شعار الموقع

سورة ص - 2

00:00
00:00
تحميل
6

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ)[ص:1-3].

يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله في تفسيره: أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَقَوْلُهُ: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أَيْ: وَالْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلْعِبَادِ وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {ذِي الذِّكْرِ} كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}[الْأَنْبِيَاءِ:10].

هذا قسم من الأقسام بالحروف المقطعة، والله أعلم المراد به، وقال جماعة أن هذا فيه تحدي، وفيه إعجاز لهم،  أنه القرآن مكون من هذه الحروف، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثله أو بثلث من مثله، أو بسورة من مثله، ولهذا قال بعده: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) لأنه مشتمل على الذكر الذي فيه حياتكم، وسعادتكم، واو القسم، أقسم الله بكلامه، وأقسم بصفاته.

كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ:10] أَيْ: تَذْكِيرُكُمْ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو حُصَيْنٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ {ذِي الذِّكْرِ} ذِي الشَّرَفِ.

(فِيهِ ذِكْرُكُمْ)[الأنبياء:10]: أي فيه شرفكم،{لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} فيه شرفكم، ذي الذكر: ذي الشرف.

ذِي الشَّأْنِ وَالْمَكَانَةِ.

وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُ كِتَابٌ شَرِيفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ.

يعني القرآن للذكر فيه تذكير لكم، أو فيه شرف لكم، كلها مع بعضها، تذكير لله، تذكير لكم أيها العباد، وفيه شرف لكم.

وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ هَذَا الْقَسْمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْلُهُ: {إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} ] ص: 14 [. وَقِيلَ قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64].

في آخر السورة (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ).

(حَكَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا الثَّانِي فِيهِ بُعْدٌ كَبِيرٌ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

بعيد (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)، ويأتي جواب القسم الذي في آخر السورة هذا بعيد، والأول ماذا؟ الحواب.

القول الأول: (إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ).

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)، (إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ): إن كل من الأمم الباطلة التي كذبت الرسل فحق عليها العقاب والعذاب، هذا هو الأقرب.

وقال قتادة جوابه: (جَوَابُهُ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه قال جَوَابُهُ "ص" بِمَعْنَى: صِدْقٌ حَقٌّ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. وقيل جوابه: ما تضمنه سياق السورة بكمالها. والله أعلم.

قيل جوابه ص، وقيل جوابه: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ)، وقيل: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، وقيل في آخر السورة: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ).

ثُمَّ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِربية أَنَّهُ قَالَ: جَوَابُهُ "ص" بِمَعْنَى: صِدْقٌ حَقٌّ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.

وقيل جوابه: ما تتضمنه سياق السورة بكمالها. والله أعلم.

وقوله تبارك وتعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أَيْ: إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لَذِكْرًا لِمَنْ يَتَذَكَّرُ، وَعِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ.

والقول: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}: ليس ببعيد؛ لأنه هو الذي بعده، وعادة تكون جواب القسم قريب، (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) أقسم الله أن الكفار في عزة وشقاق ليس ببعيد هذا (5:49)، وليس ببعيد بكمالها، لا نفع عندهم، النفع هو الكبرياء.

وقوله تبارك وتعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أَيْ: إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لَذِكْرًا لِمَنْ يَتَذَكَّرُ، وَعِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّهُمْ {فِي عِزَّةٍ} أَيِ: اسْتِكْبَارٍ عَنْهُ وَحَمِيَّةٍ.

أنفة وحمية وكبرياء، نسأل الله العافية، هذا السبب فيه صدودهم وإعراضهم، كلفة والكبرياء الاستكبار، العلو جبروت، كيف نتبع محمد الفقير، مثل ما قال الله عنه في سورة الحديد والزخرف: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف:31]، يقولون: ربنا ما يخلي غير هذا الفقير الذي ينزل عليه القرآن، لما أنزل على عظيم الطائف أو عظيم مكة، كبرياء ينظرون إلى الدنيا والأبهة، (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، رجل من القريتين: قال: مكة والطائف، أما ينزل على هذا الفقير رد الله كيدهم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الزخرف:32] هذا يدل على معنى العزة: أنفة وكبرياء،  عندهم أنفة وكبرياء، أبو جهل بقيت الكبرياء في صدره وهو يقتل، يعاني السكرات، عبد الله بن مسعود ركب على صدره بعدما قتل وسقط، قال: لقد ارتقيت مرتبة صعبة يا رويعيا  الغنم –انظر الكبرياء، وهو في الموت- في الموت يقول لابن مسعود ارتقيت مرتبة صعبة لتركب على صدري، لقد ارتقيت مرتبة صعبة يا رويعيا الغنم احتقار له، انظر الكبرياء، كبرياء حتى الموت وهو في الموت، يعير ابن مسعود يا رويعيا الغنم ترتقي مرتبة صعبة.

ولذلك أمرنا بالتواضع، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الحجر:88]، من تواضع لله رفعه.

{وَشِقَاقٍ} أَيْ: مُخَالَفَةٍ لَهُ وَمُعَانَدَةٍ وَمُفَارَقَةٍ.

مشاقة ومعاندة ومفارقة ومخالفة للحق في عزة في أنفة وفي كبرياء، وصدود وإعراض وشقاق، مخالفة للحق وسبب هذه المخالفة الكبرياء والأنفة.

ثُمَّ خَوَّفَهُمْ مَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ قَبْلَهُمْ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلرُّسُلِ وَتَكْذِيبِهِمُ الكتب المنزلة من السَّمَاءِ فَقَالَ: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أَيْ: مِنْ أُمَّةٍ مُكَذِّبَةٍ، {فَنَادَوْا} أَيْ: حِينَ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ اسْتَغَاثُوا وَجَأَرُوا إِلَى اللَّهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُجْدٍ عَنْهُمْ شَيْئًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} ] الْأَنْبِيَاءِ: 12 [أَيْ: يَهْرَبُونَ، {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}[الْأَنْبِيَاءِ: 13].

قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نِدَاءٍ، وَلَا نَزْوٍ وَلَا فِرَارٍ.

من الفرار، وهذا كامل التكفير، الله تعالى يخفوهم يقول: أهلكنا أمم قبلكم كثيرة، أهلكناهم لما كذبوا الرسل وكذبوا بآيات الله، فنادوا لما جاء لهم العذاب جاءوا يجأرون إلى الله، لكن ما ينفع ذات الوقت، ذات الوقت وقت فرار؛ ولهذا قال تعالى: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ)[الأنبياء:13]، نسأل الله العافية، ما يفيد إذا نزل العذاب لا حيلة ما يفيد. فنادوا: يعني جاءوا إلى الله في وقت نزول العذاب، إلا أمة استثناها الله تعالى. من أسباب شروط قبول التوبة: أن تكون قبل نزول العذاب، إلا أمة استثناها الله، وهي أمة يونس، قال الله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس:98]، قوم يونس لما أتاهم نبي ردوا دعوته، فغضب عليهم وذهب، ذهب مغاضبًا وركب البحر، فالتقمه الحوت، ثم قال ذلك لما لفظه الحوت أرسله الله مرة أخرى، هم لما ذهب نبيهم تابوا ورجعوا إلى الله، وخرجوا بأنعامهم، وأطفالهم، وجأروا إلى الله فتاب الله عليهم. فلما جاءهم نبيهم مرة أخرى آمنوا به، (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) فآمنوا كلهم (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[الصافات:148]، (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بِحِينِ مِغَاثٍ.

يعني ليس بوقت إغاثة.

وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَادَوُا النِّدَاءَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَأَنْشَدَ: تَذَكَّر لَيْلَى لاتَ حِينَ تذَكّر.

إذا نزل عليهم النداء ما ينفعهم لا حين، (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)[غافر:85]، ما ينفع، لما رأوا بأسنا: العذاب، (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) هل أنشدوا التوبة قبل نزول العذاب، (وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ).

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} يَقُولُ: نَادَوْا بِالتَّوْحِيدِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ، وَاسْتَنَاصُوا لِلتَّوْبَةِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أَرَادُوا التَّوْبَةَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ.

في وقتها، إذا نزل العذاب كشف للإنسان المستقبل، وشهد الملائكة أن لا له توبة، في الحديث الصحيح يقول: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، المريض توبته صحيحة وهو في مرض الموت إلا إذا سيقت الروح، ووصلت الروح إلى الحلقوم انتهى الأمر، يكشف له المستقبل، ويعاين الملائكة، وحين يكون الغيب شهادة، قال الله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)[النساء:18]، ولا الذين يمتون وهم كفار، وكذلك من حضره الموت، ووصلت الروح إلى الحلقوم انتهى الأمر. كونه نزل عليه وعاين العذاب انتهى ما في توبة، لكن قبل ذلك وهو مريض يلقن التوبة، ويذكر بالتوبة ويتوب، والوصية يوصي بها، باقي الأمر باقي، ولو كان في مرض الموت، مادام أن الروح لم تصل إلى الحلقوم يلقن الشهادة، يقول: لا إله إلا الله تنفعه "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، تنفعه، لكن إذا سيقت الحلقوم ووصلت للحلقوم الغرغرة انتهى الأمر، انتهى أمر الدنيا وانتقل إلى عالم الآخرة إلى عالم البرزخ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} لَيْسَ بِحِينِ فِرَارٍ وَلَا إِجَابَةٍ.

وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.

وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} وَلَا نِدَاءَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ.

وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ وَهِيَ "لَاتَ" هِيَ "لَا" الَّتِي لِلنَّفْيِ، زِيدَتْ مَعَهَا "التَّاءُ" كَمَا تُزَادُ فِي "ثُمَّ" فَيَقُولُونَ: "ثُمَّتْ".

ثمت أو ثمت، ولات حين مناص، لا حين مناص أصلها، والتاء زيدت مثل ثمت، ثمت كذا.

وَ "رُبَّ" فَيَقُولُونَ: "رُبَّتْ". وَهِيَ مَفْصُولَةٌ وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا.

ولات.

وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى عَنِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فِيمَا ذَكَرَهُ [ابْنُ جَرِيرٍ] (6) أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِحِينَ: "وَلَا تَحِينَ مَنَاصٍ.

هذا مصحف الإمام، وهو المصحف الذي كتبه عثمان –رضي الله عنه- لما جمع المصاحف ووزعت على الأمصار، جمع القرآن مرتين: جمع المرة الأولى في زمن أبي بكر –رضي الله عنه- وهو مشتمل على الحروف السبعة كلها، ثم جمع المرة الثانية في زمن عثمان –رضي الله عنه- لما حصل اختلاف القراء، وأتى حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- لما رأى كان يغازي في أرملية وأزربيجان، ورأى الناس يختلفون قرائتي أحسن من قرائتك، فجاء مسرعًا إلى أمير المؤمنين عثمان –رضي الله عنه- قال: يا أمير المؤمنين: أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها مثل كثاب اليهود والنصارى، فجمع المصحف مرة أخرى، جمعه على حرف واحد على العرضة الأخيرة، على حرف واحد، وسمي المصحف بالإمام، كتبت سبعة مصاحف مصحف بقي بالمدينة، ومصحف بمكة، ومصحف بالكوفة، ومصحف بالبصرة، ومصحف في مصر، عدد الأمصار، يسمى مصحف الإمام، هذا مصحف الإمام الذي كتبه عثمان، ويسمى المصحف العثماني الذي كتبه عثمان –رضي الله عنه- ووجد في مصحف الإمام ولاتحين، التاء متصلة بحين، ولاتحين مناص، الآن ولات مستقلة منفصلة.

وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.

أن التاء مزيدة في لا مستقلة.

وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ "حِينَ" تَقْدِيرُهُ: وَلَيْسَ الْحِينُ حِينَ مَنَاصٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ النَّصْبَ بِهَا، وَأَنْشَدَ:


تَذَكَّر حُب لَيْلَى لاتَ حِينَا ... وأَضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَع القَرينا

وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْجَرَّ بِهَا، وَأَنْشَدَ:

طَلَبُوا صُلْحَنَا ولاتَ أوانٍ ... فأجَبْنَا أن ليس حينُ بقاءِ.

وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا:

ولاتَ سَاعةَ مَنْدَم.

أي ليست ساعة ندم، مجرورة.

بِخَفْضِ السَّاعَةِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: النَّوْصُ: التَّأَخُّرُ، وَالْبَوْصُ: التَّقَدُّمُ.

النَّوْصُ: التَّأَخُّرُ، وَالْبَوْصُ: التَّقَدُّمُ، ولات حين مناص: ولات حين تأخر، يعني ما يؤخر العذاب عنهم، ما في حيلة.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أَيْ: لَيْسَ الْحِينُ حِينَ فِرَارٍ وَلَا ذَهَابٍ.

ما في حيلة خلاص انتهى الأمر، إذا نزل العذاب فلا حيلة.

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ  أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَاب جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ}.

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَعَجُّبِهِمْ مِنْ بِعْثَةِ الرَّسُولِ بَشَرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} وَقَالَ هَاهُنَا: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أَيْ: بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} أَيْ: أَزَعَمَ أَنَّ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟! أَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ -قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى-وَتَعَجَّبُوا مِنْ تَرْكِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَلَقَّوْا عَنْ آبَائِهِمْ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُهُمْ فَلَمَّا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَلْعِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ أَعَظَمُوا ذَلِكَ وَتَعَجَّبُوا وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ} وَهُمْ سَادَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ قَائِلِينَ: { [أَنِ] امْشُوا} أَيِ: اسْتَمِرُّوا عَلَى دِينِكُمْ {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} وَلَا تَسْتَجِيبُوا لِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدْعُونَا (3) إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ لَشَيْءٌ يُرِيدُ بِهِ الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ وَالِاسْتِعْلَاءَ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْكُمْ أَتْبَاعٌ وَلَسْنَا مُجِيبِيهِ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ.

 (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ): تعجبوا من مجيئ منذر، وهو الرسول المنذر، نذير وبشير، تعجبوا من ذلك، وقالوا: هذا ساحر كذاب كما قالوا في الأمم السابقة، قالوا: كيف يأتينا منذر منا،  لماذا لم يأتي لكم نذير من الملائكة من جنس آخر، (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ): يعني محمد قالوا عليه ساحر، (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) أنكروا أن يكون الإله المعبود واحد؛ لأنهم يعبدون الأصنام والأوثان، ما في إلا معبود واحد، (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) إن هذا الأمر يريد به محمد (27:28)عليكم، وأن يكون زعيمًا، (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ): ما سمعنا بهذا في الأمم السابقة، ولا سمعنا في آبائنا، هذه حجة اتباع الآباء والأجداد في الباطن، حجة المشركين، (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف:23]. (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) الله تعالى يختار هذا اليتيم لينزل عليه القرآن لماذا لم ينزله على غيره، لماذا لم ينزله على الأشراف، (أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي): بل هم في شك، (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد