بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: ({وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ (29)}.
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَكَوْنِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، بِمَا قَيَّض لَهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أَيْ: حَسَّنوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فِي الْمَاضِي، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا مُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 36، 37].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أَيْ: كَلِمَةُ الْعَذَابِ كَمَا حَقَّ عَلَى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ، مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمْ، مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} أَيِ: استوَوَا هُمْ وَإِيَّاهُمْ فِي الْخَسَارِ وَالدَّمَارِ).
بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يقول الله تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾[فصلت:25]، الله سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، فهو يضل من يشاء بعدله وحكمته، ويوفق من شاء برحمته وتوفيقه، فهو يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، له الحكمة البالغة، هو عليم بالذوات التي تصلح لغرس الكرامة فيوفقها، والذوات التي لا تصلح فيخذلها، بيَّن سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار الذين أضلهم الله إنما ما قضى عليهم بمشيئته وحكمته، لا شيء يخرج عن مشيئة الله، كل ما يقع في الكون فهو بحكمة الله، فقيض لهم قرناء، يزينون لهم الباطل، ويحسنونهم؛ لعلمه سبحانه بأن ذواتهم لا تصلح لغرس الكرامة، فأضلوهم وزينوا لهم الأعمال السيئة، وحقت عليهم كلمة العذاب كما حقت على أمم قد سبقت قبلهم وغيرهم من الأمم ممن بعدهم ممن أضله الله تعالى بحكمته وعدله.
قال: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾[فصلت:25]، من شياطين الجن، ومن شياطين الإنس، ملازمون لهم، ومصاحبون لهم، يحسنون لهم الباطل ويزينونه، فيستحسنونه، ويظنون أنهم على الحق، ويظنون أنهم على أمر حسن، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[فاطر:8]، زين له سوء عمله، ويصد عن السبيل، كما قال تعالى عن فرعون قال: ﴿وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾[غافر:37]، صد عن السبيل، نسأل الله السلامة والعافية، الذين كفروا وصدوا عن السبيل، وله الحكمة البالغة، فتجدهم يسعون في الباطل، ويسعون في الإضلال، ويظنون أنهم على شيء، ويحسبون أنهم مهتدون، وهم ضالون مضلون، فقيض لهم سبحانه قرناء من الجن ومن الإنس يضلونهم، ويحسنون لهم الباطل، وحقت عليهم كلمة العذاب في أمم قد خلت من قبلهم ومن بعدهم إنهم كانوا خاسرين، هذا هو الخسران المبين، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(30)﴾[الأعراف:28/30]، هذا الشاهد، ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأعراف:30]، فقال عن اليهود: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[الكهف:103/104].
هكذا يزين لهم الباطل فيظنون أنهم على الحق، وأنهم على أمر حسن، وهم قد مكر بهم وصدوا عن السبيل، نسأل الله السلامة والعافية، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾[الأنعام:44]، يئسوا من رحمة الله، ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام:45]، نسأل الله السلامة والعافية، ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾[فصلت:25].
(وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} أَيْ: تَوَاصَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَلَّا يُطِيعُوا لِلْقُرْآنِ، وَلَا يَنْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ، {وَالْغَوْا فِيهِ} أَيْ: إِذَا تُلِيَ لَا تَسْمَعُوا لَهُ. كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالْغَوْا فِيهِ} يَعْنِي: بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالتَّخْلِيطِ فِي الْمَنْطِقِ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَرَأَ الْقُرْآنَ قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْغَوْا فِيهِ} عِيبُوهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اجْحَدُوا بِهِ، وَأَنْكِرُوهُ وَعَادُوهُ.
{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} هَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 204].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُنْتَصِرًا لِلْقُرْآنِ، وَمُنْتَقِمًا مِمَّنْ عَادَاهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرَانِ: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ مَا اعْتَمَدُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَعِنْدَ سَمَاعِهِ، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: بشَرِّ أَعْمَالِهِمْ وسيِّئ أَفْعَالِهِمْ {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ}.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُصَيْنِ الفزاري، عن أبيه، عن علي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذَيْنِ أَضَلانَا} قَالَ: إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ.
وَهَكَذَا رَوَى حَبَّةُ العُرَنِي عَنْ عَلِيٍّ، مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ عَلِيٍّ: فَإِبْلِيسُ يَدْعُو بِهِ كُلُّ صَاحِبِ شِرْكٍ، وَابْنُ آدَمَ يَدْعُو بِهِ كُلُّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ، فَإِبْلِيسُ -لَعَنَهُ اللَّهُ-هُوَ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ شَرٍّ مِنْ شِرْكٍ فَمَا دُونَهُ، وَابْنُ آدَمَ الْأَوَّلُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»).
«من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»، ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل سن هذه السنة السيئة، فلا تُقتل نفس ظلمًا إلا يناله نصيب منها؛ لأنه أول من سن القتل، نسأل الله السلامة والعافية، كما أن من أحيا سنة قد أميتت وابتدأها وعمل بها، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لما جاء الفقراء، لما دفت الدافة إلى المدينة، وجاء أناس من مضر، ثيابهم مشققة، وعليهم علامة الفقر والشدة، النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام، ودخل وخرج وخطب الناس، وحث على الصدقة، قال: «ليتصدق الرجل من طعام بره، من ثوبه، من صاع مده»، فجاء رجل بصرة من طعام قد عجزت يداه عنها، فتتابع الناس، اقتدوا به، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»، فهذا ابن آدم الأول هو أول من سن القتل، فكل نفس تقتل ظلمًا إلى يوم القيامة يناله إثم منه.
(وَقَوْلُهُ: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أَيْ: أَسْفَلَ مِنَّا فِي الْعَذَابِ لِيَكُونَا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ} أَيْ: فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ" مِنْ سُؤَالِ الْأَتْبَاعِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَذِّبَ قَادَتَهُمْ أَضْعَافَ عَذَابِهِمْ، قَالَ: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 38] أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، بِحَسَبِ عَمَلِهِ وَإِفْسَادِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]).
نسأل الله العافية، لهم عذاب مضاعف بسبب إضلالهم، فالذين كفروا لهم عذاب في النار، مخلدون في النار، والذين زادوا وصدوا عن سبيل الله يزاد في عذابهم، فالكفر يتفاوت، والإيمان يتفاوت، والناس يتفاوتون فيه، فالكافر الذي يقتصر كفره على نفسه ولا يؤذي المؤمنين ولا يصد الناس عن دينهم أخف من الكافر الذي يصد عن سبيل الله، ويفتن الناس عن دينهم، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، في هذه الآيات دليل على شدة عناد الكفار وعتوهم وعدم قبولهم الحق، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[فصلت:26]، فإذا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن اشتغلوا بالصفير والتصفيق والصياح حتى يصدوا الناس عن سماع القرآن، والله تعالى قال للمؤمنين: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الأعراف:204]، فالإنصات لسماع القرآن هو سبب من أسباب الرحمة، لعلكم ترحمون يعني لكي ترحمون، والاستماع غير السماع، السماع هو أن تسمع القارئ يقرأ من بعيد تسمع، والاستماع هو أن تنصت وتستمع للآيات.
ولهذا المستمع للقارئ وهو يقرأ صنفان: الصنف الأول: مستمع يسمع الآيات، يتدبرها، إذا سجد يسجد، والثاني: سامع، يسمع الصوت ولا يتدبر هذا ما يسجد إذا سجد القارئ، إذا سجد القارئ يسجد المستمع ولا يجد السامع، السامع الذي يسمع الصوت فقط ولا يتدبر، والمستمع الذي ينصت ويتدبر الآيات معه، هذا هو الذي يسجد معه، والله تعالى قال: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الأعراف:204]، ولم يقل: فاسمعوا له، قال: فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، فدل على أن استماع القرآن والإنصات من أسباب الرحمة، وذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ القرآن والصحابة يستمعون، وكان الواحد من الصحابة يقرأ الآيات والبقية يستمعون، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[فصلت:26].
قال الله تعالى: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[فصلت:27]، فالجزاء من جنس العمل، كما أنهم زادوا في الكفر وفي الصد عن سبيل الله بعدم سماع القرآن زيد في عذابهم، وجوزوا بأسوء عملهم، قال: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾[فصلت:28]، مجازاة لهم على عملهم، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ﴾[فصلت:29]، وهذا من شدة غيظهم عليهم، فالكفار في النار، الأتباع والقادة، أتباع ومتبوعين، كلهم في النار، لكن الأتباع حنقوا على القادة، وتغيظوا عليهم، وقالوا: ﴿أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ﴾[فصلت:29]، اللذين مثنى، نجعلهما تحت أقدامنا ليزداد عذابهم من شدة غيظهم عليهم، ﴿لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ﴾[فصلت:29]، وفي سورة الأعراف أخبر الله تعالى أن الأتباع قالوا: ﴿رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف:38]، نسأل الله السلامة والعافية، لا بد من توبة ليبين أن هذا خطأ، وأنه ليس على الحق، وأنه على الباطل، وأنه تاب منه.
الطالب: أحسن الله إليكم، إذا فسرت الآية بأن الذين أضلانا إبليس وابن آدم الأول، هل ابن آدم الأول يكون من الأسفلين؟
الشيخ: لا، هذا تفسير الآية ببعض ما تدل عليه، داخل فيها، تدخل فيها، السلف يفسرون الآية ببعض ما يدخل منها، مثل الأمانة، أداء الأمانة، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[المؤمنون:8]، بعضهم فسرها قال: غسلهم من الجنابة، قالوا: الصلاة، وبعضهم قال: الودائع، كلها داخلة فيها، يفسرون السلف ببعض معناه، وليس المراد هذا، كما يقال للأعجمي الذي لا يعرف الخبز، فتأتي برغيف وتقول: هذا الخبز، المراد أن هذا الخبز كله أم أن هذا شيء منه؟ شيء منه، هذا جزء منه، هذا مثال، السلف يمثلون بأمثلة، مثل إبليس، مثل ابن آدم؛ لأنه داخل في الآية، وليس المراد أنها تشمل غيره.
الطالب: أحسن الله إليكم، ابن آدم الأول كان موحدًا، هل وقع في الشرك؟
الشيخ: الظاهر أنه ما وقع في الشرك، لكن يناله كفل من العذاب، من كل نفس تقتل ظلمًا، ظاهره أنه ما وقع الشرك إلا في زمن نوح عليه السلام، قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾[البقرة:213]، قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم حدث الشرك، وهذا قول من الأقوال، ولكن يحمل على أنه داخل في جزء منها، أنه داخل فيها على أنه ما جاء في الحديث يناله نصيب، يناله كفل من قتل كل نفس ظلمًا.
({إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}.
يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَيْ: أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ أَبُو قُتَيْبَةَ الشَّعِيري، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَدْ قَالَهَا نَاسٌ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى يَمُوتَ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا. وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، بِهِ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْفَلَّاسِ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عامر بن سعد ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ نِمْرَانِ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا.
ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}؟ قَالَ: فَقَالُوا: {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} مِنْ ذَنْبٍ. فَقَالَ: لَقَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى غَيْرِ الْمَحْمَلِ، {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْخَصُ؟ قَالَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عَلَى شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَقَامُوا -وَاللَّهِ- لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا، فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَخْلَصُوا لَهُ الْعَمَلَ وَالدِّينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ فِي الْإِسْلَامِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» قُلْتُ: فَمَا أَتَّقِي؟ فَأَوْمَأَ إِلَى لِسَانِهِ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ الْغَامِدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ. قَالَ: «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرَفِ لِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا».
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
وَقَوْلُهُ: {تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ: يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ قَائِلِينَ: {أَلا تَخَافُوا} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَيْ مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، {وَلا تَحْزَنُوا} [أَيْ] عَلَى مَا خَلَّفْتُمُوهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ، وَمَالٍ أَوْ دَيْنٍ، فَإِنَّا نَخْلُفُكُمْ فِيهِ، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فَيُبَشِّرُونَهُمْ بِذَهَابِ الشَّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ.
وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ، اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ».
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حدثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا قَرَأَ سُورَةَ "حم السَّجْدَةِ").
حم السجدة هي سورة فصلت، تسمى السجدة، حم السجدة، تسمى سورة حم السجدة، الآن فيها سجدة، وهي حم، تسمى حم السجدة، وتسمى سورة فصلت، لها اسمان، مثل سورة محمد، وتسمى سورة القتال، سورة القتال، وسورة محمد.
(حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} فَوَقَفَ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ حِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنْ قَبْرِهِ، يَتَلَقَّاهُ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ كَانَا مَعَهُ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ لَهُ: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} قَالَ: فَيُؤَمِّنُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَيُقِرُّ عَيْنَهُ فَمَا عَظِيمَةٌ يَخْشَى النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ لِلْمُؤْمِنِ قُرَّةُ عَيْنٍ، لِمَا هَدَاهُ اللَّهُ، وَلِمَا كَانَ يَعْمَلُ لَهُ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يُبَشِّرُونَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِي قَبْرِهِ، وَحِينَ يُبْعَثُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا، وَهُوَ الْوَاقِعُ.
وَقَوْلُهُ: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أَيْ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ: نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ، أَيْ: قُرَنَاءَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، نُسَدِّدُكُمْ وَنُوَفِّقُكُمْ، وَنَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الْآخِرَةِ نُؤْنِسُ مِنْكُمُ الْوَحْشَةَ فِي الْقُبُورِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَنُجَاوِزُ بِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَنُوصِلُكُمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ، وَتَقَرُّ بِهِ الْعُيُونُ، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أَيْ: مَهْمَا طَلَبْتُمْ وَجَدْتُمْ، وَحَضَرَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، [أَيْ] كَمَا اخْتَرْتُمْ،
{نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أَيْ: ضِيَافَةً وَعَطَاءً وَإِنْعَامًا مِنْ غَفُورٍ لِذُنُوبِكُمْ، رَحِيمٍ بِكُمْ رَءُوفٍ، حَيْثُ غَفَرَ، وَسَتَرَ، وَرَحِمَ، وَلَطَفَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثَ "سُوقِ الْجَنَّةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ أَبِي سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الجنة. فقال سعيد: أو فيها سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إن أهل الجنة إذا دَخَلُوا فِيهَا، نَزَلُوا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا فَيَزُورُونَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُبْرِزَ لَهُمْ عَرْشَهُ، وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَجْلِسُ [فِيهِ] أَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، مَا يَرَوْنَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا).
يعني يقال: أنهم مثلهم أو أعظم منهم، الجنة ليس فيها حزن ولا هم، يعني يخيل لأهل الجنة على الكثبان أنها مثل الكراسي أو أحسن.
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا [يَوْمَ الْقِيَامَةِ]؟ قَالَ: «نَعَمْ هَلْ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟» قُلْنَا: لَا. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَكَذَلِكَ لَا تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ تَعَالَى، وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَحَدٌ إِلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً، حَتَّى إِنَّهُ لِيَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ -يذكِّره بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا-فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَبِسِعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ". قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-: قُومُوا إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ». قَالَ: "فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّت بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فِيهَا مَا لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ. قَالَ: فَيَحْمِلُ لَنَا مَا اشْتَهَيْنَا، لَيْسَ يُبَاعُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُشْتَرَى).
ما في بيع ولا شراء، كل ما في الجنة نعيم، كلها ليتمتعون ويتنعمون.
(وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا". قَالَ: "فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، فَيَلْقَى مَنْ هُوَ دُونَهُ-وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ فَيُرَوِّعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ، فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْهُ).
لأن الجنة ما فيها حزن ولا هم، يعني أهل الجنة متفاوتون، درجات، كل درجة أعلى نعيم من التي تحتها، فإذا جاء صاحب الدرجة الرفيعة والتقى مع الدرجة التي أدنى منه ورأى ما عليه من الثياب ومن المناظر العظيمة والأبهة وغيرها، في أول الأمر كأنه يجد في نفسه شيء أنه أقل منه، ويحصل له بعض الشيء، فلا ينتهي حديثه حتى يخيل إليه أنه أحسن منه، حتى لا يكون في نفسه شيء، ما يتأذوا بشيء.
(وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا.
ثُمَّ نَنْصَرِفُ إِلَى مَنَازِلِنَا، فَيَتَلَقَّانَا أَزْوَاجُنَا فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِحِبَّنا، لَقَدْ جِئْتَ وَإِنَّ بِكَ مِنَ الْجِمَالِ وَالطِّيبِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ. فَيَقُولُ: إِنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ -عَزَّ وَجَلَّ-وَبِحَقِّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا بِهِ".
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "صِفَةِ الْجَنَّةِ" مِنْ جَامِعِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، بِهِ نَحْوَهُ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ).
الشيخ: تكلم عليه؟
الطالب: قال: أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن أبي عاصم في السنة، وإسناده غير قوي؛ لأجل عبد الحميد، قال الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ.
الشيخ: عبد الحميد بن...
الطالب: عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين.
الشيخ: الحديث مشهور، حديث سوق الجنة، فيه بعض اللين، وقد رواه...
الطالب: أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن أبي عاصم في السنة، وإسناده غير قوي لأجل عبد الحميد، قال الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ، وقال الذهبي في الميزان: وثقه أحمد وأبو حاتم، وضعفه دحيم، وقال النسائي: ليس بالقوي، وجزم الألباني في الضعيفة بضعف حديثه، وفيه نظر، فالرجل وثقه أحمد وأبو حاتم، فحديثه غير قوي.
الشيخ: هذا كلام من؟
الطالب: كلام المحقق أحسن الله إليك، عبد الرزاق المهدي.
(وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِي، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِر جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَ: «وَإِنَّ الْفَاجِرَ -أَوِ الْكَافِرَ-إِذَا حُضِر جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ -أَوْ: مَا يَلْقَى مِنَ الشَّرِّ-فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ).
هذه الآيات فيها بيان ما أعد الله تعالى للمؤمنين المستحقين للكرامة العظيمة والفضل العميم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾[فصلت:30]، يعني معبودنا وإلهنا بالحق هو الله، ثم استقاموا بالعمل، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾[فصلت:30]، يعني إلهنا ومعبودنا بالحق هو الله، ثم استقاموا بالعمل، ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ﴾[فصلت:30]، تبشرهم بثلاث بشارات، ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا﴾[فصلت:30]، تبشرهم عند الموت، وفي القبر، وعند خروجهم من القبور، ثلاث بشارات، البشارة الأولى: لا تخافوا، لا تخافوا المستقبل، لا تخافوا من عذاب النار، لا تخافوا من المستقبل، تؤمنهم، البشارة الثانية: ولا تحزنوا على ما خلفتم في الماضي من مال وولد ودين، والبشارة الثالثة: وأبشروا بالجنة، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، قد يكون من حوله يبكي وهو يبشر، عند الموت قد يكون من حوله يبكي وهو يبشر بهذه البشارة، وكذلك في القبر، وكذلك في يوم القيامة، تبشرهم وتهدئ روعهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾[فصلت:30].
تقول لهم الملائكة: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾[فصلت:31]، نتولاكم ونكون معكم، ونؤنسكم، ونهدأ روعكم في أماكن الخوف، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ﴾[فصلت:31]، أي في الجنة كل ما تشتهي أنفسكم، ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ﴾[فصلت:31]، كل شيء تشتهيه تحصل له، حتى إذا اشتهى لحم الطير خر عليه الطير مشويًا، ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾[فصلت:31]، ولكم فيها ما تطلبون، كل ما تطلبونه هكذا تكون الملائكة، لكم في الجنة ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدعون، ﴿نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾[فصلت:32]، ضيافة من رب غفور رحيم سبحانه وتعالى.
وهذا فيه دلالة على إثبات نعيم القبر، هذا يبشر في الملائكة عند القبر، كما أن قوله تعالى في الكفار عندما أخبر أنهم تتوفاهم الملائكة، وأنهم يضربون أدبارهم، وجوههم وأدبارهم، ويقال لهم ذوقوا عذاب الحريق، هذا دليل عذاب القبر، قوله تعالى في آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾[غافر:46]، هذا في البرزخ، ويوم القيامة، ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[غافر:46]، هذا في أدلة عذاب القبر ونعيمه في القرآن وفي السنة، كثيرة، أدلة كثيرة، تكاد تكون قطعية، مقطوع بها، ولهذا من أنكر عذاب قد يستتاب، فإن تاب يبين له، وإلا قد يحكم بكفره، نسأل الله السلامة والعافية، فالإنسان إذا ولد الناس حوله يفرحون، وهو يستهل صارخًا، وإذا مات يبشر بالجنة، ومن حوله يبكون، كما قال الشاعر:
ولدتك حين ولدتك أمك باكيًا، فاجهد لعلك أن تكون عند موتك ضاحكًا
يعني ضاحكًا مسرورًا، نسأل الله الكريم من فضله.
الطالب: العصاة؟
الشيخ: ما في شك، المؤمنون يبشرون، العصاة على خطر من عذاب القبر، ومن عذاب النار، هم على خطر، وإن كان مآلهم كموحدين مآلهم الجنة والسلامة، قد يصيبهم قبل ذلك، قد يتأخروا عن دخول الجنة، قد يصيبهم شدائد، قد يعذبوا في النار، على خطر.
