شعار الموقع

سورة البقرة - 6

00:00
00:00
تحميل
6

 

في الحديث: (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فيه كلام يحتمل أن هذا رواه بعض الرواة بالمعنى، ويحتمل أن هذا كان أولا قبل النهي عنه، كما كانوا يحلفون بآبائهم قبل النهي عن الحلف بغير الله وقبل النهي عن قول ما شاء الله وشئت، ثم نهوا عن الحلف بغير الله، وكما كان قبل النهي عن قول: ما شاء الله وشئت.
ابن القيم في الميمية يقول عن الصحابة:

لولاهمو ما كان في الأرض مسكين      ولولاهمو كادت تميد بأهلها وهكذا

وهذا يرد عن بعضهم وهذا يحتمل أن كان أول ولكن الأكمل والأفضل والأولى تركه
والشيخ محمد بن عبد الوهاب نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن إسناد الشيء إلى الأسباب هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقا، وغير هذا مما هو جار على ألسنة الكثير، في كتاب التوحيد ذكر هذا في قوله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} [النحل:83] قال هذا يجري على ألسنة الكثير كقول بعضهم كانت الريح طيبة والملاح حاذق مثل إذا ركبوا في السفينة ووصلوا نسبوا هذا قالوا الريح طيبة والملاح حاذق مثل قول بعضهم : السيارة جديدة، والسائق جيد إذا وصلوا -مثلا- بسرعة، كل هذا من الإضافة إلى السبب، والذي ينبغي ألا ينسى المسبب، وهو الله، هو المنعم سبحانه وتعالى.
[وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شاء وشئت.
فقال: أجعلتني لله ندا؟!)، وفي الحديث الآخر: (نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون: ما شاء الله وشاء فلان).
قال أبو العالية: {فلا تجعلوا لله أندادا} [البقرة:22] أي: عدلاء شركاء].
كل هذا -كما سبق- من التنديد الأصغر لا يخرج من الملة، وإنما هو وسيلة إلى الشرك الأكبر.
 [وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال مجاهد: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:22] قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل].

[ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف -وكان يعد من البدلاء-].

يعني: من العلماء الذين يخلف بعضهم بعضا، كما قال شيخ الإسلام في وصية لهذه الأمة: (وفيهم الأبدال)، يعني: العلماء الذين يخلف بعضهم بعضا، كلما ذهب عالم خلفه عالم، وهذا من خصائص هذه الأمة، فيهم الأبدال وفيهم العلماء والعلماء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل، بنو إسرائيل كلما هلك نبي خلفه نبي، وهذه الأمة نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو آخر الأنبياء ليس بعده نبي، لكن الله جعل العلماء ورثة الأنبياء جعل العلماء يخلفون الأنبياء، يقومون مقام أنبياء بني إسرائيل، فهم يخلف بعضهم بعضا. هذا الأبدال يعني العلماء الذين يخلف بعضهم بعضا
قال: [قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء.
حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها)].
وكان يحيى وعيسى ابني الخالة، وكلاهما نبيان.
قال: [(فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهم وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي! إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي)].
وهذا من ورعه وتقواه عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الذي يبطئ بالتبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف، فكيف بمن يترك أوامر الله عن علم وعن بصيرة يترك الأوامر ويرتكب النواهي؟! إذا كان الذي يبطئ في التبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف تأخر في التبليغ، فكيف بمن كتم العلم؟! وكيف بمن ارتكب المحظور وترك الأوامر؟! لا شك أن العقوبة أشد وأشد.
قال: [قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)].
وهذا أصل الدين وأساس الملة توحيد الله وإخلاص العبادة لله، هذا هو الأمر الذي خلق العباد من أجله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، هذا هو الأمر الأول، وهو أهمها وأعظمها، وهو عبادة الله وإخلاص الدين له (أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا)، هذا هو الأمر الذي جاء به الرسل، ودعوا إليه أممهم.
قال: [(أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟!)].
هذا مثل المشرك، هذا عبد سوء، إنسان اشترى هذا العبد من حر ماله بورق -أي: فضة- أو ذهب، وقال له: اعمل، فصار يعمل ويعطي الأجرة غير سيده، أيكم يحب هذا، كلنا لا يحب ذلك هذا عبد سوء، هذا مثل المشرك الله خلقك وأوجدك، وأنعم عليك بالنعم ورباك بنعمه، ثم تعبد غيره! هذا مثل المشرك أيكم يحب ذلك ما أحد يحب هذا عبد سوء إنسان اشترى عبد من حر ماله رباه وأمره بأن يعمل صار يعمل ويعطي غيره ولا يعطيه شيئا هذا عبد سوء هذا مثل المشرك

 قال: [فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)].
يقال: خلوف، وخلوف.
قال: (وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيرا، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله)].
هذه أمور عظيمة هذه الخمس : عبادة الله، والصلاة، والصيام، والصدقة، وذكر الله.
[قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع)].
الجماعة يعني لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله.
والهجرة والجهاد والهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام هذه باقية وأما الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بعد فتح مكة

الجماعة لزوم جماعة المسلمين في معتقداتهم، وفي عباداتهم، وأوطانهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وهذا مقيد ومثله قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59] فهو مقيد بقوله: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وفي الحديث الآخر: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، والنصوص يقيد بعضها بعضا، فالسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، لكن ليس معنى ذلك الخروج، لا ما يستلزم الخروج، وإنما لا يطاع في المعصية، فالسيد إذا أمر عبده بالمعصية لا يطيعه، والوالد إذا أمر ابنه بالمعصية لا يطيعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بالمعصية لا تطيعه، لكن لا يتمردون عليهم، وإنما لا يطيعونهم في المعاصي.

الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله

والهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام باقية لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تنقطع الهجرة ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها نعم الهجرة باقية لها فضلها لكن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية "
سؤال الهجرة على سبيل الإلزام؟
الجواب
نعم إذا كان لا يستطيع إظهار دينه في بلد الشرك، يجب عليه أن يهاجر إذا استطاع، والله تعالى توعد من بقي بين أظهر الكفار بوعيد شديد قال: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} [النساء:97]، استثنى الله العاجز، فقال: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا} [النساء:98 – 99} نزلت في جماعة في مكة كانوا يخفون إسلامهم ولا يستطيعون الهجرة، وأخرجهم الكفار معهم يوم بدر، حتى قتل بعضهم، فقال الصحابة: قتلنا بعض إخواننا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، الذي لا يستطيع معذور، أما الذي يستطيع فليس له أن يبقى، حتى إن المرأة لها أن تهاجر ولو لم يكن معها محرم؛ لأن الهجرة مقدمة هنا على المحرم، لأنها تخشى على دينها.
إذا كان المرء يستطيع أن يظهر دينه وما عليه خطر، أو كان داعية يسلم على يديه الخلق، طيب هذا الداعية مستثنى، من كان يستطيع إظهار دينه مستثنى ليس بالصلاة والصيام فقط، يصلي ويستطيع أن يرد الشبه التي ترد عليه، ويبين محاسن الإسلام، ويبين ما هم عليه من الباطل إذا اقتضى الحال.
وقوله: [الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع)]

هذا عليه وعيد وأن هذا من الكبائر دليل على أن الخروج على جماعة المسلمين وعلى ولاة الأمور من الكبائر، (فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية). دليل على أن الخروج على جماعة المسلمين وعلى ولاة الأمور من كبائر الذنوب

الخروج معروف يؤلب الناس عليه أو يقاتل أو يكون جماعة لهم شوكة يقاتلون 
[قال: (فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم)].
هذا وعيد شديد، من دعا بدعوى الجاهلية يدعو إلى قومية إلى عصبية إلى قبيلته إلى كذا وفي الحديث الآخر (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهني أبيه ولا تكنوا) يعني: كما قال بعض الصحابة في الحديبية لـ عروة بن مسعود امصص بظر اللات، يعني من دعا بدعوى الجاهلية ولما حصل بعض الكلام بين بعض شباب المهاجرين والأنصار فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار؛ قال النبي: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)، مع أن هذه أسماء إسلامية، لكن صار فيها تفرقة هذا قال يا للمهاجرين وهذا قال يا للأنصار فرق مع أنها أسماء إسلامية فكيف بمن دعا إلى القبيلة الفلانية؟! فإذا قال: يا فلان هذا دعا إلى مطير، وهذا دعا إلى حرب، لا شك أن هذا يوجد النزاع والخلاف، ثم يوجد القتال والفرقة، وأشد من هذا من يدعو إلى القومية العربية، أو يدعو إلى الاشتراكية وما أشبه ذلك من الدعوات الكفرية، هذه أعظم وأعظم، المقصود أن الدعاء بدعوى الجاهلية من كبائر الذنوب، حتى ولو كانت أسماء إسلامية، فكيف إذا كانت أسماء كفرية.
الجماعات هذا كذا وهذا كذا تدخل في هذا؟
الجواب
إذا كان فيها تفرقة، إذا كان دعا إلى جماعة كذا وهذا قال كذا دخل إذا كان بينهم نزاع وهذا دعا إلى جماعته وهذا دعا إلى جماعته وصاروا يتنازعون، أما إذا كانت مثلا جماعات كلها تعمل في سبيل الحق، ويعني هذا التقسيم من باب حتى ينظم العمل فلا بأس، أما إذا كان بينهم نزاع وشقاق، وكان بينهم إحن وبغضاء، فالواجب عليهم أن يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يجتمعوا ولا يتفرقوا، وينظر ما هو الخلاف الحق مع من؟ الرجوع إلى كتاب الله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59] يرجعون إلى العلماء يبينوا لهم في هذا، ولا يتنازعون، إذا كان يؤدي إلى الشحناء وإلى البغضاء ينظر من هو على الحق، هذه الجماعة ينظر في منهجها هل هي موافقة للحق أم مخالفة والجماعة الثانية كذلك والعلماء يبينون لهم ويتفقون هذا هو الواجب

يقول النبي صلى الله عليه وسلم " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب ..." يتفاخر أنا من قبيلة كذا من باب الفخر والخيلاء وكذلك الطعن في الأنساب يعيب أنساب الناس أما إذا كان من الإخبار فلا بأس  

{ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم قالوا يا رسول الله وإن صام وصلى فقال وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله}

هذا دليل على أنه من كبائر الذنوب وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم يعني وإن زعم أنه مسلم حقا وإلا ليس بكافر هذا مثل ما جاء في الحديث "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وفي رواية مسلم "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم " هذه وإن زعم أنه مسلم حقا

سؤال خلع ربقة الإسلام من عنقه

هذا ما باب الوعيد مما يدل على أنها من الكبائر ما يدل على خروجه من الملة عند أهل العلم من باب الوعيد

{هذا حديث حسن والشاهد منه في قوله وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا}

يعني الأمر الأول الذي أمر به يحيى بني إسرائيل " اعبدوه ولا تشركوا به شيئا " وهذا الحديث مثل ما قال المؤلف سنده جيد لولا ما فيه من عنعنة يحيى بن أبي كثير لكن أظن صرح بالرواية في رواية أحمد

تعليق الشيخ مقبل: قال حسين المعلم قال يحيى بن أبي كثير كل شيء عن أبي سلام فهو عن كتاب

لكنه صرح في رواية أحمد بالسماع على هذا يزول الإشكال ويحتمل أيضا أن له رواية في السنن صرح فيها كما قال ابن كثير حسن جيد وهذه الأمور العظيمة كلها أيضا لها شواهد ولها أدلتها النصوص كل هذه الأمور الخمسة التي أمر بها يحيى عليه السلام وكذلك أيضا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم جاء في نصوص وأدلة تشهد لها وتقويها
  [وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين كـ الرازي وغيره على وجود الصانع تعالى، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى].
دالة بطريق الأولى لأن من عبد الله فلابد أن يقر بربوبيته وألوهيته؛ لأن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، أما توحيد الربوبية فهو مستلزم لتوحيد الألوهية، يعني من أقر بربوبية الله وأنه الخالق الرازق يلزمه أن يعبد الله، ما دمت تقر أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المتصف بالصفات العظيمة يلزمك أن تعبده وتخلص له العبادة، لكن ليس كل واحد يلتزم بما لزم أما من وحد الله وأخلص له العبادة ففي ضمن ذلك إقراره بالربوبية، وهذه الآيات فيها الأمر بتوحيد الله وعبادته. فيتضمن ذلك توحيد الربوبية ولهذا استدل به عليه دليل " الذي خلقكم والذين من قبلكم "
  [وهي دالة على ذلك بطريق الأولى؛ فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة؛ علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله! إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير].
بلى والله، هذه من الأدلة الحسية، والعقول التي ركبها الله في الخلق أيضا كذلك تدلهم على خالقهم سبحانه وتعالى، وهذه من الأدلة الحسية المشاهدة، كما لفت الرب سبحانه وتعالى النظر إليها.

[وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات].
لا شك أن هذا من الأدلة على وجود الله وقدرته، اختلاف اللغات كم لغة الآن في البلد الواحد؟! في الهند مئات اللغات، كل أهل قرية ما يعرفون اللغة الأخرى، بل في البلد الواحد تجد لغات متعددة لهجات متعددة، الأصوات والنغمات الآن، على كثرة الآدميين الآن ما تجد اثنين متفقين في الصوت وكذلك الأشكال والصور، الله تعالى هو المصور طبعهم سبحانه وتعالى على صور ما فيها شبه ذكر ابن القيم رحمه الله ما تجد اثنين متشابهين يختلط هذا بهذا ذكر العلامة ابن القيم في كتابه العظيم (مفتاح دار السعادة) الحكم والأسرار في هذا وقال: إنك تجد سرب القطا مشتبها لا تفرق بين هذا وهذا، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل فروقا بين الآدميين، وذكر من الحكم والأسرار أنه لولا أن الله سبحانه جعل هذه الفروق لحصلت مفاسد عظيمة، كيف يعرف الناس هذا من هذا؟ وكيف يعرف الإنسان أباه من أمه؟! كيف يعرف الإنسان زوجته؟! كيف يعرف الإنسان أولاده إذا كان فيهم اشتباه، بحيث لا يعرف هذا من هذا، لكن لا بد يكون هناك فرق، فهذا من حكمه، لا شك أن هذا كما ذكره الإمام مالك للرشيد اختلاف اللغات والأصوات واختلاف الصور من الأدلة الواضحة على وجود الرب وقدرته ووحدانيته سبحانه واستحقاقه للعبادة.

[وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني؛ فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم! هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق، وأسلموا على يديه].
هذه القصة مشهورة عن الإمام أبي حنيفة ذكرها شارح الطحاوية وغيره، وأنه قال لهم: أخبروني عن سفينة في نهر دجلة تمشي وحدها من دون ملاح، وتقف وتفرغ، وتحمل من البضائع والأمتعة، ثم ترجع إلى الجهة الثانية وتفرغ وترجع، وهكذا، فقالوا: هذا لا يقوله عاقل، قال لهم: كذلك العالم العلوي والسفلي هل يدبر نفسه الآن؟! والسماء الآن من الذي أمسكها؟ هل يمكن أن تقف من دون خالق؟! لماذا لا تسقط؟! الأرض من الذي أرساها؟! البحار من الذي أوجدها؟ النجوم من الذي أمسكها هكذا لا تسقط؟! العالم العلوي والسفلي يمكن من دون مدبر؟! {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطر:41] فبهتوا وانقطعوا وانتهت المناظرة، مشهورة أيضا عن غيره، وقيل أيضا مذكورة عن غير الإمام أبي حنيفة.

[وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرا وروثا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد].
يعني يأكله الدود يخرج حرير

الظباء الغزال، يعني الغزال فيه مسك، والمسك هذا أحسن أنواع الطيب، تكون ورمة في الغزال مثل الكرة، تسقط ثم تسمى فأرة المسك، وإذا شقت طلع فيها المسك، من أحسن أنواع المسك وهو جزء من دمها، ولهذا يقول الشاعر:

فإن تفق الأنام وأنت منهم    فإن المسك بعض دم الغزال

يمدحه يقول: أنت من الناس، لكن تفوق عليهم، مثل ما إن المسك، شيء من دم الغزال وفاق عليه، فلا يستغرب كونك من الناس وأنت فوقهم، كما لا يستغرب أن الغزال يخرج منه شيء من دمه يفوق الدم وهو المسك.

فإن تفق الأنام وأنت منهم    فإن المسك بعض دم الغزال

[وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة].
لا شك في أن هذا من العبر ومن الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة، والأدلة في هذا كثيرة لا تحصى، العالم العلوي والسفلي مليء بالآيات والعبر.
وفي كل شيء له آية    تدل على أنه واحد

   [وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:

تأمل في نبات الأرض وانظر          إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات      بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات         بأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز:

فيا عجبا كيف يعصى الإله      أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية              تدل على أنه واحد

وقال آخرون: من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت}

لأنها أقسام الكواكب بعضها ثابت وبعضها سيارة النجم القطبي نجم ثابت جهة الشمال وهو من العلامات إذا عرفه الإنسان عرف جهة القبلة إذا كان في البر أو في البحر مسافر 

{وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:27 - 28]، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال]

الأراييج بمعنى الأراييح ما تفوح منه الرائحة الروائح

[والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان، مع اتحاد طبيعة التربة والماء؛ استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم، وإحسانه إليهم، وبره بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا].

سؤال بالنسبة للهجرة الانتقال من بلاد أهل البدع إلى بلاد السنة

هذا مستحب عند أهل العلم الهجرة من البلد الذي تكثر فيه المعاصي مستحبة إذا لم يستطع تغييرها وليس له تأثير أما إذا كان له تأثير في تغييرها طيب البقاء فيها يكون داعية حتى في بلد الكفار يكون داعية يسلم على يديه خلق كثير طيب أما إذا خشي على نفسه فالهجرة من بلد الكفار واجب والهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي مستحبة

قال الله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} [البقرة:23 - 24].
 [ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبا للكافرين: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة:23] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم

هذا في بيان المناسبة مناسبة هذه الآية للتي قبلها؛ لأن الآية الأولى في إثبات وحدانيته وألوهيته واستحقاقه للعبادة، والآيات في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الآية الأولى في إثبات توحيد الله والثانية في إثبات الرسالة والنبوة

{فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك].
 وهذه الآية فيها التحدي لقريش والعرب وهم الفصحاء والبلغاء الذين بلغوا شأوا بعيدا، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، ثم تحداهم في هذه الآية أن يأتوا بسورة فعجزوا، فدل على أن ذلك أنه من عند الله.
[قال ابن عباس: (شهداءكم): أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك: شركاءكم. أي: قوما آخرين يساعدونكم على ذلك، أي: استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم.
وقال مجاهد: (وادعوا شهداءكم) قال: ناس يشهدون به، يعني: حكاما فصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص:49]، وقال في سورة سبحان: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء:88]، وقال في سورة هود: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [هود:13]، وقال في سورة يونس: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [يونس:37 - 38]، وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك -أيضا- في المدينة، فقال في هذه الآية: (وإن كنتم في ريب) أي: شك (مما نزلنا على عبدنا) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، (فأتوا بسورة من مثله)].
وفي هذه الآية وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية، وأخص أوصافه العبودية والرسالة عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى وصفه بالعبودية في المقامات العظيمة، في مقام التحدي، كما في هذه الآية، وفي مقام الإسراء،{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} [الإسراء:1]، وفي مقام الدعوة، {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} [الجن:19].
أشرف مقامات العبد العبودية، وأشرف مقامات الأنبياء العبودية والرسالة، والإنسان كلما حقق العبودية كان أقرب إلى الله عز وجل، وإذا ضعف تحقيق العبودية بعد من الله عز وجل.
[{فأتوا بسورة من مثله} [البقرة:23] يعني: من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم، وبدليل قوله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود:13] وقوله: {لا يأتون بمثله} [الإسراء:88].
وقال بعضهم: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: من رجل أمي مثله والصحيح: الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا ذلك أبدا].

(لن) تأتي لنفي التأبيد في بعض المواضع، وفي بعضها لا تفيد التأبيد، وقد استدل المعتزلة على نفي رؤية الله بـ (لن) في قول الله تعالى لموسى لما قال: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف:143]، قال الله: {لن تراني} [الأعراف:143]، قال المعتزلة: (لن) هذه لنفي التأبيد في المستقبل، والمعنى: أن الله لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة.
رد عليهم أهل السنة بأن هذا باطل، فـ (لن) هنا ليست لنفي التأبيد، والدليل على أنها ليست لنفي التأبيد أن الله تعالى أخبر أن اليهود لن يتمنوا الموت في الدنيا فقال: {ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم} [البقرة:95] ثم أخبر أنهم تمنوه في الآخرة قال: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف:77]، دل على أنها لا تفيد دوام النفي في الآخرة، حتى ولو أكدت بالتأبيد، كما قال تعالى: (ولن يتمنوه أبدا) أكد (لن) بالتأبيد، ومع ذلك تمنوه في الآخرة، فالقول بأنها للتأبيد دائما قول ضعيف، فلهذا يقول ابن مالك في الألفية:

ومن رأى النفي بلن مؤبدا   فقوله اردد وسواه فاعضدا

يعني: هذا قول ضعيف، من رأى النفي بـ (لن) يفيد التأبيد، فليست للتأبيد؛ لأنها لو كانت للتأبيد لما حدد الفعل بعدها، في مثل قول الله تعالى عن إخوة يوسف: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} [يوسف:80] لن أبرح الأرض (حتى) مؤقت، لو أن ظاهره قد يفيد التأبيد في بعض المواضع، كما في هذه الآية، على حسب القرائن على حسب الأدلة، هذه الآية للتأبيد لا شك {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} [البقرة:24] هذا مؤبد لا يستطيعون أبدا.
  [ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا ذلك أبدا، وهذه أيضا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين].
يعني الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بوحي من الله.

[وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن؛ وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود:1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر، كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام:115] أي: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي الدقيق، أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته].
الشيء الهذر: لا قيمة له، مثل الإنسان يهذر، يتكلم بشيء لا يفيد.
[وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا].
لا شك انظر القصص الآن مثلا: قصة ثمود قوم صالح ذكرها الله في مواضع مختصرة ومبسوطة في سورة: (والشمس وضحاها)، {كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها} [الشمس:11 - 15]، ما أحلى سياق هذه القصة على وجازتها، وفي سور أخرى بسطها الله، قصة موسى مع فرعون وقومه بسطها الله في مواضع، اختصرها في مواضع، كقوله تعالى: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} [المزمل:15 - 16] هذه مختصرة، وهكذا، وهذا واضح.
[لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات].
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} [الحشر:21]
 [وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان].
{ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة:74].
  [وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ويشوق إلى دار السلام].
{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} [البقرة:25].
  [ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة:17]، وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزخرف:71]، وقال في الترهيب: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر} [الإسراء:68]، {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير} [الملك:16 - 17]، وقال في الزجر: {فكلا أخذنا بذنبه} [العنكبوت:40]، وقال في الوعظ: {أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} [الشعراء:205 - 207]، إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك؛ فإنها خير يؤمر به، أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف:157]، الآية،

وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم بشرت به، وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا، ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) لفظ مسلم].
يعني المعجزة العظيمة، وإلا فقد آتاه الله معجزات كثيرة، لكن أعظمها هذا الوحي القرآن، وإلا فقد آتاه الله معجزات كثيرة، نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
  [وقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما كان الذي أوتيته وحيا) أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء، والله أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به مالا يدخل تحت حصر، ولله الحمد والمنة}

وذلك مثل التوراة والإنجيل، فليسا بمعجزين في لفظهما مثل القرآن.

[وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة].
الصرفة والصرفة يعني الله صرفهم عن معارضة القرآن.
[فقال: إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى، وهو المطلوب].
يعني تحديهم في الإتيان بمثل القرآن، فقد حصلت الدعوى، وهو أنهم لا يستطيعون أن يعارضوه.
  [وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلا على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك].
وهذا معنى الصرف، يعني صرفهم مع قدرتهم، لكن هذا ليس بصحيح، الصواب أنه عندهم قدرة، لكن ما استطاعوا، لم يجدوا مساغا ولم يجدوا طريقا للمعارضة، ما وجدوا فيه خللا، وما وجدوا فيه نقصا حتى يعارضوه.
  [وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار، كالعصر، و {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1]].
وقد يقال هنا: ما وجه بطلان أقوال مسيلمة؟
الجواب
قول مسيلمة واضح بطلانه لكل أحد، حتى من أتباعه، لما سألهم قالوا : نعلم إنك كذاب.

[وقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} [البقرة:24]، أما الوقود -بفتح الواو- فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} [الجن:15]، وقال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} [الأنبياء:98 - 99]، والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت أجارنا الله منها].
الوقود ما توقد به النار، نسأل الله السلامة والعافية، والله تعالى أخبرنا أن وقود نار جهنم الناس والحجارة، ولم يبين لنا ما هي هذه الحجارة، هل هي حجارة الكبريت أو غيرها؟ والله أعلم وهذا يحتاج إلى دليل، والمؤلف رحمه الله ذكر آثارا، لكن ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} [الجن:15]، القاسطون: هم الظالمون، من (قسط) فهو قاسط، من الثلاثي، أما (المقسطون) فهي من (أقسط) من الرباعي، فهم العادلون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)، فرق بين القاسط والمقسط، القاسط هو الظالم، من الثلاثي يقال: قسط فهو قاسط، وأما (أقسط) متعد بالهمزة رباعي، يقال: أقسط فهو مقسط، وهو العادل، القاسط هو الظالم والمقسط هو العادل والفرق بينهما أن هذا ثلاثي وهذا متعد.
وفيه أن أهل النار يلقون في النار هم ومعبوداتهم من دون الله، كما قال سبحانه: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء:98]، فما عبد من دون الله يلقى في النار مع عابديه زيادة في تعذيبهم، من عبد الشمس يلقى في النار معها، وكذلك القمر، وكذلك الحجارة التي تعبد، إلا الأنبياء والصالحين فمن عبد من دون الله وهو لم يرض، فليس كذلك، ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء:101].
  [وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة:24] قال: هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين.
رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين].
ما رفعه يحتمل أنه أخذه عن بني إسرائيل، وإن كان أخذ ابن مسعود رضي الله عنه عن بني إسرائيل قليلا رضي الله عنه.
 [وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: (اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار.
وقال مجاهد: حجارة من كبريت أنتن من الجيفة، وقال أبو جعفر محمد بن علي: حجارة من كبريت.
وقال ابن جريج: حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة وأعظم].
حجارة عظيمة لا شك في أنها عظيمة تليق بعظم جهنم، نسأل الله العافية.
  [وقيل: المراد بها: حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله، كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء:98] الآية، حكاه القرطبي والرازي، ورجحه على الأول].
لا شك أن الحجارة التي تعبد من دون الله تكون في جهنم، كما قال الله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء:98]، لكن الحجارة التي هي وقود النار غير الحجارة المعبودة التي تعبد من دون الله، الحجارة التي تعبد من دون الله تجعل في جهنم مع عابديها زيادة في تعذيبهم، والحجارة الأخرى هي حجارة من وقود جهنم، نعوذ بالله، ونسأل الله العافية.
  [حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول، قال: لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر، فجعلها هذه الحجارة أولى].
يعني الحجارة المعبودة من دون الله.
  [وهذا الذي قاله ليس بقوي، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضا مشاهد، وهذا الجص يكون أحجارا فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك، وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها، وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامتها وقوة لهبها، كما قال تعالى: {كلما خبت زدناهم سعيرا} [الإسراء:97]].
لا شك في أن الحجارة حجارة من وقود جهنم، غير الحجارة المعبودة من دون الله، الحجارة المعبودة من دون الله تلقى في النار مع من عبدها، كما تلقى الشمس والقمر وجميع المعبودات، كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء:98]، لكن الأنبياء والصالحين ممن عبد من دون الله وهو غير راض مستثنون، كما قال الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء:101].
  [وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها، قال: ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها، قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مؤذ في النار)، وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف، ثم قال القرطبي: وقد فسر بمعنيين: أحدهما: أن كل من آذى الناس دخل النار، والآخر: أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك].
وعلى كل إذا كان الحديث غير محفوظ فلا حاجة للمعنيين، فالحديث ليس بصحيح، ما صح غير محفوظ لو كان محفوظا يبحث عن تأويله، أما إذا كان ليس بصحيح غير محفوظ فلا حاجة إلى تأويله.
وقد ذكر الزمخشري والخطابي في ترجمة عثمان الأشج المعروف بـ ابن أبي الدنيا وابن عساكر في تاريخ دمشق: ذكر أنه سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال الخطيب: وعثمان عندي ليس بشيء، قال ابن حجر في اللسان: عثمان بن الخطاب أبو عمرو البلوي المغربي أبو الدنيا الأشج، ويقال: ابن أبي الدنيا، وقال: كذاب طرقي -يعني: من الطرقية الصوفية- حدث بعد الثلاثمائة وادعى السماع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وعلى كل حال فالأشج المعمر كذاب من بابة رتن الدجال.
على كل حال فالحديث موضوع مكذوب، كل مؤذ في النار موضوع فلا حاجة إلى الاشتغال بتأويله، فقد قال رحمه الله: غير محفوظ

تعليق: وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " كل مؤذ في النار " وهذا الحديث ليس محفوظا ولا معروفا ثم قال القرطبي

يعني كلام الحافظ ابن كثير هذا ليس موجودا في تفسير القرطبي

إذا: هذا التعليق من الحافظ، وعلى هذا فلا لوم على القرطبي لأنه يظن أن له أصلا، فلذلك ذكر في تأويله معنيين.

ابن عساكر ذكر أيضا في تاريخ دمشق والمؤرخون يتساهلون في ذكر بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة

[وقوله تعالى: {أعدت للكافرين} [البقرة:24] الأظهر أن الضمير في (أعدت) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما متلازمان

و(أعدت) أي: رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أعدت للكافرين) أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: (أعدت) أي: أرصدت وهيئت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، منها: (تحاجت الجنة والنار) ومنها: (استأذنت النار ربها فقالت: رب! أكل بعضي بعضا.
فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف)، وحديث ابن مسعود: (سمعنا وجبة فقلنا: ما هذه؟}

يعني صوت شيء ساقط وجبة

[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها وهو عند مسلم)].
كل هذه الأدلة تدل على أن النار موجودة الآن، خلافا للمعتزلة أهل البدع القائلين بأنها معدومة الآن، فالمعتزلة يقولون: إن الجنة والنار معدومتان، ولا تخلقان إلا يوم القيامة، ويقولون: لأن خلقهما الآن عبث، والعبث محال على الله.
هكذا فهموا بعقولهم السخيفة يقولون: وجود الجنة والنار عبث، والعبث محال على الله، وإنما يخلقهما الله يوم القيامة، وهذا من أبطل الباطل، النصوص واضحة -كما ذكر المؤلف- في أنهما مخلوقتان الآن، ثم أيضا من قال لكم إنهما معطلتان؟! ليستا معطلتين، فالجنة فيها الحور وفيها الولدان وفيها أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء، قال رسول الله صلى الله علي وسلم: (ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها) والنار ليست معطلة، ففيها أرواح الكفرة تعذب في النار، ويفتح للكافر باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، نعوذ بالله.
ثم أيضا إعداد الجنة وإعداد النار، فإن إعداد الجنة للمؤمنين أشوق إلى النعيم، يكون حاديا لهم، وإعداد النار للكفار أيضا فيه زجر لهم وردع لهم، وفرق بين ما دلت عليه النصوص من أن النار معدة للكفار، والجنة مهيئة، وبين ما إذا قيل: إنهما تخلقان يوم القيامة ما يكون الزجر والردع والتشويق مثلما إذا كانتا معدتين الآن ومهيأتين، لكن المعتزلة من أجهل الناس، يعتمدون على عقولهم، ويضربون بالنصوص عرض الحائط، نسأل الله السلامة والعافية.
[وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى].
حديث الإسراء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دخلت الجنة ليلة الإسراء) فرأى كذا وكذا، واطلع على النار ورأى فيها الزناة يعذبون، ورأى فيها المرابي يعذب، ورأى فيها جماعة من العصاة، وهذا عذاب في البرزخ، وكذلك في الكسوف مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، تقدم وتقدمت الصفوف وأراد أن يأخذ عنقودا دلي له، وتأخر فتأخرت الصفوف، فقال: إن النار قربت إليه فخشي منها، وكل هذا يدل على أنهما موجودتان ومخلوقتان الآن.
[وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا، ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس].

[تنبيه ينبغي الوقوف عليه.
قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة:23] وقوله في سورة يونس: {بسورة مثله} [يونس:38] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط، فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه].
وهذه مسألة أصولية، وهي أن النكرة في سياق النفي أو الشرط تعم، ومن ذلك الحديث: (لا تدع صورة إلا طمستها)، فـ (صورة) هذه نكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط تعم، (لا تدع صورة إلا طمستها) هذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه، فتشمل أي صورة مجسمة أو غير مجسمة، لها ظل أو ليس لها ظل، فوتوغرافية أو باليد أو بالرسم أو بالجدار أو بالورق، عام هذا مقتضى القاعدة الأصولية، (لا تدع صورة إلا طمستها) ثم الطمس إنما يكون في الشيء الذي يكون في الورق، وفيه رد على من قال: إنها لا تحرم إلا الصورة التي لها ظل وهي المجسمة، هذا من فوائد القاعدة الأصولية أن النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط تعم جميع ما يطلق عليه هذا الاسم صورة كذلك قوله تعالى هنا: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة:23] أي: سورة طويلة أو قصيرة، وفيه الرد على من قال: إنه لا يتحدى إلا بالسورة الطويلة، هذه من فوائد المباحث الأصولية والقواعد الأصولية والمسائل الأصولية.
  [فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا مما لا أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا، وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة:23] يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، و{قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم: إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين، قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزا، فعلى التقديرين يحصل المعجز.
هذا لفظه بحروفه، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة،

قال الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1 - 3]].
وفي لفظ أنه قال: لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم يعني: هذه السورة فيها بيان صفات الرابحين وصفات الخاسرين {والعصر} [العصر:1] قسم من الله، {إن الإنسان لفي خسر} [العصر:2] والإنسان اللام فيه للجنس، أي: جنس الإنسان في خسر، {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر:3] و (الذين آمنوا) يعني: الذين وحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، (وعملوا الصالحات) أدوا الواجبات وانتهوا عن المحرمات، {وتواصوا بالحق} [العصر:3] أوصى بعضهم بعضا بالحق والمعروف والخير.
{وتواصوا بالصبر} [البلد:17] شملت الخير كله، فالتوحيد وعمل الصالحات يشتملان جميع أصول الدين وفروعه، فهي شاملة، ولهذا قال الشافعي: لوما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم، وقامت بها الحجة عليهم.
والرازي يقول: القصار يمكن الإتيان بمثلها وليس بصحيح
كما في تفسيره مفاتيح الغيب، فـ الرازي له أغلاط وله أخطاء، حتى قال بعضهم: كتابه مفاتيح الغيب في التفسير فيه كل شيء إلا التفسير، فيه طب، فيه فلك، فيه فلسفة، فيه جغرافيا، وزراعة، وتجارة، كل شيء فيه إلا التفسير.

[وقد روينا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر} [العصر:1 - 2] ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها.
فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب].
وهذا قبل أن يسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه. كذبه قبل أن يسلم
كان ادعى النبوة مسيلمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه بنو حنيفة افتتنوا به فتنة عظيمة، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم الصديق والصحابة وقفوا مع مسيلمة وقفة شديدة، حتى قتل مجموعة كبيرة من القراء، حنى خاف الصحابة من ذهاب القراء، وجمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن، ثم بعد ذلك هزمه الله وقتله الله على يد الصحابة رضوان الله عليهم، وأسلم بنو حنيفة.

قال الله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} [البقرة:25].
[لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه].
مثاني: يعني تثنى فيه القصص والأخبار، وتذكر فيه صفة أهل الجنة، ثم بعدها صفة أهل النار، ويذكر فيه حال السعداء وحال الأشقياء، وتثنى فيه القصص قصة موسى عليه السلام، تثنى فيه قصة إبراهيم، وهكذا قصة ثمود قوم صالح. تثنى فيه القصص والأخبار صفة الجنة وصفة النار حال السعداء وحال الأشقياء مثاني
  [وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله: ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله].
ذكر الشيء ومقابله فالسعداء يقابلهم الأشقياء، وهكذا والمؤمنون يقابلهم الكفار.
  [فلهذا قال تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} [البقرة:25] فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: (أن أنهارها تجري في غير أخدود) وجاء في الكوثر: (أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف)، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.
وقال ابن أبي حاتم: قرأ علي الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهار الجنة تفجر تحت تلال -أو من تحت جبال-المسك)، وقال أيضا: حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك].
والمسك أحسن أنواع الطيب، إذا فأنهار الجنة تفجر من تحت جبال المسك، نسأل الله من فضله، ثم أيضا مسك الآخرة ليس كمسك الدنيا، فالمسك في الدنيا الآن من أحسن أنواع الطيب؛ ولهذا المسك يؤخذ أصلا من دم الغزال، ورمة تخرج في الغزال تسقط وتؤخذ ثم تشق، تسمى الفأرة مثل الكرة يخرج منها المسك، ولهذا يقول الشاعر يمدح بعض الخلفاء:

فإن تفق الأنام وأنت منهم        فإن المسك بعض دم الغزال

جزء من دم الغزال تخرج ورمة في الغزال مثل الكرة، ثم تسقط أو تؤخذ، فإذا فتحت في وسطها المسك.
قال ابن أبي حاتم: قرئ على الربيع بن سليمان قال في الحاشية: هو أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، قال ابن أبي حاتم: سمعناه منه وهو صدوق ثقة.
إذا: يحتمل أنه قرئ عليه وهو يسمع، ويكون من القراءة؛ لأن القراءة على الشيخ أو السماع من الشيخ نوعان: نوع يقرأ التلميذ والشيخ يسمع، وأحيانا يقرأ الشيخ والتلميذ يسمع، أو يقرأ وهو يسمع ويكون مع غيره، كما يقول الإمام مسلم: حدثنا، يعني: مع غيره، ومحتمل أنه قرأ هو عليه، وعلى هذا يكون من شيوخه، ويحتمل أنه قرأ عليه أحد أقرانه وهو يسمع.
[وقوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} [البقرة:25]، قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا: {هذا الذي رزقنا من قبل} [البقرة:25]) قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ونصره ابن جرير.
وقال عكرمة: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) قال: معناه: مثل الذي كان بالأمس وكذا قال الربيع بن أنس وقال مجاهد: يقولون ما أشبهه به، قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا ثمار الجنة من قبل هذا؛ لشدة مشابهة بعضه بعضا لقوله تعالى: {وأتوا به متشابها} [البقرة:25] قال سنيد بن داود: حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي].
المصيصة بالتشديد.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد