شعار الموقع

شرح كتاب تجريد التوحيد_18

00:00
00:00
تحميل
11

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، اللهم اغفر لنا ولشيخنا أجمعين برحمتك يا أرحم الرحمين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

وهاتان الطائفتان متقابلتان:

فالجبريّة: لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتّة، وجوّزت أن يعذّب الله من أفنى عمره في الطّاعة، وينعّم من أفنى عمره في مخالفته، وكلاهما سواء بالنسبة إليه، والكل راجع إلى محض المشيئة.

والقدرية: أوجبت عليه سبحانه وتعالى رعاية المصالح، وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منّة الصدقة عليه بلا ثمن، فجعلوا تفضّله سبحانه وتعالى على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد، وإعطائه ما يعطيه أجرةً على عمله، أحبّ إلى العبد من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل، فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة ولم يجعلوا للأعمال تأثيرًا في الجزاء البتّة.

والطائفتان منحرفتان عن الصّراط المستقيم0

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: هذا البحث كما سبق البارحة في منفعة العبادة، وحكمتها، ومقصودها، هل للعبادة منفعة؟ وهل لها حكمة ومقصود؟

ذكر المؤلف -رحمه الله- في المسألة أربعة مذاهب:

المذهب الأول: مذهب الجبرية من الجهمية والأشاعرة أن العبادات ليس لها حكم، ولا منفعة، ولا فائدة، ولا مقصود لكن تفعل امتثالًا للأمر، ولذلك ليس فيها فائدة، ولا جزاءً، ... (02:27) فليس الثواب على الأعمال مفيدًا، ولا سبب في دخول الجنة، بل دخول الجنة برحمة الله والأعمال لا فائدة منها إلا امتثال الأمر فقط، لكن تكون سببًا لدخول الجنة، ويكون فيها ثواب، بل قالوا: إن الأعمال لا فائدة فيها، ولا حكمة منها، وإنما تفعل امتثالًا للأمر.

الطائفة الثانية: القدرية النفاة وهم المعتزلة قابلوهم فأثبتوا نوعًا من الحكمة ترجع إلى مصلحة المخلوق، قالوا: الأعمال فيها حكمة لكنها ترجع إلى المخلوق، أما الرب فليس له حكمة في هذا ما يتعلق به.

الطائفة الثالثة: الصوفية قالوا: فائدة العبادة رياضة النفوس، واستعدادها لفيض العلوم والمعارف عليها.

الطائفة الرابعة: أهل الحق هم الطائفة المحمدية، الإبراهمية أتباع الخليلين إبراهيم ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-العارفون بالله وحكمته في أمره، وشرعه، وخلقه، أثبتوا لله الحكمة في أوامره، ونواهيه، وفي شرعه، وفي خلقه، وفي قضائه، وفي قدره، فجمعوا بين الخلق والأمر، والقدر والسبب، هؤلاء هم أهل الحق.

هذه هي المذاهب الأربعة مذهب الجبرية: والجبرية هم الجهمية والأشاعرة، والجهمية أشد من الأشاعرة لأن الجهمية جبرية خالصة، والأشاعرة أقل منهم في الغلو، ولهذا يثبتون العلة ويسمونها أمارات، الأسباب يسمونها أمارات وعلامات فرارًا من القول بإثبات الأسباب، أما الجهمية فلا يثبتون أمارات ولا أسباب.

إذًا الصنف الأول من الجبرية والأشاعرة نفوا الحكم، والتعليم، وقالوا: الله ليس له حكمة، وليس له مقصود في الأوامر والنواهي إلا امتحان العباد، وابتلائهم بامتثال الأوامر فقط، لكن الأوامر والنواهي ليس فيها فائدة، وليست الأعمال الصالحة سببًا في دخول الجنة، والأعمال السيئة ليست سببًا في دخول النار.

إذًا ما الفائدة من الأوامر والنواهي؟ قالوا: هذا يرجع إلى نفس المشيئة -مشيئة الله- وصرف الإرادة فقط، فالقيام بالأوامر والنواهي ليس إلا لمجرد الأمر، وليست الأوامر امتثال الأوامر سببًا في تعاسة العبد في معاشه ومماته، ولا سببًا للنجاة، وإنما يقوم بها الإنسان لمجرد الأمر ومحض المشيئة.

وكذلك قالوا في الخلق إن الله لم يخلق لغاية، ولا لعلة هي المقصودة به، ولا لحكمة تعود إليه، أنكروا قول الله -تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]سورة الذاريات: 56[، قالوا إن الله لم يخلق الخلق لحكمة ولا لغاية، ولا لحكمة تعود إليه، وليس في المخلوقات أسباب كقولهم كل مقتضيات مسببات، وليس في المخلوقات أسباب، ولا طبائع، ولا غرائز، ولا علل، ولا حكم كلها ينفونها، لأنه لو كانت تلك الأسباب والغرائز والحكم لكان هناك مؤثر مع الله، وقالوا المؤثر هو الله فقط، ليس هناك أسباب، ولا طبائع، ولا غرائز، ولا علل، ولا حكم فلا فرق عندهم بين الخلق والأمر، فليس لله حكمة في خلقه، وليس لله حكمة في أمره ونهيه، وليس هناك فرق بين المأمور وبين المنهي عنه، إلا في الأمر فقط، المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عنه، اقتضت أمر الله بالنكاح ونهيه عن الزنا ولا فرق بينهما، الزنا ليس فيه قبح، والنكاح ليس فيه عفة، فلله أن يقلب التشريعات والجزاء فيجعل الزنا واجب، والنكاح حرام لأنه ليس هناك حكمة.

قالوا: ولله أن يبطل حسنات الأبرار، والأنبياء، والمتقين، ويحملهم أوزار الفجار ويخلدهم في النار، ولا يكون يخالف الحكمة لأنه ليس له حكمة -تعالى الله عما يقولون- فليس لله حكمة في الخلق، وليس لله حكمة في الأمر والنهي، لكن تفعل الأوامر امتثالًا لأمر الله، وتترك النواهي امتثالًا لأمر الله، ولا فرق بين الأمر والنهي، لا فرق بين أقيموا الصلاة، ولا تقربوا الزنا، إلا في الأمر والنهي، وإلا فالزنا ليس بقبيح ما نعلم فيه قبح ألغوا عقولهم -نسأل الله العافية-، قالوا: المشيئة الإلهية اقتضت أمر الله بهذا، ونهيه عن هذا، من غير أن يكون للمأمور صفة تقتضي الحسنى، ولا بمنهي عنه صفة تقتضي القبح، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله- هذا الأصل له لوازم كثيرة فاسدة، وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها، ولا يتنعّمون بها لأنهم يفعلونها كأنهم مرغبون مجبرون على فعل الأوامر، وإلا ليس فيها فائدة، وإنما تفعل ارغامًا، الله أرغمنا على فعلها فنفعلها وإلا ما فيها فائدة، وليست الأعمال الصالحة سببًا في دخول الجنة، ولا الأعمال السيئة سببًا في دخول النار فإن الله يدخل هؤلاء الجنة بدون مشيئة، ويدخل هؤلاء النار بدون حكمة، وبدون عمل مثل أهل الجنة يدخلهم بدون عمل ولا حكمة، ويدخل هؤلاء النار بدون عمل ولا حكمة.

ما الفائدة من الأوامر والنواهي؟ ليس فيها فائدة إلا أننا مجبرون على فعل الأوامر، واجتناب النواهي -تعالى الله عما يقولون-، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله- (وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها، ولا يتنعّمون بها) ولهذا يسمونها تكاليف، يسمون الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج تكاليف كلفنا بها مرغمين.

(ولو سمّى مدّعي محبّة ملك الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفًا لم يعد محبا له) لو سمى شخص ما يأتيه من رئيسه تكاليف ما يعتبر محبًا له، فكيف يقول هؤلاء إن أوامر الله تكاليف.

(وأول من صدرت عنه هذه المقالة: الجّعد بن درهم) العبد مجبور على أفعاله، مجبور على الأوامر والنواهي، وليس فيها حكمة ولا فائدة، ثم تقلدها عنه الجهم بن صفوان، ثم تقلدها الجهمية، والجبرية، والأشاعرة.

المذهب الثاني: مذهب القدرية النفاة أثبتوا حكمة للأوامر والنواهي لكنها تعود إلى مصلحة المخلوق فقط، لأنهم قاسوا المخلوق على الخالق، قالوا: الخالق ما له حكمة تقوم بذاته، لكن هناك حكمة للمخلوق، وقالوا: إن العبد هو الذي يخلقه على نفسه، إذا صلى هو الذي يخلق الصلاة، إذا زنا هو الذي يخلق الزنا، إذًا يجب على الله أن يثيبه على الطاعة لأن هذا هو الذي خلق فعله، ويستحق على الله الثواب والأجر كما يستحق الأجير أجرته، وقالوا: إنه لا يثاب الإنسان فضلًا من الله وإحسانًا لأنه يكون لله منة عليه وهذا تنغيص، ينغص عليه يكدر، فيقولون لا نريد المنة من الله -نعوذ بالله- الواحد يعمل بعرق جبينة، نفعل الصلاة نأخذ الثواب الأجر، يجب على الله أن يثيبه هكذا يوجبون على الله، كما أنه يجب على العاصي أن يعاقبه وليس أن يعفي عنه، لأن الله توعد والله لا يخلف الميعاد فأوجبوا على الله أن يثيب المطيع لأن هذا عمله أجرته لا بد أن يأخذها كما يأخذ الأجير أجرته فقاسوا المخلوق على الخالق، ويجب على الله أن يعاقب العاصي وليس له أن يعفوا عنه، ولا يغفر له، ولا يرحمه لأنه توعده والله لا يخلف الميعاد، هؤلاء القدرية، فقالوا إن العبادات شرعة أثمان للثواب، ثمن تعمل الصلاة تأخذ ثمن مثل ما تعطي الأجير أجرة، مثلا ما واحد يعمل لك عملًا ويسلمك الأجرة كذلك إذا صليت يجب على الله أن يسلمك الأجرة في الحال، تصوم يسلمك الثواب وهكذا، قاسوا المخلوق على الخالق.

قالوا: والعبادات شرعة أثمان، ثمن وأجرة، فالصلاة لها أجرة، والزكاة لها أجرة، الصوم له أجرة، والحج له أجرة، يجب على الله أن يثيبه، وليس لله منة عليه يقولون -نعوذ بالله- ما له منة عليه، المنة لو كان يعطيه بدون سبب، لكن إذا كان يعمل ويخلق، الصلاة، والصيام يخلق فعله، يخلق الخير والشر، إذًا ليس لله منة عليه، ولو أعطاه الله الثواب بدون منة لكان فيه منة، وفيض تمغيص على المخلوق، فالأولى أنه لا يعمل عمل بدون منة، فقالوا: العبادات شرعة أثمان وعوض لما نهى عن العباد من الثواب والنعيم، وهي بمنزلة استيفاء الأجيرة أجرته، وأدلتهم التي تدل على أن الأعمال عوض وثمن، قالوا: الله -تعالى- جعل الجنة عوض عن العمل فقال: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]سورة الأعراف: 43[، قالوا: والباء باء العوض، أورثتموها بما كنتم تعملون إذًا الجنة ثمن، ثمن عن العمل، عكس الجبرية متقابلتان، ومن الأدلة قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]سورة النمل: 90[، الجزاء بالعمل، ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]سورة النحل: 32[، الباء للعوض، ادخل الجنة عوضًا عن عملك ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]سورة الزمر: 10[، إذًا وفوا أجرهم بالصبر وهو العمل، وفي الصحيح «إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها» قالوا: والدليل على ذلك أن الله -تعالى- سماها جزاءً، وأجرًا، وثوابًا لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله أن يرجع إليه.

قالوا: ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءً، ولا أجرًا، ولا ثوابًا معنى، ولهذا عندكم قول المؤلف

(وفي الصحيح: "إنّما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثمّ أوفيكم إيّاها". قالوا: وقد سماها جزاءً وأجرًا وثوابا لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله، أي: يرجع إليه، ولولاء ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءً، ولا أجرًا، ولا ثوابًا معنى قالوا: ويدل عليه الموازنة، فلولا تعلّق الثواب بالأعمال عوضًا عليها لم يكن للموازنة معنى).

(وهاتان الطائفتان متقابلتان) في المدارج زيادة أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، ووجه التقابل بينهما:

الجبرية وهم الجهمية وكلاهما يسمون القدرية، هؤلاء يمسون قدرية الجبرية، وهذه قدرية النفاة كلاهما قدرية، فالجبرية يسمون القدرية المجبرة، والمعتزلة يسمون القدرية النفاة، قدرية مجبرة يقول العبد مجبور على أفعاله، ويقولون أن العباد ليس لهم أفعال الجبرية، حركات العباد كحركات المرتعش والنائم وهبوب الرياح، وقالوا ان ليس له عمل، العمل الله هو الذي يعمل، الله هو المصلي والصائم، والعبد وعاء للعمل تجري على أعضائه العمل مجبر ليس له اختيار، وقالوا: مثل العباد كمثل الكوب الذي يصب فيه الماء، والله هو صباب الماء فيه، فالأعمال يصبها الله صبًا يجريها الله على جوارحهم بغير اختيارهم، فالعبد مجبور كل أفعاله مجبور عليها، فالله -عز وجل- هو المصلي والصائم، الأفعال أفعال الله، والعباد تنسب إليهم الأعمال لأنهم محلٌ لها، كالكوب الذي يصب فيه الماء، فالعباد كالكوب، والله هو صباب الماء فيه، أعمالهم كلها مجبور عليها، ولهذا قالوا الزاني مجبور على زناه، والسارق مجبور على سرقته، والمصلي مجبور على صلاته، وعلى هذا فتكون الشرائع عبث، والرسل عبث، هذا المذهب في فساده الدين والدنيا، تكون في ابطال أعمال الدنيا والآخرة هذا أفسد مذهب، وهو مذهب الصوفية.

الطائفة الثانية: القدرية تقابلهم بالعكس على طرفي نقيض، ولهذا قال المؤلف والطائفتان متقابلتان بينهما أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين وجه ذلك:

(فالجبريّة: لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتّة) الجبرية تقول الأعمال ليس لها علاقة بالجزاء أبدًا، الله يدخل أهل الجنة الجنة بدون عمل، وبدون ثواب وبمحض مشيئته، والثواب؟ الأعمال ليس لها فائدة، ونعملها لأننا مجبرون عليها مرغم، نفعلها إجبارًا، الله هو الذي يفعلها إجبارًا، فالأعمال الصالحة ليست سببًا في دخول الجنة، والاعمال السيئة ليست سببًا في دخول النار، بل الله يدخل هؤلاء في محض مشيئته من دون حكمة، ومن دون عمل.

(فالجبريّة: لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتّة، وجوّزت أن يعذّب الله من أفنى عمره في الطّاعة، وينعّم من أفنى عمره في مخالفته، وكلاهما سواء بالنسبة إليه، والكل راجع إلى محض المشيئة) قالوا: يجوز على الله أن يعذب من أفنى عمره في طاعته، من أول عمره إلى آخره ويطيع الله يجوز على الله أن يعذبه، لأنه ما في حكمه ولا أسباب، ويجوز أن ينعم من أفنى عمره في المعاصي والكفر ولا يكون هذا مخالف لحكمته لأنه ما في حكمه وكلاهما سواء، يعذب من أفنى عمره في الطاعات، وينعم من أفنى عمره في المعاصي والكفر وكلاهما سواء بالنسبةِ إليه لأن الكل راجع إلى محض المشيئة.

(والقدرية: أوجبت عليه سبحانه وتعالى رعاية المصالح) يجب على الله أن يرعى مصالح العباد، وجعلوا الأعمال ثمنًا وعوضًا عن الأعمال، قالوا: الثمن، والأجر، والجزاء عوض وثمن للأعمال، وأن الله لو أثاب العبد وجزاه وأدخله الجنة بدون عمل لكان فيه تمغيص له لأنه يتحمل منة الصدقة بلا ثمن، يتصدق عليه الله ويعطيه بلا ثمن هذا فيه منة عليه، وهم لا يريدون المنة من الله -نعوذ بالله- فقالوا: إن تفضل الله على عبده بمنزلة صدقة العبد على .. كما أن العبد إذا تصدق عليك تكون المنة عليك فكذلك الرب، إذا أثابك فتكون المنة عليك، لا تأخذ الثمن إلا بمقابل العمل، حتى لا يكون لله منة عليك، وقالوا: إن ما يعطاه العبد أجرة على عمله أحب للعبد من أن يعطيه فضلًا منه وإحسانًا بلا عمل.

(فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة، ولم يجعلوا الأعمال تأثيرًا في الجزاء البتة) فتجد هاتان الطائفتان متقابلتان لكن عند النظر والتأمل تجد أن أقربهم إلى الحق القدرية النفاة وإن قالوا: إن العبد يجب على الله أن يثيبه لكنهم أثبتوا الشرائع والأوامر والنواهي، وقالوا: الصلاة واجب، والحج واجب، وقالوا إن الأعمال ثمن للجنة، لكن أقروا بالشرائع والأوامر والنواهي، بخلاف الجبرية، الجبرية ما أقروا بالشرائع والنواهي إنما قالوا أن الشرائع عبث، والرسل عبث، والأوامر والنواهي لا قيمة لها، والإنسان مجبور على العاصي على معصيته، والمطيع مجبور على طاعته ولا فائدة في الأعمال، فكان القدرية أقرب إلى الحق، أقرب إلى الحق لأنهم أثبتوا الشرائع، والأوامر، والنواهي وعظموها، وإن قالوا أنه يجب على الله أن يثيب عليها، لكن الجبرية أنكروا الشرائع، والأوامر والنواهي، والرسل تكون كلها عبث، والكتب كلها عبث -تعالى الله عما يقولون-.

(والطائفتان منحرفتان عن الصّراط المستقيم) والصراط المستقيم هو الذي عليه أهل السنةِ والجماعة والحق، بينه المؤلف.

(وهو: أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب، والأعمال الصّالحات من توفيق الله وفضله، وليست قدرًا لجزائه وثوابه، بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكرًا على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سبحانه وتعالى) الصراط المستقيم هو أن الأعمال سبب توصل إلى الثواب، والأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله، لا يفعلها الإنسان باستقلال، بل الله هو الذي وفقه إلى العمل الصالح، ثم جعل هذا العمل الصالح سببًا يوصل إلى الثواب، وإلى دخول الجنة، فالأعمال الصالحة سببًا في دخول الجنة، وسببٌ في الثواب، وهي منةٌ من اللهِ وتوفيق، وليست قدرًا لجزائه وثوابه، الثواب أعظم لكن هي أسباب، الثواب أعظم.

(وليست قدرًا لجزائه وثوابه، بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكرًا) تكون شكرًا لله على أحد الأجزاء القليلة من نعمه -سبحانه- فلو عذب أهل السموات، وأهل الأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خير من أعمالهم، هذا الكلام معنى الحديث «لو عذب أهل السموات، وأهل الأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم» المعنى لو حاسب الله عباده على نعمه عليهم، وأعمالهم لكانوا مدينين لهم، وحينئذٍ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه لا يفعل ذلك، لو حاسب عباده على أعمالهم ونعمه عليهم لكانوا مدينين وحينئذٍ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه لا يحاسب -سبحانه- يبتدلهم بنعمٍ جديدة.

(وتأمّل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدٌ منكم الجنّة بعمله") هذا الحديث «لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أنا يتغدمني الله برحمةٍ منه وفضل» الحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم، الآن كيف الجمع بين الآية والحديث الآية ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، تدل على أن الجنة تكون بالعمل، يكون دخول الجنة بالعمل، والحديث ينفي دخول الجنة بالعمل فهل بينهما تعارض؟

الآية تثبت دخول الجنة بالعمل، والحديث ينفي دخول الجنة بالعمل، الآية ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إذًا الجنة التي دخلتموها بالعمل، والحديث «لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» فهل هذا تعارض وتناقض؟

معاذ الله، قاعدة: شرط التعارض أن تكون الجهة متحدة، فإذا كانت الجهة منفكه لم يكن هناك تعارض، وهنا الجهة منفكه أم واحدة؟ منفكه الآن، ولذلك قال المؤلف:

(ولا تنافي بينهما، لأن توارد النّفي والإثبات ليس على محلٍ واحدٍ) فالمنفي في الحديث غير المثبت في الآية، عندنا باءان، باء في الآية ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ هذه وقعت في الإثبات، إذًا تكون الباء للسببية، والحديث «لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» وقعت في النفي إذًا تكون للعوض.

قاعدة: الباء التي تكون في الإثبات تكون للسببية، والباء التي في النفي تكون للعوض، فإذًا الجهة منفكه.

والمعنى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: بسبب عملكم، والحديث «لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» الباء للعوض، عوضًا عن عمله؛ وعلى هذا فيكون المعنى دخول الجنة ليس عوضًا عن العمل، العمل لا يكون عوض عن دخول الجنة، ولكن دخول الجنة برحمةِ الله لن يدخل الجنة بعمله أي: عوض عن عمله إلا أن يتغمضه الله برحمته، دخول الجنة برحمة الله لكن هذه الرحمة لها السبب، والسبب هو العمل، فمن جاء بالسبب نالته الرحمة، ومن لم يأتي بالسبب لم تنله الرحمة، فتكون الآية اثبتت السبب، والحديث نفى دخول الجنة بالعمل، الحديث أفاد دخول الجنة برحمة الله، والآية اثبتت السبب سبب الرحمة العمل ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: بسبب عملكم، فدخول الجنة بالسبب، «لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» عوضًا عن العمل، لكن الدخول برحمة الله والسبب العمل، فالآية أثبتت السبب، والحديث نفى أن تكون الجنة عوض، الجنة ما هي بعوض عن العمل دخول الجنة برحمة، والأعمال سبب؛ وعلى هذا يكون تكون الأحاديث والنفي بينهما تناقض أم لا؟

ليس بينهما تناقض لأن الجهة منفكه، ولهذا قال:

(لا تنافي بينهما، لأن توارد النّفي والإثبات ليس على محلٍ واحدٍ، فالمنفي باء الثمنيّة) المنفي في الحديث «لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» أي: بثمن بعمله، لن يدخل أحدكم الجنة بعمله فيكون العمل ثمنًا لدخول الجنة هذا منفي، فالمنفي باء الثمنية وكل إنسان يستحق الجنة بمجرد العمل هذا منفي، قول المؤلف رد على القدرية المجوسية المعتزلة النفاة التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداءً متضمن لتكدير المنة، قالوا: لو أن الله تفضل على العبد وأعطاه سبب ... هذا فيه منة عليه، وهذا يكدر عليه التنعم، والسبب أنهم يقيسون الخالق على المخلوق، فالحديث فيه رد على القدرية.

(والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببيّة، ردًّا على القدريّة الجبريّة الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال وجزائها، ولا هي أسباب لها، وإنما غايتها أن تكون أمارة) فإذًا الحديث فيه ردٌ على القدرية، والآية فيها رد على الجبرية، القدرية والجبرية كل منهما فهم من الآية والحديث فهمًا معكوسًا، القدرية قالوا: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الباء باء العوض، وفهموا أن العمل عوض فنقول لهم أخطأتم، الباء ليست للعوض في الآية بل هي للسببية، وفهمت القدرية من الحديث «لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله» الباء سبب جعلوها للسببية وهذا خطأ بل هي للعوض، عكسوا فهموا فهم معكوس، فالباء التي في الإثبات تكون للسببية، والباء التي في النفي تكون للعوض.

(والسنّة النبويّة هي: أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات وارتباطها بها).

 

 

قال المؤلف -رحمه الله-:

وتأمّل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدٌ منكم الجنّة بعمله" تجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال، والحديث ينفي دخول الجنّة بالأعمال، ولا تنافي بينهما، لأن توارد النّفي والإثبات ليس على محلٍ واحدٍ، فالمنفي باء الثمنيّة واستحقاق الجنّة بمجرّد الأعمال، ردًّا على القدريّة المجوسيّة التي زعمت أن الفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكدير المنّة. والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببيّة، ردًّا على القدريّة الجبريّة الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال وجزائها، ولا هي أسباب لها، وإنما غايتها أن تكون أمارة.

والسنّة النبويّة هي: أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات وارتباطها بها.

وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعا من الحق فإنها ارتكبت لأجله نوعًا من الباطل، بل أنواعًا، فهدى الله أهل السنّة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.

الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النّفوس واستعدادها لفيض العلوم والمعارف عليها وخروج قواها من قوى النّفس السَّبُعيّة والبهيميّة، فلو عطلت العبادة لالتحقت بنفوس السباع والبهائم، فالعبادة تخرجها إلى مشابهة العقول، فتصير قابلةً لانتقاش صور المعارف فيها.

وهذا يقوله طائفتان:

إحداهما: من يقرب إلى الإسلام والشرائع. من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم الفاعل المختار.

والطائفة الثانية: من تفلسف من صوفيّة الإسلام ويقرب إلى الفلاسفة، فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لاستعداد النّفوس للمعارف العقليّة ومخالفة العوائد.

(لأن توارد النّفي والإثبات ليس على محلٍ واحدٍ) بل جهة منفكه، فالمنفي في الحديث غير المنفي في الآية، فالمنفي في الحديث شيء، والمثبت في الآية شيءٌ أخر.

(القدريّة المجوسيّة) هم المعتزلة هم النفاة، وسموا القدرية المجوسية لأنهم شابهوا المجوس في القول بتعدد الخالق، قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، والمجوس قالوا بخالقين: خالق الخير، وخالق الشر، وهؤلاء قالوا: كل عبد يخلق فعل نفسه فشابهوهم في القول بتعدد الخالق فسموا القدرية المجوسية.

(الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال وجزائها، ولا هي أسباب لها، وإنما غايتها أن تكون أمارة) فرارًا من القول بإثبات الأسباب.

(وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعا من الحق فإنها ارتكبت لأجله نوعًا من الباطل، بل أنواعًا) هذا واضح كل طائفة تترك نوع من الحق، ترتكب بدله شيء من الباطل.

(فهدى الله أهل السنّة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) ابن القيم ساق الآية وقال: والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]سورة البقرة: 213[، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]سورة الجمعة: 4[.

(فتصير قابلةً لانتقاش صور المعارف فيها) في المدارج: فتصير عالمة قابلة لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها.

هذه الطائفة الثالثة صوفية، الطائفة الأولى الجبرية قالوا: العبادة ليس فيها فائدة، والطائفة الثانية القدرية قالوا: العبادة فيها فائدة للمخلوق، وأما الخالق ليس له حكمة.

الطائفة الثالثة الصوفية قالوا: والعبادة فيها فائدة الرياضة، رياضة النفوس واستعدادها تروض النفوس، وتجعلها مستعدة لفيض العلوم والمعارف عليها، هذه العبادات فيها فائدة أن الإنسان يكون عنده استعداد وتقبل بأن تفيض عليه العلوم والمعارف، وتخرج قوى النفوس من قوى النفس السبعية والبهيمية، فإذا لم يكن في عبادة صارة نفس الإنسان كنفس السباع ونفس البهائم، لكن العبادة تروضها وتهيئها وتهذبها حتى تجعلها مستعدة لقبول العلوم والمعارض، وتخرجها من مشابهة السباع والبهائم، فالعبادة تخرجها إلى مشابهة العقول، لكن بدون العبادة تصير كالبهائم والسباع، فالعبادة تجعلها تشابه العقول فتصير عالمة قابلة لأن ينتقش لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها، وهذه الطائفة هي الصوفية قالوا: أن العبادة فيها فائدة والفائدة هي الترويض، ترويض النفس وتهذيبها حتى تستعد لقبول المعارف والعلوم، وحتى تخرج من مشابهة السباع والبهائم.

(وهذا يقوله طائفتان) الذين يقولون أن فائدة العبادة رياضة النفوس، وترويضها، واستعدادها لفيض العلوم والمعارف طائفتان:

(إحداهما: من يقرب إلى الإسلام والشرائع) في المدارج: من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة، أحدهما من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وعدم انشقاق الأفلاك، وعدم الفاعل المختار، وعدم الفعل المختار هذه الطائفة الأولى.

الطائفة من يقرب إلى الإسلام طائفة تحاول القرب إلى النبوات والشرائع طائفة من الفلاسفة، لكنهم يقربون إلى النبوات والشرائع، وهم يقولون بقدم العالم، وعدم انشقاق الأفلاك، وعدم الفاعل المختار، يقولون أن العالم قديم، ومعنى كونه قديم إنكار لوجود الله، ليس له بداية، والسموات، والأراضين، والآدميين مستمرة ليس لها بداية، إذًا ليس لها بداية إنكار لوجود الله، إنكار للخالق، الفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم هؤلاء أنكروا وجود الله، إذًا فالذي قال أن العبادة فائدتها الرياضة طائفتان:

الطائفة الأولى: من الفلاسفة يقربون إلى النبوات والشرائع، ومذهبهم القول بقدم العالم فالعالم قديم ليس له أول ولا بداية لأنه ليس له خالق، كما أنه لا ينتهي، قالوا بعدم انشقاق الأفلاك، الأفلاك لا تنشق، لا تنشق السماء، ولا تكدر النجوم، ولا تقوم القيامة فأنكروا الرب، وأنكروا الميعاد، وعدم الفاعل المختار وهو الرب -سبحانه وتعالى- قالوا: ليس هناك لهذا العالم فاعل مختار أوجده باختياره بل إذا يثبتون وجود الله قالوا أنه عله، عله لهذا الكون، هل لهذا الكون خالق؟

قالوا: لا، لا يثبتون وجود الله إلا من جهة كونه عله لهذا الكون عله، عله موجده، وتقدم الخالق على المخلوق كتقدم العله على المعلول أي: هذا العالم مبدأه هو الله أي جزء من العالم، مبدأه فلا يثبتون وجود الله إلا لكونه مبدأ لهذه ... أو عله لحركة الفلك، أو المحرك لهذا الفلك، ولهذا قالوا: العالم قديم ليس له بداية، كما أنه لا ينتهي ولا يخرب فقالوا بعدم انشقاق الأفلاك، قالوا ما تنكدر النجوم، وتنشق السماء، وتسير الجبال، وتسجر البحار كل هذا أنكروه ولهذا قالوا: الأفلاك لا تنشق، ولهذا ساق العبارة عندكم أحدهما من يقربوا إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وعدم انشقاق الأفلاك، وعدم الفاعل المختار، فقالوا: أن العالم لا يخرب قديم، والأفلاك لا تنشق ومستمرة لا رب ولا ميعاد، وعدم اثبات الفعل للخالق، ليس فاعلًا مختارًا وقد زعم أرسطو صاحب منطق اليونان هذا فليسوف من فلاسفة اليونان أمة كلها فلاسفة، والفلاسفة هم علمائها فيلسوف مكونه من كلمتين محب الحكمة فيل محب سوف الحكمة، الفيلسوف محب الحكمة، والفلاسفة في كل أمة هم العلماء، كل أمة لها فلاسفة اليونان، أمة الرومان، أمة البربر، أمة العرب كل أمة لها فلاسفة، والفلاسفة هم العلماء، لكن اشتهر فلاسفة العلماء، واشتهر من فلاسفة اليونان ارسطو، وسبق ارسطو فلاسفة كثيرون ولكن الفلاسفة الذين سبقوا فلاسفة اليونان كلهم بالجملة يعظمون الشرائع والإلهيات والنبوات، ويقولون بوجود الله، حتى جاء أرسطو فخالف شيخه وخالف الفلاسفة السابقين وكان مشركًا يعبد الأوثان وقال أن العالم قديم فأشتهر فلاسفة أرسطو وصاروا يسمونه المعلم الأول وهو من أول من قال بقدم العالم، ثم جاء بعده أبو نصر الفارابي وهو أول من وضع علم المنطق أرسطو، ثم أبو نصر الفارابي أخرجه إلى الصوت الأوساط، ثم جاء بعدهم أبو علي ابن سينا وسماه المعلم الثالث، والفارابي المعلم الثاني، وأبو علي ابن سينا جاء متأخر لكنه يقول أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي، والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله، ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رسله، ولا اليوم الآخر، فالفارابي، وأرسطو، وابن سينا ملاحدة لا يؤمنون بالله، ولا الملائكة، ولا كتبه، ولا رسله بعض الناس يسمونه فلاسفة الإسلام ويسمى باسم المدارس؛ ابن سينا ممكن لأنه طبيب لكنه لا يصلح أن يسمى باسم المدارس لأنه ملحد، ملحد لا يؤمن بالله وحاول أن يقرب الفلسفة إلى دين الإسلام ولم يثبت وجود لله إلا من جهة في الذهن وفي اللفظ، لكن نفى عن الله جميع الأسماء والصفات، وقال أن الملائكة عبارة عن أمور يتخيلها النبي في زعمه وأشكال نورانية وإلا ليس هم أشخاص محسوسة تذهب وتصعد وتنزل وتخاطب الرسول، وإذا تقربوا إلى أهل الإسلام قالوا: عبارة عن الأمور المعنوية التي تبعث على الخير والإثار والشجاعة، والشياطين عبارة عن الأمور الرديئة التي تبعث على الإيذاء والظلم، والعدوان وإنما ما في ملائكة ولا شياطين هكذا، وكذلك الرسل الأنبياء قالوا رجل عبقري يتمرن ويكون عنده قوة التلقي، وقوة التخيل والتخييل حتى يخيل للناس الملائكة ويتخيلهم، وكذلك البعث والجزاء والحساب، قالوا: هذا ليس هناك جنة ولا نار، ولا أمر، ولا نهي لكن الرسل كذبوا على الناس حتى يتعايش الناس في سلام وإنما ما في جنة ولا نار، ولا بعث هذا مذهب ابن سينا، زعم أرسطو منطق اليونان بأن العالم المفعول قديم مع الله، قال إن العالم هذا قديم مع الله، وأن مقارب لله في زمانه كلاهما في وقت واحد ما أثبت أن الله متقدم، وأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وقد أشار ابن القيم -رحمه الله- في النونية إلى مذهب أرسطو وأنه مذهب كفري، قال:

لسنا نقول كما يقول الملحد الـ
 

 

زنديق صاحب منطق اليونان
 

بدوام هذا العام المشهود والـ
 

 

أرواح في أزل وليس بفان
 

هذي مقالات الملحدة الألى
 

 

كفروا بخالق هذه الأكوان
 

 

يقول: الملحد الزنديق أرسطو يقول أن هذا العالم مستمر ما يفنى هذا العالم إلى ما لا نهاية، ما في جزاء، ولا بعث، ولا حساب، ولا قيامة كما أنه لم يثبت أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وقد ذكر الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة كفر الفلاسفة في مسائل وقال إن الفلاسفة كفروا في مسائل منها إنكارهم حشر الأجساد، وإنكارهم التعذيب بالنار، والتنعيم بالجنة، ومنها قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات، ولكن يعلم الكليات، ما يعلم عدد الأفلاك، عدد كذا، لكن يعلم مجمل علم مجمل يعلم السماء، ويعلم الأرض، لكن هل يعلم النجم كذا يقولون لا هذا جزئي لا يعلمه، يعلم الشخص الفلاني قالوا: لا هذا جزئي لا يعلمه، قال كفروا بهذا، ومنها قولهم إن العالم قديم، وإن الله -تعالى- متقدم على العالم بالركبة كتقدم العله على المعلول ولم يزالا في الوجود متساويين الرب والمخلوقات متساويين كلهم في وقتٍ واحد، وفي زمن واحد تقدم الله على العالم بالركبة كتقدم العله على المعلوم وإلا فالخالق والمخلوق لم يزالا في الوجود متساويين.

الطائفة الثالثة: من تفلسف من صوفية الإسلام والمقصود من صوفية الإسلام أي: الصوفية المنسوبون إلى الإسلام وأن هذه الصوفية لم تخرجهم عن الإسلام، وليس المراد تقرير أن الصوفية من الإسلام قولهم من صوفية الإسلام أي: الصوفية المنسوبون إلى الإسلام وأن هذه الصوفية لم تخرجهم من الإسلام إلى دائرة الكفر، وليس المراد تقرير أن الصوفية من الإسلام أو مذهب من المذاهب الإسلامية، والصوفية أنواع بعض الصوفية منهم الغلاة في الأسماء والصفات، والغلاة في العبادة، ومنهم أصحاب الغلو في أصحاب القبور، ومنهم أرباب الكشوف، ومنهم من يتصف بالبدعة، ومنهم من ينسب إلى لبس الصوف والزهد في العبادة فهم طبقات.

فالطائفة الثانية: من تفلسف من صوفية الإسلام ويقرب إلى الفلاسفة فهم يزعمون أن العبادات رياضة لاستعداد النفوس للمعارف العقلية ومخالفة العوائق.

 

 

قال المؤلف -رحمه الله-:

ثمّ مِن هؤلاء من لا يوجب العبادة إلاّ بهذا المعنى، فإذا حصل لها ذلك بقى متحيرًا في لفظ أوراده والاشتغال بالوارد منها.

ومنهم: من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها، وهم صنفان - أيضًا -:

أحدهما: من يقول بوجوبها حفظًا للقانون، وضبطًا للناموس.

والآخرون: يوجبونها حفظًا للوارد، وخوفًا من تدرّج النّفس بمفارقتها إلى حالها الأولى من البهيميّة.

فهذه نهاية أقدامهم في حكمة العبادة وما شرعت لأجله.

ولا تكاد تجد في كتب المتكلمين على طريق السلوك غير طريق من هذه الطرق الثلاث، أو مجموعها.

والصنف الرّابع: هم القائلون بالجمع بين الخلق والأمر، والقدر والسبب، فعندهم أن سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله: أن العبادة موجَب الإلهية وأثرها ومقتضاها، وارتباطها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسّمع، والإحسان بالرّحمة، والإعطاء بالجود.

فعندهم: من قام بمعرفتها على نحو الذي فسرناها به لغةً وشرعا مصدرًا وموردًا استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها به، وعلم أنها هي الغاية التي خلقت لها العباد، ولها أرسلت الرّسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنّة والنّار. وقد صرّح سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} ، فالعبادة هي التي ما وجدت الخلائق كلها إلاّ لأجلها، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي: مهملاً. قال الشافعي - رحمه الله -: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال غيره: "لا يثاب ولا يعاقب"، وهما تفسيران صحيحان.

(من يقول بوجوبها حفظًا للقانون، وضبطًا للناموس) في المدارج: فضلًا للناموس وضبطًا للنفوس.

(والآخرون: يوجبونها) في المدارج: يوجبونه بمفارقته له حفظًا للوارد وخوفًا من تدرج النفس بمفارقته له إلى حالها الأولى من البهيمية.

يقول إن هؤلاء من هؤلاء من لا يوجب العبادة إلا من هذا المعنى، إلا أنها رياضة فقط، فإذا حصلت الرياضة بقيت متحيرًا في حفظ أوراده والاستفادة من الوارد عنها، بعض الصوفية يقول لا تجب العبادة إلا إذا كانت رياضة للنفوس، فإذا كانت النفوس حصلت لها الرياضة بقي متحيرًا هل يفعل العبادة أم لا يفعلها؟

بقي متحيرًا في حفظ أوراده وعدم الاشتغال بها.

ومنهم من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها، يقول العبادة وجبت رياضة، فإذا حصلت الرياضة اختلفوا هل يشتغل بالعبادة أم يتركها؟

ومنهم من يقول اتركها، ومنهم من يوجب القيام بالأوراد وعدم تركها وهم صنفان:

صنف: يقول بوجوبها حفظًا للقانون، وضبطًا للأرواح والنفوس.

وقال آخرون: يوجبونها حفظًا للوارد، وخوفًا من تدرج النفس بمفارقتها من حالتها الأولى إلى البهيمية.

فإذًا يقولون العبادة وجبت رياضة، فإذا حصلت الرياضة اختلفوا:

طائفة يقولون اترك العبادة، وطائفة يقولون لا قم بالعبادة ولا تتركها، وهم صنفان:

صنف يقول بوجوب القيام بالعبادة حفظًا للقانون وضبطًا للنفوس، والطائفة الثانية يوجبونها حفظًا للوارد، وخوفًا من أن تتدرج النفس إلى حالتها الأولى من البهيمية خوفًا من إذا تركت العبادة تتدرج النفس فتتصف بصفة البهيمية والسبوعية.

(فهذه) المذاهب الثلاثة مذهب الجبرية، ومذهب القدرية، ومذهب الصوفية.

(فهذه نهاية أقدامهم في حكمة العبادة وما شرعت لأجله ولا تكاد تجد في كتب) الصوفية إلا هذه المذاهب، أو مجموعة.

(والصنف الرّابع) هذا هو المذهب الرابع، وهو المذهب الحق.

(والصنف الرّابع: هم القائلون بالجمع بين الخلق والأمر، والقدر والسبب) في مدارج السالكين: وأما الصنف الرابع فهم الطائفة المحمدية الإبراهيمية هكذا، المحمدية نسبة إلى محمد بن عبد الله، والإبراهيمية نسبة إلى الخليل، وهم الطائفة المحمدية الإبراهيمية أتباع الخليلين، والخليلان هم إبراهيم ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- العارفون بالله، وحكمته في أمره، وشرعه، وخلقه، وأهل البصائر في عبادته ومراده بها، هذا كلام ابن القيم، هؤلاء هم أهل الحق أتباع الخليلين الرسل وأتباعهم هذا مذهبهم يثبتون لله الحكمة، يقولون: الله -سبحانه- حكيم في أمره، وحكيم في شرعه، وحكيم في خلقه فجمعوا بين الخلق والأمر والقدر والسبب، يقولون بإثبات هذه الأمور الأربعة.

(والصنف الرّابع: هم القائلون بالجمع بين الخلق والأمر) الله -تعالى- خلق الخلق لحكمة، وأمر الأوامر، وشرع الشرائع لحكمة، وقدر القدر لحكمة، وربط الأسباب بالمسببات، هذا مذهب أهل الحق، جمعوا بين الخلق، والأمر، والقدر، والسبب قالوا: إن الله خلق الخلق لحكمة، وشرع الشرائع، وأمر الأوامر لحكمة، وقدر الأقدار لحكمة، وربط الأسباب بالمسببات.

(فعندهم) عند ابن القيم: فاعلم.

(فعندهم أن سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله: أن العبادة موجَب الإلهية وأثرها ومقتضاها) يقول المؤلف أن سر العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقية الإلهية.

(ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله) الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب محبة وإجلالًا وخوفًا وتعظيمًا ورجاءً، هذا معنى الإلهية، الإله معناه المألوه فعال على وزن مفعول إله بمعنى مألوه، الله أصلها الإله فعال حذفت الهمزة فالتقت اللام واللام ففخمتا وصارت الله الإله، الله أصلها الإله وهو المألوه الذي تألهه القلوب محبة، وخوفًا، ورجاءً، وتعظيمًا، وتوكل، وتوبة، ورهبة، واستعانة، ولهذا قال المؤلف:

(فعندهم أن سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله) معنى كونه إلهًا مألوه تألهه القلوب بالمحبة والعبادة محبة، يتعبد الإنسان محبة لله، وتألهًا له.

(فعندهم أن سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله: أن العبادة موجَب الإلهية) ثمرة العبادة ثمرة للإلهية، كون الله إلهًا لا بد أن تعبد هذا الإله كونه إلهًا موجب كونه إلهًا أن تعبده وأن تتأله له، وعليه فمعنى لا إله إلا الله لا معبود حق إلا الله، خلافًا للصوفية وأهل الكلام كالمعتزلة والأشاعرة الذين يفسرون الإله القادر على الاختراع، فيكون لا إله إلا الله معناها لا خالق إلا الله، لا قادر إلا الله، لو كان لا خالق إلا الله فكفار قريش إذًا مؤمنون أبو جهل يقول لا خالق إلا الله، أبو لهب يقول لا خالق إلا الله، الصوفية وأهل الكلام يقولون معنى لا إله إلا الله أي: لا خالق إلا الله، وعلى هذا فلا ينكرون الشرك في العبادة، لأن كلمة التوحيد لا تنفي الشرك لأنها تقرر توحيد الربوبية ولا تتجاوزه إلى توحيد الألوهية لكن هذا باطل، الإله معناه المعبود، إذًا معنى كونه إله فهو معبود.

(فعندهم أن سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله: أن العبادة موجَب الإلهية وأثرها ومقتضاها) فالعبادة أثر ومقتضى وموجب الإلهية، وارتباط العبادة بالإلهية كارتباط متعلق الصفات بالصفة، وكارتباط المعلوم بالعلم، وكارتباط المقدور بالقدرة، وكارتباط الأصوات بالسمع، وكارتباط الإحسان بالرحمة، وكارتباط العطاء بالجود، إذًا معنى إلهًا يعني مألوه معبود وجب الإله أن تعبده.

(فعندهم: من قام بمعرفتها على نحو الذي فسرناها به لغةً وشرعا مصدرًا وموردًا استقام له معرفة حكمة العبادات) حكمة العبادة أنها أثر في الإلهية، موجب كون الرب إلهً أن تعبده وغايتها.

(وعلم أنها هي الغاية التي خلقت لها العباد) العبادة هي الغاية والحكمة التي خلق لها العباد، قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ولها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، قال الله -تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]سورة النحل: 36[، ولأجلها خلقت الجنة والنار، ولقد صرح -سبحانه- بذلك في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ فالعبادة هي التي وجد لأجلها الخلائق وكلها كما قال -تعالى-: ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً﴾ أي: مهملًا.

({أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي: مهملاً. قال الشافعي - رحمه الله -: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال غيره: "لا يثاب ولا يعاقب") هل هو في فرق بين التفسيرين قال المؤلف:

(وهما تفسيران صحيحان) نقف على هذا وفق الله الجميع إلى ما يحب ويرضى.

 

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد