سورة ص - 16

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عند تفسير سورة ص، قال الله تعالى: ({وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ‌‌(41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ‌‌(43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}.

يَذْكُرُ تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ ابْتَلَاهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الضُّرِّ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَنْ جَسَدِهِ مَغْرز إِبْرَةٍ سَلِيمًا سِوَى قَلْبِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَنْ حَالِ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَضِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّ زَوْجَتَهُ حَفِظَتْ وِدَّهُ لِإِيمَانِهَا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأُجْرَةِ وَتُطْعِمُهُ وَتَخْدُمُهُ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةٍ. وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَالٍ جَزِيلٍ وَأَوْلَادٍ وَسَعَةٍ طَائِلَةٍ مِنَ الدُّنْيَا فَسُلبَ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ أُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ مِنْ مَزَابِلِ الْبَلْدَةِ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِكَمَالِهَا وَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ سِوَى زَوْجَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ لَا تُفَارِقُهُ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَّا بِسَبَبِ خِدْمَةِ النَّاسِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَيْهِ قَرِيبًا. فَلَمَّا طَالَ الْمَطَالُ وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَانْتَهَى الْقَدَرُ الْمَقْدُورُ وَتَمَّ الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ تَضَرَّعَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 83]، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ: رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، قِيلَ: بِنُصْبٍ فِي بَدَنِي وَعَذَابٍ فِي مَالِي وَوَلَدِي. فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَجَابَ لَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ وَأَنْ يَرْكُضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ. فَفَعَلَ فَأَنْبَعَ اللَّهُ عَيْنًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهَا فَأَذْهَبَ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْأَذَى ثُمَّ أَمَرَهُ فَضَرَبَ الْأَرْضَ فِي مَكَانٍ آخَرَ فَأَنْبَعَ لَهُ عَيْنًا أُخْرَى وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا فَأَذْهَبَتْ مَا كَانَ فِي بَاطِنِهِ مِنَ السُّوءِ وَتَكَامَلَتِ الْعَافِيَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ بِهِ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ -وَاللَّهِ- لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ، فيكشفَ مَا بِهِ فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ إِلَّا فِي حَقٍّ. قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ. فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى. فَوَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ. قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ).

الطالب: في الحاشية قال: أندران بيت كبير يُجمع فيه الطعام ويكدس.

(وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ أَنْدَرُ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرُ لِلشَّعِيرِ فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ حَتَّى فَاضَ. هَذَا لَفْظُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ).

الشيخ: هل تكلم على الحديث بالتخريج؟ تكلم عليه؟

الطالب: عندي لم يتكلم، ممكن النسخ الأخرى.

(وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثُو فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ».

انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.

وَقَوْلُهُ: {رَحْمَةً مِنَّا} أَيْ: بِهِ عَلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ {وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} أَيْ: لِذَوِي الْعُقُولِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عاقبةَ الصَّبْرِ الفرجُ والمخرجُ والراحة.

وَقَوْلُهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} وَذَلِكَ أَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ غَضِبَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَوَجَدَ عَلَيْهَا فِي أَمْرٍ فَعَلَتْهُ. قِيلَ: [إِنَّهَا] بَاعَتْ ضَفِيرَتَهَا بِخُبْزٍ فَأَطْعَمَتْهُ إِيَّاهُ فَلَامَهَا عَلَى ذَلِكَ وَحَلِفَ إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ جِلْدَةٍ. وَقِيلَ: لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ. فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ وَعَافَاهُ مَا كَانَ جَزَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ الْخِدْمَةِ التَّامَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْإِحْسَانِ أَنْ تُقَابَلَ بِالضَّرْبِ فَأَفْتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا -وَهُوَ: الشِّمراخ-فِيهِ مِائَةُ قَضِيبٍ فَيَضْرِبُهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَقَدْ بَرّت يَمِينُهُ وَخَرَجَ مِنْ حِنْثِهِ وَوَفَى بِنَذْرِهِ وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ بِأَنَّهُ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أَيْ: رَجَّاع مُنِيبٌ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاقِ: 2، 3].

وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مَسَائِلَ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا وَأَخَذُوهَا بِمُقْتَضَاهَا).

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

هذه القصة عظيمة، فيها العبر والعظة، هذا نبي الله أيوب عليه السلام ابتلاه الله تعالى، وسلط عليه الشيطان ابتلاء وامتحانًا ورفعة لدرجاته، وذلك أن الله تعالى آتى أيوب مالًا وولدًا وصحة في جسمه وأهلًا، فسُلط الشيطان عليه كما قال الله تعالى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾[ص:41]، الشيطان مكنه الله، وسأل ربه أن يسلطه عليه، فسلطه أولًا على ماله، فأحرق ماله كله، من زرع ونخيل وغيرها، ثم سأل ربه أن يسلط على ولده وأهله، فسُلط على ولده، جاء في بعض الأخبار أنه ألقى عليهم الدار، أسقطها عليهم فهلكوا، ولم يبق إلا زوجته، هذه لتخدمه، فسأل الشيطان أن يسلط على جسده، فأعطاه الله ابتلاء وامتحانًا، ونفخ فيه فأصيب بهذا المرض، الجذام، وهو مرض معدي حتى رفضه القريب والبعيد، وألقي في مكان خارج البلد، ولم يبق إلا زوجته تخدمه، وصبر هذه المدة العظيمة الصبر العظيم، حتى ضرب به المثل فقيل: أيوب الصابر، وحتى أثنى الله عليه.

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾[ص:44]، هذا ابتلاء وامتحان، وهو نبي الله، نبي كريم، له مكانه ومنزلة عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولكن الأنبياء يبتلون الآن رفعة لدرجاتهم، وليبتليهم الله بالتعبد في الضراء والسراء، الله تعالى له على عبده عبودية في السراء وعبودية في الضراء، عبودية السراء في حال الرخاء والنعمة والشكر، وعبودية الضراء في حال الصبر والمرض والشدة والفقر، عبودية الصبر، وهي التضرع لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وحبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عما يغضب الله، فأيوب عليه السلام ابتلي بالسراء والضراء، ابتلي أولًا بالسراء، آتاه الله المال، وآتاه الله الولد، آتاه الله الصحة في بدنه، ثم ابتلي بالضراء في أهله وولده ونفسه، فأدى عبودية السراء، وأدى عبودية الضراء عليه السلام، والأنبياء يبتلون؛ ليمحصهم الله، وليرفع درجاتهم، وليكونوا قدوة للناس، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»، «يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه، وإن لم يكن كذلك خفف عليه»، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

ونبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابتلي بالكفار، وردوا عليه دعوته، وأخرجوه من بلده، وخنقه أبو جهل، وأخرج من البلد فذهب إلى أهل الطائف فردوا دعوته، وأغروا به سفهائهم، يسبونه ويرمونه بالحجارة حتى أدمي عقبه عليه الصلاة والسلام، وكذلك ابتلي في المدينة باليهود والمنافقين عليه الصلاة والسلام، ولما مرض عليه السلام كان يوعك كما يوعك الرجلان عليه الصلاة والسلام، «فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»، في الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه»، فأيوب عليه السلام ابتلاه الله بالسراء والضراء، فأدى عبودية الصبر، وعبودية الشكر، فدعا الله وتضرع إليه، فاستجاب الله دعاءه، والدعاء عبودية لله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[الأنبياء:83]، قال الله: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾[الأنبياء:84] وفي الآية الأخرى: ﴿وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[ص:43]، فرد الله عليه صحته وماله ومثلهم معهم، وله في الآخرة المنزلة العظيمة، منزلة الأنبياء عليه الصلاة والسلام، جعله الله قدوة للناس في الصبر والتحمل والتضرع لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فالأنبياء هم قدوة الناس، يقتدون بهم في تحملهم وصبرهم وجهادهم ودعوتهم عليه الصلاة والسلام.

ولما حلف عليه الصلاة والسلام أن يجلد امرأته مئة جلدة جعل الله لها مخرجًا؛ لأنها محسنة، فلا يمكن أن تجازى بهذا، قال الله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ﴾[ص:44]، وهذا كما قال الله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾[الطلاق:2]، هذا من المخرج، وهو أن يأتي بعزق نخل وفيه مئة شمراخ، فيضربها ضربة واحدة فيقع مئة جلدة، والعلماء تكلموا كما ذكر الحافظ، الرجل الذي على عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المريض الذي حشى امرأة وزنى بها، ذكر العلماء مثل هذا ولا يتحمل، وإن ضربنه مات، هذا الذي أشار إليه الحافظ رحمه الله تعالى.

الطالب: أحسن الله إليك، أيوب عليه السلام كان نبيًا أو رسولًا؟ كثير يقول: يذكر الله عبده ورسوله.

الشيخ: هو الظاهر، الظاهر أنه نبي ورسول، لكن في الآيات ماذا يقول؟

الطالب: ذكر هنا أنه يوحى إليه.

الشيخ: الأنبياء يوحى إليه، الأنبياء هم الذين يكلفون بالعمل بالتوراة، أنبياء بني إسرائيل ويوحى إليهم، يرسلن إلى المؤمنين ويوحى إليهم في مسائل خاصة، ثم قال الله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى﴾[الأنعام:84]، هو من ذرية أيوب، وفي سورة النساء: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ﴾[النساء:163]، ذكر أنها في سورة الأنعام، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ﴾[الأنعام:84]، ما في صريح بأنه رسول، محتمل أنه يكون رسول، ويحتمل أنه يكون مثل داود وسليمان، أنبياء، تكلم عليه؟

الطالب: لا، في نص الحديث قال: إن نبي الله، بعده: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾[ص:45].

الشيخ: معكم تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي؟ اقرأ؟

الطالب: أي: {وَاذْكُرْ} ‌في ‌هذا ‌الكتاب ذي الذكر {عَبْدَنَا أَيُّوبَ} بأحسن الذكر، وأثن عليه بأحسن الثناء، حين أصابه الضر، فصبر على ضره، فلم يشتك لغير ربه، ولا لجأ إلا إليه.

فـ {نَادَى رَبَّهُ} داعيا، وإليه لا إلى غيره شاكيا، فقال: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أي: بأمر مشق متعب معذب.

الشيخ: النصب الأمر الشاق المتعب.

الطالب: وكان سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح، ثم تقيح بعد ذلك واشتد به الأمر، وكذلك هلك أهله وماله.

فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} أي: اضرب الأرض بها؛ لينبع لك منها عين تغتسل منها وتشرب، فيذهب عنك الضر والأذى، ففعل ذلك، فذهب عنه الضر، وشفاه الله تعالى.

{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} قيل: إن الله تعالى أحياهم له {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} في الدنيا، وأغناه الله، وأعطاه مالا عظيما {رَحْمَةً مِنَّا} بعبدنا أيوب، حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجلا وآجلا. {وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} أي: وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا، فيعلموا أن من صبر على الضر، أن الله تعالى يثيبه ثوابا عاجلا وآجلا ويستجيب دعاءه إذا دعاه.

{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} أي حزمة شماريخ {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}

قال المفسرون: وكان في مرضه وضره، قد غضب على زوجته في بعض الأمور، فحلف: لئن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة، فلما شفاه الله، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه، رحمها الله ورحمه، فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، فيبر في يمينه.

{إِنَّا وَجَدْنَاهُ} أي: أيوب {صَابِرًا} أي: ابتليناه بالضر العظيم، فصبر لوجه الله تعالى. {نِعْمَ الْعَبْدُ} الذي كمل مراتب العبودية، في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء.

{إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: كثير الرجوع إلى الله، في مطالبه الدينية والدنيوية، كثير الذكر لربه والدعاء والمحبة والتأله.

الشيخ: ما ذكر فوائد.

الطالب: ذكر الفوائد التي قبلها.

الطالب: أحسن الله إليك، هنا القرطبي ذكر أن الله اصطفاه بالنبوة.

الشيخ: لا شك أن الله اصطفاه بالنبوة، لكن الكلام في الرسالة.

الطالب: لم يذكر أنه رسولًا، قال: ‌اصْطَفَاهُ ‌اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَآتَاهُ جُمْلَةً عَظِيمَةً مِنَ الثَّرْوَةِ فِي أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَكَانَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ، مُوَاسِيًا لِعِبَادِ اللَّهِ، بَرًّا رَحِيمًا. وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِلَّا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.

الشيخ: الظاهر أنه رسول، الرسول هو الذي يؤمن به بعضهم، النبي يرسل إلى قوم مؤمنين.

الطالب: يكون بهذا رسول أحسن الله إليك؟

الشيخ: هذا قول فقط، ما ذكر دليل.

الطالب: وَكَانَ لِإِبْلِيسَ مَوْقِفٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ في يوم من العام، فَوَقَفَ بِهِ إِبْلِيسٌ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ أَوْ قِيلَ لَهُ عَنْهُ: أَقَدَرْتَ مِنْ عبدي أيوب على شي؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شي، وَقَدِ ابْتَلَيْتَهُ بِالْمَالِ وَالْعَافِيَةِ، فَلَوِ ابْتَلَيْتَهُ بِالْبَلَاءِ وَالْفَقْرِ وَنَزَعْتَ مِنْهُ مَا أَعْطَيْتَهُ لَحَالَ عَنْ حَالِهِ، وَلَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِكَ،. قَالَ اللَّهُ: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ. فَانْحَطَّ عَدُوُّ اللَّهِ فَجَمَعَ عَفَارِيتَ الْجِنِّ فَأَعْلَمَهُمْ، وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَكُونُ إِعْصَارًا فِيهِ نَارٌ أُهْلِكُ مَالَهُ فَكَانَ، فَجَاءَ أَيُّوبَ فِي صُورَةِ قَيِّمِ مَالِهِ فَأَعْلَمَهُ بِمَا جَرَى، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ أَعْطَاهُ وَهُوَ مَنَعَهُ. ثُمَّ جَاءَ قَصْرَهُ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَاحْتَمَلَ الْقَصْرَ مِنْ نَوَاحِيهِ حَتَّى أَلْقَاهُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ فَأَلْقَى التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَصَعِدَ إِبْلِيسُ إِلَى السَّمَاءِ فَسَبَقَتْهُ تَوْبَةُ أَيُّوبَ. قَالَ: يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى بَدَنِهِ. قَالَ: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى بَدَنِهِ إِلَّا عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَبَصَرِهِ، فَنَفَخَ فِي جَسَدِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا فَصَارَ فِي جَسَدِهِ ثَآلِيلُ فَحَكَّهَا بِأَظْفَارِهِ حَتَّى دَمِيَتْ، ثُمَّ بِالْفَخَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ لَحْمُهُ. وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ:" مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ". ولم يخلص إلى شي مِنْ حَشْوَةِ الْبَطْنِ، لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلنَّفَسِ إِلَّا بِهَا فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ. فَلَمَّا غَلَبَهُ أَيُّوبُ اعْتَرَضَ لِامْرَأَتِهِ فِي هَيْئَةٍ أَعْظَمِ مِنْ هَيْئَةِ بَنِي آدَمَ فِي الْقَدْرِ وَالْجَمَالِ، وَقَالَ لَهَا: أَنَا إِلَهُ الْأَرْضِ، وَأَنَا الَّذِي صَنَعْتُ بِصَاحِبِكِ مَا صَنَعْتُ، وَلَوْ سَجَدْتِ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَهُمْ عِنْدِي. وَعَرَضَ لَهَا فِي بَطْنِ الْوَادِي ذَلِكَ كُلَّهُ فِي صُورَتِهِ، أَيْ أَظْهَرَهُ لَهَا، فَأَخْبَرَتْ أَيُّوبَ فَأَقْسَمَ أَنْ يَضْرِبَهَا إِنْ عَافَاهُ اللَّهُ. وَذَكَرُوا كَلَامًا طَوِيلًا فِي" سبب بلائه و" مراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي نَزَلَ بِهِ.

الشيخ: الله أكبر، وفي هذا أن الله جعل له عينًا، اضرب برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، وفيه أن الله تعالى أثنى عليه ووصفه بالصبر، ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾[ص:30]، وفي الحديث الذي رواه البخاري أن أيوب كان يغتسل عريانًا فخر عليه جراد من ذهب، فجعل يحثو فناداه ربه: ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك، هذا من البركة، وهذا من آيات الله وقدرته، وفيه دليل على أن الله تعالى كلم أيوب، ناداه ربه، هذا من الفوائد، وفيه جواز الاغتسال عريان إذا لم يكن عنده أحد، النووي رحمه الله قال: يكره للإنسان أن يغتسل عريانًا، لكن الصواب أن الإنسان إذا لم يكن عنده يخلع ثيابه ثم يغتسل، موسى عليه السلام كان يغتسل عريانًا، وفر الحجر بثوبه كما هو معلوم في القصة حتى مر على بني إسرائيل، فإذا كان الإنسان ليس عنده أحد يخلع ثيابه ويتوضأ ولا يغتسل بثيابه، كما واضح من كلام النووي رحمه الله أنه يكره، لا كراهة في هذا، إنما الممنوع كونه يخلع ثيابه عند الناس، ويظهر عورته للناس، أما إذا كان وحده في الحمام أو غيره يغتسل ثم يلبس ثيابه، بينما أيوب يغتسل عريانًا، فخر عليه جراد من ذهب، وهذا من قدرة الله العظيمة، جراد من ذهب، الله على كل شيء قدير، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس:82]، فقال الله: ألم أكن نهيتك عن هذا؟ فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك، هذا من البركة التي أنزلها الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

الطالب: الدعاء ينافي الصبر؟

الشيخ: لا، الدعاء لا ينافي الصبر، والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، قال الله عن يعقوب: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾[يوسف:86]، إنما الشكوى إلى المخلوق، ولا مانع أيضًا أن يخفي الإنسان حاله للعلاج والطبيب، يصبر على حال أهله إذا شكوه، وهل الأنين ينافي الصبر؟ كان الإمام أحمد يئن فقيل له: إن الأنين ينافي الصبر، فلم يئن، والله أعلم، محتمل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي شَرْعِ أَيُّوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْكَفَّارَةِ] (4)

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ‌‌(45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ}

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فَضَائِلَ عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ وَأَنْبِيَائِهِ الْعَابِدِينَ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ} يَعْنِي بِذَلِكَ: الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْقُوَّةَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْبَصِيرَةَ النَّافِذَةَ.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أُولِي الأيْدِي} يَقُولُ: أُولِي الْقُوَّةِ {وَالأبْصَارِ} يَقُولُ: الْفِقْهِ فِي الدِّينِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أُولِي الأيْدِي} يَعْنِي: الْقُوَّةَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ {وَالأبْصَارِ} يَعْنِي: الْبَصَرَ (5) فِي الْحَقِّ.

وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أعطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وبَصرًا فِي الدِّينِ.

[وَقَوْلُهُ] (6) {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ يَعْمَلُونَ لِلْآخِرَةِ لَيْسَ لَهُمْ هَمّ غَيْرُهَا. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ: ذِكْرُهُمْ لِلْآخِرَةِ وَعَمَلُهُمْ لَهَا.

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا وَأَخْلَصَهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وَذَكَرِهَا. وَكَذَا قال عطاء الخراساني.