شعار الموقع

سورة البقرة - 3

00:00
00:00
تحميل
7

وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا: الملائكة، قال: ومالهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟! قالوا: فالنبيون، قال: ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: فنحن، قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها).
قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن حميد وفيه ضعف وفيه ضعف عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد روى نحوه عن أنس بن مالك مرفوعا والله أعلم]

إذا كان ضعف شديد يشد بعضه بعضا إن لم يكن فيه متروك محمد بن حميد الرازي هذا فيه ضعف وحديث أنس ما ذكره أيضا هنا

يكون هذه يشد بعضها بعضا حسن لغيره يدل على أن من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم له هذه المزية وهذه الفضيلة الخاصة الإيمان بالغيب يكون له مزية على الصحابة لكن لهم مزيتهم وسابقتهم وجهادهم وصحبتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم 

فيكون بهذا الحديث ثابت والأحاديث الثلاثة وإن كان فيها ضعف تشده وتقويه فيدل على أن الإيمان بالغيب فيه فضل ومزية مزية لمن آمن بالغيب على الصحابة من هذه الحيثية هذه الجهة

سؤال قال أبو عبيدة وهل أحد خير منا قال نعم

المراد تأويل الحديث والجمع بينه وبين النصوص الكثيرة التي تدل على أن الصحابة هم أفضل الناس وحديث خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مقيدة التقييد إنما جاء من الجمع بين الأحاديث والأحاديث التي فيها فضل الصحابة هذه فضيلة عامة ومزية عامة الصحابة خير الناس وأفضل الناس ولا يلحقهم من بعدهم الصحبة والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة وتبليغ الشريعة إلى غير ذلك ومن بعدهم قد تكون لهم فضائل خاصة مثل الإيمان بالغيب مثل الصبر على الدين والإسلام عند الفتن حديث القابض على دينه كالقابض على الجمر هذه مزية أيضا

[وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته بجيلة بنت أسلم قال " صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام قال إبراهيم فحدثني رجال من بني حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل بلغه ذلك قال أولئك قوم آمنوا بالغيب " قال هذا حديث غريب من هذا الوجه ]

نويلة وقيل ثويلة كما في الإصابة والتهذيب ثويلة بالثاء مصغر بالتاء مثناة مصغر وقيل نويلة  

سجدتين يعني ركعتين تسمى الركعة سجدة لأنها أهم الأركان أعظم أركانها 

على هذا يكون ضعيف نعم لو صح يكون هذا من الإيمان بالغيب لأنهم صدقوا بما أخبر لكن قد يقال إنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ممكن أن يسألوه بعد ذلك هم ليسوا كمن جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان في مسجد آخر مسجد بني حارثة صحيح لم يكن النبي معهم ولكن يستطيعون أن يسألوا النبي بعد ذلك

نعم فيه قبول خبر الواحد إن صح وأدلة خبر الواحد كثيرة من غير هذا كثيرة 

بيان معنى قوله تعالى: (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)

[قال ابن عباس: {ويقيمون الصلاة} [البقرة:3] أي: يقيمون الصلاة بفروضها وقال الضحاك عن ابن عباس: إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها].
كل هذه الأقوال حق، فإقامة الصلاة تشمل إتمام الركوع والسجود، وتشمل المحافظة على الطهور، والمحافظة على الوقت، والمحافظة على الخشوع، والإتيان بها في الجماعة، ومتابعة الإمام، والعناية بحضور القلب، والإخلاص، فكل هذا داخل في الإقامة؛ لأن الإقامة معناها: الإتيان بالشيء تاما مؤديا جميع حقوقه، يقال: أقام الشيء، أي: أقام حقوقه.
وكون بعض السلف قال: إقام الصلاة: إتمام الركوع والسجود، وبعضهم قال: المحافظة على الطهور وقال بعضهم كذا هذا من تفسير المعنى ببعضه ببعض معناه على عادة السلف، وكلها حق كلها تشملها الآية، إقامة الصلاة: أن يقيمها بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة، يؤديها في الوقت جماعة، يحافظ على الركوع والسجود، يحافظ على الطهارة، يحافظ على متابعة الإمام، يؤديها في الوقت كل هذا داخل في الإقامة.

[وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس: {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة:3]، قال: زكاة أموالهم.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ومما رزقناهم ينفقون}، قال: نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
وقال جويبر عن الضحاك: كانت النفقات قربانا يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن الناسخات المثبتات، وقال قتادة: (ومما رزقناهم ينفقون) فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها].
قوله: عوار: جمع عارية، وأصله: عواري، ثم حذفت الياء، أي: أمانة في يدك وعارية لابد أن تردها، وأنت مؤتمن على هذه الأموال مؤتمن عليها تؤدي حق الله منها، فتؤدي الزكاة، وتؤدي النفقات الواجبة، وكذلك أيضا أنت مؤتمن في كسبها كسب هذه الأموال، هل كسبتها من حلال أو من حرام أو من متشابه.
 [هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين]
وهذا هو الصواب، كما قاله ابن جرير، إنها شاملة في الزكاة وللصدقات، كصدقة التطوع، فهم ينفقون مما رزقهم الله من الزكاة يؤدون الزكاة، ويؤدون الواجبات النفقات الشرعية الواجبة، وأيضا ويتصدقون وينفقون في المشاريع الخيرية.
[فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين، زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت: كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة:3].
ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت). والأحاديث في هذا كثيرة].
والله سبحانه وتعالى كثيرا ما يقرن بين الصلاة والزكاة، وبين الصلاة والنفقة؛ لأن الصلاة فيها إحسان في عبادة الخالق، والزكاة والنفقة فيها إحسان للمخلوق.
فالمؤمن يجمع بين الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فلهذا مدحهم الله بذلك وجمع بين الصلاة والزكاة، وذكر وصفهم أنهم يجمعون بين الأمرين: بين الإحسان في عبادة الخالق وبين الإحسان إلى المخلوق.

[وأصل الصلاة في كلام العرب: الدعاء. قال الأعشى:

 لها حارس لا يبرح الدهر بيتها     وإن ذبحت صلى عليها وزمزما]
قوله: [صلى عليها] يعني: دعا لها، الصلاة: الدعاء.
  [وقال أيضا: وقابلها الريح في دنها      وصلى على دنها وارتسم].
الدن: كأس الخمر، أو إناء الخمر.
  [أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك. وقال الآخر وهو الأعشى أيضا:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا      رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي    نوما فإن لجنب المرء مضطجعا]
قوله: مثل الذي صليت يعني دعوت، والشاهد أن الصلاة بمعنى الدعاء والأوصاب: الأمراض والأوجاع.
[يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعوته لي، وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة]
معاني الصلاة هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، لها أوقات خاصة وهيئات خاصة، وأركان خاصة.
 [قال ابن جرير: وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه من حاجته].
قوله: [لاستنجاح طلبته] يعني: طلب النجاح في حاجته، أن تنجح حاجته وتقضى من النجاح الاستنجاح

[لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه من حاجاته].
لأن الصلاة دعاء مشتملة على دعاء العبادة ودعاء المسألة.
فدعاء العبادة: الركوع والسجود، والقيام والقعود، والتشهد والقراءة. هذا دعاء عبادة
دعاء المسألة: كأن يقول المصلي: رب اغفر لي، والدعاء في آخر التشهد هذا دعاء مسألة، فهو مشتمل على دعاء العبادة ودعاء المسألة.
 [وقيل: هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود، وهما: عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب، ومنه سمي المصلي، وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر.
وقيل: هي مشتقة من الصلي وهو ملازمة للشيء من قوله تعالى: (لا يصلاها) أي: لا يلزمها ويدوم فيها، {إلا الأشقى} [الليل:15]، وقيل: هي مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم، كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة، {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت:45]، واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر. والله أعلم].
هذا الصواب أنها مشتقة من الدعاء، هذا هو الأقرب؛ لأن المصلي داع في المعنى بلسان الحال وبلسان المقال، بلسان الحال: ركوعه وسجوده، وقيامه وقعوده وتشهده، وبلسان المقال دعائه بين السجدتين: رب اغفر لي، وفي السجود في آخر التشهد.
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.}

قول الله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة:4].
[قال ابن عباس: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة:4] أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم (وبالآخرة هم يوقنون) أي: بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة:3]، ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير.
أحدها: أن الموصوفين أولا هم الموصوفون ثانيا، وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة.
والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى} [الأعلى:1 - 5].
وكما قال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام       وليث الكتيبة في المزدحم

فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد]
نعم ابن الهمام وليث كلها صفات لكن عطف بعضها على بعض لو حذفت الواو الموصوف واحد إلى الملك القرم وابن الهمام والليث كلها صفات له

وقوله: فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد
يعني: قالوا {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك} [البقرة:3 - 4] واحد موصوف واحد، هم أهل الكتاب. موصوف أول وموصوف ثان
والقول الأول: أنهم واحد المراد به العموم، من العرب ومن أهل الكتاب.

والقول الثاني أنهم المؤمنون من أهل الكتاب
  [والثالث: أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب، والموصوفين ثانيا بقوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة:4]، لمؤمني أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة رضي الله عنهم، واختاره ابن جرير رحمه الله، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} [آل عمران:199]]
أي أن ابن جرير اختار أن المراد بقوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} [البقرة:4] هم أهل الكتاب، واستشهد المؤلف لهذا القول بآية آل عمران.

اختار القول الثالث أن الموصوفين أولا المؤمنون من العرب، والموصوفين ثانيا المؤمنون من أهل الكتاب.
والقول الثاني: أن الموصوفين أولا وثانيا هم أهل الكتاب.
والقول الثالث: أن الموصوفين أولا وثانيا المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، والصواب الأول -كما سيأتي- أنه عام، فالموصوفون أولا وثانيا هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.
[ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} [آل عمران:199] الآية.
وبقوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} [القصص:52 - 54].
وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها).
وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: كافر ومنافق، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين: عربي وكتابي].

" والذين يؤمنون بما انزل إليك " المؤمنون العرب " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة "

" والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " المؤمنون من أهل الكتاب يكون صنفان المؤمنون صنفان والكفار صنفان هذا اختيار ابن جرير رحمه الله، والصواب القول الأول، أن الموصوفين أولا وثانيا هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب. عام شامل

[قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.
فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها]

صدق " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل غليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " لا يصح لابد من الإيمان بالغيب لابد من إقامة الصلاة لابد من النفقة الواجبة لابد من الإيمان بما أنزل على الرسل السابقين لابد من الإيقان بالآخرة، ما يصح إحدى هذه الصفات إلا بالأخرى وهي شاملة لكل مؤمن عربي أو كتابي أو إنسي أو جني سابق أو لاحق

[وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] الآية، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:46] الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء:47]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68].

وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة:285]، وقال تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} [النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه، لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلا، فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملا، كما جاء في الصحيح: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل، وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم].

قال الله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة:5].
 [يقول الله تعالى: {أولئك} [البقرة:5] أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات، {على هدى} [البقرة:5] أي: على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى {وأولئك هم المفلحون} أي: في الدنيا والآخرة].
يعني هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا، وهم أهل الفلاح في الآخرة، فالذي يتصف بهذه الصفات: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة، والاستعداد لها بالعمل الصالح، وأداء حقوق الله، وحقوق العباد، والوقوف عند حدود الله؛ هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا وهم أهل الفلاح في الآخرة، حصلوا على ما يطلبون، وهو رضا الله وكرامته، والتمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وسلموا من غضب الله وسخطه وناره، هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا، وهم أهل الفلاح في الآخرة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
  [وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أولئك على هدى من ربهم) أي: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به، {وأولئك هم المفلحون} [البقرة:5] أي: الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا].
والذي يطلبونه ثواب الله ورضاه وجنته، والذي يرهبونه غضب الله وسخطه والنار، فهم أدركوا ما طلبوا وسلموا مما خافوا منه.
 [وقال ابن جرير: أما معنى قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم) فإن معنى ذلك: فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد لتسديده إياهم وتوفيقه لهم، وتأويل قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون) أي: المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب.
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) الآية، على ما تقدم من الخلاف]

هذا مرجوح الصواب الأول لأنه عائد على الجميع

[وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) منقطعا مما قبله، وأن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره: (وأولئك هم المفلحون).
واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب؛ لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب، {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة:4] هم المؤمنون من أهل الكتاب.
ثم جمع الفريقين فقال: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون).
وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم]

هذا هو الصواب الإشارة للجميع والوصف للجميع كل من الوصفين المراد به المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب من الجن ومن الإنس السابقون واللاحقون والإشارة تعود إليهم
 [وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، قال حدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم -واسمه سليمان بن عبد الله - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس -أو كما قال-قال: أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة:1 - 2] إلى قوله تعالى: {المفلحون} [البقرة:5] هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم} [البقرة:6] إلى قوله: {عظيم} [البقرة:7] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا هم يا رسول الله، قال: أجل)]
هذا الحديث في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
وأبو الهيثم: قيل في حاشية الشعب: في المخطوطة أن اسمه سليمان بن عمرو العفواري، كما في خلاصة التهذيب.
وأما عثمان بن صالح السهمي المصري فقد ذكره الحافظ الذهبي في الميزان، وفي ترجمته أحاديث مكذوبة أدخلت عليه.
وأبو الهيثم في السند هو سليمان بن عمرو وليس هو ابن عبد الله، فينظر هل سمع من عبد الله بن عمرو، فإنهم ما ذكروا في ترجمته من الصحابة إلا أبا سعيد وأبا هريرة، وأبا بصرة الرفاعي، كما في (الجرح والتعديل) لـ ابن أبي حاتم، وفي (تهذيب التهذيب) إلا أنه صحف أبا بصرة إلى أبي نضرة.
فيكون ضعيف مع ابن لهيعة أيضا لكن المعنى صحيح.

يقول الحافظ ابن كثير يرحمه الله تعالى قال الله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6]
 [يقول تعالى: {إن الذين كفروا} أي: غطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس:96 - 97].
وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} [البقرة:145] الآية.
أي: إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له، ومن أضله فلا هادي له، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر:8]، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد:40]، {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} [هود:12].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6] قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول)].
المراد بالذكر الأول: اللوح المحفوظ، والمعنى: أن الكفار ستروا الحق وغطوه وهو توحيد الله عز وجل، فلم يوحدوا الله، ولم يعبدوه، بل عبدوا معه غيره، وهذا الحق هو أعظم الشروط، حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن يوحدوه، وأن يخلصوا له العبادة، فهؤلاء الكفار غطوا الحق وستروه، وهذا أصل الكفر، فالكفر معناه: الستر، ومنه سمي الزارع كافرا؛ لأنه يستر الحب ويبذرها في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الفتح: {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح:29] فالكفر في اللغة: الستر، والكافر جاحد للحق، جاحد لتوحيد الله عز وجل.
والله تعالى يسلي نبيه {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6] إذ من كتب الله عليه الشقاوة لا حيلة فيه، وكان عليه الصلاة والسلام يحرص كثيرا أشد الحرص على هدايتهم، حتى إنه يضر بنفسه ويكاد يهلك نفسه، قال سبحانه: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف:6] وقال سبحانه: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر:8]، وقال سبحانه: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى:48]، فالرسول عليه الصلاة والسلام عليه البلاغ، وكذلك الرسل جميع الرسل عليهم البلاغ، وكذلك الدعاة والمرشدون والمصلحون عليهم البلاغ، التبليغ والإنذار، وبيدهم هداية الدلالة والإرشاد.
أما التوفيق والإلهام، وكونه يقبل الحق ويرضى به ويختاره فهذا إلى الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص:56].
وفي هذه الآية بيان أن الكفار لا ينتفعون بالإنذار والمواعظ، هذا وصفهم: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6].
فينبغي للمسلم أن يحذر من صفات الكفار والمنافقين، وأن يتأثر بالمواعظ فينتفع بها ويستفيد منها حتى لا يتشبه بالكفرة، فالكفار لا ينتفعون بالمواعظ{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6]. والمؤمنون ينتفعون بالموعظة، قال سبحانه: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات:55]، قال سبحانه: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} [النور:51].
 [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إن الذين كفروا} [البقرة:6] أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك؟ {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6] أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، وقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك؟! وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها} [إبراهيم:28 - 29]، والمعنى الذي ذكرناه أولا، وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر، ويفسر ببقية الآيات التي في معناها. والله أعلم]
ورواية علي بن أبي طلحة منقطعة؛ لأن علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس هنا في قادة الأحزاب، والأحزاب المراد بهم: الكفار الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتجمعوا وتألبوا عليه عليه الصلاة والسلام وحاصروا المدينة، وسميت هذه الغزوة غزوة الأحزاب لأن الكفار تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم تجمعوا وأتوا وحاصروا المدينة، ولكن الله أبطل كيدهم، وسلط عليهم ريحا وجنودا لا يراها المؤمنون، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} [الأحزاب:9].
وما نقله المؤلف عن ابن إسحاق بسنده إلى ابن عباس أن المراد: قد كفروا بما عندهم من ذكرك]

يعني في أهل الكتاب السابقين، والصواب أنها عامة الآية عامة " إن الذين كفروا سواء " يشمل الكفار كفار العرب مشركي العرب وكفار أهل الكتاب.

كما في الحديث المروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها عامة
الأصل أن يؤخذ بعموم اللفظ، هذا هو الأصل ولا يخصص إلا بدليل، فالآية شاملة للكفرة جميعا من مشركي العرب، ومن أهل الكتاب ومن غيرهم، هذا وصفهم، هذا وصف منطبق عليهم، أنهم لا ينتفعون بالمواعظ، وصف أن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم.
  [وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال: ألا أخبركم؟ ثم قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا منهم يا رسول الله؟ قال: أجل)].
وهذا الحديث في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف وإن صرح بالتحديث، لاحتراق كتبه في آخر حياته

والمعنى صحيح لا شك أن هؤلاء أهل النار، والصحابة رضوان الله عليهم ليسوا منهم، والمسلمون ليسوا منهم.
  [وقوله تعالى: {لا يؤمنون} [البقرة:6] محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة:6]].
يعني مؤكدة لـ (كفروا) (إن الذين كفروا) لا يؤمنون، لا يؤمنون تأكيد ل كفروا لأن الكفار لا يؤمنون نفى عنهم الإيمان في الجملة الأولى أثبت لهم الكفر، وفي الجملة الثانية نفى عنهم الإيمان تأكيدا.
  [أي: هم كفار في كلا الحالين، فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى:(لا يؤمنون)].
يعني في حالة الإنذار وحالة عدم الإنذار، في كلتا الحالتين كفار، نسأل الله العافية.
 [ويحتمل أن يكون (لا يؤمنون) خبرا؛ لأن تقديره: إن الذين كفروا لا يؤمنون ويكون قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة:6] جملة معترضة. والله أعلم].

قال الله تعالى{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} [البقرة:7]
  [قال السدي: {ختم الله} [البقرة:7] أي: طبع الله، وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وقال ابن جريج: قال مجاهد: (ختم الله على قلوبهم) قال: الطبع، ثبتت الذنوب على القلب]
وهو أمر معنوي والختم والقفل والران أمور معنوية، حواجز تمنع الخير تمنع وصول الخير إليها -نسأل الله السلامة والعافية- عقوبة لهم على صدودهم وإعراضهم عن الحق، هذا عدل من الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [النحل:118]، وقال سبحانه: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} [الزخرف:76]،فلما جاءهم الحق فعرفوه، واتضح لهم فأعرضوا عنه وصدوا عنه؛ عاقبهم الله بزيغ القلب، نسأل الله السلامة والعافية، قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5]، وقال سبحانه: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام:110].
 [وقال ابن جريج: قال مجاهد: (ختم الله على قلوبهم) قال: الطبع، ثبتت الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم، قال ابن جريج: الختم: على القلب والسمع].
قوله: [ثبتت الذنوب] الظاهر والصحيح أنه [نبئت أن الذنوب على القلب]، فالظاهر: أنها مأخوذة عن ابن جريج (نبئت).
والمعنى أنها تدور عليه وتحف به من جميع الجوانب، وتكون دائرة كالختم المستدير، نسأل الله السلامة والعافية.

{قال ابن جريج: الختم: على القلب والسمع}
[قال ابن جريج: وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله].
إقفال طبع وران، وفيه أيضا رين، وهو الغطاء اليسير، وفيه أيضا غين الغين وهو الغطاء الخفيف يكون مع الغفلة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله وأتوب إليه في المجلس أكثر من مائة مرة).
فالغين غطاء يسير يكون بسبب الغفلة على القلب، غين وران وطبع وقفل وختم، وكل هذه حواجز وموانع بعضها أشد من بعض، الحواجز المعنوية تمنع من الخير، وأشدها القفل يدخل على القلب {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد:24] وكذلك الأكنة،{وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} [فصلت:5].
قال سبحانه: {بل ران على قلوبهم} [المطففين:14]الران، جاء في الحديث أن الذنوب تجثم على الإنسان حتى تكون كالران على القلب، نسأل الله السلامة والعافية.
  [وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه يعني: الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه، وقال بإصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم، وقال بإصبع أخرى، فإذا أذنب ضم، وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال: يطبع عليه بطابع].
جاء في الحديث الآخر: (أن العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلق بها قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه).
  [وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك الرين، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه

قال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما معنى قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة:7].
إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلانا أصم عن هذا الكلام: إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا.
قال: وهذا لا يصح؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.
قلت: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه، وكلها ضعيفة جدا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده].
لأن المعتزلة يرون أن الله تعالى ما أضل الكافر ولا هدى المؤمن، وإنما المؤمن هو الذي يهدي نفسه والكافر هو الذي يضل نفسه، هكذا يعتقد المعتزلة، ويؤولون قوله تعالى: {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [النحل:93] (يهدي) يعني: يسميه مهتديا، و(يضل): يسميه ضالا، ويهديه بمعنى يسميه ويبين له الهداية وقالوا: ليس لله نعمة دينية خص بها المؤمن، ولم يضل الكافر، بل هذا اختار الهداية بنفسه وهذا اختار الضلال بنفسه.
وهذا مبني على مذهبهم في وجوب الأصلح على الله، فلهذا ابن جرير رد هذا القول، والزمخشري ثبته من وجوه خمسة حتى يقرر مذهبه؛ لأنه يتناسب مع اعتزاله، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحذر من التفاسير المحشوة بالبدع مثل تفسير الزمخشري وغيره، فإنه يجر الإنسان إلى معتقده وهو لا يشعر، ولهذا قال البوصيري: استخرجت من الكشاف اعتزالا بالمناقيش.
يعني: أشياء خفية يؤخذ بالمنقاش الشيء الخفي، منها أنه قال في قوله عز وجل: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران:185] قال: أي فوز أعظم من الجنة؟! سكت، ومقصوده من هذا إنكار رؤية الله في الآخرة، إنكار رؤية المؤمنين لربهم، إنكار الرؤية قال: ليس شيء أعظم من الجنة، يعني إنكار الرؤية هذا مقصوده لكن ما يعلم بهذا إلا الخواص، لا يعلم بهذا إلا من عنده بصيرة، لكن الإنسان العادي يفهمه على أنه صحيح، وأي فوز أعظم من الجنة؟! ما في شيء فعلى طالب العلم أن يحذر، ما ينبغي للمبتدئين أن يقرءوا في الزمخشري وغيره، لكن طالب العلم الذي عنده بصيرة يستفيد منه من جهة البلاغة ومن جهة المعاني. أعد
[قال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما معنى قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة:7].
إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلانا أصم عن هذا الكلام: إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا.
قال: وهذا لا يصح؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.
وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا، وتأول الآية من خمسة أوجه، وكلها ضعيفة جدا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده، ولو فهم قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5]، وقوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام:110] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علما بهذا لما قال ما قال، والله أعلم].
قال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [النحل:118] هم الذين تركوا الحق وأعرضوا عنه وصدوا عنه، ولم يقبلوه بعد وضوحه، لا عن جهل، بل بعد وضوحه قال سبحانه: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون} [فصلت:17] فهديناهم يعني: دللناهم وبينا لهم طريق الخير وطريق الشر، فاستحبوا العمى على الهدى لم يقبلوا الحق.

[قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال: {بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء:155] وذكر حديث تقليب القلوب: (ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا) الحديث.
قال ابن جرير: والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين:14]
هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث بن سعد وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي: حسن صحيح].
هذا الحديث مروي عن قتيبة عن الليث؛ لأن قتيبة يروي عن الليث بن سعد.
قال في الخلاصة: قتيبة بن سعيد الثقفي مولاهم أبو رجاء البغلي -بمعجمة- أحد أئمة الحديث عن مالك والليث وسعيد بن جعفر، وعنه البخاري مسلم وأبو داود والترمذي

[ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر عنها مخلص].
أي: تكون ممنوعة من وصول الحق إليها، فلا ينفذ إليها الحق ولا يخرج منها الباطل، الكفر لا يخرج، والإيمان لا يدخل، نعوذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية.
[فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر عنها مخلص فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة:7] نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها].
الختم المعنوي مثل الختم الحسي، كما أن الشيء المختوم عليه حسا والظروف المختوم عليها لا تصل إليها حتى تفض الخاتم حتى تنفذ إليه، فكذلك الختم المعنوي، وهو أن هذا الختم إنما يزول إذا وفق الله العبد للإيمان والعمل الصالح ومن عليه زال هذا الختم.

قوله: [واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة:7] وقوله: {وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة:7] جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة وهي الغطاء يكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة:7] يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، يقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون].
فالغشاوة على الأبصار والختم على القلوب والأسماع، ولهذا قال تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) ثم قال: {وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة:7]، هذا هو حتى يتضح المعنى ينبغي للقارئ أن تكون مواقفه على المواقف التي يتم بها المعنى.
  [وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثنا أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) والغشاوة على أبصارهم.
قال: وحدثنا القاسم، حدثنا الحسين -يعني ابن داود، وهو سنيد - حدثني حجاج -وهو ابن محمد الأعور - حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} [الشورى:24]، وقال: {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} [الجاثية:23].
قال ابن جرير: ومن نصب غشاوة من قوله تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة:7] يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل: {وعلى سمعهم} [البقرة:7] كقوله تعالى: {وحور عين} [الواقعة:22]، وقول الشاعر:

 علفتها تبنا وماء باردا       حتى شتت همالة عيناها.}

علفتها تبنا يعني وسقيتها ماء باردا على تقدير الفعل
{وقال الآخر:

ورأيت زوجك في الوغى        متقلدا سيفا ورمحا

تقديره: وسقيتها ماء باردا، ومعتقلا رمحا]

وكذلك وعلى أبصارهم غشاوة معطوف على المحل أو على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة
  [لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر].
فذكر المؤمنين في أربع آيات، والكفار ظاهرا وباطنا في آيتين، وأما المنافقون -وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر- فذكرهم في ثلاث عشرة آية؛ لشدة خطرهم على الإسلام والمسلمين ولخفائهم.
فهم يظهرون الإسلام، ولكن يبطنون الكفر، وهم يعيشون بين المسلمين، فهم عدو لدود، وأشد من الكافر ظاهرا وباطنا، ولهذا صار عذابهم أشد، فهم في الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله، والمنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، هذا تعريفه مأخوذ من نفق اليربوع، واليربوع دويبة يتخذ جحرا له فتحتان: فتحة معروفة، وفتحة غير معروفة، يخرق الأرض حتى إذا كاد يدرك الأرض ألقى التراب عليه فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج من نفقه، فكذلك المنافق له ظاهر وباطن، فظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكفرة، هذا هو المنافق سمي منافقا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك العصور التي بعده، ثم صار يسمي زنديقا المنافق، ويطلق الزنديق -أيضا- على الجاحد المعطل، فصار في بعض القرون يسمى زنديقا، وهي كلمة فارسية تطلق على المنافق وتطلق على الجاحد المعطل ، وصار يسمى في هذا الزمان علماني، يسمى علماني العلمانيون هم المنافقون، الأسماء مختلفة، والمعنى واحد، هم المنافقون الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الإسلام، نعوذ بالله.
والله تعالى جلى أوصافهم وذكرها في كثير من الآيات وكثير من السور، في سورة البقرة، وفي سورة النساء، وفي سورة النور وفي سورة التوبة، جلى الله تعالى أوصافهم لم يزل الله يقول (ومنهم)، (ومنهم) حتى خاف المنافقون أن يسموا بأعيانهم في سورة محمد في سورة المنافقون وفي غيرها من السور، نسأل الله السلامة والعافية.
  [ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق].
وصفهم بالخداع، وصفهم بالإفساد في الأرض، وأنهم ينشرون الفساد على الناس ويسمونه إصلاحا، ويصفون المؤمنين بالسفه، ويسمون الإيمان سفها، وضرب الله لهم مثلا مائيا ومثلا ناريا، ستأتي أوصافهم إن شاء الله.
  [كل منها نفاق كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا].

يعني يجتنب الصفات ويجتنب الأشخاص

مادام هذه الأسماء تعارف الناس عليها لابد من بيانها يبين أن هذا الاسم يرجع إلى اسم الشرع؛ لأن إذا حذر المنافقون وسكت ولم يعلم أن العلماني هو المنافق ما عرف يظن أنه ليس بمنافق، يبين أن هذا الذي يوصف بالعلماني هو المنافق الذي ذكره الله في كتابه، وذكر الله أوصافه يربط هذا بهذا، يقال: المنافق هو العلماني هو الزنديق، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام؛ لأنه إذا قيل: منافق فقط، والله تعالى حذر من المنافقين في كتابه ولم يذكر العلماني ولا الزنديق ما عرف وبعض الناس لا يدري أن العلماني هو المنافق، ولا يدري أن الزنديق هو المنافق، يبين أنه وإن اختلفت الأسماء فالمعنى واحد، المسميات في الأصول يقال هذا وهذا العلماني هو المنافق يبين للناس والمنافق هو الذي ذمه الله في كتابه، وبين أنه في الدرك الأسفل من النار، نسأل الله السلامة والعافية.
[تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا فقال تعالى: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} [البقرة:8 - 9].
النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي، وهو أكبر من الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى].
العملي معاص، الفرق بينهما أن النفاق الاعتقادي يكون في القلب، والنفاق العملي يكون في العمل، كالكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، كما في الحديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان).
والإعراض عن الجهاد (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق).
ومن صفات المنافقين -كما جاء في الحديث- النقر في الصلاة، وتأخيرها عن وقتها، وعدم ذكر الله فيها إلا قليلا (تلك صلاة المنافق: يرقب الشمس حتى إذا كادت تغرب بين قرني شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا).
هذه الأفعال من أوصافهم، وهذه الأفعال نفاق عملي، وهي معاص، وتجر إلى النفاق الأكبر، في الحديث حديث عبد الله بن عمرو (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا؛ ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر).
قال العلماء: إن كل خصلة من هذه الخصال بمفردها معصية، لكنها إذا استحكمت وكبرت في الشخص جرته إلى النفاق الأكبر، قالوا وهذا لا يكون إلا منافقا خالصا، نسأل الله السلامة والعافية. وإلا هذه الصفات صفات عملية نفاق عملي

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد