شعار الموقع

شرح كتاب تجريد التوحيد_19

00:00
00:00
تحميل
12

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

والصنف الرّابع: هم القائلون بالجمع بين الخلق والأمر، والقدر والسبب، فاعلم أن سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله: أن العبادة موجَب الإلهية وأثرها ومقتضاها، وارتباطها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسّمع، والإحسان بالرّحمة، والإعطاء بالجود.

فعندهم: من قام بمعرفتها على نحو الذي فسرناها به لغةً وشرعا مصدرًا وموردًا استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها به، وعلم أنها هي الغاية التي خلقت لها العباد، ولها أرسلت الرّسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنّة والنّار. وقد صرّح سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}، فالعبادة هي التي ما وجدت الخلائق كلها إلاّ لأجلها، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي: مهملاً. قال الشافعي - رحمه الله -: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال غيره: "لا يثاب ولا يعاقب"، وهما تفسيران صحيحان، فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنّهي، والأمر والنّهي هو طلب العبادة وإرادتها. وحقيقة العبادة: امتثالها، ولهذا قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَق}، وقال تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، فأخبر الله - تعالى - أنه خلق السّموات والأرض بالحق المتضمّن أمره ونهيه وثوابه وعقابه. فإذا كانت السّموات والأرض إنما خلقتا لهذا وهو غاية الخلق، فكيف يقال: إنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة، أو إن ذلك بمجرّد استئجار العمّال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمنّة، أو لمجرّد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها لمخالفة العوائد؟!.

وإذا تأمّل اللبيب الفرق بين هذه الأقوال، وبين ما دلّ عليه صريح الوحي؛ علم أن الله - تعالى - إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبّته، مع الخضوع له والانقياد لأمره.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا الصنف الرابع من أصناف الناس في منفعة العبادة وحكمتها، ومقصودها، سبقت المذاهب في هذا وأن المذهب الأولى هو مذهب الجبرية من الجهمية والأشاعرة الذين ينفون الحكم، والتعليل، والأسباب، والغرائز ويردون الأمر إلى نفس المشيئة، ويقولون أن الله -تعالى- لا حكمة له في العبادة ولكنه يخلق ويأمر، وينهى لمجرد الإرادة فقط ولا حكمة له -تعالى الله عما يقولون-، والطائفة الثانية القدرية النفاة من المعتزلةِ وغيرهم الذين يثبتون للعبادة نوعًا من الحكمة ترجع إلى مصلحة العبد فقط، والطائفة الثالثة الصوفية الذين يقولون إن العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم والمعارف، والصنف الرابع أهل الحق وهم الطائفة الإبراهيمية المحمدية أتباع الخليلين إبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام العارفون بالله وحكمته في أمره، وشرعه، وخلقه، وأهل البصائر في عبادته ومراده بها، الذين جمعوا بين الخلق، والأمر، والسبب.

قالوا: إن الله -تعالى- يخلق لحكمة، ويأمر، وينهى لحكمة، ويقدر الحكمة، والله -تعالى- رابط الأسباب بمسببتها فيقولون بإثبات هذه الأمور الأربعة: الخلق - الأمر - القدر - السبب.

وسر العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهية ومعنى كونه -سبحانه- إلهً، وحقيقية الإلهية أن القلوب تأله الرب -سبحانه وتعالى- تألهه، وتحبه، وتخضع له، وتنقاض لأمره، فالله هو الإله، والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب محبةً، وخوفًا، ورجاءً، وإجلالًا، وتعظيمًا، ورغبة، ورهبة، وتوكل وإلى غير ذلك من أنواع العبادة، فإذًا الإلهة هو المعبود المستحق للعبادة، فالعبادة مرتبطة بالإلهية، والعبادة هي موجب الإلهية كون الرب -سبحانه- إلهً يقتضي أن يكون هو المعبود بحق، فالعبادة موجب الإلهية ومرتبطة بها، وهي أثر من أثر الإلهية، الإله معناه المعبود، ومعنى لا إله إلا الله أي: لا معبود حق إلا الله، لا نافية للجنس من اخوات إن تنصب الاسم وترفع الخبر، إله اسم إن والخبر محذوف تقديره لا إله حق، إلا أداة استثناء، الله بدل من المستثنى، فالإله معناه المعبود وهذا معنى الإله ودلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وأما تفسير الصوفية والأشاعرة وغيرهم من أهل البدع تفسير الإله بالخالق فهذا باطل، يقولون معنى لا إله إلا الله أي: لا خالق إلا الله، لو كان بهذا المعنى لكان أبو جهل مؤمن لأنه يقول لا خالق إلا الله، ويكون أبو لهب مؤمن، ويكون الكفرة كلهم مؤمنون ولا يكون هناك مشرك، فهؤلاء الصوفية وأتباعهم الذين يفسرون الإله بالقادر على الاختراع أو بالخالق لا ينكرون الشرك في العبادة، كلمة التوحيد لا تكفي لأنها تقرر توحيد الربوبية ولا تتجاوز إلى توحيد الإلهية، ولا يتبين عظمة هذه الكلمة لا إله إلا الله أنها كلمة التوحيد التي تنفي الشرك إلا إذا فسر الإله بالمعبود لا إله لا معبود حق إلا الله، وليس المراد به الخالق، أو القادر على الاختراع، ولهذا قال المؤلف:

(سرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهيّة، ومعنى كونه سبحانه وتعالى إله) أي: معبود بالحق، وأن العبادة موجب الإلهية، ومقتضاها، ومرتبطة بها، وأثر من أثرها، العبادة أثر من أثر الإلهية، والعبادة مرتبطة بالإلهية كارتباط متعلق الصفات بالصفات.

(وارتباطها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسّمع، والإحسان بالرّحمة، والإعطاء بالجود) والمبصرات مرتبط بالبصر، والعبادة مرتبطة بالإلهية، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-:

(فعندهم: من قام بمعرفتها على نحو الذي فسرناها به لغةً وشرعا مصدرًا وموردًا استقام له معرفة حكمة العبادات) فالعبادة هي التذلل والخضوع لأمر الله، وشرعه، ودينه، ومعنى العبادة في اللغة: التذلل ومنه الجمل معبد أي: متذلل منقاد، والطريق المعبد لأنه وطأته الأقدام، وكذلك المؤمن الخاضع لأمر الله منقاد معبد مذلل لله، خاضع لأمره، محب لربه، يذل له ويخضع، وبهذا يتبين معرفة حكمة العبادة أنها مرتبطة بالألوهية، وأن مقتضى كون الرب إلهً أن يكون معبودًا بحق، وأن يكون غيره معبود بالباطل كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ]سورة الحج: 62[، وبهذا يتبين للإنسان معرفة حكمة العبادة غايتها، ويعلم أن الغاية التي خلق لها العباد هي العبادة، خُلق الخلق لذلك، كما سيذكر المؤلف الآيات ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ هذه الحكمة ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَق﴾ أي: بالعدل، ألحق المتضمن أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه.

(ولها أرسلت الرّسل، وأنزلت الكتب) كما قال -تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]سورة النحل: 36[، الحكمة من إرسال الرسل أن يعبد الله، وأن يوحد، ويخلص له العبادة، قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ]سورة الأنبياء: 25[، كل نبي أرسله الله يدعو قومه بادئ إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ]سورة الأعراف: 59[، ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ]سورة الأعراف: 65[، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ]سورة الأعراف: 73[، ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ]سورة الأعراف: 85[، هذه دعوة الرسل من أولهم إلى أخرهم، يدعون إلى التوحيد وإلى تخصيص الله بالعبادة.

(وقد صرّح سبحانه وتعالى بذلك) بأن الخلق خُلقوا لعبادة الله.

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ، فالعبادة هي التي ما وجدت الخلائق كلها إلاّ لأجلها، كما قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي: مهملاً، قال الشافعي - رحمه الله -: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال غيره: "لا يثاب ولا يعاقب" وهما تفسيران صحيحان) من فسر قوله سدى لا يؤمر ولا ينهى صحيح، ومن قال لا يثاب ولا يعاقب صحيح كلاهما تفسيران صحيحان، وجه ذلك:

(فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنّهي، والأمر والنّهي هو طلب العبادة وإرادتها) من قال مهملًا أي: فسره لا يؤمر ولا ينهى صحيح لان الأمر والنهي هو طلب العبادة، ومن قال لا يثاب ولا يعاقب فهو صحيح لأن الثواب والعاقب مترتب على الأمر والنهي فكلاهما صحيح.

(وحقيقة العبادة: امتثالهما) الضمير يعود إلى الأمر والنهي حقيقة العبادة امتثال الأمر والنهي، ينفذ الأمر، وينتهي عن المنهي عنه.

ولهذا قال تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً﴾ ما خلقت هذا إشارة إلى السماوات والأرض، ما خلقت السماوات والأرض باطلًا، بل خلق بالحق، كما ذكر في الآية التي بعدها ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَق﴾ ما هو الحق الذي خلق بهما السماوات والأرض؟ هو العدل المتضمن أمر الله، ونهيه، وثوابه، وعقابه هذا هو الحق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما لأجله، خلقتا بالعدل المتضمن أمر الله ونهيه، وثوابه، وعقابه، وقال -سبحانه-: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ خلق السموات والأرض متضمنًا أمر الله ونهيه، ثم الثواب والعقاب على الأمر والنهي، ولهذا قال: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ ففي الآية إثبات البعث، فيها إثبات الجزاء والحساب، وفيها إثبات الأمر والنهي، وحقيقة العبادة امتثالهما.

(فأخبر الله - تعالى - أنه خلق السّموات والأرض بالحق المتضمّن أمره ونهيه وثوابه وعقابه. فإذا كانت السّموات والأرض إنما خلقتا لهذا وهو غاية الخلق) السماوات والأرض خلقت لهذا الحق المتضمن أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه وهو امتثال العبادة.

(فإذا كانت السّموات والأرض إنما خلقتا لهذا وهو غاية الخلق، فكيف يقال: إنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة) هذا رد على الجبرية من الجهمية والأشاعرة الذين يقولون: لا غاية، ولا حكمة.

(أو إن ذلك بمجرّد استئجار العمّال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمنّة) هذا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم، يقولون: العبادة أجرة استئجار، الله -تعالى- يستأجر العباد يعبدونه ويعطيهم الثواب، هذا استئجار، يستأجرك تصلي فيعطيك الثواب، تصوم يعطيك الثواب، مثل الأجير ولو أعطاك ثواب بدون عبادة كدر عليك هذا الثواب بالمنة يمن عليك -تعالى الله عما يقولون-.

(أو إن ذلك بمجرّد استئجار العمّال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمنّة، أو لمجرّد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها لمخالفة العوائد) هذا قول الصوفية، العبادة إنما شرعت لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضًا لمخالفة العوائد، تتروض النفوس وتستعد للمعارف العقلية، هذا فائدة العبادة وهو من أبطل الباطل.

(وإذا تأمّل اللبيب الفرق بين هذه الأقوال) اللبيب أي: الرجل العاقل، الفطن، الذكي، أقوال: الجبرية، والمعتزلة، والصوفية.

(وإذا تأمّل اللبيب الفرق بين هذه الأقوال، وبين ما دلّ عليه صريح الوحي؛ علم أن الله - تعالى - إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبّته، مع الخضوع له والانقياد لأمره) هذه العبادة، فالعبادة لا بد لها من المحبة، غاية المحبة مع غاية الذل؛ العبادة لها أركان: غاية المحبة، مع غاية الذل، وإذا جاء غاية المحبة مع غاية الذل إنقاض الإنسان لأوامر الله، وانقاض لشرعه، غاية المحبة مع غاية الذل والخوف، فإذا أحب الإنسان شخصًا ولم يذل له ولم يخضع لا يكون عبدًا له، مثل ما يحب الإنسان المال، والصديق، والزوجة لكن لا يخضع ولا يذل، وإذا ذل وخضع لشيءٍ ولم يحبه لم يكن عابدًا له، كما يخضع الإنسان للسلطان الظالم ويذل له ومع ذلك لا يحبه، ويخضع للسارق ويذل له ولا يحبه، فإذا اجتمع الأمران محبة كمال محبة، وكمال ذل وخضوع فهذه هي العبادة، هذان ركنان لا بد منهما: غاية المحبة، مع غاية الذل كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-:

وعـبادةُ الرحمـن غَايَـةُ حُبِّـهِ 
 

 

مـع ذُلِّ عـابـده همـا قُـطْبَـانِ 
 

وعليهمــا فلـك العبـادة دائـرٌ 
 

 

مـا دار حــتى قــامت القطبـانِ
 

ومـداره بـالأمر أمــرِ رسـوله 
 

 

لا بالهـوى، والنفـسِ، والشـيطان
أعلى النموذج

 

إذًا هذه العبادة غاية المحبة، مع غاية الذل فلك العبادة يدور على هذين الأمرين، والذي يديره أمر الله، وأمر رسوله، ليس يديره الهوى ولا النفس، والشيطان.

ومن جهةٍ أخرى يقال أركان العبادة ثلاثة: المحبة - الخوف - الرجاء.

وهذه الأركان الثلاثة موجودة في سورة الفاتحة في الآيات الثلاثة الأولى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هذا الركن الأول إثبات المحبة، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إثبات الرجاء، إثبات الخوف ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ هذه أركان العبادة.

 

 

قال المؤلف -رحمه الله-:

فأصل العبادة: محبّة الله، بل إفراده تعالى بالمحبّة، فلا يحبّ معه سواه، وإنما يحبّ ما يحبّه لأجله وفيه، كما يحبّ أنبياءه ورسله وملائكته، لأن محبّتهم من تمام محبّته، وليست كمحبّة من اتّخذ من دونه أندادًا يحبّهم كحبّه.

وإذا كانت المحبّة له هي حقيقة عبوديّته وسرّها، فهي إنما تتحقق باتِّباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتِّباع الأمر والنّهي تتبيّن حقيقة العبوديّة والمحبّة، ولهذا جعل سبحانه وتعالى اتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم عَلَما عليها وشاهدًا لها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فجعل اتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم مشروطا بمحبّتهم لله - تعالى - وشرطا لمحبّة الله لهم، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع. فعلم انتفاء المحبّة عند انتفاء المتابعة للرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي ذلك حتى يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبّ إله مما سواهما، ومتى كان عنده شيءٌ أحبّ إليه منهما فهو الإشراك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، وكل من قدّم قول غير الله على قول الله، أو حكم به، أو حاكم إليه؛ فليس ممن أحبّه. لكن قد يشتبه الأمر على من يقدّم قول أحد أو حكمه أو طاعته على قوله، ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلاّ ما قال الرّسول صلى الله عليه وسلم فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقّى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك.

وأمّا إذا قدر على الوصول إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، وعرف أن غير من اتَّبعه أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور، كمسألةٍ معيّنةٍ، ولم يلتفت إلى قول الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى من هو أولى به؛ فهذا يخاف عليه. وكلّ ما يتعلل به من عدم العلم، أو عدم الفهم، أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدّين، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر، أو بأن ذلك المتقدّم كان أعلم منّي بمراده صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها تعلّلات لا تفيد.

هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم، إلاّ أن ينازع في هذه القاعدة فتسقط مكالمته، وهذا هو داخل تحت الوعيد، فإن استحلّ مع ذلك ثلب من خالفه، وقرض عرضه ودينه بلسانه، وانتقل من هذا إلى عقوبته، أو السعي في أذاه، فهو من الظلمة المعتدين، ونوّاب المفسدين.

(فأصل العبادة: محبّة الله، بل إفراده تعالى بالمحبّة) هذا أصل العبادة، أصل العبادة محبة الله -تعالى-، وإفراده تعالى بالمحبة، فلا يحب معه سواه، لا يحب مع الله غيره، وإنما يحب ما يحب لأجله وفيه كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته فإذًا أصل العبادة محبة الله -عز وجل- إذا أحب عبده وأفرده بالعبادة فلا يحب معه غيره، لكن إنما يحب ما يحبه لأجل الله وفي الله، مثل: محبة الأنبياء نحب الأنبياء لله، ونحب الرسل لله، ونحب الملائكة لله، ونحب الصالحين والمتقين لله لأن محبتهم من تمام محبة الله، وليست كمحبة من أتخذ من دونه أندادًا يحبهم كحب الله، في المدارج: وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحبه، إذا سقطت كلمة وليست محبة معه، إذًا أصل العبادة محبة الله، بل إفراد الله بالعبادة فلا يحب مع الله أحد، والذي يحب إنما يحب لأجل الله وفي الله، مثل محبة الأنبياء والرسل، والملائكة هذه محبتهم من تمام محبة الله، أما المحبة مع الله فهي شرك، وهذا ندعوا إلى أن نعرف أنواع المحبة كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- في الجواب الكافي: المحبة أربعة أنواع:

1 - محبة الله فقط وهذه المحبة لا تخرج الإنسان من الكفر، ولا تكفي وحدها من النجاة من عذاب الله، والفوز بثوابه فإن المشركين وعباد الصليب، واليهود يحبون الله قال -تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ]سورة البقرة: 165[، وهم اتخذوا أندادًا يحبونهم، ويحبون الله، فإذًا محبة الله فقط لا تخرج الإنسان من الكفر، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله، والفوز بثوابه بدليل أن المشركين يعبدون الله ولم تنفعهم هذه العبادة لأنهم عبدوا معه غيره، وعباد الصليب يعبدون الله، واليهود يعبدون الله، والنصارى يعبدون الله، اليهود والنصارى يصومون الآن، ويصلون لهم عبادات، والمجوس عباد النار لهم عبادات وهم يحبون الله، ولكن يحبون معه غيره، ويعبدون معه غيره.

إذًا محبة الله هذه وحدها فقط لا تكفي في النجاة من النار، والفوز بثواب الله، حتى يفرد الله بالعبادة.

النوع الثاني: محبة ما يحبه الله، وهذه هي التي تدخل في الإسلام وتخرجه من الكفر، محبة ما يحبه الله من شخصٍ، أو فعلٍ، أو محبة لأجله.

شخص: مثل الأنبياء، والرسل، والملائكة، والصالحين تحبهم لأن الله يحبهم.

الفعل: الأفعال التي أمر الله بها، والأحكام التي أمر الله بها، فعل الصلاة، فعل الزكاة، يحبها الله فأنت تحبها، هذه هي التي تدخل في الإسلام وتخرجه من الكفر محبة ما يحبه الله، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها.

النوع الثالث: المحبة لله وفي الله وهذه من لوازم محبة من يحب، ولا يستقيم محبة من يحب إلا في الله ولله كمحبة الأنبياء، والرسل، والصالحين، والملائكة هذه من لوازم محبة ما يحب، ولا تستقيم محبة ما يحب إلى في الله ولله.

النوع الرابع: المحبة مع الله وهذه هي المحبة الشركية وكل من أحب شيئًا مع الله لا لله، ولا من أجله، ولا فيه فقد أتخذه ندًا من دون الله وهذه محبة ليس فيه، قال -تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ كل من أحب شيء مع الله لا من أجله ولا فيه فقد اتخذه ندًا من دون الله، وهذه محبة المشركين.

هذه أنواع المحبة، محبة الله وحدها لا تكفي، محبة ما يحب الله هذه تدخل الإنسان في الإسلام وتنجيه من الكفر، المحبة لله وفي الله، المحبة مع الله هذه محبة شركية.

هناك محبة خامسة وهي محبة طبيعية ليست من هذا الباب، المحبة الطبيعية ليست من أنواع المحبة، المحبة تتعلق بالعبادة، أما هذه المحبة طبيعية وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعة كمحبة الظمآن للماء، ومحبة الجائع للطعام، ومحبة النوم، ومحبة الزوجة، ومحبة الولد، ومحة المال، ومحبة الصديق فهذه المحبة لا تذم إلا إذا ألهت عن ذكر الله، المحبة الطبيعية مثل محبة الطعام، ومحبة الماء، ومحبة النوم، محبة الزوجة، محبة الولد، محبة الصديق هذه طبيعية، وتذم إذا ألهت عن ذكر الله وألغت عن محبته كما قال الله -تعالى-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ]سورة المنافقون: 9[، وقال -سبحانه-: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ]سورة النور: 37[، المحبة الطبيعية بعض العلماء يقسمها أقسام:

القسم الأول: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده.

القسم الثاني: محبة إجلال وتقدير كمحبة الولد لوالده.

القسم الثالث: محبة أنس وألف كمحبة المشتركين في صناعة، أو دراسة يحب بعضهم بعض.

القسم الرابع: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء.

وهذه كلها محبة طبيعية، لكن الأنواع الأربعة التي سبقت هي التي تتعلق بالعبادة.

(وإذا كانت المحبّة له هي حقيقة عبوديّته وسرّها) المحبة لله من أجل الله هذه هي حقيقة العبودية، أي: يحب ما يحبه الله، وحقيقة العبودية وسرها هي محبة الله والمحبة لله، ولأجل الله، هذه هي حقيقة العبودية وسرها، وبماذا تتحقق؟

(فهي إنما تتحقق باتِّباع أمره واجتناب نهيه) هذه المحبة التي هي حقيقة العبودية وسرها تتحقق بشرطين: باتباع أمر الله، واجتناب نهيه.

(فعند اتِّباع الأمر والنّهي تتبيّن حقيقة العبوديّة والمحبّة) إذًا حقيقة العبودية وسرها أن تكون المحبة لله، أن تحب ما يحبه الله، وتحب لأجل الله، فهذه هي حقيقة العبودية وسرها، وتتحقق باتباع الأمر واجتناب النهي، والعبادة لها ركنان: الإخلاص، والمتابعة.

الإخلاص: يكون لله -تعالى-.

والمتابعة: لرسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وليس في الوجود من يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله -تعالى- ليس هناك شيء في الوجوه يستحق أن يحب من كل وجه من الوجوه إلا الله -تعالى- فقط، الأنبياء والرسل تحبهم لله، لكن الذي يحب لذاته من كل وجه هو الله، إذًا العبودية تتحقق بامتثال الأمر واجتناب النهي.

(ولهذا جعل سبحانه وتعالى اتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم عَلَما عليها وشاهدًا لها) علمًا على المحبة، جعل الله اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- علمًا على المحبة ودليل عليها، دليل المحبة والشاهد عليها هو محبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والدليل قول الله -تعالى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ هذه الآية تسمى آية المحنة آية الامتحان والاختبار، ادعى قومٌ محبة الله فامتحنهم الله بهذه الآية ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ شخص يقول أنا أحب الله نقول عندنا ميزان اتباع الرسول، إن كنت متبع الرسول فأنت صادق، وإن كنت لا تتبع الرسول فأنت كاذب هذا هو الميزان، فشخص قال أنا أحب الله فنقول عندن دليل إن كنت متبع للرسول تمتثل أوامر الله وتجتنب نواهيه فأنت صادق، وإن كنت تدعي محبة الله ولكن لا تمتثل أمر الله، ولا أمر رسوله فأنت كذاب فالدعوى لا تفيدك ما في دليل يدل على دعواك، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.

(فجعل اتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم مشروطا بمحبّتهم لله -تعالى-) اتباع الرسول مشروط وشرطًا لمحبة الله، شرط محبة الله اتباع الرسول، واتباع الرسول مشروط لمحبة الله.

(ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع) المشروط محبة الله، والشرط اتباع الرسول، وجود الشروط بدون الشرط مستحيل ممتنع، الوضوء شرط لصحة الصلاة، الصلاة مشروط بالوضوء، والوضوء فرض فإذا فقد الشرط وهو الوضوء مستحيل أن توجد الصلاة المشروط وهو الصلاة مستحيل إلا إذا وجد الشرط؛ فكذلك محبة الله مشروط وشرطها اتباع الرسول، فإذا لم يوجد الشرط وهو اتباع الرسول استحال وجود محبة الله ويكون صاحبها كذاب، ولهذا قال:

(فجعل اتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم مشروطا بمحبّتهم لله - تعالى - وشرطا لمحبّة الله لهم) ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ جعل اتباع الرسول مشروط بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط وهو محبة الله بدون تحقق شرطه ممتنع مستحيل.

(فعلم انتفاء المحبّة عند انتفاء المتابعة للرّسول صلى الله عليه وسلم) في مدارج السالكين قال: فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذًا ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله ودل على أن متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

(ولا يكفي ذلك حتى يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبّ إله مما سواهما) وهذه المحبة قد تنتفي في كل وجه وقد ينتفي بعضها، وترك طاعة الرسول منها ما ينافي أصل الإيمان كما إذا ترك طاعة في عبادة الله، ومنها ما ينفي كماله الواجب كما إذا عصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي مراتب، فالمعصية أخف من الكبيرة، والكبيرة أخف من البدعة.

(ومتى كان عنده شيءٌ أحبّ إليه منهما فهو الإشراك الذي لا يغفره الله) متى كان عند العبد شيء أحب إليه منهما من الله ورسوله فهو الإشراك الذي لا يغفره الله لأنها محبة مع الله وهي محبة المشركين الأنداد مع الله، في مدارج السالكين قال: فهو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة ولا يهديه الله.

(ومتى كان عنده شيءٌ أحبّ إليه منهما فهو الإشراك الذي لا يغفره الله) لأنها محبة مع الله وهي محبة المشركين لأندادهم مع الله، وقال ابن القيم في المدارج: فهو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة ولا يهديه الله.

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ هذه الآية ذكر الله -تعالى- فيها ثمانية أصناف: أن من قدم واحدًا من هذه الأصناف الثمانية فهو متعرض لوعيده وهو فاسق، والمعنى إن قدمتم واحد من الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله فانتظروا ما يحل بكم من عقوبة الله حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي الفاسقين، من فعل ذلك فهو فاسق يستحق الوعيد، ولهذا قال الله ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ما هي الأصناف الثمانية:

تقديم محبة الآباء، تقديم محبة الأبناء، تقديم محبة الإخوان، تقديم محبة الأزواج، تقديم محبة العشيرة، تقديم محبة الأموال، محبة التجارة، محبة المساكن إذا كان هذا ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

(وكل من قدّم قول غير الله على قول الله، أو حكم به، أو حاكم إليه؛ فليس ممن أحبّه) من قدم قول غير الله على قول الله فليس ممن أحب الله، كمال المحبة، وكذلك من حكم بغير ما شرع الله فلم يكن ممن يحب الله، وكذلك من حاكم إلى غير شرع الله فليس ممن أحبه، تقديم قول غير الله أو رسوله، أو طاعته، أو محبته، أو حكمه قد يكون كفر، وقد يكون فسق لأنه كبيرة، وقد يكون معصية وهو أقسام، إذا قدم قول غير الله على قول الله في العبادة فهذا شرك وكفر، وقدم قول غير الله على قوله فترك واجب من الواجبات وارتكب كبيرة فيكون هذا مرتكب الكبيرة فاسق، وإذا قدم قول غير الله على قوله في السنة أو ترك السنة أو النافلة يكون أيضًا ترك ما هو الأولى، إذًا تقديم قول غير الله أو رسوله، أو تقديم طاعة غير الله على طاعة الله ورسوله، أو تقديم محبة غير الله على محبة الله ورسوله، أو تقديم حكم غير الله على حكم الله هذا له أحوال: قد يكون كفر، وقد يكون فسق، وقد يكون معصية لأنه مثلًا الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا أكبر كما إذا استحل الحكم بغير ما انزل الله، أو اعتقد أنه أحسن، أو أمثل، أو مساوي، أو جوزه أن يحكم بالقوانين الوضعية هذا ردة عن الإسلام مثل ما يقول يجوز الزنا، أو يجوز الخمر، أو يجوز الربا استحله؛ أما إذا حكم بغير ما أنزل الله في مسألة أو قضية من القضايا وهو يعلم أنه عاصي لكن حكم طاعة للهوى والشيطان يعلم أنه عاصي وأنه لا يجوز، حكم لأجل رشوة هذا فسق، وقد يكون خطأ إذا استفرغ الحاكم جهده في تعرف الحق فأخطأ فهذا خطأ مغفور وله أجر على ذلك كما في الحديث «إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر».

(لكن قد يشتبه الأمر على من يقدّم قول أحد أو حكمه أو طاعته على قوله، ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلاّ ما قال الرّسول صلى الله عليه وسلم فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقّى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك) يشتبه الأمر على بعض الناس يقدم قول أحد على قول الله ورسوله، أو يقدم حكم أحد على حكم الله ورسوله، أو يقدم طاعة أحد على طاعة الله ورسوله لأنه غير متعمد، ظنًا منه أن الشخص الذي أطاعه أو امتثل أمره يظن أنه لا يأمر إلا ما بشرع الله، ولا يحكم إلا بحكم الله، ولا يقول إلا ما قاله الله ورسوله، عامي قلد شخص وهذا الشخص يظنه أنه عالم وأنه لا يأمر إلا بأمر الله ورسوله، ولا يحكم إلا بحكم الله ورسوله فهذا اشتبه عليه الأمر فأطاعه في غير طاعة الله ورسوله فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك لأن عامي ما يدري.

(وأمّا إذا قدر على الوصول إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، وعرف أن غير من اتَّبعه أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور، كمسألةٍ معيّنةٍ، ولم يلتفت إلى قول الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى من هو أولى به؛ فهذا يخاف عليه) في مدارج السالكين زيادة: وهو داخل تحت الوعيد، إذا قدر على الوصول إلى حكم الله، وحكم رسوله وعرف أن هذا الذي اتبعه أن غير من اتبعه أولى به مطلقًا، عرف أن هذا الذي اتبعه هذا باطل عرف من كلامه أن حكم باطل، أو في بعض الأمور كمسألة معين، وترك قول الرسول ولم يلتفت إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا من هو أولى منه فهذا يخاف عليه لأنه عرف الحق وعدل عنه فهو داخل تحت الوعيد.

(وكلّ ما يتعلل به من عدم العلم، أو عدم الفهم، أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدّين، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر، أو بأن ذلك المتقدّم كان أعلم منّي بمراده صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها تعلّلات لا تفيد) الشخص الذي يقدم قول غير الله على قول الله، أو يقدم حكم غير الله على حكم الله، أو يتحاكم إلى غير الله ويتعلل، فإذا قلت له لماذا يا فلان فيقول أنا لا أدري ما عندي علم، أو ما عندي فهم، علة عدم العلم، أو عدم الفهم.

(أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدّين، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر) يقيس هذه المسألة على هذه المسألة، أو يقول هذا المتقدم الذي اتبعته أعلم مني بمراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

(فهذه كلها تعلّلات لا تفيد) يجب عليه أن يبحث على الحق، أما أن يقول لا أدري ما عندي علم، أو ما عندي فهم، أو ما عندي آية الفقه في الدين، أو يقيس، أو فلان أعلم مني وهو لا يبحث عن الحق فهذه تعللات لا تفيد.

(هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم) هذا داخل تحت الوعيد إذا كان مقرًا بجواز الخطأ على غير المعصوم، والمعصوم هو: الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أما غيره فليس بمعصوم، ولا بد أن يقر بأنه يجوز الخطأ على هذا الشخص الذي اتبعته، وعلى هذا العالم الذي اتبعته إذا كان غير معصوم يخطئ، إذا كنت تقر بهذا فلا يجوز التعلل بعدم العلم، أو الفهم، أو إعطاء آلة الفقه، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر لا تفيد هذه التعللات ما دامت تقر بأن هذا الشخص يجوز عليه الخطأ.

(إلاّ أن ينازع في هذه القاعدة فتسقط مكالمته، وهذا هو داخل تحت الوعيد) القاعدة: وجوب تقديم طاعة الله على طاعة كل أحد، وكذا قول الله ورسوله على قول كل أحد، وكذا تقديم مرضاة الله ورسوله، وتقديم خوف الله، وتقديم رجاءه، والتوكل عليه، ومعاملة أحدهم على معاملة الله، هذه القاعدة لا تبد أن تقر بها، تقر بأنه يجب تقديم طاعة الله على طاعة كل أحد، تقر بأنه يجب تقديم قول الله ورسوله على قول كل أحد، تقر بأنه يجب تقديم مرضاة الله ورسوله على مرضاة كل أحد، تقر بأنه يجب عليك خوف الله، وبأنه يجب عليك رجاء الله، وبأنه يجب عليك التوكل على الله، وبأنه يجب عليك أن تعامل أحدهم كما تعامل الله، هذه القاعدة لا بد أن تقر بها.

(فتسقط مكالمته) ما في كلامه معه لإنكاره المسلمات من القواعد الكلية، أنكر قاعدة مسلمة لكل أحد وهي وجوب تقديم طاعة الله ورسوله على طاعة كل أحد، فالذي ينكرها يسقط الكلام معه لأنه أنكر أمر مسلم، أمر معلوم من الدين بالضرورة بوجوب تقديم طاعة الله على طاعة كل أحد، معلوم من الدين بالضرورة تقديم مرضاة الله ورسوله على مرضاة كل أحد، معلوم من الدين بالضرورة بوجوب خوف الله، معلوم من الدين بالضرورة بوجوب الرجاء، معلوم من الدين بالضرورة بوجوب التوكل على الله، معلوم من الدين بالضرورة أن تعامل الله خلاف ما تعامل به المخلوق، فإذا نازع في هذه القاعدة سقطت مكالمته لأنه أنكر المسلمات من القواعد الفقهية ويكون داخل تحت الوعيد، وهذا مثل الرافضي الذي يعتقد عصمة إمامه، هذا تسقط المكالمة معه لأنه يعتقد أن إمامه معصوم ولا يوجد عصمة إلا للرسول، هذا تسقط المكالمة معه لأنه من المسلمات في الدين أنه لا عصمة إلا للرسول -صلى الله عليه وسلم-، الأنبياء معصومون من الشرك، ومعصومون من كبائر الذنوب، معصومون من الخطأ في تبليغ شرع الله ودينه، أما الصغائر وخلاف الأولى فاتقى منه قال الله -تعالى-: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ]سورة الفتح: 2[، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]سورة محمد: 19[، قال عن آدم ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا]سورة الأعراف: 23[، وقال عن موسى ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي]سورة القصص: 16[، لكن الأنبياء معصومون من الشرك، ومن الكبائر، ومن الخطأ من تبليغ شرع الله ودينه.

(فإن استحلّ مع ذلك ثلب -في نسخة سب- من خالفه، وقرض عرضه ودينه بلسانه، وانتقل من هذا إلى عقوبته، أو السعي في أذاه، فهو من الظلمة المعتدين، ونوّاب المفسدين) زاد على ذلك، إذا زاد على هذا وقال إنه يجوز العصمة على غير الرسول، واعتقد أن هذا الشخص معصوم، ثم زاد على ذلك واستحل أن يسب من خالفه، وأن يقرض عرضه أي: يغتابه، ودينه بلسانه، أو ينتقل إلى عقوبته بالضرب أو بالسجن، أو السعي في أذاه فيكون هذا من الظلمة المعتدين، ونواب المفسدين، يكون نائب عن المفسدين في الأرض ومن الظلمة، وفي الأول أقر أنه يجوز الخطأ على غير المعصوم فهذا تسقط مكالمته وداخل في الوعيد، وإذا زاد على ذلك واستحل سب من خالفه وغيبته ونميمته وقرض دينه بلسانه، أو انتقل إلى عقوبته بالضرب أو السجن، انتقل زيادة على ذلك فصار من الظلمة المعتدين ونواب المفسدين، وإلى هنا نقف إن شاء الله إلى الدرس الأخير غدًا إن شاء الله أخر الرسالة مبحث مهم وهو مبحث الإيمان وما يدخل تحته، وفق الله الجميع إلى الهدي وثبتهم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد