

‌‌

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد