الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عند تفسير سورة الدخان، قال تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)}.
قال رحمه الله تعالى لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ [حَالِ] السُّعَدَاءِ -وَلِهَذَا سُمّي الْقُرْآنُ مَثَانِيَ-فَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أَيْ: فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، قَدْ أَمِنُوا فِيهَا مِنَ الْمَوْتِ وَالْخُرُوجِ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ وَحُزْنٍ وَجَزَعٍ وَتَعَبٍ وَنَصَبٍ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَسَائِرِ الْآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ.
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنْ شَجَرِ الزَّقُّومِ، وَشُرْبِ الْحَمِيمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ: رَفِيعُ الْحَرِيرِ، كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا {وَإِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ وَذَلِكَ كَالرِّيَاشِ، وَمَا يُلْبَسُ عَلَى أَعَالِي الْقُمَاشِ، {مُتَقَابِلِينَ} أَيْ: عَلَى السُّرُرِ لَا يَجْلِسُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَظَهْرُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أَيْ: هَذَا الْعَطَاءُ مَعَ مَا قَدْ مَنَحْنَاهُمْ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْحُورِ الْعِينِ الْحِسَانِ اللَّاتِي {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرَّحْمَنِ: ٥٦، ٧٤]، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ: ٥٨] {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرَّحْمَنِ: ٦٠].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ -رَفَعَهُ نُوحٌ-قَالَ: لَوْ أَنَّ حَوْرَاءَ بَزَقَت فِي بَحْرٍ لُجِّي، لعَذُبَ ذَلِكَ الْمَاءُ لِعُذُوبَةِ رِيقِهَا).
في رجل مبهم، ماذا قال عليه؟
الطالب: قال: باطل ففي إسناده راوٍ لم يسم، وفيه نصر بن مزاحم الكوفي، وهو متروك، وكذبه أبو خيثمة.
(وَقَوْلُهُ: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} أَيْ: مَهْمَا طَلَبُوا مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ أُحْضِرَ لَهُمْ، وَهُمْ آمِنُونَ مِنِ انْقِطَاعِهِ وَامْتِنَاعِهِ، بَلْ يَحْضُرُ إِلَيْهِمْ كُلَّمَا أَرَادُوا.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ يُؤَكِّدُ النَّفْيَ، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَبَدًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ» وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: إِنْ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأسوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ).
الشيخ: رواه مسلم؟ وماذا ذكر في الأسفل؟
الطالب: قال: مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، وفي باب دوام نعيم أهل الجنة.
(هَكَذَا يَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ "أَبُو مُسْلِمٍ الْأَغَرُّ"، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: "أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرُّ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَان، عَنِ الْحَجَّاجِ -هُوَ ابْنُ حَجَّاجٍ -عَنْ عُبَادَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اتَّقَى اللَّهَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، يَنْعَمُ فِيهَا وَلَا يَبْأَسُ، وَيَحْيَا فِيهَا فَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ».
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ الرَّبِيعِ الْكُوفِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئل نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: «النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ».
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُرْدَويه فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ صَدَقَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمنكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ»).
الشيخ: ماذا قال عنه؟
الطالب: الأول قال: حسن أخرجه الطبراني في الأوسط، وإسناده ضعيف لجهالة مصعب...
الشيخ: ما هو الأول؟
الطالب: حديث الطبراني أحسن الله إليك.
الشيخ: أهل الجنة لا ينامون.
الطالب: (حديث الطبراني عَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئل نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: «النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ»)، قال: حسن، أخرجه الطبراني في الأوسط، وإسناده ضعيف لجهالة مصعب وشيخه عمران.
الشيخ: ما الأول؟
الطالب: حديث الطبراني أحسن الله إليك.
الشيخ: أهل الجنة لا ينامون؟
الطالب: حديث الطبراني عن جابر بن عبد الله سئل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: «النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ»)، قال: حسن، أخرجه الطبراني في الأوسط، وإسناده ضعيف لجهالة مصعب وشيخه عمران.
الشيخ: والذي قبله؟
الطالب: والذي قبله قال: جيد، أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة.
الشيخ: متنه؟
الطالب: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اتَّقَى اللَّهَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، يَنْعَمُ فِيهَا وَلَا يَبْأَسُ، وَيَحْيَا فِيهَا فَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ».
الشيخ: هذا صحيح، وله شواهد، ماذا قال؟
الطالب: قال: جيد، أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة، وإسناده ضعيف؛ لجهالة عبيد الله بن عمرو، لكن توبع، فقد أخرجه أبو نعيم من وجه آخر، وإسناده حسن، ويشهد لأصله ما قبله وهو عند مسلم.
الشيخ: أصله في مسلم، نعم.
(وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفِريابي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "لَا النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ" ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ إِلَّا الثَّوْرِيَّ، وَلَا عَنِ الثَّوْرِيِّ، إِلَّا الْفِرْيَابِيَّ" هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
الشيخ: ماذا قال عليه؟
الطالب: أحسن الله إليك، قال: حسن، أخرجه البزار، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال البخاري ومسلم، والصواب أنه على شرط البخاري حيث تفرد عن الفضل بن يعقوب، وقد أُعلَّ بالإرسال حيث أخرجه ابن المبارك عن الثوري عن ابن المنكدر مرسلًا، وابن المبارك أثبت من الفضل، وكذا صوب أبو حاتم في العلل الإرسال، لكن للحديث شواهد يحسن بها، وانظر السلسلة الصحيحة.
الشيخ: نعم، صحيح، والمعنى يقتضيها.
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يقول الله: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾[الدخان:51]، هذه الآيات في وصف المؤمنين بعد أن وصف الله تعالى الكفار، ثنى بوصف الأبرار والمتقين؛ لأن القرآن مثاني، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾[الزمر:23]، إذا ذكر الله تعالى أهل الجنة ذكر أهل النار، وإذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكفار، وهكذا، قال في الأشقياء: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ(50)﴾[الدخان:40/50]، ثم ثنى بأوصاف المتقين، قال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾[الدخان:51]، المتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، ووحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، ﴿فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾[الدخان:51]، في الجنة، آمنين من الآفات، من جميع الآفات، آمنين من الموت، آمنين من الأمراض والأسقام، آمنين من الهموم والغموم، وآمنين من كل ما يكدر.
ومن ذلك النوم؛ لأن النوم أخو الموت، والحديث لا بأس به وله شواهد، «أهل الجنة لا ينامون؛ لأن النوم أخو الموت»، وهو الموتة الصغرى، وهم آمنون، قال الله تعالى: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى﴾[الدخان:56]، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾[الدخان:51]، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(52)﴾[الدخان:51/52]، بساتين وعيون، مقابل الكفار في سموم وحميم، وشرابهم الغسلين، وشجرة الزقوم، والمتقين في جنات وعيون، ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ﴾[الدخان:53]، ذكر لباسهم، السندس هو رفيع الحرير، والاستبرق ما له بريق ولمعان، أحدهما حرير رقيق، والآخر غليظ، متقابلين؛ لأنهم متحابون، متوادون، فهم يتقابلون، تحصل لهم اللذة والحبور والأنس، يلبسون من سندس واستبرق متقابلين، ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى﴾[الدخان:56]، فيها لأنهم لا يموتون؛ لأن الموت فيه انقطاع، والنوم أخو الموت، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، هذا استثناء منقطع، يؤكد عدم انقطاع لذاتهم وسرورهم وحياتهم، والمعنى لكن الموتة التي كُتب عليهم ذاقوها في الدنيا، ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى﴾[الدخان:56]، هذا استثناء منقطع، والمنقطع من جنس الآخر.
يمثل له النحاة بقولهم: قام القوم إلا حمارًا، ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى﴾[الدخان:56]، لكن الموتة الأولى ذاقوها، والتي كانت في الدنيا، ووقاهم عذاب الجحيم، جعلهم في وقاية من عذاب الجحيم، حيث أحلهم دار كرامته ورضوانه، ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[الدخان:57]، هذا هو الفوز، وصفه الله بأنه عظيم، ليس كالفوز في الدنيا، في التجارات، وفي غيرها، فإن هذا فوز منقطع فضلًا عن الفوز الناقص، أما الفوز الحقيقي هو الفوز العظيم هو ما أعطاه الله تعالى للمتقين من النعيم المقيم في الجنة في الآخرة، نسأل الله الكريم من فضله، ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[الدخان:57].
(وَقَوْلُهُ: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ: مَعَ هَذَا النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْمُقِيمِ قَدْ وَقَاهُمْ، وَسَلَّمَهُمْ وَنَجَّاهُمْ وَزَحْزَحَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي دَرَكَاتِ الْجَحِيمِ، فَحَصَلَ لَهُمُ المطلوب، ونجاهم من المرهوب؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}).
تمت السعادة، حصلوا على المطلوب وما أعد الله لهم من الكرامة، وسلموا من المرهوب وهو العذاب والشرور والآفات.
(وَلِهَذَا قَالَ: {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أَيْ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَنْ يُدخله عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يتغمَّدني اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ».
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: إِنَّمَا يَسَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ سَهْلًا وَاضِحًا بَيِّنًا جَلِيًّا بِلِسَانِكَ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: يَتَفَهَّمُونَ وَيَعْمَلُونَ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَفَرَ وَخَالَفَ وَعَانَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُسَلِّيًا لَهُ وَوَاعِدًا لَهُ بِالنَّصْرِ، وَمُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَذَّبَهُ بِالْعَطَبِ وَالْهَلَاكِ: {فَارْتَقِبْ} أَيِ: انْتَظِرْ {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} أَيْ: فَسَيَعْلَمُونَ لِمَنْ يَكُونُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وعُلُو الْكَلِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِإِخْوَانِكَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَنِ اتَّبَعَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الْمُجَادَلَةِ: ٢١]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غَافِرٍ: ٥١، ٥٢].
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة).
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[الدخان:58]، هذا من فضل الله تعالى وإحسانه، أنه يسر القرآن بلسانك يا محمد، وهو اللسان العربي المفهوم الواضح، وهم عرب، وأهل مكة والعرب من حولهم، لعلهم يتذكرون، لعلهم يتوبون إلى رشدهم، إذا كان القرآن سهل، ميسر، بلسانهم، لا يحتاجون إلى من يبين لهم معناه، يخاطبهم بما يعلمون، ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾[ق:6]، انظروا إلى السماء، انظروا إلى الأرض، انظروا إلى الجبال، وإلى الأشجار، اعتبروا، الذي خلقكم، ورزقكم هو الخالق وهو المدبر، وهو خالق السماوات والأرض، تشاهدون الآيات، يسر الله لكم القرآن يذكركم ويرشدكم إلى أن تنظروا وإلى أن تتدبروا، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾[يوسف:109]، وتتأملوا، وتتأملوا آيات القرآن، لعلهم يتذكرون، لعلهم يتوبون إلى الله، لعلهم يرجعون، فلما كفر من كفر قال الله: ﴿فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ﴾[الدخان:59]، ارتقب، انتظر، ارتقب: انتظر، فإنما نحن مرتقبون منتظرون ما سيحل بهم من العذاب والنكال في الدنيا والآخرة، وأما من اتقى الله وآمن وتاب إلى رشده فإن له الجنة والكرامة.
