بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ({يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢)}.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس في قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أَيْ: يَا وَيْلَ الْعِبَادِ.
وَقَالَ قتادة: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}: أَيْ يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهم، عَلَى مَا ضَيَّعَتْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَرَّطَتْ فِي جَنْبِ اللَّهِ. قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: "يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهَا".
وَمَعْنَى هَذَا: يَا حَسْرَتَهُمْ وَنَدَامَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ، كَيْفَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ، وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا الْمُكَذِّبُونَ مِنْهُمْ.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: يُكَذِّبُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَيَجْحَدُونَ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ).
هل ذكر قراءة يا حسرة العباد على أنفسهم صحيحة أم شاذة؟
الطالب: شاذة ذكرها في الحاشية.
الشيخ: تحمل على أنها تفسير، يا حسرة العباد على أنفسهم، ما يأتيهم من رسول أي: المكذبون، ويا حسرة العباد أي: يا ويلهم، ويا حسرتهم إذا عاينوا القيامة لتفريطهم، {ما يأتيهم من رسول}، هذا في المكذبين، يا حسرة على العباد المكذبين ما يأتيهم من رسول إلا استهزأوا به.
(ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} أَيْ: أَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَنْ أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، كَيْفَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا كَرَّةٌ وَلَا رَجْعَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَتِهِمْ وفَجَرتهم مِنْ قَوْلِهِمْ: {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٧]، وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِالدَّوْرِ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ جَهْلًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كَانُوا فِيهَا، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَاطِلَهُمْ، فَقَالَ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ}) .
يعني يقولون بالدور، يعني الدوران، نموت ثم نحيا مرة أخرى ونعود إلى الدنيا، وهكذا، بدوران، يموت قوم ثم يحيا آخرون ثم يعودون، إلى الدنيا مرة ثانية، نموت ونحيا، العطف يفيد الترتيب، هؤلاء الفلاسفة الدهرية الذين يقولون بالدور، ينكرون البعث، لكن يقولون: الذين ماتوا أولًا يعودون مرة أخرى إلى الدنيا.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أَيْ: وَإِنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ والآتية ستحضر لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَمَعْنَى هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هُودٍ: ١١١] .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي أَدَاءِ هَذَا الْحَرْفِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ: {وَإن كُلٌّ لَمَا} بِالتَّخْفِيفِ، فَعِنْدَهُ أَنَّ {إِنْ} لِلْإِثْبَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَدَّدَ {لَمَّا}، وَجَعَلَ {إِنَّ} نَافِيَةً، وَ {لمَّا} بِمَعْنَى "إِلَّا" تَقْدِيرُهُ: وَمَا كُلٌّ إِلَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضِرُونَ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
{وإنَّ} إذا شددت صارت إثبات، يعني سوف يحضرون، وإذا خففت صارت نافية {لما}، وفي هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى حسرة هؤلاء المكذبين للرسل، الذين يستهزئون بهم ويردون دعوتهم، ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾[يس:30]، يا ويلتهم، أو يا حسرة عليهم، يا ندامتهم وحسرتهم يوم القيامة، {ما يأتيهم من رسول} أي: المكذبون، {إلا كانوا به يستهزئون}، يسخرون ويستهزئون، ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾[يس:31]، ألا يعتبرون بأن هؤلاء الأموات لا يرجعون، في تكذيب لمن أنكر البعث، وقال: ليس هناك بعث، ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾[يس:31/32]، أن هؤلاء كلهم سوف يحضرون يوم القيامة، ويحاسبون، ويجازون على أعمالهم.
({وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣)}.
يَقُولُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ} أَيْ: دَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى {الأرْضُ الْمَيْتَةُ} أَيْ: إِذَا كَانَتْ مَيِّتَةً هَامِدَةً لَا شَيْءَ فِيهَا مِنَ النَّبَاتِ، فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أَيْ: جَعَلْنَاهُ رِزْقًا لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ، {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أَيْ: جَعَلْنَا فِيهَا أَنْهَارًا سَارِحَةً فِي أَمْكِنَةٍ، يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ. لَمَّا امْتَنَّ عَلَى خَلْقِهِ بِإِيجَادِ الزُّرُوعِ لَهُمْ عَطَف بِذِكْرِ الثِّمَارِ وَتَنَوُّعِهَا وَأَصْنَافِهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أَيْ: وَمَا ذَاكَ كُلُّهُ إِلَّا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ، لَا بِسَعْيِهِمْ وَلَا كَدِّهِمْ، وَلَا بِحَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَلا يَشْكُرُونَ}؟ أَيْ: فَهَلَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؟ وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ -بَلْ جَزَمَ بِهِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرُهُ إِلَّا احْتِمَالًا-أَنَّ "مَا" فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} بِمَعْنَى: "الَّذِي"، تَقْدِيرُهُ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، أَيْ: غَرَسُوهُ وَنَصَبُوهُ، قَالَ: وَهِيَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} .
ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ} أَيْ: مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ. {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَجَعَلَهُمْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: مِنْ مَخْلُوقَاتٍ شَتَّى لَا يَعْرِفُونَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذَّارِيَاتِ: ٤٩]) .
هذه الآيات فيها دلالة على قدرة الله ووحدانيته، واستحقاقه العبادة، وأنه على كل شيء قدير، وبيده البعث، فالذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيا العظام بعدما كانت رميمًا، وأعيدت لها الحياة، والله تعالى كثيرًا ما يستدل بإحياء الأرض على إحياء الموتى، لما ذكر قوله: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[البقرة:73]، هنا قال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ(35)﴾[يس:33/35]، يشكرونه على هذه النعم، ويؤمنون به، ويستدلون بذلك على قدرته ووحدانيته، وأنه يحي الموتى، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾[يس:36]، تنزيه لله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض من زوجين، من زوجين اثنين، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[يس:36] أي: الآدميين، ذكرًا وأنثى، ﴿وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾[يس:36]، كل شيء خلقه الله زوجين.
ومن كل شيء كما في الآية الأخرى، ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الذاريات:49]، صنفين، موجب وسالب، ذكر وأنثى، ومن كل شيء، كل شيء سالب وموجب، النار الآن سالب وموجب، لا تحصل إلا بهذا، الزروع والنبات، لا بد من اثنين، وفي هذا رد على الفلاسفة، الفلاسفة يقولون: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، قالوا: إن الله واحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذا من جهلهم وضلالهم، يكثِّر المخلوقات، وكثرتها وانتشارها يدل على كذب الفلاسفة، ثم قولهم: إن الله واحد لا يصدر عنه إلا واحد، هذا باطل، فالواحد لا يصدر عنه لا واحد ولا اثنان، الشمس الآن إنما تحصل تحصل بشيئين: الشمس، وعدم شيء يحجبها، فإذا حجبت الشمس بالسقف وغيرها لم تحصل الحرارة، تحصل الحرارة بشيئين، وكذلك النار، النار تحرق بأمرين: الأول: النار، والثاني: الشيء الذي تأكله النار، فإذا كانت في شيء لا تأكله؛ كالسمندل فهو طائر يفرخ ويبيض في النار، وهو في الهند وغيرها، يعيش في النار ولا تأكله النار، كذلك جحر من الأحجار الكريمة لا يذوب، فلا بد من شيئين.
قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الذاريات:49]، صنفين، ذكر وأنثى، من كل شيء، من الأنعام، والآدميين، الكهرباء سالب وموجب، وهكذا، النار كذلك شيئين، حتى في الحجارة أيضًا بعضها مع بعض، ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾[الذاريات:49]، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾[يس:36]، خلق الأزواج كلها، مما تنبت الأرض أزواج، ومن أنفسهم الآدميين، ومما لا يعلمون، نعم.
({وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)}.
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الدَّلَالَةِ لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةِ خَلْقُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، هَذَا بِظَلَامِهِ وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَجَعَلُهُمَا يَتَعَاقَبَانِ، يَجِيءُ هَذَا فَيَذْهَبُ هَذَا، وَيَذْهَبُ هَذَا فَيَجِيءُ هَذَا، كَمَا قَالَ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الْأَعْرَافِ: ٥٤] ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ هَاهُنَا: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أَيْ: نَصْرِمُهُ مِنْهُ فَيَذْهَبُ، فَيَقْبَلُ اللَّيْلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ».
هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الْحَجِّ: ٦١] وَقَدْ ضَعَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ قولَ قَتَادَةَ هَاهُنَا، وَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَى الْإِيلَاجِ: الْأَخْذُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا، وَلَيْسَ هَذَا مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ حَقٌّ).
يعني نسلخ منه النهار يعني: ندخل هذا في هذا، يزيد هذا وينقص هذا، ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾[الحديد:6]، هذا صحيح، يدخل الليل في النهار، والنهار في الليل، ويزيد الليل ويقصر النهار، ويطول النهار ويقصر الليل، لكن المراد من الآية ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾[يس:37]، ذهابه بالكلية، يذهب الليل، ويعقبه النهار، كما قال: يصرم، ويأتي النهار ثم يأتي الليل ويذهب النهار وهكذا، ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾[يس:37]، السلخ أي: الذهاب بالكلية، وليس المراد دخول هذا في هذا كما قال ابن جرير، ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾[الحديد:6]، هذا قول ابن جرير، ولكن الصواب ليس المراد هذا، وإنما المراد ذهابه بالكلية، ولهذا قال: ﴿نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾[يس:37].
الطالب: شيخنا! هذا قول قتادة، ابن جرير ضعف القول هذا.
الشيخ: قتادة؟
الطالب: ابن جرير ضعفه، قال: وقد ضعف ابن جرير قول قتادة هنا، وقال: إنما معنى الإيلاج الأخذ من هذا في هذا وليس هذا مرادًا في هذه الآية، وهذا الذي قاله ابن جرير حق.
(وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: مُسْتَقَرُّهَا الْمَكَانِيُّ، وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَهِيَ أَيْنَمَا كَانَتْ فَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ سَقْفُهَا).
العرش سقف المخلوقات، كل شيء مخلوق تحته.
(وَلَيْسَ بَكَرَةً كَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قُبَّةٌ ذَاتُ قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ).
أهل الهيئة والفلاسفة يقولون: إن العرش قوي؛ كالسماوات والأراضين، السماوات والأرضين كروية، كروية الشكل، ولذا قال تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾[الزمر:5]، الأرض مثبتة في وسط كرة السماء، والسماء الدنيا مثبتة في وسط كرة السماء الثانية، والسماء الثانية مثبتة في كرة السماء الثالثة، والثالثة مثبتة في كرة السماء الرابعة، وهكذا الخامسة والسادسة والسابعة، وفوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم العرش بعد ذلك، ليس كروي الشكل كما قال الفلاسفة، يقولون: وكذلك العرش كروي الشكل، مغلف للعالم، ولكن الصواب كما قال هنا: أنه كروي له قوائم تحمله الملائكة، والدليل على هذا ما ثبت في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش»، وفي لفظ: «باطشًا بقائمة من قوائم العرش»، فدل على أن العرش له قوائم، وليس كروي الشكل من جميع الجهات كما ذكر الفلاسفة.
(وَهُوَ فوق العالم مما يلي رؤوس النَّاسِ، فَالشَّمْسُ إِذَا كَانَتْ فِي قُبَّةِ الْفَلَكِ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ تَكُونُ أَقْرَبَ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ، فَإِذَا اسْتَدَارَتْ فِي فَلَكِهَا الرَّابِعِ إِلَى مُقَابَلَةٍ هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ وَقْتُ نِصْفِ اللَّيْلِ، صَارَتْ أَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ، فَحِينَئِذٍ تَسْجُدُ وَتَسْتَأْذِنُ فِي الطُّلُوعِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ).
والله أعلم بكيفية السجود، تسجد تحت العرش، وتستأذن في الطلوع، وإذا كانت ليلة التي تخرج من مغربها لا يؤذن لها، ويقال: ارجعي اقدمي وارجعي من حيث جئت، فترجع فتطلع من مغربها، فعند ذلك إذا طلعت من مغربها آمن الناس جميعًا، وعند ذلك لا ينفع نفسًا إيمانها.
(قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ [التَّيْمِيِّ]، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَدْرِي أَيْنَ تغربُ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الحُميديّ، حَدَّثَنَا وَكِيع عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ، قَالَ: «مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ».
كَذَا أَوْرَدَهُ هَاهُنَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّهَا تذهب حتى تسجد بين يدي رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ، فَتَسْتَأْذِنُ فِي الرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ. فَتَرْجِعُ إِلَى مَطْلَعِهَا، وَذَلِكَ مُسْتَقَرُّهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}».
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: "«َتَدْرِي أَيْنَ هَذَا؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذِنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، وَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ. فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}».
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ، قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فَتَرُدُّهَا ذُنُوبُ بَنِيَ آدَمَ، حَتَّى إِذَا غَرَبَتْ سلَّمت وَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فَيُؤْذَنُ لَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ غَرَبَتْ فَسَلَّمَتْ وَسَجَدَتْ، وَاسْتَأْذَنَتْ فَلَا يُؤْذِنُ لَهَا، فَتَقُولُ: إِنَّ الْمَسِيرَ بَعِيدٌ وَإِنِّي إِلَّا يُؤْذَنُ لِي لَا أَبْلُغُ، فَتَحْبِسُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَحْبِسَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: "اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ". قَالَ: "فَمِنْ يَوْمَئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا".
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} هُوَ انْتِهَاءُ سَيْرِهَا وَهُوَ غَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ فِي الصَّيْفِ وَهُوَ أَوْجُهَا، ثُمَّ غَايَةُ انْخِفَاضِهَا فِي الشِّتَاءِ وَهُوَ الْحَضِيضُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمُسْتَقَرِّهَا هُوَ: مُنْتَهَى سَيْرِهَا، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَبْطُلُ سَيْرُهَا وَتَسْكُنُ حَرَكَتُهَا وَتُكَوَّرُ، وَيَنْتَهِي هَذَا الْعَالَمُ إِلَى غَايَتِهِ، وَهَذَا هُوَ مُسْتَقَرُّهَا الزَّمَانِيُّ).
وتلقى في النار مع عابديها، مستقرها المكاني تحت العرش، ومستقرها الزماني هو يوم القيامة.
(قَالَ قَتَادَةُ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أَيْ: لِوَقْتِهَا وَلِأَجَلٍ لَا تَعْدُوهُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْتَقِلُ فِي مَطَالِعِهَا الصَّيْفِيَّةِ إِلَى مُدَّةٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا، ثم تنتقل في مطالعة الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها، يُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا" أَيْ: لَا قَرَارَ لَهَا وَلَا سُكُونَ، بَلْ هِيَ سَائِرَةٌ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَا تَفْتُرُ وَلَا تَقِفُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إِبْرَاهِيمَ: ٣٣] أَيْ: لَا يَفْتُرَانِ وَلَا يَقِفَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} أَيِ: الَّذِي لَا يخالَف وَلَا يُمانَع، {الْعَلِيم} بِجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَقَدْ قَدَّرَ ذَلِكَ وقَنَّنَه عَلَى مِنْوَالٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَاكُسَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الْأَنْعَامِ: ٩٦]. وَهَكَذَا خَتَمَ آيَةَ حم السَّجْدَةِ" بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فُصِّلَتْ: ١٢]).
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ(38)﴾[فصلت:37/38].
(ثُمَّ قَالَ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أَيْ: جَعَلْنَاهُ يَسِيرُ سَيْرًا آخَرَ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ يُعْرَفُ بِهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [الْبَقَرَةِ: ١٨٩] ، وَقَالَ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الْآيَةَ [يُونُسَ: ٥] ، وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} [الْإِسْرَاءِ: ١٢] ، فَجَعَلَ الشَّمْسَ لَهَا ضَوْءٌ يَخُصُّهَا، وَالْقَمَرَ لَهُ نُورٌ يَخُصُّهُ، وَفَاوَتَ بَيْنَ سَيْرِ هَذِهِ وَهَذَا، فَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ وَتَغْرُبُ فِي آخِرِهِ عَلَى ضَوْءٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ تَنْتَقِلُ فِي مَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً، يَطُولُ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّهَارُ وَيَقْصُرُ اللَّيْلُ، ثُمَّ يَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ، وَجَعَلَ سُلْطَانَهَا بِالنَّهَارِ، فَهِيَ كَوْكَبٌ نَهَارِيٌّ. وَأَمَّا الْقَمَرُ، فَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ، يَطْلُعُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ ضَئِيلًا قَلِيلَ النُّورِ، ثُمَّ يَزْدَادُ نُورًا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَرْتَفِعُ مَنْزِلَةً، ثُمَّ كَلَّمَا ارْتَفَعَ ازْدَادَ ضِيَاءً، وَإِنْ كَانَ مُقْتَبَسًا مِنَ الشَّمْسِ، حَتَّى يَتَكَامَلَ نُورُهُ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، حَتَّى يَصِيرَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَصْلُ العِذْق(.
العرجون العصى [00:36:43] التي يصل بها العذق الذي يكون في الرطب والتمر، العود الذي يصل هذا هو العرجون المنحني، ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾[يس:39]، كذلك القمر في آخر الشهر يضعف وينحني.
(وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعُرْجُونُ الْقَدِيمُ: أَيِ الْعِذْقُ الْيَابِسُ.
يَعْنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْلَ الْعُنْقُودِ مِنَ الرُّطَبِ إِذَا عَتَقَ وَيَبِسَ وَانْحَنَى، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُمَا. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يُبْدِيهِ اللَّهُ جَدِيدًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الْآخَرِ).
كأنه يولد من جديد؛ كالإنسان، يولد طفلًا ثم ينمو ويتكامل حتى يكون رجلًا ثم يضعف، وهكذا الشهر، في أول الشهر يخرج ضعيفًا ثم ما يزال يكبر ويكبر، ثم يتكامل في منتصف الشهر حتى يضعف وينتهي في آخر الشهر، ثم في أول الشهر ينمو من جديد، كأنه يولد من جديد، ولهذا يقول الفلكيون: القمر يولد الليلة، يولد ليلة كذا.
(وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنَ الشَّهْرِ بِاسْمٍ بِاعْتِبَارِ الْقَمَرِ، فَيُسَمُّونَ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ "غُرَر" وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا "نُفَلَ"، وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا "تُسع"؛ لِأَنَّ أُخْرَاهُنَّ التَّاسِعَةَ، وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا "عُشَر"؛ لِأَنَّ أُولَاهُنَّ الْعَاشِرَةُ، وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا "الْبِيضَ"؛ لِأَنَّ ضَوْءَ الْقَمَرِ فِيهِنَّ إِلَى آخِرِهِنَّ، وَاللَّوَاتِي بَعْدَهُنَّ "دُرَع" جَمْعُ دَرْعاء؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُنَّ سُود؛ لِتَأَخُّرِ الْقَمَرِ فِي أَوَّلِهِنَّ، وَمِنْهُ الشَّاةُ الدَّرْعَاءُ وَهِيَ الَّتِي رَأَسُهَا أَسْوَدُ. وَبَعْدَهُنَّ ثَلَاثٌ "ظُلم" ثُمَّ ثَلَاثٌ "حَنَادس"، وَثَلَاثٌ "دَآدِئُ" وَثَلَاثٌ "مَحاق"؛ لِانْمِحَاقِ الْقَمَرِ أَوَاخِرَ الشَّهْرِ فِيهِنَّ. وَكَانَ أَبُو عُبيد يُنْكِرُ التُّسع والعشَر. كَذَا قَالَ فِي كِتَابِ "غَرِيبِ الْمُصَنَّفِ".
وَقَوْلُهُ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} : قَالَ مُجَاهِدٌ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَدٌّ لَا يَعْدُوهُ وَلَا يَقْصِرُ دُونَهُ، إِذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا ذَهَبَ هَذَا، وَإِذَا ذَهَبَ سُلْطَانُ هَذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قَالَ: ذَلِكَ لَيْلَةُ الْهِلَالِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلرِّيحِ جَنَاحًا، وَإِنَّ الْقَمَرَ يَأْوِي إِلَى غِلَافٍ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: لَا يُدْرِكُ هَذَا ضَوْءَ هَذَا، ولا هذا ضوء هذا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} : يَعْنِي: أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سُلْطَانًا، فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أَنْ تَطْلُعَ بِاللَّيْلِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} : يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي إِذَا كَانَ الليلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ، فَسُلْطَانُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَسُلْطَانُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا حَتَّى يَجِيءَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا. وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يَطْلُبَانِ حَثِيثِيْنِ، يَنْسَلِخُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ.
وَالْمَعْنَى فِي هَذَا: أَنَّهُ لَا فَتْرَةَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَعْقُبُ الْآخَرَ بِلَا مُهْلَةٍ وَلَا تَرَاخٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُسَخَّرَانِ دَائِبَيْنِ يَتَطَالَبَانِ طَلَبًا حثِيثًا.
وَقَوْلُهُ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يَعْنِي: اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلُّهُمْ يَسْبَحُونَ، أَيْ: يَدُورُونَ فِي فَلَكِ السَّمَاءِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وعِكْرِمة، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيِّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: فِي فَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: فِي فَلْكَةٍ كفَلْكَة المغْزَل.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الفَلَك كَحَدِيدِ الرَّحَى، أَوْ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، لَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ إِلَّا بها، ولا تدور إلا به).
هذه الآيات العظيمة فيها دلالة على قدرة ووحدانيته، الأرض الميتة أحياها الله دليل على إحياء الموتى، والليل يسلخ منه النهار ويذهب، يذهب هذا ويجيء هذا فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها، مستقرها المكاني الذي تحت العرش، ومستقرها الزماني يوم القيامة، إذا جاء يوم القيامة، ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدره الله منازل، ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾[يس:39]، ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾[يونس:5]، ليعلم الناس عدد السنين والحساب، ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾[يس:39]، كل ليلة ينزل منزلة، ثمانية وعشرين منزلة، كل ليلة ينزل منزلة منها.
﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[يس:40]، الشمس لا تدرك القمر، والقمر لا يدرك الشمس، كل في فلك يسبحون أي: يدورون، ابن عباس يقول: في فلكة كفلكة المغزل، [00:43:32] يسبحون: يدورون، كل في فلك يسبحون، ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[يس:39/40]، سبحان الخالق.
الطالب: [00:43:52]
الشيخ: الكسوف والخسوف يدرك بالحساب على الصحيح، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من يعرف الحساب يعرف، جعل الله له أسباب حسية، وأسباب شرعية، أسبابه الحسية تعرف بالفلك، وأسبابه الشرعية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخوف الله بهما عباده».
